أسباب التهرب الضريبي بالمغرب والتحديات التي تقابله
يقول جورج بومبيدو الرئيس الفرنسي من 20 يونيو 1969 حتى وفاته في 2 أبريل1974 ، ورئيس الوزارء في فرنسا في عهد شارل ديغول من14 أبريل 1962 إلى10 يوليو 1968، بأن “التهرب الضريبي مرتبط بالضريبة كما هو ظل الإنسان المرتبط به”. لذلك فالتهرب من دفع الضريبة هو ممارسة غير قانونية لإخفاء مبالغ خاضعة للضريبة من أجل عدم دفعها.
واختلف العديد من الفقهاء حول إعطاء تعريف موحد ومؤطر لمفهوم التهرب الضريبي، لكون جل هذه التعريفات تأخذ بعين الاعتبار عنصرا واحدا أو أكثر من العناصر المكونة لسلوك التهرب الضريبي. ونعتقد أيضا أن إعطاء تعريف دقيق وشامل للتهرب الضريبي يعتبر أمرا في غاية الصعوبة بسبب عدم قدرة هذه التعريفات على مجاراة مختلف التغيرات التي عادة ما تطرأ على ممارسة هذا السلوك نتيجة للأساليب الحديثة التي يعمد المتهربون إلى ابتكارها باستمرار.
ففكرة التهرب الضريبي ليست وليدة اليوم، بل هي قديمة، غير أن انتشارها في الوقت الحاضر، وبخاصة على المستوى الدولي، يرجع إلى الانفتاح الاقتصادي من جهة، وإلى اتساع التجارة الدولية واندماج الاقتصاديات المختلفة في الاقتصاد العالمي من جهة أخرى، فهاذان العاملان قد أديا إلى اتساع حركة رؤوس الأموال والاستثمارات خارج الحدود السياسية للدولة، مما دفع الملزمين إلى القيام بمحاولات مستمرة للتخفيف من العبء الضريبي الذي يتحملونه على الصعيدين الداخلي والخارجي.
ولاشك أن طبيعة البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في دولة لا تزال تشق طريقها نحو النمو كالمغرب، وطبيعة علاقات القوة والهيمنة المسيطرة، فإن الوضع الجبائي المغربي يبدو كوعاء لعدة متناقضات وإكراهات، لا تخلو من انعكاس سلبي على حقوق الخزينة وأداء الملزم لواجبه الضريبي.
فما هي أسباب ظاهرة التهرب الضريبي؟ وما هي آليات ووسائل مواجهة هذه الظاهرة التي أعدها كل من المشرع المغربي والمقارن ؟
أولا: التهرب الضريبي بالمغرب
تتعدد أسباب التهرب الضريبي في المنظومة الضريبية المغربية، إذ نجد العديد من الإكراهات التي جعلت الملزمين بالضريبة يتجهون إلى هذه الطريقة للتخفيف من الحمل الضريبي الكبير الذي يرهن عاتقهم، فمن بين هذه الأسباب نجد الضغط الضريبي، فتزايد هذا الأخير على الفرد يعتبر من الأسباب الرئيسية لهذه الظاهرة، فتزايد هذا العبء الضريبي مرتبط بالتحولات التي عرفتها وظيفة الدولة، ففي ظل الدولة الحارسة، حيث كانت وظيفة الدولة تقتصر على العدالة والأمن والدفاع بشكل أساسي، كانت نفقات الدولة صغيرة الحجم، ولقد انعكس هذا الوضع على حصيلة الضريبة المفروضة على الملزمين، إذ كان من السهل على الملزم تحمل العبء الضريبي، غير أن التطور الذي حصل في دور الدولة وتدخلها في مجالات متعددة، استلزم زيادة النفقات العامة، مما أدى إلى زيادة أسعار الضرائب وعددها.
ومما لاشك فيه أن زيادة وطأة العبء الضريبي الذي يتحمله الفرد، يشجعه على التهرب من الضريبة إما بصفة كلية أو جزئية. وتكفينا الضريبة على القيمة المضافة كمثال لتبيان هذا العبء، لأن العبء في هذه الأخيرة ينتقل إلى أضعف حلقة في منظومة الاستهلاك الذي هو المستهلك الأخير للمنتوج، وذلك رغم أن إقرار هذا النوع من الضرائب غير المباشرة جاء نتيجة القصور الذي كان يعتري النظام الجبائي السابق.
ومن بين الأسباب المؤدية كذلك إلى التهرب الضريبي،
نجد ما يعرف بالقطاع غير المهيكل، الذي يذكي هذه الظاهرة، فالأنشطة الممارسة في هذا القطاع نوعان: أنشطة ظاهرة وأنشطة سرية، هذه الأنشطة تشكل دعامة جبائية لا يستهان بها، فالقطاع غير المهيكل قد يضر بوحدات لها مكانة مالية مهمة، والتي يمكن أن تتخلص من الضريبة جزئيا أو كليا. فكون هذه الموارد أو المداخيل المتأتية من هذا القطاع لا تخضع للفرض الضريبي، لكونها لا تكون محل تصريحات شفوية أو كتابية لدى الإدارات الجبائية، فهذا يفسح المجال للمقاولات والوحدات الإنتاجية بالتهرب.
وحسب تقرير مؤسسة أروباروميتر، الذي شمل 36 دولة من ضمنها المغرب، أوضح أن 58 % من المغاربة، يعترفون بأنهم يجدون صعوبة بالغة في تفادي وتجنب أداء الضرائب، أي أنهم يحاولون التملص من أدائها، لكنهم لا يتمكنون من ذلك. وهذا ما يفسر أن هناك أسباب اجتماعية ونفسية لهذه الظاهرة، فالطمع في تحقيق العديد من المكاسب المالية والاقتصادية، هو اتجاه سلبي قائم على الغش والمراوغة والاحتيال، فليس هناك من شيء يشغل الإنسان في حياته أكثر من جمع المال وتكديسه والطمع بالمزيد منه،
لذلك فلن يكون اقتطاع ذلك الجزء من المال كالتزام ضريبي بسهولة وعن طيب خاطر دون هزات وصراعات، وهو ما يجعل الملزم يسلك نهج التحلل من هذا الالتزام عن طريق التهرب منه من جهة، وسلوكات سلبية نحو الدولة والقائمين عليها من جهة أخرى، خاصة حينما يشعر الفرد بعدم الثقة والأمان تجاه دولته، ومن أسباب التهرب أيضا، نجد ضعف كفاءة ونزاهة الإدارة، وهو راجع بالأساس إلى ضعف الإمكانيات والوسائل المادية ونقص الأيادي العاملة الفنية، ونقص الخبرة المهنية.
لكن، رغم تأخر المغرب في تبني ترسانة قانونية لزجر التهرب الضريبي، فإن العقوبات التي تضمنتها يمكن القول بأنها جد محتشمة وضعيفة بالمقارنة مع ما يجري العمل به في نطاق التشريعات المقارنة، فقد تم التنصيص على مجرد غرامة مالية لا تتجاوز في حدها الأقصى 50.000 درهم، مهما بلغت جسامة المخالفة أو المخالفات التي تم ضبطها، حيث لم يربط المشرع بين فداحة التهرب ومبلغ الغرامة.
أما العقوبات السالبة للحرية التي تتراوح ما بين شهر واحد و ثلاثة أشهر فلا تطبق إلا في حالة العود، وشريطة أن يتم هذا العود قبل مضي 5 سنوات، الأمر الذي يخالف حتى مبدأ أن العودة إلى الجريمة هو ظرف من ظروف تشديد العقوبة وليس شرطا لتطبيقها. وهو ما يدل على أن هذه العقوبات تبقى دون المستوى المطلوب، وتفتح المجال وتشجع الملزمين على التمادي في التهرب الضريبي، مما وجب معه البحث عن وسائل وأدوات يمكنها معالجة هذه الظاهرة، والتي من بينها ما ذهب إليه التشريع المقارن في مجال تجريم التهرب الضريبي.
ثانيا: وسائل للحد من التهرب الضريبي في التشريع المقارن
قامت فرنسا باسترداد حوالى 20 مليار يورو العام الماضي في حربها ضد التهرب الضريبي. ووفقا لوزارة المالية الفرنسية، فإن هذه الأرقام الجيدة جاءت نتيجة العديد من الوسائل التي باشرتها والتي أعطت أكلها، نذكر من بينها بيانات الخاضع للضريبة، وراتبه وحسابه المصرفي، هذه المعطيات المحوسبة، سهلت عمل مفتش الضرائب في إمكانية معرفة هل قام الملزم بالتصريح الصحيح أم لا لمداخيله الحقيقية، وأيضا مفتش الضرائب أصبح لديه الحق في أن يقوم بتوقيف باسترداد الضريبة على القيمة المضافة على الشركات إذا كان لديه أدنى شك في تصاريح هذه الأخيرة.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية التي يبلغ حجم خسائرها من التهرب الضريبي سنوياً قرابة 100 مليار دولار، بحسب خبراء مصرفيين، نتيجة قيام الأفراد والمؤسسات الأمريكية حول العالم، بالتملص من دفع الضرائب المفروضة عليهم وفق القوانين الأمريكية، قامت هذه الأخيرة بسن قانون اسمه “فاتكا”، يخول للسلطات الضريبية الأمريكية ملاحقة الأمريكيين المكلفين بسداد الضرائب خارج حدود الدولة، باستخدام النظام المصرفي العالمي.
ويلزم هذا القانون المصارف الأجنبية، إضافة إلى المؤسسات المالية الأخرى، مثل شركات الضمان وصناديق الائتمان ومؤسسات الصرافة وصناديق الاستثمار، بالتصريح عن أي عملاء لهم علاقة بالولايات المتحدة ويخضعون للضرائب الأمريكية وتزيد أرصدة حساباتهم على 50 ألف دولار للأفراد و250 ألف دولار للشركات. وبموجب القانون يتعين على دافعي الضرائب الذين يمتلكون أصولا مالية خارج الولايات المتحدة أن يقدموا تقريرا ببيانات تلك الأصول لمصلحة الإيرادات الداخلية الأمريكية. كما يستهدف هذا القانون الكيانات التجارية الأجنبية من شركات وغيرها، التي يكون لأمريكيين مساهمات فيها تتجاوز نسبة معينة من رأسمالها، مما يوجب على المصارف والمؤسسات المالية الأجنبية التعاطي مع هذه الكيانات، باعتبارها خاضعة للضريبة في الولايات المتحدة، وخاضعة لموجب التصريح عن أصولها ومداخلها، أيًا كان نوعها.
وفي كندا، وبالذات في العاصمة الفيدرالية لكندا “أوتاوا”، أطلقت الحكومة الفدرالية هناك خدمة هاتفية لحث المواطنين على التبليغ عن التهرب الضريبي الدولي، وأعلنت وكالة الدخل في كندا (مصلحة الضرائب) أنها قد تمنح جائزة للأشخاص المطلعين على تهرب ضريبي هام عندما يعطون معلومات تتيح جباية ضرائب إضافية، وقد يُكافأ من يبلغ عن تهرب ضريبي بقيمة مالية تفوق 100 ألف دولار، وذلك بمنحه ما نسبته 5% إلى 15% من المبلغ الذي تستعيده وكالة الدخل الكندية.
وفي مصر، فقد أنشأت إدارة عامة لمباحث مكافحة التهرب الضريبي والرسوم الجمركية، تهدف إلى معاونة قطاعات المكافحة بأجهزة وزارة المالية المصرية المعنية بمكافحة التهرب الضريبي والجمركي، من خلال تطبيق أحكام القوانين الخاصة بالضرائب على الدخل، والتي تشمل الأرباح التجارية والصناعية والمهن الحرة والثروة العقارية والأجور والرواتب وأعمال السمسرة، وكذلك التنسيق مع أجهزة وقطاعات وزارة الداخلية، خاصة قطاع الأمن الاقتصادي في مجال الكشف عن الأنشطة الاقتصادية السرية وغير المشروعة لتحصيل الضرائب المستحقة عن تلك الأنشطة. كما تقوم الإدارة بتطبيق أحكام القانون رقم 66 لسنة 1963م بشأن فرض الرسوم الجمركية،
وكذلك تعديلاته بالقانون رقم 186 لسنة 1986م بشأن تنظيم الإعفاءات الجمركية، بالإضافة للقوانين الخاصة بالأنشطة الاستثمارية والسياحية، وذلك بالتنسيق مع قطاع مكافحة التهرب الجمركي بمصلحة الجمارك، كما تتولي الإدارة ضبط السلع والبضائع المستوردة المهربة من أداء الضرائب والرسوم الجمركية التي يقوم مستوردوها بتقديم فواتير مصطنعة لا تمثل القيمة الحقيقية لتلك البضائع المستوردة بقصد الإفراج عنها برسوم جمركية أقل، وتتولي الإدارة مهمة ضبط السيارات المستوردة التي تخضع للائحة الإعفاءات الجمركية، سواء كانت دبلوماسية أو سياحية أو مجهزة طبياً، نظراً لما يمثله استخدام تلك السيارات في غير الغرض الذي أعفيت من أجله من ضرر علي الاقتصاد القومي المصري.
وفي تونس، فالمشرع في الفصل 83 من مدونة الضرائب الصادرة بقانون 1989.10.30، ينص على غرامة مالية تتراوح ما بين 500 دينار و10 آلاف دينار، وعقوبة حبسية تتراوح بين 16 يوما و5 سنوات، في حق الملزمين الخاضعين للضريبة على الدخل وفقا لنظام الربح الصافي أو للضريبة على الشركات أو شركائهم الذين استعملوا طرقا تدليسية ملحوظة بهدف التملص من الضريبة كليا أو جزئيا.
لذلك، فمكافحة التهرب الضريبي هي قضية رئيسية بالنسبة للمشرع المغربي، وتعتبر ضرورية لاحترام مبدأ المساواة أمام الضريبية. ففي الواقع، الاحتيال الضريبي ينتهك من جهة، مبدأ المساهمة في التكاليف العمومية الذي نص عليه الفصل 39 من الدستور، ومن جهة ثانية، ينتهك مبادئ وشروط المنافسة العادلة بين الشركات. فالتهرب الضريبي من كل هذا هو بمثابة مرآة عاكسة للصورة الحقيقية للعيوب والتناقضات العميقة التي يعاني منها النظام الجبائي المغربي.
ومن المعلوم أن ظاهرة التهرب الضريبي أصبحت تتخذ في النسق الجبائي المغربي أبعادا اجتماعية واقتصادية جد خطيرة، خصوصا وأن الإصلاحات الجبائية التي نهجها المغرب منذ الثمانينات لم تأتي بأي جديد في مجال محاربة التهرب الضريبي. لذلك يجب على المشرع المغربي العمل على استصدار نصوص تشريعية يتم بموجبها تمديد تجريم الغش الضريبي ليشمل جميع أنواع الضرائب والرسوم دون أي تمييز بينها، وخلق جسور جديدة للتواصل ما بين الملزمين،
إضافة إلى تعبئتهم وتوعيتهم، وإبراز دور الضريبة كآلية من آليات تحقيق التنمية، والعمل على تأهيل العنصر البشري داخل الإدارة الضريبية، ووضع قاعدة بيانات محوسبة بأسماء الملزمين ووضعياتهم الجبائية، وتمكين من يهمهم الأمر من الوصول إليها وكشف وضعياتهم في إطار من الشفافية، وتفعيلا للحق الدستوري في الوصول إلى المعلومة. فإما أن نؤدي الضريبة جميعا وإما أن نتهرب جميعا، فالمواطنة لا تجزء، وكل واحد منا معني بأداء الضريبة حسب مقدرته التكليفية، كيفما كان وضعه الاعتباري داخل المجتمع والدولة.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً