أحكام التعويض ضد خزانة الدولة .. من المسؤول؟
محمد بن سعود الجذلاني
في جلسته المنعقدة الأسبوع الماضي أوصى مجلس الشورى بتفعيل الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد وطالب بالإسراع إلى تشكيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، كما أوصى المجلس أيضاً بضرورة مساءلة كل من لا يلتزم بتطبيق الأنظمة واللوائح من المسؤولين والموظفين في الأجهزة الحكومية.
وعند الحديث عن الفساد المتمثل في عدم تطبيق الأنظمة واللوائح من قبل بعض مسؤولي وموظفي الدولة، فإن من الأهمية بمكان الحديث عما يترتب على أخطاء هؤلاء الموظفين من أضرار لحقت بالغير، وحدود مؤاخذة هؤلاء الموظفين عن أخطائهم وتجاوزاتهم للأنظمة. إن من اللافت للنظر والمقلق كثيراً ما يشهده ديوان المظالم من كمٍّ هائلٍ من الدعاوى المنظورة ضد جهات الحكومة المختلفة والدعاوى التي أعنيها ثلاثة أنواع:
1- دعاوى الطعن في القرارات الإدارية لمخالفتها النظام وما يترتب على هذه القرارات المخالفة للأنظمة من أضرار تلحق بالأفراد. 2- دعاوى العقود والنزاعات التي تحدث بين المقاولين وبين الجهات الحكومية في تنفيذ هذه العقود والتي تكشف في كثيرٍ من الأحيان عن تجاوزات ٍ ومخالفات ٍ ارتكبتها الجهة الحكومية في تنفيذها العقد مع المقاول سواء ً كانت مخالفات ٍ للأنظمة أو مخالفات ٍ لبنود العقد ويترتب على هذه المخالفات أضرار ٌ تلحق بالمتعاقد مع الجهة الحكومية توجب الحكم له بالتعويض.
3- دعاوى التعويض التي يتقدم بها الأفراد ضد جهات الحكومة عن ما لحقهم من أضرار بسبب أخطاء وتجاوزات الموظفين التابعين لجهة الحكومة. هذه الأنواع الثلاثة من الدعاوى كلها تنطوي على أضرار ٍ تلحق بالآخرين تستوجب الحكم لهم بالتعويض. وفي عام 1419هـ أثناء زيارة معالي الشيخ محمد النافع (رحمه الله) رئيس هيئة الرقابة والتحقيق سابقاً لفرع ديوان المظالم بمنطقة عسير وكنت حينها قاضياً في فرع الديوان هناك وجهت لمعاليه سؤالاً: لماذا لا تتم محاسبة المسؤولين والموظفين الذين يخالفون الأنظمة واللوائح المبلغة لهم ويترتب على مخالفاتهم أحكام ٌ بالتعويض تدفع من الخزانة العامة للدولة ؟ لكن لم أتلق منه – رحمه الله – جواباً شافياً في حينه. وبعد أكثر من عشر سنوات أعود اليوم لطرح هذا السؤال الذي ما زال بحاجة ٍ إلى إجابة.
إن ما تصدره المحاكم الإدارية في ديوان المظالم سنوياً من أحكام ٍ بالتعويض ضد جهات الحكومة وتصل مبالغ هذه التعويضات إلى مئات الملايين أحياناً وهي في تزايد ٍ مستمر كلها تُشكِّل عبئاً كبيراً على الخزانة العامة للدولة سنوياً، مما يستوجب إعادة النظر في طريقة محاسبة المتسببين في هذه الأضرار من مسؤولي الدوائر الحكومية. ومن المناسب هنا الإشارة إلى أن خطأ المسؤول أو الموظف الحكومي ومخالفته النظام قد تكون مخالفةً عمدية مع علمه بالنظام أو قد يكون مع الجهل به حيث من المعلوم أن الجهل بالنظام لا يعتبر حجة.
كما أن من المشاهد الموجود أن كثيراً من المسؤولين انتهجوا أسلوب إصدار القرارات بطريقةٍ فرديةٍ ارتجالية دون الرجوع إلى الأنظمة أو إلى المستشارين القانونيين والإدارات القانونية التي لا تكاد تخلو منها جهة حكومية، فيعمد ُ هذا المسؤول إلى إصدار قرارٍ مخالف للنظام باجتهادٍ فرديٍ ليس له ما يسوغه أو أحياناً بطريقةٍ تعسفية في استعمال النفوذ والصلاحيات الممنوحة له، ثم إذا تبين مخالفة هذا القرار الأنظمة ونتج عنه أضرارٌ بالغير وأقيمت دعوى بالتعويض ضد هذه الجهة تتم إحالة ملفها إلى الإدارات القانونية لتتولى الدفاع بحقٍ أو بباطلٍ عن تصرفات هذا المسؤول ومعالجة ما ترتب على قراره المخالف من آثار مع أن هذه الإدارة القانونية كانت مُغيَّبةً حين اتخاذ هذا القرار ولم يكن لها رأيٌ فيه.
ومع استمرار هذه الممارسات تتسع هوة الفساد الإداري في الإدارات الحكومية ويغيب التطبيق السليم للأنظمة والتعليمات ويحول ذلك دون تحقيق المصالح العامة التي وضعت الأنظمة لتطبيقها.
إن لهيئة الرقابة والتحقيق ولديوان المراقبة العامة جهوداً جبارةً مشكورةً ولا تخفى على أحد في مكافحة الفساد الإداري والمالي في الجهات الحكومية وفي العقود الحكومية، ولكن ما أنادي به هنا يعتبر صورةً من صور مكافحة الفساد مع أهميتها والحاجة الملحة إليها، فإنها لا تزال غير موجودة وهي إحالة المتسببين من المسؤولين الذين تثبت مخالفتهم الأنظمة سواء ً عمداً أو جهلاً ويترتب على مخالفاتهم أضرارٌ وأحكامٌ بالتعويض، إحالتهم للمحاكمة عن جرائمهم ومخالفاتهم بعد تكييفها الصحيح وهل هي جنائيةٌ أم مسلكية تأديبية.
فإذا كان من السائد المعمول به من القديم إحالة الموظفين الذين يرتكبون جرائم الرشوة أو التزوير أو التفريط في المال العام أو الاختلاس إلى المحاكمات الجزائية والتأديبية، فإن محاكمة من يلحق الخسارة بخزانة الدولة ويرتب عليها تعويضاتٍ بمبالغ طائلة أولى وأوجب نظراً لجسامة ما يترتب على مخالفاتهم من آثارٍ سيئة اقتصادياً بخسارة ملايين الريالات التي كان الأولى صرفها في مشاريع التنمية أو آثارٍ سيئةٍ على المستوى الإداري بإشاعة الفساد الإداري وتغييب المصلحة العامة. وفي هذا الصدد يحسن الإشارة إلى أن صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز – حفظه الله – قبل عدة سنوات حين رُفع إليه حكم ٌ أصدره ديوان المظالم بحق وزارة الداخلية لإلزامها بتعويض مواطن تم سجنه بالمخالفة للنظام أمر – حفظه الله – بإلزام مدير الشرطة الذي أمر بسجن هذا المواطن أن يسدد مبلغ التعويض من ماله الخاص كما أمر بتعميم هذا الحكم وتوجيه سموه بشأنه على جميع مديري الشرطة في مناطق المملكة.
وهذه سابقةٌ رائدةٌ تدل على حسٍ إداري نزيهٍ وانضباطي وحرص ٍ على المصلحة العامة وعلى حسن تطبيق الأنظمة. وإن المأمول اليوم أن تكون هذه السابقة المثالية منهجاً تسير عليه هيئة الرقابة والتحقيق ومعها جميع الإدارات الحكومية وسرعة إيجاد آليةٍ لتنفيذ ذلك الأسلوب الرائد في المحاسبة للمقصر والمخالف. ولا يفوتني هنا التأكيد على أن أصحاب الفضيلة قضاة ديوان المظالم يجب أن يكون لهم دورٌ فاعلٌ في المساهمة في مكافحة الفساد عبر ما يلاحظونه من مخالفاتٍ ترتكبها الجهات الحكومية سواء ً في تنفيذ العقود أو في تنفيذ الأنظمة عموماً وأن تتضمن الأحكام الصادرة منهم في هذا الخصوص توصياتٍ بالتحقيق فيما يرونه من مخالفات ٍ أو معاقبة المتسبب فيها وأن يتم التنسيق التام بين ديوان المظالم وهيئة الرقابة والتحقيق أو ديوان المراقبة العامة كلٌ فيما يخصه فيزودهم ديوان المظالم بصورةٍ عن هذه الأحكام ليباشروا فيها اختصاصاتهم. وهذا بلا شك سيكون له أثرٌ فاعلٌ في تحقيق الغاية المرجوة من مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين. حفظ الله وطننا الغالي عزيزاً شامخاً آمناً مطمئناً، والله من وراء القصد.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً