جريمة الوشاية الكاذبة
القانون الجنائي
إعداد الطالبان القاضيان:
درويـش عبد الـقـادر
سلامـــي سـاعــد
المـقدمــــــــــة
الأصل في التبليغ هو الإباحـة لأنه يساعد على كشف الجرائم و يسهل معاقبــة مرتكبيهــا، بل قد يكـون التبليـغ واجبـا كما يستشـف من نص المادة 91 من قانون العقوبــات الجزائــري التي تجـــرم و تعاقب على عدم تبليغ السلطـات العسكرية و الإداريـة و القضائيـة عن جرائــم الخيانة أو التجسس أو غيرهـا من النشاطـات التي يكون من طبيعتها الإضرار بالدفـاع الوطني، و كذا ما يستفاد من نص المادة 181 من قانون العقوبـات التي تعاقب كل من يعلم بالشـروع في جناية أو بوقوعها فعلا، و لم يبادر إلى إخبــار السلطـات فورا.
و قد يكـون التبليغ سببـا للإعفاء من العقاب لكل من يبلغ السلطـات الإداريـة أو القضائيـة عن جنايـة أو جنحة ضد أمن الدولة قبل البدء في تنفيذها أو الشروع فيها، و هذا استنادا إلى ما تنص عليه المادة 92 من قانون العقوبــــــات.
و فضلا عن ذلك قد يكون التبليغ سببا لتخفيف العقوبة، حيث تنص المادة 92/2 من قانون العقوبات على تخفيض العقوبة درجة واحدة إذا كان الإبلاغ قد حصل بعد انتهاء التنفيذ أو الشروع فيه، و لكن قبـــل بدء المتابعـــــــات.
و الأصل في التبليغ – سواء كان واجبا أو حقا- أن يكون صادقا يعبر عن الحقيقة، فإذا كان غير ذلك أي بلاغ كـاذب، فيعتبر في هذه الحالة تصرف إجرامي يعاقب عليه القانـون، لأنه يمس الشخص في شرفه و اعتباره و يلحق به الضـرر، و يفقده الثقـة و المكانـة التي اكتسبها في المجتمع ومع المتعاملين معـه.
و يكون عـادة تقديـم البـلاغ نتيجة للحقـد و الانتقــام الذي يكنـه المبلـغ للمبلـغ ضده، فينسـب إليـه وقائـــع كاذبة يعلم أنه بريء منها قصد توريطه، الأمر الذي قد يؤدي إلى الحكـم عليه بعقوبة على جريمة لم يقترفهـــا.
و لقد جـرم المشرع الجزائري الوشايـة الكاذبـة، و قد أدرجها في القسم الخـامس من البـاب الثاني المتعلق بالاعتداءات الواقعة على شرف و اعتبار الأشخاص و على حياتهم الخاصة و إفشاء الأسرار، و ذلك في نص المادة 300 من قانون العقوبـات.
فجريمة الوشايـة الكاذبـة تقوم بمجرد إثبـات كذب الواقعة المبلغ عنها و تبرئة المبلغ ضده، و بإمكـان هذا الأخير متابعـة الواشي بغية الحصول على تعويض جراء الضرر المـــادي و المعنــوي الذي لحــق بــه.
كمــا تضمنت المــادة المذكـــورة أعــلاه شــروط و إجراءات المتابعـــة الخاصــــة بهـذه الجريمـــة.
و مـا ينبغي أن نشيـر إليـه أن هذه الجريمـة تطرح بحـدة، و ذلك لانعـدام الـوازع الدينـي و الخلقـي فكثيرا ما تقدم بلاغات كاذبة يكون ضحيتها أشخاص أبرياء، و بالرغم من ذلك تبقى المتابعة في جريمة الوشاية الكاذبة قليلة و ذلك لعدة أسباب منها : أن النيابة العامة لا تقوم بتحريك الدعوى العمومية بشأن هذه الجريمة، كما أن المبلغ ضده كذبا يسعى في غالب الأحيان إلى إظهار براءته بحيث يكتفي بإثبات كذب الواقعة المسندة إليه هذا من جهة، و من جهة أخرى قد يكون المبلغ ضده جاهلا لهذه الجريمة و إجراءات المتابعــة فيها.
و عليه يمكن القول بأن جريمة الوشاية الكاذبة تعد خروجا عن المباح وهو البلاغ الصادق، إلى التجريــم و هو البلاغ الكــاذب.
و من خـلال ما تقدم ذكره أعلاه يمكن طـرح الإشكاليـة التاليـــة:
ماهــــو مفهــوم هذه الجريمـــة؟ و ما هي العناصـر التي تجعل الجريمـة قائمـة تستوجب العقـــاب؟ و ما هي إجــراءات المتابعــة فيهــا؟
للإجابــة على هذه الإشكاليــة نقسم دراستنا إلى فصلين:
ففي الفصــل الأول نتعرض للجوانب النظريـة لجريمة الوشايـة الكاذبـة، بحيث نتنـاول في المبحث الأول مفهوم جريمة الوشاية الكاذبة و أركانها، بحيث نبرز في المطلب الأول تعريف جريمة الوشاية الكاذبة، و في المطلب الثاني نقوم بتمييزها عن الجرائم المشابهة لها. بينما نتعرض في المطلب الثالث لأركان جريمة الوشايــة الكاذبـــة.
كما نتعرض فــي المبحث الثانـــي إلى قمع الجريمــة حيث نتطـرق في المطلب الأول لتمــام الجريمة و الأشخــاص المسؤولين عنها، أما المطلب الثاني نتطرق فيه للعقــوبة، أما المطلب الثالث نتكلم فيه عن الإعفـــاء مـــن العقـــاب.
أما الفصل الثانـــي نتعرض فيــه إلى الجوانـب الإجرائيــة لدعوى الوشايــة الكاذبــة، بحيث نتناول في المبحث الأول دعوى
الوشاية الكاذبة، و ذلك من خلال دراسة الأطراف التي يجوز لها تحريك الدعــوى كمطلب أول، و في المطلب الثاني نتحدث فيه عن شروط تحريك دعوى الوشايــة الكاذبــة، أما المطلب الثالث فنناقش فيه الآثار المترتبة عن تحريك هذه الدعوى.
بينما ندرس في المبحث الثاني مسألـة الإثبــات في دعوى الوشايــة الكاذبــة بحيث نبرز المسائـل التي تثبتها النيابــة و الطرف المدني كمطلب أول، و المسائل التي يثبتها المبلغ في المطلب الثاني، أما المطلب الثــالث نتطــرق فيه إلى المسائـــل التي يثبتهــا القاضــي.
الفصل الأول: الجوانب النظرية لجريمة الوشاية الكاذبة
تعتبر جريمة الوشايـة الكاذبـة من الجرائـم الماسة بشرف و اعتبار المجني عليه وكذا بحق المجتمع ذلك أن المصلحة العامة تقتضي أن يسير مرفق القضاء على نحو سليم، فتأتي الوشاية الكاذبة لتدخل الإضطراب على سير هذا المرفق. وهاته الجريمة تتشابه مع بعض الجرائم كالقذف و شهـــادة الزور، و تبليغ السلطات العمومية بجريمـة وهمية. ومن ثم فإن تحديـد ماهيتها يقتضي منا تحديـد تعريف خاص لهذه الجريمة وتمييزها عن الجرائـم المشابهة لها، و التطرق إلى الأركان التي تقوم عليها، وصولا إلى قمع الجريمة.
ونقسـم دراستنا لهذا الفصـل على النحو التالـــي:
المبحث الأول: مفهوم جريمة الوشاية الكاذبة و أركانها.
المطلب الأول: تعريف جريمة الوشاية الكاذبة.
المطلب الثاني: تمييزها عن الجرائم المشابهة لها.
المطلب الثالث: أركان جريمة الوشاية الكاذبة.
أما المبحث الثاني: نتعرض لقمع الجريمة
المطلب الأول: تمام الجريمة و الأشخاص المسؤولين عنها
المطلب الثاني: العقوبة المقررة للجريمة
المطلب الثالث: الإعفاء من العقاب.
المبحث الأول: مفهوم جريمة الوشاية الكاذبة و أركانها
يتعيـن بادءا ذي بدء التطـرق إلى تعريف جريمة الوشاية الكاذبــة و ما يميز هذه الجريمة عن غيرها من الجرائــم المشابهة لها، فضلا عن إبراز العناصر الواجب توافرها لقيــام هذه الجريمــة.
المطلب الأول: تعريف جريمة الوشاية الكاذبة
هناك من التشريعـات من عرفت جريمة الوشاية الكاذبـة، و هناك تشريعات أخـرى لم تعرفها باعتبار أن التعريفات ليست من اختصاص المشـرع و لكن ومن اختصاص الفقـه، و فضلا عن ذلـك فقد أعطـى القضــاء تعريفـا لهذه الجريمـة. لذلك سنعرف هـذه الجريمة من الناحيـة القانونيــة و الفقهيــة و القضائيــــة .
الفـرع الأول: التعريف القانونــي
لقد عرف المشرع الجزائري هذه الجريمة في المادة 300 من قانون العقوبات التي تنص : ” كل من أبلغ بأية طريقة كانت ، رجال الضبط القضائـي أو الشرطة الإدارية أو القضائية بوشاية كاذبــة ضد فرد أو أكثر أو أبلغها إلى سلطات مخول لها أن تتابعها أو أن تقدمها إلى السلطة المختصة أو إلى رؤساء الموشى به أو إلى مخدوميه طبقا للتدرج الوظيفي أو إلى مستخدميه يعاقب بالحبس من 6أشهر إلى 5 سنوات و بغرامة من 20.000 إلى 100.000 دج”، وهذا على غرار المشرع الفرنسي الذي جـاء بتعريف أوســع في نص المــادة 226/10 المعدلــة للمادة 373 من قانــون العقوبـــات( ).
و بالرجـوع إلى التشريع المصري، فلم يرد بشأنها تعريف و إنمـا أدمج المشرع أحكــام جريمــة البلاغ الكــاذب في أحكــام جريمـة القذف ( )
الفرع الثاني: التعريف الفقهي
هناك عدة تعريفات فقهية لجريمة الوشايـة الكاذبــة، و على الرغم من اختلافهـا إلا أنهـا تتفق حول الأركــان الأساسيـة لهذه الجريمة، و من بين أهـم هذه التعاريف نذكر ما يلـــــي:
فعرف الدكتــور محمد نجيب حسني هذه الجريمة بما يلي: ” البـــلاغ الكــاذب إخبـــار بواقعـة غير صحيحـة تستوجب عقــاب من تسند إليه موجـه إلى أحد الحكــام القضائييـن أو الإدارييـن و مقتـــرن بالقصــد الجنائـــي”. ( )
كما عرفها المستشار معوض عبد التواب على أنها: ” تعمد إخبار أحد الحكام القضائيين أو الإداريين كذبا بأمر يستوجب عقوبــة فاعلــه “( ).
و عرفها أيضا الدكتور رؤوف عبيد بأنها :” تعمد إخبار إحدى السلطات العامة كذبا ما يتضمن إسناد فعل معاقب عليه بنية الإضرار به”( ) .
الفـرع الثالث: التعريف القضائـــــــي
لقد عرفت المحكمـــة العليــا هذه الجريمــة في قرار لها بتاريـخ 25/12/1984 على النحو الآتــــي:
” هو أنه يعاقب كل من أبلغ بوشاية كاذبة إلى سلطات تخول لها أن تتابعها أو أن تقدمها إلى السلطات المختصة بالحبس و الغرامة، فإنه لا يمكن إجراء المتابعة من أجل هذه الجريمة إلا بعد توافر أحد العناصـــر التاليـــــة:
1. بعد صدور حكم بالبـراءة أو بالإفـراج.
2. بعد النطــق بألا وجـه للمتابعــــة.
3. حفظ البلاغ من القاضي أو الموظف أو السلطة العليا أو صاحب العمل المختص بالتصرف في الإجراءات التي كان من المحتمل أن تتخذ بشأن هذا البــــلاغ” ( ).
كما عرفت محكمة النقض المصرية هذه الجريمة فقضت: ” بأنه يشترط في القانون لتحقيق جريمة البلاغ الكـاذب توافر ركنين همــا عدم ثبوت الوقائـع المبلغ عنهـا وأن يكـون الجانـي عالمــا بكذبهــا و منتويا السوء والإضرار بالمجني عليه، وأنه لا يشترط أن يكون البلاغ كله كاذبا بل يكفي أن تمسخ فيه الوقائع كلها أو بعضها مسخا يؤدي إلى الإيقاع بالمبلغ ضده، وتعمد الكذب يقتضي أن يكون المبلغ عالما علما يقينيا لا يداخله أي شك في أن الواقعـة التي أبلغ بها كاذبة وأن المبلـغ ضده برئ منها”( ).
ويجدر بالذكـر بأن علة تجريم الوشايــة الكاذبــة ترجع إلى أنها اعتداء على شرف المجني عليه واعتباره، إذ تنسب إليه واقعة تستوجب عقابه، ومثل ذلك فيه إساءة إلى مكانته الإجتماعية وتنزل به ضررا فعليا، بل وقد يمثل ذلك نوعا من الإستهانة بالسلطات القضائية والإدارية، حيث يقتطع من وقت القائميــن عليها ومن جهدهم ما يستغل في تحقيـــق نوايا الجانـــي السيئة في الإضـــرار بالمجني عليـــه( ).
المطلب الثاني: تمييز جريمة الوشاية الكاذبة عن الجرائم المشابهة لها
سنميز جريمة الوشاية الكاذبة عن بعض الجرائم المشابهة لها، ونقتصر في ذلك على جريمة القذف وشهـادة الزور، وتبليـغ السلطـات العمومية بجريمة وهمية.
الفرع الأول: جريمة الوشاية الكاذبـة والقــذف
تقترب جريمة الوشاية الكاذبة من القذف، لكون أن كلا الجريمتين تمسان بشرف واعتبار المجني عليه، فالمشرع الجزائري جمع بينهما في باب واحد ولم يفصل بينهما مغلبا في ذلك الطابع الشخصي للجريمتين على ما تلحقه من ضرر بالصالـــــح العـــام، شأنه في ذلك شــأن المشرع المصــري ( ).
وما عدا ذلك فإنهمــا تختلفان عن بعضهما البعض اختلافـا جوهريــا:
فالقـذف تشترط فيه العلنيـة، وذلك بنشر الوقائــع المسندة بين الجمهــور بإحدى طرق العلانيـــــة وذلك بخلاف الوشاية الكاذبة التي لا تشترط ذلك. كما أن جريمة القذف معاقب عليها سواء كانت الواقعة المدعى بها أو المسندة صحيحة أو كاذبة، أما الوشاية الكاذبة فمن أركانها أن يحصل التبليغ عن أمــر كـــاذب ( ) .
كمــا أنه فـي الوشايـة الكاذبـة لابـد أن يحصل التبليــغ عن أمــر مستوجـب لعقوبـة فاعلــه جزائيـــا أو تأديبيـا، بينما يكفي في القذف أن تكون الوقائع المدعى بها أو المسندة من شأنها المساس بشرف واعتبــار المجني عليه.
وفي هذا الصدد قضت المحكمة العليـا في قرار لها بتاريخ 10/10/1995 جاء فيه: ” بأن القانون ميز بوضوح بين جريمتي الوشاية الكاذبة والقذف وحدد عناصر مغايرة ومختلفة ، وبالتالي فلا مجال للخلط بينهما. وإن غرفة الإتهام – التي تعد درجة تحقيق ثانية – لها صلاحية تقديـر مدى كفايـة الأدلة المثبتة للتهمة ، ولا يجوز لها قانونـا أن تحل محل جهات الحكم، ومن ثم فإن قضـاة غرفة الإتهام عندما جعلوا من جريمة القذف أساسا لموضوع الشكوى بالإدعاء المدني خلافا للحقيقة ، وقعوا في تناقض بتأييد أمر قاضي التحقيـق الرامي لرفض إجراءات التحقيق على أســاس جريمـة الوشاية الكاذبـــــة .
كما تجاوزوا سلطتهم بمنع الطاعن من رفع دعواه و حلوا محل هيئات الحكم في تقدير ما إذا يمكن لحكم البراءة لفائدة الشك أن يكون أساسا لرفع الدعوى. مما يجعل قرارهم- المنتقد- عرضة للنقـض”( ) .
وقد تأخذ الواقعة وصفين: الوشاية الكاذبة و القذف، وذلك إذا توافرت شروط الوشاية الكاذبة و حصل التبليغ علنا، و في هده الحالة نكون أمام تعدد الأوصاف. فيؤخذ عندئذ بالوصف الأشد طبقا لنص المــــادة 32 لقانون العقوبـــــات ( ).
الفرع الثاني: الوشاية الكاذبة و شهـــادة الزور
تتشابه الجريمتــان في أن كليهما تشترطان لقيامهما أن يكون البلاغ كاذبا يراد به تضليل العدالــة وذلك بقلب الحقائــــق و إخفائهـــــا.
غير أن هناك عدة فــــروق تميز الجريمتين أهمهـــا:
تشترط شهادة الزور أن يتم الإبلاغ أمام جهة قضائية، أما الوشاية الكاذبة فتكون أمام الجهات القضائية أو الإدارية أو أمام كل سلطة مخول لها أن تتابعها أو تقدمها إلى السلطة المختصة أو إلى رؤساء الموشى به أو مخدوميه طبقا للتدرج الوظيفي( ).
و يشتـرط في جريمــة شهــادة الـزور أن يكون البـلاغ مؤثر في الحكـم و لو لـم يتحقـق ذلك بالفعــــل، بخلاف الوشاية الكاذبــة التي لا يشترط فيها ذلك ( ).
و فضلا عن ذلك فإن جريمة شهادة الزور تقتضي توافر القصد العام، بحيث يكفي في الشهادة أن تسبب ضـررا بتبرئــة مجـرم أو عقــاب بــريء.
أما في جريمـة الوشاية الكاذبـة تشترط إضافة إلى القصد العام توفر القصد الخاص لدى المبلـغ و هو نية الإضـرار هذا بالنسبـة للقانــون المصري، أما في القانــون الجزائـري فيكفي توفـر سوء نيــة المبلـــــغ.
الفرع الثــــالث: الوشاية الكاذبة و تبليغ السلطات العمومية بجريمة وهميــــة
تختلف الوشاية الكاذبة عن جنحة تبليغ السلطات العمومية بجريمة يعلم المبلغ بعدم وقوعها أو تقديمه دليلا كاذبا متعلقا بجريمة وهمية، و هو الفعل المنصوص عليه في المادة 145 من قانون العقوبات بعنوان الإهانة. فمـا يميز هذه الجريمة عن الوشايــة الكاذبــة هو أن البلاغ يتعلق بجريمة أكثر مما يخص شخصا، و العلة من التجريــم هنا هو ردع المساس بسلطــة العدالــة و ليس حمايــة اعتبار المواطنيـــن( ).
المطلب الثالث: أركان جريمة الوشايـــة الكاذبـــة
تنص المادة 300 من قانون العقوبات الجزائري على أنه: ” كل من أبلغ بأية طريقة كانت رجال الضبط القضائي أو الشرطة الإدارية أو القضائية بوشاية كاذبة ضد فرد أو أكثر أو أبلغها إلى سلطات مخول لها أن تتابعها أو تقدمها إلى السلطة المختصة أو إلى رؤساء الموشى به أو إلى مخدوميه طبقا للتدرج الوظيفي أو إلى مستخدميه يعاقب بالحبس من 6 أشهر إلى 5 سنوات و بغرامة من 20.000 إلى 100.000 دج، و يجوز للقضـاء علاوة على ذلك أن يأمر بنشر الحكم أو ملخص منه في جريدة أو أكثر على نفقــــة المحكــوم عليه”.
و يستفـــاد من هذا النص أن جريمـة الوشايــة الكاذبــة لا تقوم إلا إذا توافــرت أركــــان ثلاثـــة:
1- البــلاغ الكاذب عن أمر مستوجب لعقوبة فاعله.
2- الجهة المرســـل إليها البــلاغ .
3- الركـن المعنـوي للجريمــــــة .
و لا بد من الإشــــارة إلى هذه العناصر المكونـــة لهذه الجريمــــة في حالـــــة الإدانــــة، وهذا ما قضت به المحكمة العليا في قرار لها بتاريخ 21/07/1996 جاء فيه: ” إن القضاء بإدانة المتهم بتهمة
الوشاية الكاذبة دون الإشارة إلى عنصر من العناصر المكونة لهذه الجريمة، و دون التحقيق في الأفعـــال المنسوبـــــة إليه هو قضـــاء غير صائب ينجم عنه النقــض”( ).
الفرع الأول: البلاغ الكاذب عن أمر مستوجب لعقوبة فاعلـه
يتمثل الركن المادي في جريمة الوشاية الكاذبــة في البلاغ الكاذب، وقد استعمل المشرع الجزائري لفظ “أبلغ بوشاية كاذبة” و تقابلها بالفرنسية” dénonciation calomnieuse” ، في حين استعمل المشرع المصري لفظ “أخبر”. و لقد جرى الفقـه و القضاء المصريـان على تسمية هذه الجريمة بالبلاغ الكـاذب و هو لفظ أنسب من لفظ الوشايــة الكاذبـــة( ).
أولا: شروط البـــــلاغ:
يشتــــرط في البـــلاغ أن يكـون تلقائــــي و صادر ضد شخص معيـــــن.
1- تلقائية البلاغ: يشترط في جريمة الوشاية الكاذبة أن يقدم البلاغ بمحض إرادة المبلغ، أي أن يكون المبلغ قد أقدم على التبليغ و هو غير مطالب به و إلا فلا تقوم الجريمة. فالشخص الذي يتهم بجريمة مثلا فيسندها أثنــاء التحقيق إلى شخص آخر ليدافع عن نفسه و ينفي عنه التهمة، لا يعد مرتكبا لجريمة الوشاية الكاذبــــة( ).
كما لا تقوم الجريمة في حق من يحملهم القانون واجب التبليغ، كما هو الحال بالنسبة لمحافظي الحسابات، و مديري المؤسسات الذين يتعين عليهم تقييم الموظفين الخاضعين لسلطتهم، و كذا الشرطي الذي يتعين عليه تبليغ رئيسه عن كل ما يصل إليه من معلومــــــــات( ).
2- أن يكون البلاغ ضد شخص معين: يجب أن يكون البلاغ موجه إلى شخص معين، على أن يكون هذا الشخص طبيعيا، و هذا ما يستشف من نص المـادة 300 التي تتكلم عن” فرد أو أكثــــر”.
وهذا على خلاف القذف الذي من المحتمل أن يوجه إلى شخص معنوي، إلا أن القانون لا يشترط أن يكون الفرد معرف باسمه، بل يكفي أن يكون معينا بألفاظ تعيينا يستدل منه على الشخص المقصود من البلاغ، أو أنه بالإمكان التعرف على هويته بسهولة( ).
فلا تقوم الجريمة إذا لم يوجد مجني عليه نال الاعتداء على حقه في الشرف و الاعتبار، و عليه فلا يسأل عن جريمــــة الوشايــة الكاذبــة من أبلغ عن وقوع جريمة و لم يسندهــا إلى شخص معيــن أو أسندها إلى شخص مجهــول أو شخص خيالــي( ).
و لا يرتكب الجريمة من ينسب الجريمة إلى نفسه، لأن الاعتداء على الشرف يفترض صدوره من شخص غيـــر الشخص الذي نالــــه الاعتـــــداء.
ثانيا : شكــل البــــــــلاغ
لم يشترط المشرع شكلا معينا، ولكن عمومــا يكون البلاغ في صورة شكوى مكتوبة ، ومع ذلك فمــن الجائز أن يكون البلاغ شفاهــة( )، ويستوي أن يقدم البلاغ بصفة شخصيــة أم عن طريق الغيـــر. وهكذا قضي في فرنسا بأنه لا يهم إن كان الواشي هو الذي حرر الرسالة التي تتضمن الوشايـــة أو حررهــا غيـره بأمــر منه أو بناءا على التعليمـــات التي أعطاهـا إلى وكيلـــــه( ).
كما يمكن أن يكون البلاغ مقدما على شكل شكوى أو مذكرة مقدمة إلى القضاء ، أو بإرسال مذكرة لتدعيم بلاغ شفـــوي( ). وقد يقدم البلاغ بصورة علنية كنشره في جريدة أو في شكل خطاب مفتوح موجه إلى جهة الاختصاص ، أو يقدم سريا كما لو وجه الخطاب شخصيا إلى ممثل السلطة العامة وكتب عليه أن لا يفتحــه غيــــره ( ).
ثالثا : موضــوع البــلاغ
حتى تقوم جريمة الوشاية الكاذبة يجب إعطاء الواقعة مظهر الجريمة التي يعاقب عليها القانون سواء بعقوبة جزائية أو إداريـة أو تأديبيــة، ولكن لا يشترط أن تكون الواقعة المبلغ عنها معاقب عليها فعلا إذ يكفي أن تكون قابلة موضوعيا للجزاء ، بمعنى أن تشكل الواقعة المبلغ عنها مبدئيا خطأ تأديبــي أو جزائي بقطع النظـــــر عن ما إدا كانت هده الواقعة غير معاقب عليها إما بسبب حصانة عائليــــة أو بسبب العفــو الشامـــل أو التقـــادم، أو تكون متابعتها معلقة على شكـوى كالتبليغ عن جريمة زنا أو عن سرقــة بين الأقـــارب أو الحواشـي أو الأصهــار لغاية الدرجة الرابعـــة( ).
ولا تقوم الجريمة إذا كانت الواقعة صحيحة وقدم المبلغ لتدعيمها دليل غير صحيح ، لأن عدم الصحة يتطلبه القانون في الواقعة المستوجبة لعقــاب من أسندت إليه لا في الدليل عليها( ).
رابعا: كذب الواقعــة المبلــغ عنها
يعتبر كـذب الواقعــة المبلـغ عنهـا من أهــم عناصر الجريمـة، إذ بدونه لا تتحقق هذه الجريمة،لأنه إذا كانــت الواقعـــة صحيحة فيعتبر المبلــــغ قد إستعمـل حقــا أو واجبــا مقـــرر له قانونــــا.
و من ثم يتعين إثبـــات كـــذب الواقعــة. بحيث نكـــون بصدد أحـد الفـــروض الخمــــس:
– الفرض الأول: إذا تم تحريك الدعوى العمومية من أجل البلاغ الكاذب قبل تحريك الدعوى العمومية عن الوقائع التي تضمنها البلاغ، ففي هذه الحالة يقع على عاتق المحكمة التأكد بنفسها من كذب الواقعــــة( ).
– الفرض الثاني : إذا صدر من النيابة العامة قرارا بحفظ الأوراق، فيكون لهذا الأخير حجية، و بذلك يمكن اعتباره دليلا على كذب الواقعة المبلغ عنها. وهذا ما نصت عليه المادة 300 من قانون العقوبات، و أكدت عليه محكمة النقض الفرنسية و قضاء المحكمة العليا. و في هذا الشأن صدر قرار عن المجلس الأعلى بتاريخ 09/11/1982 الذي قضى بأن: ” حفظ البلاغ من طرف النيابـــة يسمح للضحية أن تقدم شكوى ضد المبلغ بسبب الوشايـــة، و أن تقدير صحة الوقائـــع المزعومة أو كذبهـــا يرجــع إلى اقتنــاع قضــاة الموضـــوع”( ).
مع الإشــارة إلى أن القضاء المصري يرى خلاف ذلك، على أساس أن قرار الحفظ يصدر عن النيابة العامة بصفتها سلطة إداريــة و ليست سلطـة قضائيــة.
– الفرض الثالث: إذا حركت الدعوى العمومية من أجل الوشاية الكاذبة بعد صدور أمر بانتقاء وجه الدعوى في الواقعة المبلــغ عنها، الأمر الذي يجعل المحكمــة تتقيد بهذا الأمـر. و هذا ما قضت به المحكمة العليا في قرار لها بتاريخ 23/11/1993 جاء فيه: “من المقرر قانونــا أن أي عمل يسبب ضررا للغير يستوجب التعويض، ولما ثبت أن الطاعنة باعتبارها كزوجة و كأم و ربة بيت قد تضررت أدبيا و ماديا، فقد تزعزع مركزها الاجتماعي، و خدشت في عفتها و كرامتها من جراء متابعتها بالزنــــــا، التي انتهت إلى صدور أمر بانتفاء وجه الدعوى لصالحها لعدم كفاية الأدلة، و لذا فــإن قضـــاة المجلس عندما قضوا لصالحها بالتعويــض عن الوشايــة الكاذبـة قد برروا حكمهم”( ).
– الفرض الرابع : إذا تم تحريك الدعوى العمومية من أجل الوشاية الكاذبة بعد صدور حكم قضائي بات أو قرار نهائي من الجهة الإدارية المرفوع إليها البلاغ، و إذ ذاك يتعين على المحكمة التقيد بالحكــم أو القــــرار الإداري. و قد سلك القضــاء المصري منهجا مغايـرا، حيث قضى بأنه إذا بني حكم البــراءة على عدم كفايــة الأدلـة، فعندئذ لا تكون له حجية أمـام المحكمة التي ترفع أمامها دعوى البــــلاغ الكاذب( ).
– الفرض الخامس : إذا تم تحريك الدعوى العمومية من أجل الوشاية الكاذبة بعد تحريك الدعوى العمومية أو التأديبية الخاصة بموضوع الإخبار نفسه، و ذلك قبل البت فيه من طرف الجهة المختصة، فعندئذ يكون الفصل في كذب البلاغ مسألة أولية يجب البت فيها بمعرفة الجهة المختصــــة، لذلك يتعين الفصل في دعــوى البــلاغ حتى يفصل في موضوع الإخبــار.
وهذا ما أخذ به المشرع الجزائري و طبقه القضاء، وهذا ما أقرته المحكمة العليا في قرارها الصادر بتاريخ 25/12/1984 حيث قضت بأنه: ” تشترط المادة 300 لتطبيقهـا في حالة حصول متابعة جزائيــة ضد الشخص المبلــغ عنــه أن تنتهي المتابعــة إما بحفظ البـــلاغ الكــاذب و إما بصــدور أمر بألا وجه للمتابعـــة أو حكم بالبراءة”( ).
الفرع الثاني: الجهة المرسل إليها البـــــلاغ
بالرجوع إلى نص المادة 300 من قانون العقوبات فيمكن تحديد الجهات التي يقدم إليها البلاغ في السلطة القضائيـة و السلطة الإداريـة و السلطــة المستخدمـة و يتعلــق الأمـــر بـــــ( ):
– رجــــال الضبط القضائي وهم رجــال القضاء، سواء كانوا ينتمون إلى قضاء القانون العــــام – عادي أو إداري – أو إلى الهيئات القضائية الأخرى مثل مجلس المحاسبـــــــــة.
إلا أن التســــاؤل يبقى قائما حول رؤساء البلديات و الولاة باعتبارهم قضاة “إداريين” وفقا للمفهـــوم الفـرنســـي «Magistrats».
– ضباط الشرطة القضائية، وذلك وفقا لما تنص عليه المادة 15 من قانون الإجراءات الجزائية.
– ضباط الشرطة الإدارية ويتعلق الأمر بالولاة و رؤساء البلديــــات .
– السلطة المخول لها تقديم الواقعة إلى السلطة المختصة، كما هو الشأن لمجلس المحاسبة الذي يخطر وزير العدل بكل جريمـــة يثبتهــــا.
– السلطة المخول لها متابعة الواقعة المبلغ عنها مثل إدارة الجمارك.
– رؤساء الموشى به ســواء كانوا إدارييـــــن أو خـــواص.
– مخدومــــــــي الموشــــى به طبقا للتدرج الوظيفـــــي.
– أما عن مستخدمي الموشى به، فهذه العبارة غير واردة فـــي النص الفرنســـي.
ويستوي في ذلك أن يقدم البلاغ إلى السلطة المختصة مباشرة كأن يسلمه إياها شخصيا أو يبعثها إليها في رسالة خاصة ( )، أو أن ينشره في الصحف في صورة خطاب مفتوح إلى من يهمه الأمر ما دامت إرادة توصيل البلاغ إلى السلطة المختصة قد توفرت لدى المبلغ( ). كما تقوم جريمة الوشاية الكاذبة إذا قدم البلاغ إلى جهة غير مختصة، مادامت هذه السلطة غير المختصة تقدمها إلى السلطة المختصــة، فمن واجب الحاكم غير المختص- وفقا للتصرف العادي له- أن ينقل إلى زميلــه المختص( ).
و بذلك يمكن القول، بأنه قد تكون السلطـة المرفــوع إليها البــلاغ مختصة بتقرير الجزاء بنفسها أو تكون مختصة فقط بتحويل البلاغ إلى الجهة المختصة بتقرير الجزاء، و مثال ذلك رجال الدرك الوطني الذين يتلقون الشكاوى و يحولونها إلى وكيل الجمهورية المختص باتخاذ القرار المناسب بشأنها. وهكذا قضي في فرنسا بأنه يتعين على الجهة القضائية التي تصرح بإدانة المتهم بجنحـة الوشايــة الكاذبـــة أن تذكر السلطة المؤهلــة المبلغ إليها( ).
الفرع الثالث: الركن المعنوي للجريمة
تعد جريمة الوشاية الكاذبة جريمة عمدية تتطلب توافر القصد العام لدى المبلغ، فلا تتحقق الجريمة إذا قام بالتبليغ وهو معتقد بصحة ما أبلغ بــه( ). ويتطلب القانون أن يكون الجاني عالما بجميع العناصر المكونة للجريمة،أي أن يعلم الواشي بعدم صحة الواقعة المبلغ عنها، بمعنى أنه يجب أن تكــــون هناك نية سيئــة.
وهذا ما شدد عليه القضاء الفرنسي في كون سوء النية عنصر من العناصر المكونة لجريمة الوشاية الكاذبة، وهذا ما أقره القضاء الجزائري. و في هذا الصدد قضت المحكمة العليا في قرار لها بتاريخ 08/06/2005 بأن :” استفادة المشتكى منه بقرار يقضي بانتفاء وجه الدعوى لا يعني أن الشاكي ( المتهم بجنحة الوشاية الكاذبة) ادعى بوقائع كاذبة، و إنما يعني أنه لم يستطع إثباتها أمام الجهات القضائية المختصة، و من ثم كان على قضاة المجلس قبل إدانة الشاكي بجريمة الوشاية الكاذبة مناقشة الظروف و الملابسات التي حصلت فيها الواقعة محل الشكوى و إبراز سوء نية الشاكــي المتابــــــع من أجل جنة الوشايـــة الكاذبــــة”( ). و يتشدد القضاء في قبول سوء النية في جريمة الوشايـــة الكاذبــة أكثر من تشدده في قبولهــا فـي جنحتي القـذف و الســب.
على أن تقديـــر ســوء نيـة المبلـــغ يكون يــــوم تقديـــم البــــلاغ، وليس بعد تقديـــــم الشكـــوى( ).
كما يكون الجاني عالما بأن المبلغ ضده بريء بما نسب إليه( )، وباتجاه بلاغه إلى شخص مخول له أن يتــابع المبلــغ ضده أو يقدمــه إلى الجهـة المختصــة.
ويستلزم لتمــام القصـــد أن يكون الجانــي قد قام بالتبليغ عن إرادة حــرة وعلـم و إدراك( ). ويبقـى للقضـاة في هذا المجــال تقدير الوقائـع ، و ذلك تحت رقابة المحكمة العليا التي تحرص كل الحرص على أن يسبب قضـاة الموضـوع أحكامهم بكل عنايـة فيما يتعلق بسـوء النية.
ويمكــن في هذا الصدد إثـــارة التســـاؤل التالــــــي:
هــل تتطلـب جريمــــة الوشايــــة الكاذبـــة قصدا خاصــا، والذي يتمثــل في نيـــة الإضــــرار؟
يرى الفقه الفرنسي بأنه يلزم أن يتوفر لدى المبلغ نية الإضرار بمن بلغ ضده، و إن كان سائر الشراح الفرنسيين يرون أن مجرد العلم بكذب الوقائـــع المبلغ عنها كاف لتحقق القصد الجنائــي فلا عبــرة بالبواعـث( ).
أما بالرجوع إلى القانون والقضاء المصريين فهما ينصان صراحة على اشتراط أن يكون المبلغ عالما بسوء قصده و نية الإضرار بالمبلغ ضده، و في هذا الصدد أسست محكمة النقض المصرية حكما بالبراءة، لكون أن تعمد الكذب في التبليغ مع سوء القصد و نية الإضرار غير ثابت في الوقائع التي سردها الحكم المطعون فيه و لا جائزا إستنتاجه من تلك الوقائع.( ).
أما بخصوص التشريع الجزائري فلم يرد في نص المادة 300 ما يثبت أن المشرع قد اشترط قصدا خاصا، وهذا ما أخذ به قضاء المحكمة العليا في قرار غير منشور مؤرخ في 08/07/1986 الذي قضى ب:” إن المتابعة من أجل جريمة الوشاية الكاذبة تتطلب توفر سوء النية لدى المبلغ، و تتمثل في كونه يعلم بعدم صحة الوقائع “( ).
كما قضت المحكمة العليا في قرار لها أيضا في 28/07/1999 بقولها :” إن القرار المطعون فيه لما أدان المدعي من أجل الوشاية الكاذبة دون أركان الجريمة، وخاصة ركن سوء النية الذي تبنى عليه الإدانة عرض قراره للقصــور في التعليق و خرق المادة 379 من قانون الإجراءات الجزائيــــة”( ) .
و قــد قضت الغرفـــة الجنائيـــة للمجلــس الأعلـــــى في قـــــرار لها بتاريــخ 08/07/1986 جاء فيه: ” لا تقبــل المتابعــة من أجـل الوشايــة الكاذبــة طبقــا للمــادة 300 من قانـون العقوبات إلا إذا حصل التبليــغ بسوء نية المبلــغ، أي أن يكــون هذا الأخيــر عالما بعدم صحـة الوقائع المبلغ عنها مسبقـــا”(4).
المبحث الثاني: قمع الجريمــــــــة
بعد اكتمال الأركان القانونية لجريمة الوشاية الكاذبة – على النحو الذي سبق ذكره – وقيام المسؤولية الجزائية للمبلغ أو الواشي ، وبذلك يستوجب العقاب المقرر في نص المادة 300 من قانون العقوبات . وعليه ارتأينـا التعرض إلى تمــام هذه الجريمة ، والأشخاص الذين يطبق عليهم العقاب، ثم نوع العقوبة والإعفاء منها، و ذلك على النحو الآتي بيانــه:
المطلب الأول: تمام جريمة الوشاية الكاذبة والأشخاص المسئولين عنها.
المطلب الثاني: العقـــــــــوبــــــــــة.
المطلب الثالث: الإعفاء من العقوبة.
المطلب الأول: تمام جريمة الوشاية الكاذبة والأشخاص المسولين عنها
سنتناول في هذا المطلب مايلـــي: تمام جريمة الوشاية الكاذبة كفرع أول، والأشخاص المسؤوليــن عنها كفـــرع ثانـــي.
الفرع الأول: تمام جريمة الوشاية الكاذبــــة
يتطلب المشرع لتمام جريمة الوشايـة الكاذبـة إكتمال الركن المادي فيها ، لأن القانون يتطلب لتمام هذه الجريمة أن يصل البلاغ إلى السلطات المنصوص عليها في المادة 300 من قانون العقوبات الجزائري ، بمعنى أن تتم الجريمة في المكان الذي يوجد به مقر السلطة المرفوع إليها البلاغ ( ) وهو المكان الذي يحدد اختصاص المحكمة، بالإضافة إلى القواعد العامة المقررة في قانون الإجراءات الجزائية( ). وقبل ذلك يمكن تحقق الشروع فيها إذا لم يصل البلاغ إلى الجهة المختصة لأسباب لا دخل لإرادة المبلغ فيها ( ) ،أو تم إرســال البلاغ بواسطة رسالة بريدية وفقدت قبل أن تصل، أو أن يكلف شخص بإيصال البلاغ ولم يقم بذلك، أو حرر البلاغ ووقعه ثم عدل عن تسليمه( ). ففي كل هذه الحالات نكون أمام مرحلة الشروع التي لا يعاقب عليها على أســـــاس أن جنحـة الوشايـة الكاذبـة لم ينص القانــون على الشـــــــروع فيهــــا ( ).
وما يجب أن ننوه إليه هو أن تاريخ تمــام الجريمـة يبدأ من اللحظة التي يصل فيها البلاغ إلى علم السلطة القضائيــة أو الإداريـة أو التأديبيـة المرفوع إليها ، ومن ثم يبدأ سريـان ميعاد التقادم ، مع العلم بأن إجراءات المتابعــة والتحقيــق توقف هذا الأجــل( ).
الفرع الثاني: الأشخاص المسؤولين عنها
بالرجوع إلى نص المادة 300 من قانـــــون العقوبـــــات الجزائـــري نجدها تستعمل عبــــــارة ” كل من أبلغ”، كما استعمل المشرع المصري في نص المادة 304 من قانون العقوبـــات عبارة ” كل من أخبر”. أما المشرع الفرنسي فقد استخدم في نص المادة 373 من القانون القديم”quiconque ” ، هاته العبارة التي اختفت في نص المادة 226 / 10 من القانـون الجديــد .
وبالتالـي فهذه النصوص لم تحدد طبيعة الشخص الذي يصدر عنه البـلاغ، فقد يكـون شخصا طبيعيا أو معنويا.
أولا: الشخص الطبيعي: فالشخص الطبيعي يمكن له تحريك الدعوى العمومية ويتأسس كطرف مدني للمطالبة بالتعويض باعتباره ضحية جنحة الوشاية الكاذبة، كما يمكن متابعته جزائيا كمتهم بهذه الجريمة، سواء صدر الفعل من شخص واحد أو عدة أشخاص مجتمعين. والمسؤولية الجزائية لا تقتصر على الذين أمضوا البلاغ فقط، وإنما تمتــد إلى كــل الذين شاركوا في هذا الفعـــل المجرم باعتبارهم كفاعلين أصليين أو مشاركين أو محرضين ( ) .
ثانيا : الشخص المعنوي : لقد أقر المشرع الفرنسي مسؤولية الشخص المعنوي في جريمة الوشاية الكاذبة ، وذلك من خلال التعديل الجديد الوارد في نص المادة 226/12 من قانون العقوبات ، فضلا عن أنه عوض عبارة ” ضد فرد أو أكثر ” بتعبير ” ضد شخص ” وهذا من خلال ما أقرته المادة 226/10 منه ( )، وهذا بخلاف المشرع الجزائري الذي استعمل تعبيرا عاما يشمل الشخص الطبيعي والشخص المعنوي. إلا أنه لا يمكن تصور مساءلة الشخص المعنوي جزائيا في هذه الجريمة لسببين :
1- غياب نص قانوني صريح يقر المسؤولية الجزائية للشخص المعنـــوي.
2- طبيعة العقوبة المقررة للجريمة لا تتماشى مع طبيعة الشخص المعنوي.
وبالتالي يمكن القول بأن نص المـادة 300 من قانون العقوبات بحاجة إلى تعديل كونه لا يساير التطورات التي تعرفها الجزائر و القوانين المعاصرة، إذ يمكن لشخص طبيعي أن يقدم بلاغا كاذبا باسم الشخص المعنوي ليفلت من العقاب ، بحيث يحول ذلك دون متابعــة الفاعل جزائيا، ويبقى غيـــر مسؤول جزائيــا.
المطلب الثاني: العقوبـــــــــــة
لم يقر قانون العقوبات الجزائري – كما سبق الذكر- المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي، غير أن التعديلات التي يقوم بها المشرع نحو إقرار مسؤولية الشخص المعنوي في نصوص قانون العقوبات و القوانين الخاصة( ) تعتبر كمؤشرات تبين اتجاه نية المشرع لمواكبة التطور الذي تعرفه التشريعات العالمية في هذا المجال.
و سنتطرق في هذا الإطــار إلى العقوبــات المطبقة على الشخص الطبيعــي و المعنـــوي.
الفرع الأول: العقوبة المقررة للشخص الطبيعـــي
لقد أوضحت المادة 300 من قانون العقوبات الجزائري العقوبة المقررة لمرتكب جنحة الوشاية الكاذبة و هي الحبس من 6 أشهر إلى 5 سنوات و بغرامة من 20.000 دج إلى 100.000 دج هذا بالنسبة للعقوبة الأصلية، أما العقوبـة التكميلية فقد نصت المادة السالفة الذكر على عقوبة تكميلية واحدة، وهي أن يأمر القاضي بنشر الحكم أو ملخص منه في جريدة أو أكثر على نفقة المحكوم عليه.
و قد أقرت المادتين 304 و 305 من قانون العقوبـات المصري بأن العقوبة المقررة لجريمة البلاغ الكاذب هي عقوبة القذف المنصوص عليها في المادة 303/01 و هي الحبس الذي لا تتجاوز مدته سنتين و الغرامة التي لا تقل عن عشرين جنيها و لا تزيد عن مائتا جنيها أو إحدى هاتين العقوبتين.
و إذا قدم البلاغ ضد موظف عام أو شخص ذي صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة و كان ذلك بسبب أداء الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، فالعقوبة هي الحبس و الغرامة التي لا تقل عن خمسين جنيها ولا تزيد عن خمسمائـــة جنيه، أو إحـــدى هاتين العقوبتيــن فقــط( ).
أما المشرع الفرنسي فقد عاقب على هذه الجريمة في المادة 373 من قانون العقوبات القديم بالحبس من ستة أشهر إلى خمس سنوات و بغرامة من 500 فرنك إلى 15.000 فرنك فرنسي. كما يستطيع القاضي أن يأمــر بنشر الحكــم في جريــدة أو أكثر على نفقـة المحكـوم عليه( ).
أما التعديل الجديد الوارد في نص المادة 226/10 منه فقد رفع عقوبة الحبس إلى خمس سنــوات و الغرامة ب 300.000 فرنك فرنسي( ). فحذف بذلك الحد الأدنى و الأقصى للعقوبة و أصبح يعاقب عليها بحد واحد، كما حذف عقوبة نشر الحكــم في الجريدة بالنسبة للشخص الطبيعــي.
الفرع الثاني: العقوبة المقررة للشخص المعنوي:
كما سبقت الإشارة، فإنه لا يمكن متابعة الشخص المعنوي بجنحة الوشاية الكاذبـة وفقا لقانون العقوبات الجزائري، و هذا بخلاف المشرع الفرنسي الذي نص في المادة 226/10 على العقوبات المقررة للشخص المعنوي فيما يخص هذه الجريمــة منها:
– الغرامـة المقدرة بخمسـة أضعـاف الحد الأقصــى الذي يمكن تطبيقه علـى الشخص الطبيعـــي، فتكون بذلك قيمة الغرامة تساوي 1500.000 فرنك فرنســي.
– المنع النهائي أو لمدة خمس سنوات أو أكثر من ممارسة بصفة مباشرة أو غير مباشرة نشاط مهني أو اجتماعي.
– نشر الحكم المنطوق به طبقا للشروط المقررة في نص المادة 331 .
المطلب الثالث: الإعفاء من العقــــاب
قد تكتمل أركان جريمة الوشايــة الكاذبـــة، و مع ذلك لا تطبق العقوبة المقررة لهذه الجريمــة على الفـــرد الذي من أجـل دفاعـــه الشفهي و الكتابــي يتهـم شخص آخــــــر.
فالمشرع المصــــري – و على خلاف المشرع الجزائري- نص صراحة على إباحة البلاغ الكـاذب( ). لذلك سنبيـن علة الإعفـاء من العقــاب و نطاقـه و شروطـه.
الفرع الأول: علة الإعفاء من العقاب و نطاقـه
تعمل غالبية الدساتير على ضمان كفالة حق الدفاع، و ضمان التقاضي لجميع الناس( ). و إذا كان القانون يعترف للشخص بالحق في التقاضي فلا بد أن يعترف له بالحق في عرض دفاعه، و إلا تجرد هذا الحق من قيمته. لذا فالكذب و الافتراء الذي يقتضيه هذا الحق يعد مباح، و هذه الإباحة تسري كذلك على جريمتي القذف و السب( ).
غير أن الإعفاء من تطبيق العقاب المقرر لهذه الجريمة- وفقا للتشريع المصري- يقتصر على رفع المسؤوليـة الجزائيـة فقط، بينما تبقى المسؤوليــة المدنية قائمة في حق الواشـــي جراء ما وقع منه من اعتداء على خصمه و المساس بشرفه و اعتبـاره ( ).
الفرع الثاني: شروط الإعفاء من العقاب:
لتطبيق أحكام الإعفاء من العقاب يستلزم توافر الشروط التالية( ):
• أن يكــون الكــــذب موجهــــا من أحد الخصـــوم لخصمـــه.
• أن يكون الكذب أثناء الدفاع الشفوي أو الكتابي أمام المحكمة.
• أن يكـــــــــون الكــــذب من مستلزمـــــــات الدفـــــــــــاع.
أولا: توجيه الكذب من أحد الخصوم لخصمه
لا بد أن يكون الكذب و الافتراء موجه من خصم على خصم آخر لا من شاهد على خصم( ). و يقصد بالخصـم كل شخص طرف في خصومة قائمة، ســــواء في دعوى مدنيـة أو إداريـة أو جنائيـة.
ثانيا: وقوع الكذب أثناء الدفاع الشفوي أو الكتابي أمام المحكمــــة
يستلزم الإعفــــاء أن تكون الدعوى قائمة وقت صدور الكذب، بحيث يبدي الخصــم دفاعه – الشفوي أو الكتابي – أمام المحكمة. على أن تعبير “المحاكــم” يشمل جميع الهيئات القضائية من المحاكم المدنية أو الإدارية أو الجنائية، و يشمل أيضا المحاكــــم الاستثنائية و التأديبيـة، و قاضي التحقيـــــق و النيابة العامــــة( ).
ثالثا: أن يكون الكذب من مستلزمات الدفاع
يجب أن تكون عبارات الكذب الموجهة من الخصم لخصمه من مستلزمات الدفاع عن نفسه، فإذا تبين بأن الخصم في استطاعته إبداء وجهة نظره على النحو الذي يقنع به القاضي دون حاجة إلى أن ينسب إلى خصمه الوقائع التي توجب عقابه. على أن تقدير العبارات و الوقائع التي أبديت و الغرض الذي قصده منها يعود إلى قاضي الموضوع( ).
و كخلاصــة لما تقدم ذكره أعلاه، إذا توافرت أركان جريمة الوشايـة الكاذبـة، قامت المسؤولية الجزائية للواشي أو المبلغ كذبا،و يكون بذلك مستحقا للعقاب الذي قرره المشرع لذلك. وهذا كله لا يتأتى إلا إذا تم تحريــــك دعوى الوشايــــة الكاذبـــــة من طرف صاحب المصلحـــة ضد الواشــــــــي.
الفصل الثانــي: الجوانب الإجرائــية لدعوى الوشايــــة الكاذبــة
عند قيام جريمة الوشايــة الكاذبــة- على النحو السابــق ذكره- بكامل أركانها، فإن ذلك يفتــح المجــال لمتابعــة مرتكبهــا قصد معاقبتـــه و تعويـض المضـــرور من هذه الجــريمـــة.
ولتوضيــح ذلك سنلقي الضوء على الأطــراف الذين يحق لهم تحريك دعوى الوشايــة الكاذبــــــة، وشــروط تحريكها مـرورا بالآثار المترتبة على ذلــك.
كما نتعرض إلى مسألة بالغة الأهمية تتمثل في إثبات كذب أو صحة الواقعة المبلغ عنهــــــا، و إثبات حسن أو سوء نية الواشي. و أخيرا إلى سلطة القاضي في إثبات أركان الجريمة،وذلك على النحـو التالــــــي:
المبحث الأول: دعوى الوشاية الكاذبة.
المطلب الأول: الأطراف التي يجوز لها تحريك دعوى الوشاية الكاذبة.
المطلب الثاني: شروط تحريك دعوى الوشاية الكاذبة.
المطلب الثالث:الآثار المترتبة على تحريك دعوى الوشاية الكاذبة.
أما المبحث الثاني: ندرس فيه الإثبات في دعوى الوشاية الكاذبة.
المطلب الأول: المسائل التي تثبتها النيابة العامة و الطرف المدني.
المطلب الثاني: المسائل التي يثبتها المبلغ.
المطلب الثالث: المسائل التي يثبتها القاضي.
المبحـــــث الأول: دعوى الوشايــــة الكاذبة
بادءا ذي بـدء يتعين علينا إبراز الأطــراف التي يجوز لها تحريـك دعوى الوشايــة الكاذبــة كمطلب أول، و في المطلب الثاني نبين شروط تحريك هذه الدعوى، ثم نحدد الآثار المترتبة على تحريكهـا في المطلـب الثالـث.
المطلب الأول: الأطراف التي يجوز لها تحريك دعوى الوشاية الكاذبة
تعد جريمة الوشاية الكاذبة من الجرائم التي تخل بنظام المجتمع و استقراره، وهي تفرض دائما وجود مجني عليه ناله الاعتداء على حقه في الشرف و الاعتبار . وبالتالي ينشأ عن دعوى الوشاية الكاذبة دعويين: دعوى عمومية و دعوى مدنية.
فالدعوى المدنية هي التي ترفع بقصد تعويض الضرر الشخصي الذي نشأ عن الجريمة، أما الدعوى العمومية فهي الالتجاء إلى السلطة القضائية باسم المجتمع و لمصلحته للوصول إلى إثبات وجود الفعل المعاقب عليه،و إقامة الدليل على إجرام مرتكبه وتوقيع العقوبات المقررة قانونا( ). ويقصد بتحريك الدعـوى العمومية بداية تسييرها وتقديمها للمحكمة الجزائية المختصة بنظرهــــــا، ويتم تحريك الدعوى العمومية بتقديمها للقاضي سواء من طرف النيابة أو المجني عليــه( ).
الفــــرع الأول: تحريك دعوى الوشايـة الكاذبـة من طرف النيابـة العامــة
إن النيابة العامة- كقاعـدة عامة – هي التي تحرك الدعوى العمومية وتباشرها، فالمشرع الجزائري لم يضع أي قيد لرفع دعوى الوشاية الكاذبة من طرف النيابة العامــة، كوجــود شكــوى أو طلب أو إذن من الجهات المعينة، وهو ما أخذ به المشرع المصري( ).
و بالتالي فإن النيابة العامة تبقى مختصة طبقا للقواعد العامة بتحريكها و مباشرتها متى وصل إلى علمها نبأ وقوع هذه الجريمة( ). و تحريك الدعوى العموميــة بمعرفة النيابة العامة في هذه الجريمة، مؤداه قيام النيابة العامـة بالأعمال التي تدفع بهذه الدعوى إلى القضــاء و تطرحها أمامه، لاتخـــاذ شؤونــه في فحصها و الفصــل فيها ( ).
الفــــرع الثاني: تحريك دعوى الوشاية الكاذبة من طرف المجني عليه
أجازت المادة الأولى من قانون الإجراءات الجزائية في فقرتها الثانية، بأنه للطرف المضرور أن يحرك الدعوى العمومية. فالمضرور يمكنه أن يطالب بالتعويض عن الضرر الناتج عن جريمة الوشاية الكاذبة أمام القضاء الجزائي أو المدني( )، فالمضرور بإمكانه تحريك الدعوى العمومية عن طريق تقديم شكوى مصحوبة بادعاء مدني أمام قاضي التحقيق) (.
كما يمكنه أن يضم دعواه إلى دعوى وكيل الجمهورية بتأسيسه كطرف مدني أمام المحكمــة، وذلك فــي حالـة مباشـــرة الدعـــوى العموميـــة من قبل وكيـــل الجمهوريــــة. و أجــــاز المشرع المصري تحريك هذه الدعـــوى عن طريـــــــق الاستدعـــــاء المباشـــر( ).
أما المشرع الجزائري فقد نص في المادة 337 مكرر من قانون الإجراءات الجزائية على إمكانية التكليف المباشر لحضور المتهم أمام المحكمة، وعلق ذلك على حصول ترخيص من النيابة العامة( ). وبالتالي يمكن للمتضرر من جريمة الوشاية الكاذبة وفقا لهذه المادة، أن يكلف المتهم بالحضور أمام المحكمة في حالة حصوله على ترخيص من النيابة العامة، وذلك بعد أن يكون قد دفع مبلغا من المال لدى أمانة الضبط يقدره وكيل الجمهورية، و اختيار مواطن بدائرة المحكمة المرفوعة أمامها الدعوى.
المطلب الثانـــي: شروط تحريك دعوى الوشاية الكاذبة
لتحريك دعوى الوشاية الكاذبة يشترط – حسب نص المادة 300 من قانون العقوبات- أن تحصل أولا متابعة ضد المبلغ عنه في شأن الواقعة المبلغ عنها كذبا، و أن تنتهي هذه المتابعة إما بالحكم بالبراءة أو الإفراج، و إما بالأمر أو القرار بألا وجــه للمتابعة، أو بحفظ البلاغ من الجهــة المختصـة.
الفــــرع الأول: الأمر أو القرار بألا وجه للمتابعة أو حفظ البلاغ
سنتعرض للجهات أو السلطات المخولة قانونا لاتخاذ هذه القرارات أو الأوامر و يتعلـق الأمـــــــــر ب:
أولا: الجهة المصدرة لقرار حفظ البلاغ
إستنادا إلى نص المــــــادة 36 من قانـــــون الإجـــــراءات الجزائيـــــــة الجزائري تقوم النيابـــة العامـــة (ممثلة فـي وكيل الجمهورية) بتلقي المحاضر و الشكاوى و البلاغــــــات و تقرر ما يتخذ بشأنها. فوقفا لمبدأ ملاءمة المتابعــة تقوم إما بإجراء تحريك الدعــوى العمومية و إما تأمر بحفظ البـــــلاغ.
و مقرر الحفظ الصادر عنها يجوز العدول عنه و تعديله و إلغائه، كما أن هذا المقرر ليس له حجية قانونية أو قضائيـة فهو دائما قابل للإلغـاء و ليس نهائي( ).
و في هذا الشأن صدر قرار عن المحكمة العليا مؤرخ في 09/11/1982 جاء فيه:” أن حفظ البلاغ من طرف النيابة يسمح للضحية أن تقدم الشكوى ضد المبلغ بسبب الوشاية، و أن تقدير صحة الوقائع المزعومة أو كذبها يرجع إلى اقتناع قضاة الموضوع”( ).
مع الإشارة إلى أن القضاء المصري – و على خلاف القضاء الجزائري- لا يتقيد بالأمر الصادر عن النيابة بحفظ التحقيق في نظره لهذه الجريمة(3)، على أساس أن مثل هذا القرار لا يصدر عن النيابــة العامــة بصفتها سلطة قضائية، و إنما بصفتها سلطـــة إداريــــــة.
ثانيا : الجهة المصدرة للأمر أو القرار بالأوجه للمتابعة
تصدر غرفة الاتهام قرارا بألاوجه للمتابعة تماما مثلما يفعل قاضي التحقيق الذي يصدر أمر بألاوجه للمتابعة في ثلاثة حالات وردت في المادة 163 ق.إ.ج و هي: إذا كانت الوقائع المنسوبة للمتهم لا تشكل جريمة، أو أنه لا توجد دلائل كافية ضد المتهم، أو أن مرتكب الجريمة ظل مجهــولا( ).
و حسب المادة 300 من قانون العقوبات الجزائري يعتبر مختص بحفظ البلاغ كل من القاضـــي أو الموظف أو السلطة الأعلى أو المخدوم المختص بالتعرف في الإجراءات التي كان من المحتمل أن تتخذ بشأن هذا البــلاغ.
الفــــرع الثاني׃ الحكم بالـبراءة أو الإفـــــراج :
سنبين الجهــة المصدرة لحكم البـــراءة و لحكم الإفـــراج على النحـو التالــــي׃
أولا׃ الجهة المصدرة لحكم البراءة׃
الحكم بالبراءة هو ذلك الحكم الصادر عن قاضي الحكم أو قاضي الموضوع ،سواء كانت السلطة القضائية عاديــة أم عسكريــة، وسواء كان الحكم في مواد المخالفــات أو الجنايـــات أو الجنـح.
و عليه فلا يمكن متابعة المتهم و الحكم عليه في الوشايـة الكاذبــة إلا إذا أثبت كذب بلاغه من الجهة المختصـة ، و الفصل في صحـة الوقائـــع المبلغ عنهـا( ). وأن يصـدر فيها حكـم بالبــراءة أو بالإفــــراج، أو حفظ البلاغ، أو الأمر بألا وجـــه للمتابعة. و هذا سـواء في القانــون الفرنســي أو الجزائــــري.
أما القانون المصري فقد نصت المادة 305 من قانون العقوبات على أنه:” من أخبر بأمر كاذب مع سوء القصد يستحق العقوبة، ولو لم تقم دعوى بما أخبر به” ، وهذا مفاده أن المحاكمة على جريمة البلاغ الكاذب لا تتوقف على اتخاذ أي إجراء قضائي بشأن الأمر المبلغ عنه، فليس من اللازم أن يكون ثبوت عدم صحة البلاغ بحكم نهائي ببراءة المبلغ ضده أو بقرار بألا وجه لإقامة الدعوى قبله أو بأمر الحفظ، بل تكون الدعوى مقبولة ويحكم فيها ولو لم يحصل أي تحقيق قضائي بشأن الأمـــر المبلـغ عنـه( ).
ثانيا: الجهة المصدرة لحكم الإفراج
إذا أصدر قاضي التحقيق أمرا بألا وجه لمتابعة المتهم، و كان المتهم محبوسا يخلى سبيله في الحال إلا إذا حصل استئناف من وكيل الجمهورية، وهذا ما قضت به المادة 163 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري. كما تختص غرفة الإتهام بالإفراج عن المحبوس مؤقتا استنادا إلى المادة192 من قانون الإجراءات الجزائية. كما يختص قاضي الحكم بالإفراج، إذا كان المتهم محبوس وقدم إلى المحاكمة، وهذا ما قضت به المادة365 من نفس القانـــــــون.
المطـــلب الثالث׃ الآثار المترتبة عن تحريك دعوى الوشاية الكاذبة
قد يتم رفع دعوى الوشاية الكاذبة أمام المحاكم الجزائية، كما يمكن للمضرور من هذه الجريمة أن يلجأ إلى اختيار الطريق المدني للمطالبة بالتعويض جراء ما لحقه من ضرر، إما أثناء النظر في دعوى الوشاية الكاذبة، و إما بعد صدور الحكم فيها .
لذا سنتطرق إلــى الآثـــار المترتبـــة علــى تحريــك هذه الدعـــوى على النحــــو الآتــــي׃
الفـــرع الأول׃ بالنسبة لدعوى الواقعة المبلغ عنهـا
قد يحصل وأن تقام دعوى جزائية عن جريمة الوشاية الكاذبة قبل الفصل في الدعوى الجزائية المتعلقة بالواقعة موضوع البـلاغ، ففي هذه الحالة نص المشرع الجزائري في المادة300/3 من قانون العقوبـات على:” و يجب على جهة القضاء المختصة بموجب هذه المادة أن توقف الفصل في الدعوى إذا كانت المتابعة الجزائيــة المتعلقة بالواقعـة موضــوع البـــــــلاغ ما زالت منظــــورة”.
فوفقا لهذه المادة يجب وقف دعوى الوشاية الكاذبة حتى الفصل النهائي في دعوى الواقعة المبلغ عنها،أي يكون تقدير صحة أو عدم صحة الواقعة المبلغ عنها مسألة أولية تقتضي وقف الفصل في الدعوى إلى غاية ما تثبت السلطة الإدارية أو القضائية في الوقائع المبلغ عنها. وهذا ما أقرت به المادة 373 من قانون العقوبات الفرنسي القديم، و تم التنصيص عليه بصيغة أخرى في التعديل الجديد، حيث تنص المادة 226/11 منه على:” بما أن الفعل المبلغ عنه يجري في شأنه متابعة جزائية، لا يمكن إجراء متابعة صاحب البلاغ إلا بعد الحكم النهائي في الواقعــة المبلــغ عنهــا”( ).
و أما المشرع المصري فلم ينص صراحة على وقف دعوى البلاغ الكاذب حتى يتم الفصل في الواقعة موضوع البلاغ، و إنما أخضع ذلك لمبدأ عام نصت عليه المادة222 من قانون الإجراءات الجزائية المصري بقولها: ” إذا كان الحكم في الدعوى الجنائية يتوقف على نتيجة الفصل في دعوى جنائية أخرى وجب وقف الأولى حتى يتم الفصل في الثانية” ، و هذا لتفـادي احتمـــال تناقض الأحكـــام و إلا بطل الحكم في دعــوى البـلاغ الكـاذب( ).
والوقف وجوبي لا خيار القاضي فيه ، ولإثراء الموضوع سنميز العلاقة بين الدعويين في ثلاثــة أوضـــاع׃
أولا׃تحريك دعوى الوشاية الكاذبة قبل اتخاذ أي إجراء في دعوى الواقعة المبلغ عنها
لكي تقوم جريمة الوشاية الكاذبة، فان القانون يتطلب أن يتم الفصل مسبقا في كذب الوقائع المبلغ عنها من طرف السلطة المختصة، لذلك لا يمكن تصور رفع دعوى وشاية كاذبة على جريمة لم تقم بعــد.
إلا أن القانون المصري – و على خلاف القانون الجزائري و الفرنسي – أجاز بإمكانية أن ترفع دعوى البلاغ الكاذب حتى ولو لم تقم دعوى بشأن الواقعة المبلغ عنها، ولا تكون المحكمة ملزمة بإيقاف الفصل قي دعوى البلاغ الكاذب حتى يثبت كذب البلاغ لدى السلطة المختصة، إذ يجوز للمحكمة الجزائية المختصة في هذه الدعوى أن تتولى بنفسهــا تحقيق صحة أو كذب التهمة المرفوعة عنها البـــــلاغ، ولو أنها غير مختصة بالفصل في الجنايات حسب القواعــد العامـــة ( ) .
ثانيا: قيام دعوى الوشاية الكاذبة أثناء نظر دعوى الواقعة المبلغ عنها أو إجراء تحقيق فيهــا
ففي هذه الحالة يجب على المحكمة التي تنظر في دعوى الوشاية الكاذبــة أن توقف الفصل فيها( )، و انتظار الفصل في دعوى موضوع البلاغ قبل الحكم في دعوى الوشاية الكاذبـــة( )،وما سينتهي إليه الحكم أو التحقيق في الواقعة المبلغ عنها من نتائج مختلفــــــــة، و هذا ما نصت عليه المادة300 من قانون العقوبات.
و مرد ذلك حتى لا يحدث تناقض في الأحكام، فإذا لم توقف دعوى الوشاية الكاذبة يمكن أن يصدر فيها حكم يقرر في شأن صحة الواقعة غير ما يقرره الحكم الذي يصدر عن المحكمة التي تنظر الواقعة المبلغ عنها.
و الإيقــــاف لا يدخل في السلطـــــة التقديرية للقاضي، فهو ملزم له بصـــــــــــريح نص المــــــــادة 300، و على الرغم من هذا الإيقاف تظل المحكمة الناظرة في الوشاية الكاذبة محتفظة باختصاصها و يحـق لها أن تأمر بإجراءات تحقيق تستهدف بهـا الإعداد لقرارها( ). مع الإشارة إلى أنه إذا انقضت الدعوى العمومية الناتجة عن الواقعة المبلغ عنها بسبب وفاة الشخص المشتبه فيه مثلا، أو بسبب العفو الشامل. فيبقى للمحكمة التي أخطرت بالدعوى من أجل الوشاية أن تقرر وحدها ما إذا كانت الوقائع المبلغ عنها كاذبة، و ذلك لعدم وجود أية سلطة أخـــرى يكون لها إثبات صحــة هذه الوقائــع أو عــدم صحتها ( ).
ثالثا: تحريك دعوى الوشاية الكاذبة بعد صدور حكم نهائي في الواقعة المبلغ عنها
إذا صدر حكم نهائي من المحكمة المختصة يقضي ببراءة المبلغ ضده ، و كان حائزا لحجيـة الشيء المقضي به، فعندئذ يتعين على المحكمة الناظرة في دعوى الوشاية الكاذبة أن تتقيد بهذا الحكم ، و هذا استنادا إلى قاعدة ” حجية الأحكام الجزائية “. فإذا حكم في دعوى الواقعة المبلغ عنها بالإدانة ، فإن الأمر يستوجب الحكم بالبراءة في دعوى الوشاية الكاذبة ، نظرا لثبوت صحة التبليغ، ذلك لأن ثبوت كذب الواقعة المبلغ عنها ركن أساسي لقيام هذه الجريمــة( ) .
أما اذا حكم بالبراءة في دعوى الواقعة المبلغ عنها، فيتعين آنذاك على المحكمة المعروضة عليهـا دعوى الوشاية الكاذبـــة أن تراجع أسباب الحكــــــم بالبراءة في الواقعة المبلــغ عنهـا، لتتعرف على سبب البراءة، فإذا تقيدت بمنطوق هذا الحكم بغير تناول أسبابه كان قضــاؤها معيبـــا( ).
وينبغي أن نشير إلى أنه إذا كان سبب البراءة هو عدم كفاية الأدلة، فتلتزم المحكمة الناظرة في دعوى الوشاية الكاذبة بالحكم بالبراءة، لأن الواقعة تتأرجح بين الثبوت وعدمه. فمن حق المبلغ أن يستفيد بدوره أيضا من هذا التأرجح، فيقضى ببراءته استنادا لقاعدة”الشك يفسر لصالح المتهم”( ).
الفــــرع الثاني: بالنسبة للدعوى المدنية
بإمكان المتضرر من جريمة الوشاية الكاذبة اختيار الطريق الجزائي للمطالبة بالتعويض عن الضرر الذي لحق به ، كما له أن يختــار الطريق المدني سواء بعد صدور حكم نهائــــــي أو أثنــاء السيــر في دعوى الوشايــة الكاذبـة ( ).
ففي هذه الحالة تطبق القاعدة العامة وهي أن: ” الجنائـي يوقف المدنــي ” ، فضلا على أن الحكم الجزائي الصادر في هذه الجريمة – بالإدانة أو البراءة – يؤثــر على الدعوى المدنيــة .
ومصير الحكم في الدعوى المدنية بالتعويض عن كذب البلاغ يتوقف على الفصل في دعويين:
– الدعوى المرفوعة بشأن الواقعة المبلغ عنهــا .
– الدعوى المرفوعة عن جريمة الوشاية الكاذبة.
أولا : قاعدة الجنائي يوقف المدني
ومؤدى هذه القاعدة أنه إذ أقيمت دعوى الوشاية الكاذبة ، وكانت دعوى التعويض مقامة أمام القضاء المدني ، فإن هذا الأخير ملزم بوقف الدعوى المدنية وجوبا إلى حين الفصل في الدعوى الجزائية بحكم نهائي حائز لحجية الشيء المقضي به. كما يلتزم بالوقف إذا أقيمت دعوى جزائية عن الواقعة المبلغ عنها. وهذه القاعدة هي لإيقاف سير الدعــوى المدنيــــــــة وليس لإيقاف رفعهـــــا أو عدم قبولهــا. فإذا كانت الدعوى الجزئية قائمة فبإمكان المضرور أن يرفع دعوى مدنية ، إلا إنهـا توقـف بعد ذلك ( ) .
ويشترط لتطبيــق هــــذه القــاعــدة مايلـــــي ( ) :
– وحدة السبب: أن تكون الدعويين المدنية والجزائية ناشئتين عن فعل واحد.
– إقامــة الدعـوى الجزائيــة قبل رفع الدعوى المدنيــة أو أثناء السير فيهــا.
ثانيا: أثر الحكم الجزائي على الدعوى المدنية
هناك شبه إجماع في الفقه الفرنسي الحديث على أن وقف الدعوى المدنية لحين الفصل في الدعوى الجزائية هو تأكيـد لحجية الحكم الجزائي أمـام القضـــاء المدنــي ، وبالتالي فقاعـدة ” الجنائي يوقف المدنــي ” هي النتيجة لقاعدة “حجية الحكم الجزائــي على الحكم المدنــي “.
وعليه فالقاضــي المدني ملزم بوقف الفصل في الدعــوى المدنية حتى يتم الفصل نهائيــا في الدعوى الجزائية ،لأن الحكــم الجزائــي يلزمــه ( ) .
ومن أسباب حجية الحكم الجزائـــي مايلـــــي :
– الدعوى الجزائيــة تتعلق بحق المجتمع في العقاب، وبالتالي لا بد أن يكفل للحكم الصادر فيها الحجية بالنسبة للكافة.
– فعالية وسائل الإثبات التي يحوزها القاضي الجزائي على القاضي المدني.
– من غير المعقول أن يقرر الحكم الجزائي إدانة المتهم وعقابه، بينما يرفض القاضي المدني الحكم عليه بالتعويض مقرا بأنه لم يرتكب الجريمة .
كما يشترط لإعمـــال قاعدة ” حجية الحكــم الجزائـي ” ما يلــي:
1- وحـدة السبب بمعنى أن تكون الدعويين – المدنية والجزائية – ناشئين عن فعل واحــد.
2- أن يكون الحكم الجزائــي صادرا في موضــوع الدعوى، أي أن يكــون صادرا بالبراءة أو الإدانة ( ) ، وبالتالي تستبعد الأحكام غير الفاصلة في الموضوع كالحكم بندب خبيـر، أو عدم القبول، أو عدم الاختصاص.
3- أن يكون الحكم الجزائــي حائزا لقوة الشيء المقضي به، بمعنى أن يكون قد استنفذ طرق الطعن الجائزة فيــه باستعمالها أو بفوات ميعـادها( ).
4- أن تكون الدعوى المدنيــة مازالت منظورة أمام القضــاء المدنـي ، بمعنى لم يفصل فيها بحكم حائز لقوة الشيء المقضي به .
وينبغي أن نشيــر إلى أن هنــاك ثلاث نقــاط من الحكـــم الجزائــي يتقيد بهـا القاضـــي المدنـــــي وهي ( ):
1) وقوع الجريمة: يقصد بوقوع الجريمة الوجود المادي والقانوني لها ، فالقاضي المدني ملزم بما جاء في الحكم الجزائــي فيما يتعلق بوقوع الفعــل المــادي والنتيجــة والعلاقة السببية بينهمــا، فإذا انتهــى الحكـــم الجزائـي إلى عــدم وقــوع الجريمـــة أصــلا أو انتفـاء رابطة السببيـة بين الفعـل والنتيجــة، فلا يجـوز للقاضـي المدني مناقشـــة ذلــك.
أما اذا كان أساس الدعوى الجزائية مختلفا عن أساس الدعوى المدنية، فلا يتقيد القاضي المدني بالحكم الجزائي، وعليه فالقاضي المدني يتقيد بما فصل فيه الحكم الجزائي إذا كان هناك اتحاد في الواقعة بعناصرها المادية والمعنوية، أما إذا كن هناك خلاف بينهما فلا تتقيد المحكمة المدنية بذلك.
2) الوصف القانوني للجريمة: فيجب علي القاضي المدني التقيد بالتكييف القانوني للواقعة الـواردة في الحكم الجزائــي .
3) نسبة الجريمة للمتهم : فالقاضي المدني يتقيد بشأن نسبة الجريمة للمتهم الذي قرره الحكم الجزائــي ، فإذا تم ذلك فلا يجوز للقاضي المدنـي أن يقرر بأنه لم يرتكب ما نسب إليه ، ويرفض بالتالي طلب التعويـض ضــده.
وفي هذا الصدد ، فإذا حكم القاضي الجزائي بالإدانة ، فإن القاضي المدني يتقيد بذلك ويقرر التعويض . أما إذا حكم بالبراءة لانتفاء أي ركن من أركان جريمة الوشاية الكاذبة، فيمكن للقاضي المدني الحكم بالتعويض ، بحيث يبحث عن مدى توافر الخطأ المدني المستوجب للتعويــض من عدمه في واقعــة التبليــغ ، خاصــة إذا صدر التبليــغ برعونــة أو تســــرع أو عدم تبصر . و عندئذ يجوز إلزام المبلغ بالتعويض المدني لتوافر الخطأ المدني الضار المستوجب لمسؤولية فاعله بالتعويض عنه. كما لا يتقيد القاضي المدني بحكم البراءة إذا كان مبني على مانــع من موانـــع المسؤوليـــة ( ) .
على أن الحكم القاضي في الدعوى المدنية بالتعويض متى أصبح نهائيا يحوز حجية الشيء المقضي فيه مثل الحكم في الدعـوى الجزائية، فلا يمكن تجديــد الدعويين مهما جد من أدلة جديــدة، و بصرف النظر عما يكون قد انتهى إليه هذا الحكـــم( ).
ثالثا : تعلق القاعدتين بالنظام العـــام
تعد قاعدة ” الجنائي يوقف المدني “- باعتبارها نتيجة لقاعدة ” حجية الحكم الجزائي على الحكم المدني”- قاعدة إلزامية ، فهي متعلقة بالنظام العام . وبالتالي فإن المحكمة تقررها من تلقاء نفسها دون حاجة إلى تقديم طلب من أحد أطـــراف الدعوى المدنيـة ، كمــــا تثــار في أية حالـــة تكــون عليهـــا الدعــــوى .
أما إذا كانت الواقعة موضوع البلاغ تستوجب عقوبة تأديبية فقط، وكانت الإجراءات التأديبية قائمة في شأنها في نفس الوقت الذي أقيمت فيه دعوى الوشاية الكاذبة، فإن إيقاف الدعوى متروك للسلطة التقديرية للمحكمة ، إذ لا يوجد ما يفرض عليها الإيقاف ، وهي تقرر الإيقاف إذا رأت احتمال أن يكون اطلاعها على القرار التأديبي ذا فائدة في تحقيق دعوى الوشاية الكاذبة ( ) . وفضلا عن ذلك فإنه لا توجد قاعدة تفرض وقف الإجراءات التأديبية لغاية الفصل في دعوى الوشاية الكاذبة ، وذلك لأن الخطأ التأديبي مستقل عن الجريمــة الجنائيــة، هاته الأخيرة هي فعل أو امتناع يعده القانون مخلا بنظام المجتمع ، فيحدد ويقرر له عقوبــــة جنائيــــة . بينما الخطأ التأديبي قوامــه إخــلال الموظــف بواجباتــه الوظيفيــة.
وقد استقــر الرأي بأنه لا مجال لتطبيــق قاعدة حجيــة الشيء المحكوم فيه جزائيـا في المجال التأديبـــي( ).غيــر أن هذا لا يطبــق على إطلاقه، خاصة إذا ارتكب العامل أثناء علاقة العمل جناية أو جنحة، فإن ذلك يشكل خطأ يعرضه لعقوبة تأديبية. على أن معاقبة العامل تأديبيا قبل ثبوت إدانته من القضاء يعد خرقا للقانون، و بالتالي يجب وقف الإجراءات التأديبية حتى يتم الفصل في العقوبة الجزائية.
وهذا ما أكدت عليه المحكمة العليا في قرار لها بتاريخ 15/02/2000 بقولها: ” لا يسوغ لصاحب العمل اتخاذ إجراءات التسريح دون تعويض ولا إنذار على أساس ارتكاب العامل جرائم الاختلاس و سوء التسيير إلا بمقتضى حكم جزائي نهائي، ولا يحق للجنة التأديـــب أن تحل محل الجهات القضائية المختصة”( ).
المبحــــث الثاني : الإثبات في دعوى الوشايــــة الكاذبــــة
من أهم المسائل التي تثيرها دعوى الوشاية الكاذبة هي مسألة الإثبات، فعبء الإثبات في جريمة الوشاية الكاذبة يقع على عاتق المبلغ، فعليــه أن يثبت حقيقة كل فعل أسنده لا أن يقتصر على تأكيده ( ). كما يقع على عاتق النيابة العامة والطرف المدني إثبات وجود البلاغ الكاذب وسوء نية المبلــغ ، كما يقع على عاتق القاضـي إثبات كذب الواقعـة ، وإثبات أركانهـا في الحكـم .
المطـــلب الأول : المسائل التي تثبتها النيابة العامة والطرف المدني
يقع على عاتـــق النيابة العامــة والطرف المدني إثبات وجود البلاغ الكاذب، وسوء نية المبلــغ. و سنبين ذلك على النحو التالــــي:
الــفرع الأول: إثبـات وجــود البـــلاغ الكـــاذب
يتم البلاغ الكاذب – كما سبق الذكر – عن طريق الكتابة أو شفويا، وقد تصعب المسألة إذا تلقت السلطة المختصة بلاغا كاذبــا من مجهول، بحيث لا يحتوي البــلاغ على هوية المبلــــغ.
وإثبات وجود البلاغ الكاذب ومعرفة محتواه الذي يمثل جسم الجريمة، يكون على عاتق صاحب المصلحة في تحريك الدعوى وهو المجني عليه والنيابة العامة، وتقديم الدليل على ذلك. و غالبا ما يجد صاحب المصلحة صعوبة في الحصول على هذا الإثبات، وتختلف هذه الصعوبة حسب السلطة الموجــه إليها البلاغ.
أولا: إثبات وجود البلاغ الكاذب الموجه إلى السلطة القضائية
إذا كان البلاغ الكتابي أو الشفوي الذي تلقته النيابة يحتوي على كافة البيانــات المتعلقة بهوية المبلـغ، فيكون من السهل على النيابة العامة إثبات وجود هذا البلاغ و هوية صاحبه. ويكون من الصعب على كل من النيابة العامة و الطرف المدني إثبات البلاغ الذي لا يعرف فيه هوية مقدمــه( ).
على أن الأمر يكون بسيطا في حالة استفادة المبلغ ضده من مقرر الحفظ، فهذا المقرر يكفي لإثبــات كذب البــلاغ، ويمكنه ذلك من الحصول على تعويض عن الضرر الذي لحق به بعد أن يتم تحريــك الدعوى العموميــة. و يكون الأمر كذلك في حالـة صدور حكم نهائي ببراءته، ففي هـــــذه الحـــالة يستطيع أن يحصل على نسخة من هذا الحكـــم الذي يثبت به كــذب البـــلاغ.
ثانيا : إثبات وجود البلاغ الكاذب الموجه إلى السلطة الإدارية والجهات الأخرى
قد يصطدم المبلغ ضده بعقبـة في متابعــة المبلغ كذبا إذا رفض الرئيس السلمـي تسليم العامــــــل أو الموظف المبلغ عنه نسخة من البلاغ الموجه ضده ، أو أن يرفض الإعلان عن كذب الأفعال المبلغ عنها وهذه الصعوبات تواجه النيابة العامة أيضا ، لأنه لا توجد نصوص قانونيـة تسمح لها بالإطلاع على البلاغ الموجه إلى السلطة الإدارية والجهة الأخرى ( ) . فإذا تعلق الأمر بشكوى قدمت إلى موظفين إداريين، فالنيابة لا تستطيع تحريك الدعوى إلا بناءا على ما يقرره الموظفين الإداريين عن كذب الوقائع المبلغ عنها . إلا أنه يمكن للنيابة إثبات وجود البلاغ بالشهود، وهذا في حالــة ما إذا تم إتلاف البلاغ المكتــــــــــــوب أو فقـــــده.
الفــــرع الثاني: إثبات سوء نية المبـلـــــــــــغ
عبء إثبات سوء نية المبلغ يقع على عاق المبلغ ضده أو النيابة، وذلك بإثبات أن المتهم أقدم على التبليـغ وهو يعلم بكذب الوقائع المبلغ عنهـا ( ).
وسوء النية لا يمكن افتراضه من مجرد ثبوت الكذب، إذ قد يكون المبلغ اعتقد صحة الوقائع التي بلغ عنها لملابسات الحالة، فاندفع بغير تريث إلى التبليغ عنها ثم تبين بعد ذلك أنها غير صحيحة،أو أن بعضها صحيـح و البعض الآخر ليس كذلك، أو له سبب يغير الصفة التي ألحقها بها المبلغ اندفاعا منه و رعونة( ). وهكذا قضي في فرنسا بعدم توافر سوء النية في حالــة ما إذا تصرف الواشــي بخفة و بطيش، غير واع بعـدم صحة الوقائــع المبلغ عنها( ).
وعلى العموم، يكون إثبات وجود سوء النية بكافة وسائل الإثبات المقــررة في القانون الجزائـــــي.
كما أنه يستطيع بحسن نية تبليغ العدالة عن وقائع يظن أنها صحيحة، فإذا بقي الشك في وجــود حسن النية، دون التمكن من إثبــات ســوء النية، فإن هذا الشك يفسر لمصلحة المتهـم،و يجب أن يقضــى ببراءة المبلـغ( ).
المطلــــب الثانـي: المسائل التي يثبتهـــا المبلغ
إذا ثبتت براءة المبلغ ضده في دعوى الواقعة المبلغ عنها، و تمت متابعة الواشي أو المبلغ كذبـــــا بدعوى الوشاية الكاذبة، فيجب رغم ذلك تمكينه من الدفاع عن نفسه و من إثبات براءته استنادا للقاعدة “أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته” ، و لا يتأتى له ذلك إلا إذا أثبت صحة الواقعة التي بلغ عنها أو عن حسن نيته، إلا أنه وفي بعض الحالات قد يعجز عن إثبات صحة الواقعة.
وفي هذا الصدد، سنعالج إثبات صحة الواقعة و حسن النية في الفرع الأول، أما في الفرع الثاني سنتــعرض إلى عجز المبلغ عن إثبات صحـة الواقعـــة.
الـفـــرع الأول: إثبات صحة الواقعة و حسن النية
عبء الإثبات في جريمة الوشاية الكاذبة يقع على عاتق المبلغ، لأنه هو الذي يتهم، فيتعين عليـــه لكي ينجــــــو من العقاب أن يثبت حقيقة كل فعل أسنده إلى الغير، لا أن يقتصر على تأكيده. و لا يجوز أن يكلف الشخص الذي توجه لــــــه التهمة بلا بينة أن يثبت براءته، لأن كل مبــادئ القانــــون المقررة تقضي بأن البـــراءة هي الأصل إلى أن يثبت عكسهـــا ( ).
وبما أن المبلــــغ مطالب بإثبات صحـة الأمـور التي تضمنها بلاغـه فيجب تمكينــــــه من هذا الإثبات، بحيث يثبت بأنه أقـــدم على التبليــغ وهو يعتقد صحة الواقعة المبلغ عنها، وأن ذلك كــان بحسن نيـة. وله في سبيـــل ذلك أن يستعمل جميع وسائــل الإثبــات المقــــــررة قانونــا.
الفرع الثانـــي׃ عجز المبلغ عن إثبات صحة الواقعة
إذا عجز المبلغ عن إثبات صحة ما أسنده إلى المبلغ ضده وجب عليه العقاب( )، متى توافرت للجريمة باقي أركانهــا. إلا أن مجرد عجزه عن إثبات ما أبلغ به لا يصلح وحده دليلا كافيا على كذب بلاغه، لأن عجزه عن الإثبات لا يعني كذب بلاغه، بل يجوز تبرئته رغم ذلـــــك. والعبــرة في ذلــك هي بحقيقــة الواقـــع لا بالاعتبـــارات المجـــــردة( ).
أما إذا رجعنـا إلى نص المـــادة 300 من قـانون العقوبـات الجزائري التي تنص على أنه: “لا تتخذ إجراءات المتابعة ضد المبلغ إلا إذا ثبت عدم صحة البلاغ بقرار أو حكم قضائي يصدر بناءا على تحقيــق أو دعوى في خصوص الجريمــة المبلغ عنها”.
ففي هذه الحالة لا يكون أساس الحكم هو عجز المبلغ عن إثبات بلاغه، و إنما سلطة الإتهام لم تتوصل إلى إثبــات وقوع الواقعـــة من المتهم( ).
المطلـــب الثالث׃ المسائل التي يثبتها القاضــي
على المحكمة الناظرة في دعوى الوشاية الكاذبة، وفي حالة الحكم بالإدانة عن هذا الجرم أن تثبت عدم صحة الواقعة مع بيان الواقعة بأركانها القانونيـة( ). و سنتعرض لذلك من خـلال:
إثبات كذب الواقعة كفرع أول، و إثبات أركان الجريمة في الحكم و رقابة المحكمة العليا كفــــــــرع ثاني.
الفـــرع الأول׃ إثبات كـــــذب الواقعـــــــــــــــة
لا يقتصر تقديم البلاغ الكاذب إلى السلطة القضائية فقط، وإنما قد يتم تقديمه أيضا إلى السلطات المخول لها أن تتابعها أو أن تقدمها إلى السلطة المختصة أو إلى السلطــة الإدارية أو المستخدمة.
وعليه يمكن طرح التساؤل التالــــي׃ ما هي الجهــة التي تقرر كذب الواقعــــة؟
وما هي سلطــة القاضي في تقديـــر الواقعة المبلـــغ عنها؟
سنجيب على ذلك على النحــو الآتــــــي׃
أولا׃ الجهة التي تقرر كذب الواقعة
القاعدة هي أن السلطة المختصة بالتحقيق في كذب الأفعال المبلغ عنها هي نفسها المختصة بردع المبلغ عنه متى ثبت أن هذه الوقائــع صحيحــة( ).
غير أن تطبيق هذه القاعدة و إن كانت بسيطة ينجم عنها صعوبات عملية، لذلك وجب التمييز بين الأفعال المجرمة بقانون العقوبات، و الأفعال المعتبرة خطأ تأديبي أو مهني، و كذلك الأفعال التي تشكل جريمة و خطأ تأديبـــــي في نفس الوقــت.
ولمعرفة الجهة المختصــة ينبغي العــودة إلى طبيعـــة الفعل المبلـغ عنه.
1- الأفعال المجرمة بقانون العقوبات
إذا كان الفعل المبلغ عنه له- حسب قانون العقوبـــات و القوانين المكملة لـه- وصف الجريمة، فإن كذب البــلاغ يقدر من طرف السلطات القضائيــة سواء من محكمة الجنايات أو الجنح، وهذا استنـادا للقاعـدة العامـة السالفــــة الذكـــر آنفـــا.
2- الأفعال المعتبرة خطأ تأديبي أو مهني
إذا كان الفعل المبلغ عنه يشكل خطأ مهني أو تأديبي، فان السلطة المختصة بتقدير صحــة أو كذب هذا البلاغ هي السلطة المختصة بمتابعة و عقاب المبلغ ضده، سواء كانت سلطة إداريـة مباشرة أو سلطة سلميــة.
و لا يهم شكل القرار المتخذ من طرف السلطة المختصة، فيكفي أن تتحقق من أنها اعتبرت الوقائع المبلغ عنها كاذبة، و مع ذلك فد لا تخضعه لأي إجراء تأديبـــي( ).
3- الأفعال التي تشكل جريمة و خطأ تأديبي في آن واحد
إذا كان الفعل المبلغ عنه يشكل جريمة و خطأ تأديبي في آن واحد، ففي هذه الحالة تكون السلطة الإدارية غير مختصة بالإعلان عن صحة أو كذب البلاغ، لكونها غير مختصة بالبت في الأفعال المجرمة بقانون العقوبات، و بالتالي فالاختصاص يكون موكول للسلطة القضائية التي تقرر كذب الواقعـــــة المبلغ عنها.
ولكن إذا كان البلاغ يشكل وقائع في شق منها أفعال ذات طابع جزائي، وفي شق آخر خطأ تأديبي، و أبدت السلطة القضائية أو التأديبية رأيها و فصلت في المتابعة، و أجريت المتابعة على أساس الأفعال التي أعلن عن كذبها، و عليه فوجود قرار واحد يكفي من أجل المتابعة فــي جريمـــة الوشايــة الكاذبــة( ).
ثانيا : تقدير الوقائع المبلغ عنها من طرف قاضي الموضوع
عدم صحة الواقعة التي تضمنها البلاغ هو أحد العناصر القانونية لجريمة الوشاية الكاذبــــة و من ثم كان إثباتها شرطا للإدانة بهذه الجريمة، ذلك لأن عدم صحة الواقعة عنصر في هذه الجريمة، فيكون شأنه شأن أي عنصر أو ركن في هذه الجريمة تختص بإثبات توافره المحكمة الناظرة لهذه الجريمة( )، على أن يعلل قاضي الموضوع تقديره لصحة الوقائع المبلغ عنها تعليلا كافيا( )، و له في سبيل ذلك الاستعانة بكافة وسائل الإثبات المقررة قانونا.
الفــــرع الثاني : إثبات أركان الجريمة في الحكم و رقابة المحكمة العليا
الحكم في المواد الجزائية يبنى على الجزم و اليقين لا على الظن و الاحتمال، فيجب أن يكون الحكم مبنيا على أسباب مفصلة يتضح منها أن المحكمة قد ناقشت الأدلـــة و اقتنعت بصحتها وتثبت فيه أركــان الجريمـــة.
أولا : إثبات أركان الجريمة في الحكم
على المحكمة أن تبين في الحكم الصادر بالإدانة بيان الواقعة بأركانها القانونية، فيجب أن تبين حصول التبليغ و الأمر الذي تضمنه و كذب الوقائع ، و الجهة التي حصل التبليغ إليهـا و توافر سوء القصــد، فإذا قصرت في بيـــان شيء من ذلك كان حكمها قابــلا للنقض( ).
كما يجب أن يبين الحكم الأفعال الصادرة عن المتهم و مدى صحتها، وكذا تبيان الطريقة المستعملة لتبليغ الوشاية، و هذا ما أقره قرار الغرفة الجنائية الثانية للمجلس الأعلى المؤرخ في 18/05/1982 الذي قضى بأنه: ” يجب على القرار قبل القضاء لتبليغ وشاية كاذبة أن يحدد الأفعال الصادرة عن المتهم، و أن يثبت بأن الوشاية كاذبة و يقول ما هي الطريقة المستعملة لتبليغ الوشايـــة”( ).
و لا يكفي في إثبات جريمة الوشاية الكاذبة أن تقتصر المحكمة في حكمها على أن التهمة ثابتة من التحقيقات و شهادة الشهود الذين سمعوا بالجلسة، لأن هذا التسبيب في غاية القصور و الإبهام، إذا لم تذكر المحكمة فيه شيئا من تفصيل تلك التحقيقات أو شهادة الشهود على نحو يقنع المطلع أن البلاغ كاذب( ). كما أنه لا يكفي في معرض التدليل على سوء قصد المبلغ أن يذكر الحكم أن سوء القصد ثابت من الضغائن المعترف بها بين المتهم و بين المبلغ في حقه، بل يجب أن يبين ماهية تلك الضغائـن ودلالتها على توفر سوء القصد لدى المبلـــغ ( ).
ثانيا : رقابة المحكمة العليــــــــا
يجب أن يبين الحكم الصادر بإدانة المبلغ كذبا كافة عناصر الجريمة، و يوضحها بطريقة تسمح للمحكمة العليـــا ممارسة الرقابة عليه.
فإن أغفل الحكم عن إثبات أي ركن من الأركان، كأن لا يبين الوقائع المبلغ عنها، أو السلطة الموجه إليها البلاغ، أو أغفل عن إثبات سوء نية المبلغ، فيكون هذا الحكم قاصرا و موجبا للبطلان، و يخضع لرقابـــة المحكمــة العليـــا( ). و في هذا الشأن قضت المحكمة العليا في قرار غير منشور مؤرخ في 07/12/2005 جاء فيه : ” … حيث أن جنحة الوشاية الكاذبة المنصوص و المعاقب عليها بنص المادة 300 من قانون العقوبات تشترط لقيامها أن يكون البـلاغ عفويا، و يكون الغرض منه المسـاس بالمبلغ عنه، أي أن يكون البــلاغ كاذبــا فعـــلا، و يتعين على قضاة الموضوع إبراز العناصر المكونة للجنحة المذكورة و منها سوء نية المتهم، أي يجب تبيان بأن المتهم كان يعلم مسبقا بأن هذا البلاغ لا أساس له من الصحة.
وحيث أن القرار المطعون فيه لم يناقش العناصر المكونــة للجنحة الذكورة على ضوء ما سبـــق ذكره.
وحيث أنه ثبت من القرار الصادر عن المجلس أن الوقائع المتابع عنها كاذبة، و عليه فإن المتهم قد تعمد عن إدراك بإسناد وقائع كاذبة للضحية، فهذا القول لا يكفي دون تبيان بأن البلاغ كان كاذبا فعلا.
و حيث أن مثل هذا التعليل يعد تعليلا ناقصا. و عليه قضت المحكمة العليا :
بقبول الطعن شكلا. و في الموضوع بنقض القرار المطعون فيه و إحالة القضية و الأطراف أمـــام نفس المجلس مشكلا تشكيـــلا آخــــر ليفصل فيها طبقــا للقانــــون”( ).
الخـــاتمــــــة
يمكن أن يقدم البـلاغ الكاذب- إستنادا إلى نص المادة300 من قانون العقوبات الجزائري- من طرف كل شخص شاهد وقوع الجريمة أو وقعت عليه، كما يمكن تقديمه من طرف شخص ملــزم بتقديمه كالموظف، أو من طرف شخص عـــادي غير ملزم بتقديمــه.
ويكون البلاغ عن واقعة كاذبة تستوجب عقوبة جزائية أو إدارية أو تأديبية، و يشترط في البلاغ أن يقدم ضد شخص معين إلى السلطة المختصة بإجراءات المتابعة، سواء كانت هذه السلطة قضائية أو إدارية أو رئاسية أو مستخدمة. وبذلك تكون المحكمة المختصة هي تلك التي يوجد في دائرة إختصاصها مقر السلطة المبلغ إليها ، بالإضافة إلى القواعد العامة المقررة في قانــون الإجراءات الجزائية كمحل إقامة أحد المتهمين، أو محـــل القبض عليهم و لو كــان القبض قد وقـع لسبب آخـــر.
و أن يتم تقديم البلاغ بصفة تلقائية أي بمحض إرادة المبلغ، بحيث يكون المبلغ قد أقدم على التبليغ و هو غير مطالب به، و على أن يكون ذلك بسوء نية المبلغ. وذلك بأن يكون له علم مسبـق بكذب الوقائــع المبلغ عنها، وأن الشخص المنسوبـــة إليه هاته الوقائـــع برئ منهـا.
كما أنه لا يشترط شكــل معين في البـلاغ، فقد يكون مكتوبا أو شفويــا،سواء تم تقديمه شخصيـا أم عن طريــق الغيــر.
و يلاحظ أن نص المادة300 من قانون العقوبات جاء عام فيما يخص الشخص مقدم البلاغ سواء كان شخصا طبيعيا أو معنويا، أما فيما يخص الشخص المقدم ضده البلاغ الكــــــــاذب، فحدده المشرع في فرد أو أكثر، وبذلك يستبعد الشخص المعنوي، فلا يمكن أن يكون ضحية في هذه الجريمة.
غير أنه عمليا يمكن تقديم وشاية كاذبة ضده، و يكون موضوع متابعة جزائية و يسبب له ضرر. و بالتالي يمكن القول بأن هذه المادة لم تعد تتماشى مع التطورات التي تشهدها الجزائر و تكييفها مع التحولات العالمية الجديدة في هذا المجال.
و يجب أن ننــوه بالذكر، بأنه لا يمكن القول بأن كل بلاغ كاذب ينطبق عليه النص ألتجريمي للمادة 300 من قانون العقوبات، إذ يمكن أن يكون تقديم البلاغ نتيجة غلط خطــأ أو تسرع، أو أن يقدم بحسن نية من قبل الواشي و لم يعتمد فيه الكذب، وبالتالي تنتفي المسؤولية الجزائية لمقدم البلاغ، غير أن هذا لا يعفيه من المسؤولية المدنية. أما إذا انتفى الخطأ لديه فتنتفـي كل من المسؤولية الجزائيـــة و المدنيــة.
كما أنه لا يمكن إجراء متابعة في جريمة الوشاية الكاذبة إلا بعد صدور حكم بالبــــــــــراءة أو الإفراج أو قرار الحفظ أو الأمر أو القرار بألا وجه للمتابعة من طرف السلطة المختصة بشأن الواقعـــة المبلــغ عنها.
و مبدئيا تكون الجهات المختصة بإجراء المتابعة و معاقبة المبلغ ضده هي المختصة بإثبات كذب الواقعة المبلغ عنها بصدور حكم البراءة أو الإفراج أو قرار الحفظ أو الأمر أو القرار بألا وجه للمتابعة، إلا أن القاضي الذي ينظر دعوى الوشاية الكاذبة مختص بذلك أيضا لذلك يجب التمييز بين حالتين:
– ففي حالة صدور أمر بألا وجه للمتابعة أو قرار الحفظ، سواء صادر عن النيابة العامــــة أو السلطة السلمية للموظف، فالقاضـــي لا يتقيد بما جاء فيها فيما يخص موضوع الواقعة المبلغ عنهـــا، فله أن يبحث في صحة أو كذب الواقعة من خلال الوثائق المقدمة أمامه، و من المناقشات التي دارت خلال الجلسة. و بالتالي يمكن له أن يحكم بعكس ما جاء في هذه القرارات و الأوامــر حسب اقتناعــه الشخصـــي.
– أما في حالة صدور حكم جزائي بات فاصل في موضوع الواقعة المبلغ عنها، يكون القاضي ملزم بأن يتقيد بما جاء في هذا الحكم فيما يخص الواقعة.
على أنه في حالة إنقضاء الدعوى العمومية بسبب العفو الشامل مثلا، فيبقى للمحكمة التي أخطــرت بالدعـوى من أجل الوشايـة أن تقـرر وحدها ما إذا كانت الوقائـع المبلغ عنها كاذبـة، و ذلك لعدم وجود أية سلطة أخرى يكون لها إثبات صحة هذه الوقائع أو عدم صحتها.
ويتم تحريك دعوى الوشاية الكاذبة- طبقا للقواعد العامة- من طرف النيابة أو الطرف المدني، ويترتب على ذلك آثار قانونية بالنسبة لدعوى الواقعة المبلغ عنها إذا كانت مازالت قائمة أثناء تحريك دعوى الوشاية الكاذبة، فيجب وقف الدعوى الثانية إلى حين الفصل في الدعوى الأولى، أما دعوى التعويض المقامة أمام القضاء المدني فتبقى خاضعة للقواعد العامــــــة.
و يكون على عاتق النيابة والطرف المدني إثبات وجود البلاغ الكاذب، و إثبات سوء نية المبلغ، و يتم ذلك بكافـــة وسائـــل الإثبـــات المقررة قانونــــــا. على أنه إذا بقي الشك في وجــود حسن النية دون التمكـن من إثبــات ســوء النيــة، فإن هذا الشك يفسر لمصلحة المتهم، الأمـر الذي يتعيــن معه القضــاء ببــراءة المبلغ.
كما يجب تمكيـــن المبلغ كذبا من الدفـــاع عن نفسه، و السمـــاح لــه بأن يثبت صحـة ما أبلغ به و حسن نيتــه بكافــة وسائــل الإثبــات المقررة قانونـــــا.
كما يجب على القاضي أن يثبت في الحكـم كافــة الأركان القانونية- المادية و المعنوية- لجريمة الوشاية الكاذبة، فإذا أغفل ذكر أحد عناصر الجريمة كان تسبيبه قاصرا واستوجب نقضــه، لأنه يخضع لمراقبـــــة المحكمة العليـــــا.
قائمـــــة المراجـــــع المعتمدة
أولا: النصوص القانونيـة
1- الدستــور الجزائـــري لسنة 1996.
2- القانــون 04-18 المؤرخ في 25/12/2004 المتعلق بالوقاية من المخذرات و المؤثرات العقلية و قمع الإستعمال و الإتجار غير المشروعين بها، الجريدة الرسمية العــدد 83، 2004.
3- الأمــر 05-06 المؤرخ في 23/08/2005 المعدل و المتمــم بالأمر 06/09 المتعلـق بمكافحــة التهريــب، الجريدة الرسمية العدد 42، 2005.
4- القانـون 06-01 المؤرخ في 20/02/2006 المتعلق بالوقايــة من الفســــاد و مكافحتــــــه، الجريـــدة الرسمية العدد 14، 2006.
5- القانون 06-22 المؤرخ في 20/12/2006 المعدل و المتمم للأمر 66-155 المتضمن قانـون الإجراءات الجزائية الجزائري، الجريـدة الرسمية العدد 84، 2006.
6- القانـون 06-23 المــؤرخ في 20/12/2006 المعـدل و المتمـم للأمـر 66-155،المتضمن قانون العقوبــات الجزائــــري، الجريدة الرسمية العدد 84، 2006.
ثانيا: المجلات القضائية
1- قرار مؤرخ في 18/05/1982 ، ملف رقم 22908، منشور في نشرة القضـــاة من 1 جانفي-30 جوان 1983.
2- قرار مؤرخ في 09/11/1982 ، ملف رقم 23519، منشور في نشرة القضـــــــــاة 1983، العدد2.
3- قرار مؤرخ في 25/12/1984 ، ملف رقم 31314، منشور في المجلة القضائيـــة 1990، العدد1.
4- قرار مؤرخ في 23/11/1993 ، ملف رقم 96004، منشور في المجلة القضائيــة 1994، العدد3.
5- قرار مؤرخ في 15/02/2000 ، ملف رقم 188909، منشور في المجلة القضائية 2001، العدد2.
6- قرار مؤرخ في 28/07/1999 ، ملف رقم 198286، منشور في المجلة القضائيــة 2001، العدد2.
7- قرار مؤرخ في 21/07/1996 ، ملف رقم 123059، منشور في الإجتهاد القضائي لغرفة الجنح و المخالفات، عدد خاص، الجزء ،2002.
8- قرار مؤرخ في 08/06/2005 ، ملف رقم 299800، منشور في المجلة القضائيــة 2005، العدد1.
ثالثا: المراجع المتخصصة
1- د/ علي عوض حسن، جريمة البلاغ الكاذب، مصر، دار الكتب القانونية،2005.
2- حسني مصطفى، جريمة البلاغ الكاذب في ضوء القضـاء و الفقه، الإسكندرية، دار الفكر العربي، 1986.
3- المستشار معوض عبد التواب، القذف و السب و البلاغ الكاذب، دار المطبوعات الجامعية،1988.
4- المستشار عدلي خليل، البلاغ الكاذب و التعويض عنه، القاهرة، دار النهضة العربية، الطبعة 1، 1993.
5- بودبة سعيدة، جريمة البلاغ الكاذب، مذكرة ماجستير، الجزائر، كلية الحقوق،2005.
رابعا: المراجع العامـــــة
1- د/ أحسن بوسقيعة، الوجيــــز في القانـون الجزائي الخـــاص، الجزائر، دار هومـه، الطبعة5، 2006.
2- د/ أحسن بوسقيعة، قانون العقوبات في ضوء الممارسات القضائية، الجزائـر منشورات بيرتي، الطبعة 2007-2008.
3- د/ أحسن بوسقيعة، التحقيق القضائي، الجزائر،دارهومه، 2006.
4- ذ/ جيلالي بغدادي، الإجتهاد القضائي في المواد الجزائية، الجزائر،الجزء 1، 1996.
5- د/ محمد صبحي نجم، شرح قانون العقوبات – القسم الخـــاص- الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، الطبعة 5، 2004.
6- د/ فتوح عبدالله الشاذلي، شرح قانون العقوبات – القسم الخاص- ” الإعتداء على الشــرف و الإعتبار” ، الإسكندرية، دار المطبوعات الجامعية، 1994.
7- د/ رؤوف عبيد، جرائم الإعتداء على الأشخاص و الأموال، دار الفكر العربي، الطبعة 8، 1985.
8- د/ جندي عبد الملك، الموسوعــة الجنائيــة، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1976.
9- د/ إدوارد غالي الدهبي، حجية الحكم الجنائــي أمـام القضــاء المدنــي،القاهرة، دار غريب للطباعة، 1990.
10- أحمد لعور، نبيل صقر، قانون العقوبات، الجزائر، دار الهلال للخدمات الجامعيــة،2005.
11- ذ/ بن وارث.م، مذكرات في القانون الجزائي الجزائري، القسم الخاص، الجزائر، دار هومـــه، 2003.
12- د/ محمد نجيب حسني، شرح قانون العقوبات- القسم الخاص- القاهرة، دار النهضة العربية، الطبعة 3، 1994.
13- المستشار الدكتور أشرف فايز اللمساوي ، الإدعاء المدني في الدعوى الجنائية، المركز القومي للإصدارات القانونية، الطبعة 3، 2005.
خامسا: المراجع بالفرنسية
1- Georges Levasseur, Infraction contre les personnes, Revue de science criminelle et droit pénal comparé, Paris, Sirey, 1984.
2- Paul Malibert, Dénonciation calomnieuse, Fascicule 1, édition de Juris-classeur, 1998.
3- Marie Françoise D’esparbes, Dénonciation calomnieuse, Fascicule 2, édition de Juris-classeur,1998.
الفهـــــــرس
المقدمـــة………………………………………………………….. 1
الفصل الأول: الجوانب النظرية لجريمة الوشاية الكاذبة……………………… 4
المبحث الأول: مفهوم جريمة الوشاية الكاذبة و أركانها……………………………. 4
المطلب الأول: تعريف جريمة الوشاية الكاذبــــة…………………………………… 4
المطلب الثاني: تمييزها عن الجرائم المشابهة لها…………………………………… 7
المطلب الثالث: أركان جريمة الوشاية الكاذبــــة……………………………………. 9
المبحث الثاني: : قمــــع الجريمـــــة………………………………………………… 17
المطلب الأول: تمام الجريمة و الأشخاص المسؤولين عنها………………………. 17
المطلب الثاني: العقــوبـــــــــــة……………………………………………………. 19
المطلب الثالث: الإعفاء من العقاب…………………………………………………. 21
الفصل الثاني: الجوانب الإجرائية لدعوى الوشاية الكاذبة…………………………. 23
المبحث الأول: دعوى الوشايـــــــة الكاذبـــــــة…………………………………… 24
المطلب الأول: الأطـراف التي يجوز لها تحـريك دعوى الوشاية الكاذبة……………………………………………………………………………….
24
المطلب الثاني: شروط تحريــك دعوى الوشايـة الكاذبــة………………………… 25
المطلب الثالث: الآثار المترتبة عن تحريك دعوى الوشاية الكاذبة………………. 28
المبحث الثاني: الإثبات في دعوى الوشاية الكاذبــة………………………………. 36
المطلب الأول: المسائل التي تثبتها النيابة و الطرف المدني……………………… 36
المطلب الثاني: المسائل التـي يثبتها المبلـــغ……………………………………… 38
المطلب الثالث: المسائـل التـــــي يثبتهـا القاضــــي……………………………… 39
الخاتمـــة:……………………………………………………… 43
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً