الهبة عقد مالي كسائر العقود المالية فينبغي أن ينظم التقنين المدني أحكامها كاملة سواء في الشكل أو في الموضوع، وأن تأخذ مكانها الطبيعي بين العقود المسماة، واتفاقًا مع ذلك يتعين تعديل المادة الخامسة من قانون تنظيم القضاء، التي تدرجها ضمن مسائل الأحوال الشخصية وقد استمد المشروع الأحكام الموضوعية في الهبة من الفقه الإسلامي دون التقيد بمذهب معين، فعرف الهبة في المادة (524) بأنها عقد على تمليك مال في الحال بغير عوض، وهو تعريف يميزها عن عقود المعاوضة، وعن غيرها من أعمال التبرعات، ويقترب من تعريف المالكية لها بأنها تمليك ذات بلا عوض لوجه الموهوب له وحده.
أولاً: أركان الهبة:
في انعقاد الهبة يفرق التقنين المصري – والتقنينات التي حذت حذوه بين العقار والمنقول: فهبة العقار لا تتم إلا بورقة رسمية، أما هبة المنقول فتتم إما بورقة رسمية وإما بالقبض، والجزاء على الإخلال بالشكل هو البطلان. ومع ذلك فإذا قام الواهب أو ورثته مختارين بتنفيذ هبة باطلة لعيب في الشكل فلا يجوز لهم أن يستردوا ما سلموه، وهو ما ينتهي عملاً إلى اعتبار القبض مساويًا للرسمية في كل من العقار والمنقول.
لذلك رأى المشروع في المادة (525/ 1) أن يعلق انعقاد الهبة، على القبض أو التوثيق في محرر رسمي في العقار والمنقول على وجه سواء، ويعتبر القبض قد تم ولو بقي الشيء في يد الواهب إذا كان وليًا أو وصيًا أو قيمًا أو قائمًا على تربية الموهوب له (525/ 2). وينص المشروع في المادة (526) على أن الهبة لا تنعقد على مال مستقبل، كما هو مستقر في الفقه الإسلامي (المادتان 854 و856 من المجلة) وهو ذات النهج الذي انتهجه القانون المصري (المادة 492)، والقوانين العربية التي نحت نحوه.
وفي هبة مال الغير نص المشروع في (المادة 527) على أنها تقع باطلة، فلم يلتزم في ذلك بما جرت عليه تقنينات عربية أخرى من تطبيق حكم بيع ملك الغير على الهبة ولا بما ذهب إليه الحنفية من اعتبارها عقدًا موقوفًا على إجازة المالك، بل آثر الحكم الذي جاء به مستمدًا من مذهب مالك والذي يتأسس على أن هبة مال الغير تؤدي إلى تمليك ماله بلا عوض يعود عليه فتقع باطلة، والباطل لا تصح إجازته وهو حكم يرفع الحرج عن المالك الأصلي، إذا وهب غيره مالاً يملكه، ثم عُرض الأمر عليه ليقر الهبة أو لا يقرها.
ويعرض المشروع في المادة (528) لهبة المشاع وهو ما لم يعرض له التقنين المصري مكتفيًا باستخلاص حكمه من القواعد العامة، وفي ذلك تنص المادة (826) منه على أن (كل شريك في الشيوع يملك حصته ملكًا تامًا، وله أن يتصرف فيها وأن يستولي على ثمارها وأن يستعملها بحيث لا يلحق الضرر بحقوق سائر الشركاء) ومن ثم تكون هبة المشاع جائزة في التقنين المصري وفي التقنينات العربية الأخرى التي أوردت نصًا مماثلاً.
أما في الفقه الإسلامي، فعند الحنفية تجوز هبة المشاع فيما لا يقسم ويُكتفى بالقبض القاصر للضرورة، ولكن لا تصح الهبة فيما يقسم إلا محوزة مقسومة، وعند مالك والشافعي وأحمد فإن ذلك جائز، ولذلك آثر المشروع أن ينص صراحةً على جواز هبة المشاع ولو كان الموهوب قابلاً للقسمة أخذًا برأي الأئمة الثلاثة، وهو ما فعله التقنين العراقي أيضًا (المادة 609 الفقرة الثانية).
وينص المشروع في المادة (592) على تطبيق أحكام الوصية على الهبة في مرض الموت وهو نص لا يعدو أن يكون تطبيقًا للحكم العام الذي أورده المشروع في المادة (942) والذي يعتبر كل تصرف صادر في مرض الموت بقصد التبرع تصرفًا مضافًا إلى ما بعد الموت وتسري أحكام الوصية.
ثانيًا: آثار الهبة:
1 – التزامات الواهب:
تعرض المواد (530 – 533) لالتزامات الواهب، وهي التسليم وضمان التعرض والاستحقاق وضمان العيب، فتنص المادة (530) بفقرتيها على التزام الواهب بتسليم الموهوب، ويقع ذلك إذا تمت الهبة بمحرر رسمي، وتسري عندئذٍ الأحكام المتعلقة بتسليم المبيع – فيلتزم الواهب بتسليم المال للموهوب – في الزمان والمكان المعينين – وبالحالة التي كان عليها وقت الهبة، وبالمقدار المعين في العقد. فإن تغيرت حالته أو وُجد فيه نقص، لم يكن الواهب مسؤولاً إلا عن فعله العمد أو خطأه الجسيم، وإن هلك المال الموهوب قبل تسليمه لسبب أجنبي كان هلاكه على الموهوب له، لأنه لم يدفع مقابلاً حتى يسترده، أما إن كان الهلاك بخطأ من الواهب فإنه لا يُسأل في ذلك إلا عن فعله العمد أو خطئه الجسيم لأنه متبرع. ويكون التسليم في كل شيء حسب طبيعته أو باختلاف حاله. ويتم بوضع الموهوب تحت تصرف الموهوب له، بحيث يتمكن هذا من قبضه والانتفاع به دون حائل، ويقوم مقام التسليم الفعلي، التسليم الحكمي. كما في البيع. أما إذا لم تعقد الهبة بمحرر رسمي، فإنها لا تتم إلا بالقبض، ويكون التسليم ركنًا في الهبة لا التزامًا.
وتعالج المادتان (531 و532) ضمان التعرض وضمان الاستحقاق، ومؤداها أن الواهب لا يضمن إلا التعرض الناشئ عن فعله، كما لا يضمن استحقاق المال الموهوب إلا إذا تعمد إخفاء سبب الاستحقاق، أو كانت الهبة مقترنة بتكليف وذلك ما لم يُتفق على غيره أو يقضِ القانون بخلافه، وفي الحالة الأولى يقدر القاضي للموهوب له تعويضًا عادلاً، أما في الحالة الثانية فيضمن الواهب الاستحقاق ولو كان يجهل سببه. ولكنه لا يكون مسؤولاً إلا في حدود ما أداه له الموهوب له من تكليف، وفي الحالتين يحل الموهوب له محل الواهب فيما له من حقوق ودعاوى بسبب الاستحقاق.
أما العيوب الخفية فتتناول حكمها المادة (533)، والأصل أن الواهب لا يضمن العيوب الخفية إلا إذا اتفق على أنه يضمنها، أو كان قد تعمد إخفاء عيب في الموهوب. وعندئذٍ لا يُلزم بتعويض الموهوب له إلا عن الضرر الذي يسببه العيب ولا يلزم بتعويضه عن العيب ذاته لأنه متبرع لم يأخذ مقابلاً لما أعطى، ولا يُغير من ذلك أن تكون الهبة مقترنة بتكليف، لأن التكليف يجب أن يكون أقل من قيمة الموهوب وإلا كان العقد من عقود المعاوضة. وقد اهتدى المشروع في وضع أحكام الضمان بأنواعه المختلفة بما أورده القانون المصري من أحكام بشأنها (المواد 494 – 496 مدني) ونقلته عنه القوانين العربية الأخرى التي تأثرت به، وذلك بعد إدخال التعديلات المناسبة عليها.
2 – التزامات الموهوب له:
وتعرض المواد (534 – 536) لالتزامات الموهوب له، وهي التزامات محتملة لا تكون إلا إذا اقترنت الهبة بتكليف. فيكون التكليف التزامًا في ذمة الموهوب له وهو ما تقضي به المادة (534)، فيجوز للواهب – ولورثته من بعده – المطالبة بتنفيذه، سواء كان التكليف مشترطًا لمصلحة الواهب أو لمصلحة الغير، وللغير المشترط له أن يطالب أيضًا بالتنفيذ لأنه المستفيد وله حق مباشر قبل الموهوب له طبقًا للقواعد العامة المقررة في الاشتراط لمصلحة الغير.
وحتى تحتفظ الهبة بطابعها التبرعي، فإنه يجب أن تكون قيمة التكليف المشترط أقل من قيمة المال الموهوب، أما إذا كانت قيمة التكليف تقترب من قيمة الموهوب أو تزيد عليها، وكان الموهوب له على علم بذلك، فإن العقد يكون معاوضة لا هبة فإذا تبين أن التكليف تزيد قيمته على قيمة الموهوب وكان الموهوب له لا يعلم بذلك، فإنه لا يكون ملزمًا بأن يقوم بالتكليف إلا في حدود قيمة الموهوب وهو ما تنص عليه المادة (535) من المشروع.
وإذا اشترط الواهب على الموهوب له وفاء ديونه، وأطلق دون أن يعين هذه الديون، فالمفروض أنه أراد الديون الموجودة وقت تمام الهبة، لا الديون التي تجد بعد ذلك (المادة 536). وجميع هذه الأحكام لها ما يقابلها في القانون المصري (المادتان 497 و499/ 1 مدني) وكثير من القوانين العربية التي أخذت عنه.
ثالثًا: الرجوع في الهبة:
جواز الرجوع في الهبة مختلف عليه في الفقه الإسلامي، فالمذهب الحنفي يجيز الرجوع إلا لمانع، أما المالكية والشافعية والحنابلة فلا يجيزون الرجوع إلا في حالة واحدة، هي حالة هبة الوالد لولده، وهو ما يسمى عند المالكية باعتصار الهبة أو استرجاعها، فيعتصر الأب – أي يسترجع قهرًا – ما وهبه لولده، وتستند هذه المذاهب الثلاثة إلى ما روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ” لا يرجع الواهب في هبته، إلا الوالد فيما يعطي لولده “. وهناك أيضًا رأي آخر يحكي عن أهل الظاهر رواية عن أحمد بن حنبل، لا يجيز الرجوع في الهبة أصلاً، ولو من الوالد ويستدل على ذلك بالحديث ” العائد في هبته كالعائد في قيئه ” وبأن الهبة عقد تمليك منجز كالبيع، فلا يجوز الرجوع فيها.
وقد رأى المشروع أن يجعل الأصل هو عدم جواز الرجوع في الهبة إلا للأبوين فيما وهباه لولدهما – كما هو مقرر في مذهب مالك (المادة 537/ 1) ولكنه آثر لاعتبارات عديدة أن يجيز الرجوع في الهبة، استثناءً من هذا الأصل العام بقيدين أوردهما بالمادة (537/ 2) والمادة (538) منه:
القيد الأول – أن يستند الواهب في الرجوع إلى عذر مقبول، ويعتبر على وجه الخصوص عذرًا مقبولاً:
( أ ) أن يخل الموهوب له بما يجب عليه نحو الواهب، إخلالاً يعتبر جحودًا كبيرًا من جانبه.
(ب) أن يصبح الواهب عاجزًا عن أن يوفر لنفسه أسباب المعيشة بما يتفق مع مكانته الاجتماعية، أو أن يصبح غير قادر على الوفاء بما يفرضه عليه القانون من النفقة على الغير.
(جـ) أن يرزق الواهب بعد الهبة ولدًا يظل حيًا إلى وقت الرجوع، وغني عن البيان أنه يكون للواهب أن يطلب إبطال الهبة للغلط إذا كان له ولد يظنه ميتًا وقت الهبة ثم تبين أنه على قيد الحياة.
وهذه الأعذار ليست مذكورة على سبيل الحصر، وإنما خصت بالذكر لأنها هي الأعذار الغالبة التي تبرر الرجوع في الهبة. وذلك لا يمنع من أن تقوم أعذار أخرى تجعل الرجوع مبررًا.
القيد الثاني – أن يصدر إذن من القضاء بالرجوع، حتى يكون القضاء رقيبًا على الواهب في ذلك، يجيبه إلى طلب الرجوع إذا رأى أن العذر في الرجوع عذر مقبول ويرفض طلبه إذا لم يرَ قبول العذر أو إذا تبين وجود مانع من موانع الرجوع.
وطبقًا للمادة (539) من المشروع يمتنع الرجوع في الهبة إذا وجد مانع من الموانع الآتية:
( أ ) إذا كانت الهبة من الأم وكان ولدها يتيمًا، سواء حصل اليتم قبل الهبة أم حصل بعدها، لأن الهبة لليتيم في معنى الصدقة، والصدقة لا يجوز الرجوع فيها، وهذا هو القول المعتمد في مذهب مالك، وينبني على اعتبار حال الولد وقت الرجوع، أي على اعتبار حالة كونه يتيمًا أو غير يتيم، وقطع النظر عن حاله وقت الهبة، واليتيم هو الصغير الذي ليس له أب تجب نفقته عليه، فيشترط لرجوع الأم في هبتها أن يكون ولدها كبيرًا، أو صغيرًا له أب مسؤول عن نفقته.
(ب) إذا كانت الهبة من أحد الزوجين للآخر ما دامت الزوجية قائمة.
(جـ) إذا مات الواهب أو الموهوب له. لأنه إذا مات الواهب فإنه حق الرجوع لا ينتقل إلى ورثته، وإذا مات الموهوب له تعلق حق ورثته بالمال الذي وهب له.
(د) إذا تصرف الموهوب له في الموهوب تصرفًا يخرجه عن ملكه، كما إذا باعه أو وهبه لغيره. فإذا اقتصر التصرف على بعض الموهوب جاز للواهب أن يرجع في الباقي.
(هـ) إذا حصل تغير في ذات الموهوب أو حصلت فيه زيادة متصلة موجبة لزيادة قيمته، أما تغير قيمة الموهوب مع بقاء الذات على حالها فلا يمنع من الرجوع. لأن زيادة القيمة بالغلاء أو نقصها بالرخص أمر عارض لا يُعتد به. ومن باب أولى فإن هلاك الموهوب في يد الموهوب له، يمنع من الرجوع لفواته.
(و) إذا تعامل الغير مع الموهوب له مع اعتبار قيام الهبة، كالبيع له بثمن مؤجل أو إقراضه أو تزويجه نظرًا لما حصل له من الميسرة بما وهب له، لأنه يترتب على الرجوع في الهبة ضياع حقوق الغير وتوريط الموهوب له، أما حصول التعامل مع الموهوب له الذي لا يكون مع اعتبار قيام الهبة، فلا يمنع من الرجوع، لأنه لا دخل للهبة في حصوله، فلا يترتب على الرجوع ضياع حق للغير ولا توريط الموهوب له.
(ز) إذا مرض الواهب أو الموهوب له مرضًا مخوفًا – أي مرضًا يُخشى معه الموت – أما المرض العادي فلا يُعتد به. ويمتنع الرجوع في هذه الحالة لأنه إذا مرض الواهب مرضًا مخوفًا، كان استرجاعه الموهوب لمصلحة غيره لرجحان موته من مرضه، ومصلحة ذلك الغير ليست بأولى من مصلحة الموهوب له، وإذا مرض الموهوب له مرضًا مخوفًا، تعلق حق ورثته بالمال الذي وهب له. فيمتنع الرجوع لتعلق حق الغير به. فإذا زال المرض عاد حق الرجوع لزوال المانع.
(ح) إذا اقترنت الهبة بتكليف.
(ط) إذا كانت الهبة لغرض خيري، كإنشاء مسجد.
وغني عن البيان أن هذه الموانع تسري على رجوع الأبوين الذي لا يرد عليه قيد، كما تسري على الرجوع المقيد بالعذر وباستئذان القضاء.
وتنص المادة (540) على أنه يجوز لأي من ورثة الواهب فسخ الهبة إذا قتل الموهوب له الواهب عمدًا وبدون حق أو اشترك في قتله. كما ترتب المادة (541) على الرجوع في الهبة إعادة الموهوب إلى ملك الواهب من حين تمامه، وذلك دون إخلال بالقواعد المتعلقة بالتسجيل.
أما نفقات الهبة فالأصل أن تكون على المستفيد منها، وهو الموهوب له، فيتحمل مصروفات العقد ورسم التسجيل ومصروفات تسلم الموهوب ونقله وذلك تفسيرًا للهبة في أضيق حدودها، فلا يجمع الواهب بين التجرد عن ماله بغير عوض وبين تحمل هذه النفقات. أما نفقات الرجوع فيتحملها الواهب لأنه المستفيد من الرجوع، وكل ذلك ما لم يتفق على غيره (المادة 542).
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً