بحث قيم عن نظرية الحق بين الشريعة و القانون
المطلب الأول:
معنى الحق في اللغة وفي الإصطلاح الفقهي
الحق في اللغة: مصدر حق الشيء يحق إذا ثبت ووجب.. فأصل معناه ـ لغة ـ الثبوت والوجوب، لذا أطلق في اللغة على أشياء كثيرة فيها هذا المعنى.
فقد بين الفيروز آبادي في القاموس المحيط: أن الحق يطلق في اللغة على المال والملك والموجود الثابت، ومعنى حق الأمر: وجب ووقع بلا شك(1).
وبين الزمخشري في أساس البلاغة: أن معنى حق الله الأمر حقاً: أثبته وأوجبه(2).
وفي لسان العرب: الحق: نقيض الباطل. ثم استعرض ابن منظور استعمالات لغوية عديدة تدور على معاني الثبوت والوجوب والإحكام والتصحيح واليقين والصدق(3).
وقال الفيروز آبادي في بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز:( أصل الحق: المطابقة والموافقة. ثم قال: والحق يقال على أربعة أوجه:
الأول: يقال لموجد الشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة، ولذلك قيل في الله تعالى: هو الحق.
الثاني: يقال للموجود بحسب ما تقتضيه الحكمة، ولذلك يقال: فعل الله تعالى كله حق نحو قولنا: الموت حق، والبعث حق…
الثالث: الاعتقاد في الشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء في نفسه كقولنا: اعتقاد فلان في البعث والثواب والعقاب والجنة والنار حق.
الرابع: للفعل والقول الواقع بحسب ما يجب، وبقدر ما يجب، وفي الوقت الذي يجب…الخ)(4). ثم أخذ في استعراض استعمالات للحق في القرآن الكريم تدور على معنى: الثبات والوجود والوجوب.
أما في الاصطلاح الفقهي: فقد تعددت استعمالات الفقهاء للفظة الحق، أذكر أهمها فيما يلي(5):
أ ـ فهم قد يستعملونه بمعنى عام شامل يقصد به كل ما يثبت للشخص من ميزات أو مكنات أو سلطات، سواء كان الثابت ماليا أم غير مالي والحق بهذا المعنى هو الذي يهمنا في هذه الدراسة.
ب ـ وهم قد يستعملونه في مقابلة الأعيان والمنافع المملوكة، ويريدون به: ما يثبت للأشخاص من مصالح بالاعتبار الشرعي، دون أن يكون لها وجود إلاّ بهذا الاعتبار: كحق الشفعة، وحق الطلاق، وحق الحضانة وحق الولاية.
جـ ـ وهم قد يلاحظون المعنى اللغوي فقط، فيقولون: حقوق الدار، ويقصدون بذلك: ما يثبت للدار من مرافق: كحق التعلي، وحق الشرب، وحق المسيل؛ لأنها ثابتة للدار ولازمة لها. ويقولون: حقوق العقد ويقصدون بذلك: ما يتبع العقد من التزامات ومطالبات تتصل بتنفيذ حكمه، فعقد البيع حكمه نقل ملكية المبيع، وحقوقه: تسليم المبيع، ودفع الثمن، وأحكام تحمل تبعة هلاك المبيع… الخ.
د ـ وقد يطلقون لفظة الحق مجازاً على غير الواجب؛ للحض عليه والترغيب في فعله، فيقولون: حقوق الجوار، يقصدون بها: الأمور التي حثت عليها الشريعة في التعامل بين الجيران.
هـ ـ ويطلق لفظ الحق في اصطلاح الحنفية والزيدية في مقابل الملك، عندما يكون هنالك اختصاص يسوغ لصاحبه بعض التصرفات على محله، دون أن يكون له التصرف الكامل فيه.
فقد عرف القابسي الحق بهذا المعنى بقوله:( وهو في عرف الشرع: عبارة عما يختص به الإنسان انتفاعا وارتفاقا، لا تصرفا كاملا: كطريق الدار، ومسيل الماء، والشرب، ومشارع الطريق، فانه قد ينتفع بمسيل مائه على سطح جاره وبطريق داره، ولو أراد أن يتصرف بالتمليك فيه بيعاً أو هبة أو نحوهما لا يمكنه ذلك )(6).
أما فقهاء الشافعية والمالكية والحنبلية والإمامية: فيطلقون على هذه العلاقة الشرعية التي تقوم بين الإنسان والشيء بحيث لا تعطيه سلطة التصرف الكامل فيه اختصاصاً أو حق اختصاص(7).
وقد عرف ابن رجب في قواعده حق الاختصاص هذا بقوله:( هو عبارة عما يختص مستحقه بالانتفاع به، ولا يملك أحد مزاحمته، وهو غير قابل للشمول
والمعارضات)(8). والمقصود بقوله: غير قابل للشمول ـ أي: شمول جميع صنوف الانتفاع والتصرف.
وقد ذهب عدد من الفقهاء المحدثين إلى القول: بأن فقهاء الشريعة الإسلاميّة لم يضعوا تعريفاً جامعاً مانعاً للحق بمعناه العام، وأنه قد نقلت عنهم بعض تعاريف له قاصرة عن تحديد معناه تحديداً دقيقاً، وبينوا أن ذلك قد يعود إلى أن فقهاء الشريعة القدامى قد رأوا أن فكرة الحق معروفة لا تحتاج إلى تعريف، مكتفين بوضوح معناه اللغوي(9)، وقد نقل هؤلاء الفقهاء المحدثون عدداً من التعاريف، وبينوا ما يوجه إليها من نقد.
ومن التعاريف التي تدور على المعنى اللغوي تعريفه بأنه( الموجود من كل وجه وجوداً لا شك فيه)(10). وتعريفه بأنه( الثابت الذي لا يسوغ إنكاره)(11).
وقد جاء في جامع العلوم الملقب بدستور العلماء للأحمد نكري:( الحق في اللغة: الأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره… وفي إصلاح أرباب المعاني هو: الحكم المطابق للواقع، ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك الحكم، ويقابله الباطل)(12).
ومن التعاريف الأخرى التي كانت محل نقد:
أ ـ تعريف ابن نجيم في البحر الرائق بقوله:( والحق ما يستحقه الرجل)، وتعريف الزيلعي في تبين الحقائق بقوله:( والحق ما استحق الإنسان). فهذان
التعريفان يكتنفهما الغموض لعموم لفظ(ما)، ولما يلزم فيهما من دور(13).
ب ـ وعرفه الشيخ عبد الحليم اللكنوي في حاشيته( قمر الأقمار على نور الأنوار شرح المنار) قائلاً:( الحق الموجود والمراد هنا حكم يثبت). وقد انتقد هذا التعريف بأنه غير قويم؛ لأن الحكم في اصطلاح الأوصوليين هو خطاب الشارع… وواضح أن الحق ليس الخطاب، إنما هو أثر الخطاب، وإن أريد بالحكم هنا اصطلاح الفقهاء ـ أي: أثر الخطاب ـ فالتعريف غير مانع، لأن الأثر لا يقصر على ما جعله الشارع ثابتاً ولازماً، بل يشمل أيضاً ما جعله الشارع مباحاً ، كما يشمل أيضاً الأحكام الوضعية، وبذا يكون هذا التعريف تعريفاً بالأعم، فكل حقٍ حكم، وليس كل حكمٍ حقاً، فعلى ذلك يكون التعبير بلفظ(الحكم) مبهماً لا يبين حقيقة الحق وعناصره التي يجب أن يكشف عنها التعريف(14).
جـ ـ وعرف القرافي في الفروق حق الله: بأنه أمره ونهيه، أي: الخطاب نفسه، وحق العبد: بأنه مصالحة(15)… ثم علق على ذلك بقوله:( ما تقدم من أن حق الله تعالى أمره ونهيه مشكل بما في الحديث الصحيح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال(حق الله تعالى على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)(16). فيقضي أن حق الله تعالى على العباد نفس الفعل، لا الأمر به، وهو خلاف ما نقلته قبل هذا.
والظاهر أن الحديث مؤول، وأنه من باب إطلاق الأمر على متعلقه الذي هو الفعل.
وبالجملة: فظاهره معارض لما حرره العلماء من حق الله تعالى، ولا يفهم من قولنا: الصلاة حق الله تعالى إلاّ أمره بها، إذ لو فرضنا أنه غير مأمور بها لم يصدق
أنها حق الله تعالى، فنجزم بأن الحق هو نفس الأمر، لا الفعل، وما وقع من ذلك مؤول(17).
وقد منع ابن الشاط في حاشيته على الفروق(18) أن يطلق حق الله على أمره ونهيه، وبين: أن حق الله متعلق أمره ونهيه، وهو عبادته. فحق الله: فعل الإنسان ليس غير. واستدل على هذا بدليلين:
الأول: ظاهر النصوص كقوله تعالى: (وما خلقت الجن والأنس إلاّ ليعبدون((19)، وقوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ:(حق الله على عباده: أن يعبدوه، لا يشركوا به شيئاً) والعبادة فعل لا حكم
الثاني: أن حق الله معناه: اللازم له على عباده، واللازم على العباد لابد أن يكون مكتسباً لهم، وكيف يصح أن يتعلق الكسب بأمره وهو كلامه وهو صفته القديمة ؟ ! فلابد أن يكون حق الله فعل الإنسان الذي هو متعلق الحكم، وليس الحكم نفسه؛ لأنه خطاب الله، وهو قديم لا يمكن أن يكون حقاً لله على العباد(20).
ويلاحظ أن الشاطبي في الموافقات قد بين: أن الأحكام الشرعية حقوق لله من جهة وجوب الإيمان بها، وشكر المنعم عليها، وعدم التلاعب بها، وأنها من اختصاص الله وحده(21)، ومقتضى كلام الشاطبي هذا: أنه يجوز إطلاق الحق على حكم الله بمعنى: أن على الناس الإيمان به حقا لله، والإيمان فعل مقدور للإنسان، لا بمعنى الخطاب.
وعلى هذا الفهم يمكن حمل تعريف الحق: بأنه حكم يثبت. وهو المعنى المتبادر
من قوله تعالى: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن ((22).
ثم إن علماء الأصول قد تعرضوا في بحث الاجتهاد لمسألة: هل الحق عند الله تعالى واحد أم متعدد ؟ وأرادوا به: حكم الله، ومع ذلك فإن هذه التعاريف لا تبرز ماهية الحق وتظل مبهمة لا تصور معناه بطريقةٍ واضحةٍ بينه.
وقد وجدت أثناء بحثي في موضوع الملكية في الشريعة الإسلاميّة (23) تعريفاً للحق لأحد فقهاء الشافعية الكبار وهو: القاضي حسين بن محمد المروزي، المتوفي سنة(462هـ) في كتابه( طريقة الخلاف بين الشافعية والحنفية)، وهذا الكتاب ما زال مخطوطاً في دار الكتب المصرية، فقد جاء فيه:( والمعني بالحق: اختصاص مظهر فيما يقصد له شرعاً)(24).
وهذا التعريف له وزنه وقيمته العلمية من عدة نواحٍ:
أ ـ إنه عرف الحق بأنه: اختصاص، وهو تعريف يبرز ماهية الحق؛ لأن الاختصاص جوهر كل حقٍ، فلا وجود له إلاّ بوجوب الاختصاص الذي هو عبارة عن العلاقة التي تقوم بين الشخص والحق، بحيث يكون لهذا الشخص وحده الاستئثار بالسلطات والمكنات والصلاحيات الثابتة شرعاً في هذه العلاقة لصاحبه في محله.
ب ـ إن تعريف الحق بأنه( اختصاص) هو الذي يكاد ينتهي إليه البحث القانوني بعد طول تخبط في معرفة ماهية الحق وقوامه(25).
جـ ـ إن وصف هذا الاختصاص بأنه مظهر فيما يقصد له يبين أن طبيعة هذا الاختصاص تقوم على وجود آثار وثمار ونتائج يختص بها صاحب الحق، دون غيره في الأشياء التي شرع الحق فيها والتي قد تكون مادية أو معنوية كما سنرى.
د ـ إنه تعريف أحد فقهاء القرن الخامس الهجري، مما يدل على أن فقهاء الشريعة القدامى قد قاموا بتعريف الحق تعريفاً صحيحاً.
وعرف الإباضية الحق ـ كما في شرح النيل ـ بأنه: ما لشيءٍ على آخر(26)، وقد ذكروا تحت فصل الحقوق: حقوق الوالدين على أولادهم، وحقوق الأولاد نحو والديهم، والحقوق التي بين الأرحام، وما يجب على ولي اليتيم نحو اليتيم، وحقوق الجوار، وحقوق الضيافة، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض(27)، مما يدل على أنهم يطلقونه على كل ما أثبته الشرع، وطلبه من الناس لمصلحة بعضهم على بعض دون النظر إلى أن هذا الثبوت أو الطلب كان على سبيل اللزوم أو الترغيب.
وقد اهتم الفقهاء المحدثون بتعريف الحق وتعددت تعريفاتهم له. والناظر في هذه التعريفات أنه يمكن تقسيمها إلى ثلاثة اتجاهات:
الأول: تعريفه على أساس أنه مصلحة ثابتة لصاحبه.
الثاني: تعريف الحق بأنه اختصاص، أو علاقة اختصاصية بين صاحب الحق ومحله.
الثالث: تعريف الحق من منطلق معناه اللغوي( الثبوت والوجوب).
وقد عرضت لهذه التعريفات وناقشتها في دراسة مستقلة انتهيت فيها إلى تعريف الحق: بأنه اختصاص ثابت في الشرع يقتضي سلطة أو تكليفاً لله تعالى على عباده أو الشخص على غيره(28). فالحق علاقة شرعية بين صاحبه والشيء(محل الحق)
طبيعتها تكون على استئثار صاحب الحق بموضوعه في محل الحق. وهذه العلاقة الاختصاصية لازمة لصاحب الحق على سبيل الوجوب.
وموضوع الحق: تارة يكون سلطة وتارة يكون تكليفاً، والسلطة قد تكون على شخص كما في حق الولاية على النفس، وقد تكون على شيء معين كما في حق الملكية، والتكليف: التزام وعهدة يقع على الإنسان، وهو قد يكون أداء أو امتناعاً، والأداء قد يكون شخصياً كحق المستأجر على الأجير، وقد يكون ماليا كحق الدائن على المدين.
والحقوق تثبت إما لله سبحانه أو للناس بعضهم على بعض. وسيأتي له مزيد إيضاح عند الحديث عن أنواع الحقوق.
المطلب الثاني
طبيعة الحق في النظر الإسلامي:
بينت كثير من الآيات القرآنية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى هو المالك لهذا الكون بكل ما فيه من جماد أو حيوان أو إنسان، فهو خالقه الذي صوره وأبدعه، وهو بالتالي الحاكم فيه بما يشاء… من هنا يكثر في القرآن الكريم التعقيب على الأحكام والأوامر والنواهي بأن(لله ما في السموات وما في الأرض)، وبأن( لله ملك السموات والأرض)؛ وذلك لتقرير أن مالك السموات والأرض له وحده حق تنظيم ما يملك، والحكم فيه بما يشاء، والتصرف فيه بما يريد، فله سبحانه وحده التشريع للناس بما تقتضيه حكمته، والأمر والحكم في هذا الكون بما يشاء.
وقد شاءت حكمته ـ جل وعلا ـ أن لا يشرع للناس إلاّ ما فيه خيرهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة. قال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين((29)، وقال سبحانه: (وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين((30)،
وقال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط((31).
وقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يستخلف الناس في الأرض، قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة((32)، وأن يسخر لهم ما في السموات وما في الأرض من نعم، قال تعالى: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة((33)، وقال سبحانه: (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون((34).
لقد أوضحت الآيات الكريمة: أن المال الذي بين أيدي الناس هو مال الله سبحانه استخلفهم فيه، ومنحهم إياه، وخولهم الانتفاع به والاستمتاع بطيباته ومظاهر زينته وجماله، فهم ليسوا ملاكاً أصليين له، ولا أصحاب حق طبيعي في تملكه، بل هو هبة وتفضل ونعمة منه سبحانه، ومن هنا جاء قول أبي زيد الدبوسي:( الملك نعمة علقت بأسباب مشروعة)(35).
ومن الآيات الكريمة الواضحة في هذا: قوله تعالى: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه((36)، وقوله سبحانه: (وأتوهم من مال الله الذي آتاكم ((37). قال القرطبي(38) ـ عند تفسير الآية الأولى ـ:( إنها دليل على أن أصل الملك لله سبحانه،
وإن العبد ليس له فيه إلاّ التصرف الذي يرضي الله، فيثيبه على ذلك الجنة، فمن أنفق منها في حقوق الله وهان عليه الإنفاق منها ـ كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه ـ كان له الثواب الجزيل والأجر العظيم). ثم قال:( وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلاّ بمنزلة النواب والوكلاء، فاغتنموا الفرصة فيها بإقامة الحق قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم)(39).
وهذا الاستخلاف الإلهي للإنسان على الأرض ليس استخلافاً دائماً، بل محدوداً بحدود وضعها الله سبحانه وتعالى عندما قدر آجال الناس، وأن الدنيا زائلة لا محالة…، كما أن هذا الاستخلاف ليس استخلافاً مطلقاً، بل بينت الشريعة أصوله وقواعده، فلم يترك أمر الناس على هذه الأرض فوضى دون تنظيم، فهو مقيد بقيودٍ شرعها الله سبحانه حددت مداه وكيفيته، ووضحت طريقة الانتفاع والتمتع بما سخره الله سبحانه للإنسان.
يقول ابن العربي في تفسيره:(فخلقه سبحانه وتعالى الأرض، وإرساؤها بالجبال، ووضع البركة فيها، وتقدير الأقوات بأنواع الثمرات وأصناف النبات إنما كان لبني آدم تقدمة لمصالحهم، وأهبة لسد مفاقرهم).
ثم بين: أنه لو أبيح جميع ما في الأرض لجميع الناس جملة منثورة( لأدى ذلك إلى قطع الوصائل والأرحام، والتهارش في الحطام، لذلك بين الله لهم طريق الملك، وشرح لهم مورد الاختصاص، وقد حصل في هذه الحال تقاتل وتهارش وتقاطع، فكيف لو شملهم التسلط وعمهم الاسترسال؟)(40).
وبذا يظهر: أن المستخلفين ليسوا أحراراً في التصرف فيما استخلفوا فيه كيف يشاؤون، فهم لم يخلقوا ويستخلفوا في الأرض إلاّ ليعبدوا الله سبحانه حق عبادته، والعبادة في المفهوم الشامل في النظر الإسلامي تعني: الالتزام بكل ما شرع الله سبحانه من قواعد وأحكام لتنظيم الحياة الإنسانية بكل معانيها… وهذا الذي شرعه الله سبحانه جاء لخير الناس ومصالحهم، وليس لمصالح تعود عليه جل وعلا.
قال تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون((41)، وإذا لم يفعل المستخلفون ذلك لم يعودوا أهلاً للاستخلاف؛ لأنهم لم يحققوا شروطه. فحياتهم خاضعة لشروط المملك الأصلي وتعليماته، وإذا تصرف الوكيل تصرفاً مخالفاً لشروط الموكل وقع تصرفه باطلاً، ولم تترتب عليه آثاره المقررة أصلاً. هذا بالإضافة إلى أن الإنسان سيحرم نفسه مما ستحققه هذه القواعد والأحكام من خير ومصلحة له في الدنيا والآخرة. قال تعالى: (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى((42).
من هذا البيان يظهر لنا: أن الحقوق المقررة للأفراد والجماعة في النظر الإسلامي إنما هي: منح إلهية مقررة بفضل من الله سبحانه للإنسان من أجل أن يحقق بها مصالحه الدنيوية والأخروية، فهي ليست حقوقاً طبيعية لأصحابها، ولا هي منح من المجتمع أو القانون الذي تضعه الأمة، فليس للمجتمع أو للدولة التي تمثله أن تتعرض للفرد في حقوقه ما دام يلتزم بشروط المانح وأوامره.
ومن هنا، فلا مجال في الشريعة الإسلاميّة لتصور الحقوق المطلقة التي لأصحابها الحرية الكاملة في استعمال هذه الحقوق وفق أهوائهم؛ ذلك أن هذه الشريعة وحي الله سبحانه الرحيم بالناس عامة، والعليم بعاجل حوائج الناس وآجلها، المتصف بصفات الكمال عدلاً وعلماً وحكمةً، والذي يشرع لمصلحة البشر أجمعين على
اختلاف بلادهم ومجتمعاتهم وأزمانهم. لقد وضعت هذه الشريعة القواعد التي تكفل تحقيق مصالح الفرد، مراعية أنه يعيش في جماعة لها عليه حقوق، كما أن له عليها حقوقاً، فهي تقيم توازناً بين مصالح الفرد ومصالح الجماعة، فلا تغلو ولا تتطرف في نظرتها إلى الحقوق، كما
أنها في الوقت نفسه لا تلغيها ولا تمس جوهرها، فهي تقوم على مجموعةٍ من الأسس والمبادئ أهمها:
أولاً: أن الحقوق لا تعتبر إلاّ باعتبار الشارع الحكيم، فهي تنشأ بأحكامه، وتوجد بإرادته، نصاً مباشراً أو استنباطاً من النصوص وفق قواعد الاجتهاد المقررة، فالشريعة هي أساس الحقوق وجوداً، واعتباراً وتنظيماً، وانقضاءً.
يقول الإمام الشاطبي في الموافقات:(… لأن ما هو حق للعبد إنما ثبت كونه حقا بإثبات الشرع لا بكونه مستحقاً لذلك بحكم الأصل )، ويقول:(… إذ كان لله ألا يجعل للعبد حقاً أصلاً)(43).
ثانياً: الحقوق في النظر الإسلامي مقيد بقيود تضمن مصالح الفرد والجماعة، وهذه القيود تختلف من حق لآخر، وهي في مختلف أنواع الحقوق على نوعين: قيود أصلية ملازمة للحق لا تنفك عنه، وقيود استثنائية طارئة قد تفرض على الحق إذا أوجبت ذلك ظروف خاصة قد يتعرض لها المجتمع، مما يُعرف باستعراض أنواع الحقوق وبيان القيود المقررة عليها أصلاً واستثناء(44).
ثالثاً: وقد حملت الشريعة الأفراد واجبات والتزامات معنوية ومادية تهدف لتحقيق مصالح الجماعة، تجعل للحقوق وظائف اجتماعية تعود على المجتمع بالخير والمصلحة، مثل: تحميل الأفراد واجبات دفع الزكاة والنفقة على الأقرباء الفقراء،
وصدقه الفطر والكفارات.. الخ مما يجعل لحق الملكية في النظر الإسلامي وظيفة اجتماعية، فهو حق فردي مقيد له وظيفة اجتماعية.
وقد أدرك الفقهاء السابقون هذه الطبيعة الخاصة للحقوق في النظر الإسلامي.
يقول أبو زيد الدبوسي ـ المتوفى سنة 430 هـ ـ في تقويم أصول الفقه:(فالله تعالى لما خلق الإنسان لحمل أمانته أكرمه بالعقل والذمة، حتى صار بها أهلاً لوجوب الحقوق له وعليه، فثبت له حق العصمة والحرية، والمالكية(الملكية) بأن حمل حقوقه، وثبتت عليه حقوق الله تعالى التي سماها(أمانة)… والآدمي لا يخلق إلاّ وله هذا العهد والذمة، ولا يخلق إلاّ وهو أهل لوجوب حقوق الشرع عليه، كما لا يخلق إلاّ وهو حر مالك لحقوقه)(45).
فهذا النص يشعرنا باهتمام فقهائنا ببيان حقوق الإنسان، وأن الإنسان مفطور عليها بإرادة الله جل وعلا، مما يجعل لها حرمة تجعل من الاعتداء عليها والتقليل من شأنها اعتداء صارخاً على شرع الله ودينه.. فالعصمة والحرية والمالكية(الملكية) حقوق أثبتها الله سبحانه للإنسان(46). فهي ليست ناشئة عن طبائع الأشياء، ولا عن اتفاق الناس، ولكنها ناشئة بإرادة الله سبحانه، وجعله السبب منتجاً لمسببه شرعاً..، فالاعتداء عليها اعتداء على إرادته سبحانه(47).
عندما أردت بحث بيان طبيعة الملكية في الشريعة الإسلاميّة انتهيت بعد دراسة مستفيضة إلى: أن حق الملكية الخاصة في الشريعة الإسلاميّة حق فردي مقيد كائن بتوظيف واستخلاف
من الله سبحانه، له وظائف شخصية وأسرية واجتماعية حددتها الشريعة، حيث تمت مناقشة القول: بأن الملكية في الشريعة الإسلاميّة وظيفة اجتماعية، وأوضحت أن هذا القول يتعارض مع كون الملكية حقاً لصاحبها؛ لأنها تعني:
أن صاحبها عبارة عن موظف يحوز الثروة لمصلحة المجتمع، وهذا يؤدي إلى إنكار الجانب الشخصي للملكية وإلغاء فكرة الحق، وإعطاء الدولة سلطات مطلقة على حقوق الأفراد. والواقع أن الدولة كالفرد كلاهما يتلقى الحق منه تعالى، ولا سلطة لها على حقوق الأفراد إلاّ بالقدر المسموح به شرعاً عندما تتعارض المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة ولا يمكن الجمع بينهما، عندها تقوم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة؛ لأنها أولى بالاهتمام والرعاية.
كما ناقش الباحث فكرة حق الملكية المطلق، وبين بالتفصيل القيود المقررة على حق الملكية في النظر الإسلامي، وأنها تشمل قيوداً أصلية واستثنائية، والمقصود بالقيود الأصلية: هي التي لا تنفك عن حق الملكية وتلازمه باستمرار. أما القيود الاستثنائية فيقصد بها: ما تفرضه الدولة على الملكية الخاصة من قيود عندما تقوم ظروف توجب ذلك.
وقد شملت القيود الأصلية ثلاثة أنواع من القيود هي: القيود اللازمة لأسباب الملك، والقيود اللازمة لاستعمال الملك والتصرف فيه، والقيود اللازمة لانتقال الملك.
أما القيود الاستثنائية فقد شملت: قضايا عديدة جرى بحثها بالتفصيل مثل: فرض ضرائب جديدة على أموال الناس، والتسعير، والغرامة والمصادرة، ونزع الملكية للمنفعة العامة، وتحديد الملكية… الخ مما يعرف بالعودة لهذه الدراسة.
المطلب الثالث:
استعراض عام لأنواع الحقوق في الشريعة الإسلاميّة وموقع حق الملكية الخاصة بينها:
اهتم الفقهاء بدارسة الحقوق من الناحية التفصيلية، فعنوا بدراسة آحاد الحقوق في جميع معاملات الإنسان وتصرفاته، وبينوا أحكامها، لذلك انتشرت أحكام
حقوق الإنسان وواجباته في كتب الفقه المختلفة، حيث بينوا بالتفصيل: الحقوق التي تثبت للأفراد والجماعة والدولة تجاه مختلف العلاقات التي تقوم في المجتمع الإنساني.
أمّا الأصوليون: فإنهم عندما تعرضوا لدراسة الحق ركزوا اهتمامهم على أقسام الحق باعتبار مستحقه:( الله أو العبد)، وعلى أهلية وجوب الحق وأدائه، فلم يهتموا بصياغة نظرية للحق شاملة يتحدثون فيها عن كل ما يتعلق به
يقول الأستاذ الشيخ أبو سنة:( لكن علماء الأصول حين وضعوا الأصل لهذه النظرية لم يكملوا مباحثها، ولم يبرزوا معالمها، مع أنها القاعدة الكبرى لعلم الفقه التي يتفرع عنها جميع نظرياته وأحكامه)(48).
وفرق الأصوليون والفقهاء بين نوعين من أنواع الحق، وهما: حق الله وحق العبد وبينوا: أن معيار التفريق بينهما هو: أن حق العبد: عبارة عما يسقط بإسقاط العبد: كضمان المتلفات. وحق الله ما لا يسقط بإسقاط البعد: كالصلاة والصوم.
قال ابن القيم:( والحقوق نوعان: حق الله وحق الآدمي، فحق الله لا مدخل للصلح فيه: كالحدود والزكوات والكفارات ونحوها. وأما حقوق الآدميين: فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعاوضة عليها )(49).
وعرفوا حق الله بأنه: ما يتعلق به النفع العام للعباد، ولا يختص بأحد: كحرمة الزنا، فإنه يتعلق به عموم النفع، من: سلامة الأنساب، وصيانة الأولاد، وإنما نسب إلى الله تعظيماً لأمره؛ لخطورته وشمول نفعه. فليس المراد: أن الله تعالى يختص به وحده من بين سائر الحقوق، أو أنه سبحانه ينتفع به، فحقوق الله وحقوق البعاد أحكام له سبحانه، وهو متعال عن النفع والضرر.
وعرفوا حق العبد أنه: ما يتعلق به مصلحة خاصة له: كحرمة مال الغير(50). وقد
بين الفقهاء في تطبيقهم لهذا التقسيم على التكاليف الشرعية أنها تقسم إلى أربعة أقسام:
1 ـ التكاليف التي هي حق خالص لله تعالى: كالإيمان وتحريم الكفر.
2 ـ التكاليف التي هي حق خالص للعباد: كالديون والأثمان.
3 ـ التكاليف التي يجتمع فيها الحقان، ويكون فيها حق الله غالباً.
4 ـ التكاليف التي يجتمع فيها الحقان، ويكون فيها حق العبد غالباً.
وقد يختلف الفقهاء في تغليب أي الحقين كما في حق القذف، فمن غلب حق الله لم يسقطه بإسقاط المقذوف، ومن غلب حق العبد أسقطه بإسقاط المقذوف. ومما اجتمع فيه الحقان وحق العبد فيه غالب بالاتفاق: القصاص(51).
وعرف القرافي حق الله: بأنه أمره ونهيه، وحق العبد: بأنه مصالحه، بعد أن بين أن التكاليف على ثلاثة أقسام: حق الله تعالى فقط، وحق العباد فقط، وقسم اختلف فيه هل يغلب فيه حق الله أم حق العباد؟
ثم قال:( ونعني بحق العبد المحض: أنه لو أسقطه لسقط. وإلا فما من حق للعبد إلاّ وفيه حق لله تعالى، وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه، فيوجد حق الله دون حق العبد، ولا يوجد حق العبد إلاّ وفيه حق الله تعالى، وإنما يعرف ذلك بصحة الإسقاط، فكل ما للعبد إسقاطه فهو الذي نعني به حق العبد)(52).
ويقسم الفقهاء الحقوق إلى: حقوق ماليةٍ وحقوق أبدانٍ(53)، أو شخصية.
ففي المغني لابن قدامة ـ في معرض حديثه عما يشرع فيه اليمين وما
لا يشرع ـ قسم الحقوق إلى: ما هو حق لآدمي، وما هو حق لله تعالى.
ثم قسم حق الآدمي إلى: ما هو مال أو المقصود منه المال، وما ليس بمالٍ ولا المقصود منه المال مثل: حقوق النكاح.
وقسم حقوق الله تعالى إلى: الحدود والحقوق المالية(54).
هذا وقد قسم ابن رجب الحقوق إلى خمسة أنواع(55)، ويلاحظ أن تقسيمه ينصب على حقوق العباد التي تتعلق بالأموال، وهي:
1 ـ حق الملك.
2 ـ حق التملك: كحق الوالد في مال ولده، وحق الشفيع في الشفعة.
3 ـ حق الانتفاع: وقد بين أنه يدخل فيه صور منها: وضع الجار خشبة على جدار جاره إذا لم يضر به، وإجراء الماء في أرض غيره إذا اضطر إلى ذلك في أحد الروايتين عن أحمد.
4 ـ حق الاختصاص: وهو عبارة عما يختص مستحقه بالانتفاع به ولا يملك أحد مزاحمته فيه، وهو غير قابل للشمول والمعاوضات. وقد ذكر جملة من صور حق الاختصاص:
منها: مرافق الأسواق المتسعة التي يجوز فيها البيع والشراء، فالسابق إليها أحق بها.
ومنها: الجلوس في المساجد ونحوها لعبادةٍ أو مباحٍ، فيكون الجالس أحق بمجلسه إلى أن يقوم عنه.
5 ـ حق التعلق لاستيفاء الحق: ومثل له بجملة من الصور:
منها: تعلق حق المرتهن بالرهن، ومعناه: أن جميع أجزاء الرهن محبوسة بكل
جزء من الدين حتى يستوفي جميعه.
وجاء في الدرر شرح الغرر من كتب الخفية: الحق غير منحصر في الملك، بل حق التملك أيضاً حق(56).
ويلاحظ أن هذه التقسيمات محاولات لتنظيم البحث الفقهي على أساس ملاحظة الميزات الخاصة بكل نوع من أنواع الحقوق.
أما القانونيون: فقد كان لهم منهج خاص في التقسيم، فقسموا الحقوق(57) إلى: حقوق دولية، وحقوق داخلية، وقسموا الحقوق الداخلية إلى حقوق سياسية، وحقوق مدنية. والحقوق السياسية: هي الحقوق التي ينشئها القانون للأفراد بمناسبة تنظيمه للحكم وسلطاته المختلفة، فهي حقوق تمنح للأفراد باعتبارهم شركاء في إقامة النظام السياسي للجماعة، وذلك:كحق الانتخاب وحق الترشيح.
ثم قسموا الحقوق المدنية ـ وهي التي تهدف إلى تحقيق مصالح الأفراد بشكل مباشر ـ إلى: حقوق عامة، وحقوق خاصة. والحقوق العامة: هي التي تهدف إلى إحاطة شخص الإنسان بالرعاية والاحترام الواجبين، وهي التي سماها القانون( بالحقوق الملازمة للشخصية)، والتي يعد
إنكارها إهداراً لآدمية الإنسان، مثل: حق الإنسان في سلامة جسده، وحرمة مسكنه، وفي التملك والتنقل.
وقسموا الحقوق الخاصة: ـ وهي التي تنشأ نتيجة روابط الأفراد بعضهم ببعض بمقتضى قواعد القانون الخاص بفروعه المختلفة ـ إلى: حقوق الأسرة ـ: وهي التي تقررها قوانين الأحوال الشخصية ـ والحقوق المالية، وهي التي يمكن تقويمها بالمال فهي تخول صاحبها قيمة مادية تقدر بالمال.
وقد قسمت الحقوق المالية إلى ثلاثة أنواع هي: الحقوق العينية، والحقوق الشخصية، والحقوق الذهنية أو المعنوية.
وقد عرفوا الحق العيني بأنه: سلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شيء معين، فصاحبه يستطيع أن يباشره دون وساطة أحد.
وعرفوا الحق الشخصي بأنه: رابطة ما بين شخصين: دائن ومدين، يخول الدائن بمقتضاها مطالبة المدين بإعطاء شيءٍ، أو بالقيام بعمل، أو الامتناع عن عمل، فصاحبه لا يستطيع أن يباشره إلاّ بواسطة المدين.
وقسموا الحقوق العينية إلى: حقوقٍ أصليةٍ، وحقوقٍ تبعيةٍ، وعرفوا الحقوق العينية الأصلية بأنها: الحقوق التي تقوم بذاتها مستقلة لا تتبع حقاً آخر.
وعرفوا الحقوق العينية التبعية بأنها: الحقوق التي لا توجد مستقلة، إنما تتبع حقاً شخصياً لضمان الوفاء به، كما في الرهن(58).
أما الحق المعنوي فهو: سلطة مقرره لشخص على شيءٍ غير مادي هو ثمرة فكر صاحب الحق أو نشاطه(59). وهذا التقسيم الثلاثي للحق المالي هو مسلك بعض القانونيين، وبعضهم الآخر يقسم الحق المالي إلى قسمين فقط هما: الحق العيني والحق الشخصي، ويعتبر الحق المعنوي من جملة الحقوق العينية، ويكون الشيء في نظرهم أعم من أن يكون مادياً أو غير مادي، والحق المعنوي عند ذلك يعتبر عندهم حق ملكية(60).
وحق الملكية يعتبر أكمل وأوسع الحقوق العينية الأصلية، وذلك من حيث السلطات التي يمنحها للمالك على الشيء الذي يملكه.
فالمادة (802) من القانون المدني المصري تنص على أن: ( لمالك الشيء وحده في حدود القانون حق استعمال، والاستغلاله، والتصرف فيه)، فهو يجمع عناصر الحق العيني الثلاثة : الاستعمال، والاستغلال، والتصرف في يد شخص واحد هو المالك.
وقد عرف القانون حقوقاً عينيةً متفرعة عن حق الملكية، وذلك فيما إذا اقتصر حق الشخص على استعمال الشيء لمصالحه الشخصية وحدها يقوم على حق الاستعمال، وإذا اقتصر حقه على استعمال الشيء على وجه معين أو للحصول على منافع معينة يقوم على حق الارتفاق وهكذا…(61).
فحق الانتفاع هو: الحق المباشر المقرر للشخص في استعمال ملك غيره واستغلاله، وبذلك يظل حق التصرف للمالك الذي يكون في هذه الحال مالكاً للرقبة.
وحق الاستعمال هو الحق المباشر المقرر لصاحبه في استعمال ملك غيره فيما وضع له.
وحق الارتفاق ـ كما عرفته المادة(1015) من القانون المدني ـ هو: حق يحد من منفعة عقار لفائدة عقار غيره يملكه شخص آخر، وهذا ما سنرى تفصيله فيما بعد.
فالحقوق المتفرعة عن الملكية هي: حقوق تخول صاحبها سلطة محدودة على شيءٍ مملوكٍ للغير(62).
هذا، وقد قامت القوانين المدنية العربية في: مصر وسوريا والعراق وليبيا بتنظيم النوعين الأولين من الحقوق المالية. أما الحقوق المعنوية: فقد ترك تنظيمها لقوانين
خاصة، فكل منهما يبدأ بباب تمهيدي يحوي أحكاما عامة متعلقة بالقانون وتطبيقه، والأشخاص، وتقسيم الأشياء والأموال. ثم بعد ذلك يقوم قسم للحقوق الشخصية، وقسم آخر للحقوق العينية(63).
فالتفرقة بين الحقوق العينية والشخصية أساسية في القوانين المدنية في البلاد العربية(64)، وهكذا يتبين من هذا العرض: أن موضع ومكان حق الملكية في القوانين الوضعية العربية هو: أنه يعد ويعتبر أهم وأوسع وأكمل الحقوق العينية فيها. أما في الفقه الإسلامي فتفصيله في المقطع الثالث من هذا البحث عند الحديث عن الحقوق العينية والشخصية، ومدى معرفتهما في الفقه الإسلامي.
والذي يلحظ في هذا المجال: أن القانونيين قد عنوا عناية كبيرة بتقسيمات الحقوق وأنواعها، وقد اتخذت تقسيمات الحقوق هذه أساساً في الصياغة القانونية والتبويب والترتيب في القوانين والكتابات التي قامت حولها.
أما في الفقه الإسلامي: فلم تتخذ أنواع الحقوق أساساً في الترتيب والتبويب والصياغة، وإنما قام بناء الفقه على أساس تعداد وسرد مصادر الحقوق والالتزامات بطريقة خاصة تقوم على استعراض تصرفات الإنسان وأفعاله عناية منهم بفروع الأحكام، مما يعرف عند الرجوع إلى الكتب الفقهية.
يقول الشيخ علي الخفيف ـ بعد أن أشار إلى التقسيم القانوني السابق وقرر أنه تقسيم مستمد من طبيعة الحق وواقعه وحقيقته ـ : ( ومن ثم فإن الفقه الإسلامي لا يتنكر لهذه القسمة وإن لم يولها عناية أوجبت الإشارة إليها منه. وإذا كان الفقه الإسلامي لم يشر إلى هذه الأنواع ولم يعرض لهذه القسمة فإنه مع ذلك قد عرف هذه الأنواع بأسماء أخرى، ولم يغفل بيان أحكامها غير مجموعة تحت عنوان واحد في مواضع متفرقة).
ويقول الشيخ أحمد فهمي أبو سنة:( إن الشريعة لا تعارض في هذا الاصطلاح؛ لأنه مجرد تنظيم مادام يفصل في كل حق بحكم الله. غير أن الأقسام التي ذكرها علماء الشريعة مبنية على اختلاف الخصائص والأحكام الشرعية لكل قسمٍ، وهي وافية بالأغراض القضائية والديانية).
وعلى أية حال، فإن للباحثين المحدثين في هذا الموضوع تفصيلات كثيرة وخلافات متعددة تعرف عند الرجوع إلى مظانها، والذي يهمنا أن نقرره هنا: أن للفقه الإسلامي طبيعته الخاصة، وطريقة صياغته، ومنهاجه وأساليبه المميزة. وقد أدى هذا إلى أن لا يكون للحق نظرية شاملة مجموعة كل أحكامها في هذا الفقه في مكان واحد، إنما انتشرت أحكامها في مختلف الأبواب الفقهية، بخلاف الحال في القوانين وشروحها؛ لاختلاف مبنى الصياغة بين النظامين، وهذا لا يعني أن الشريعة الإسلاميّة لم تنظم كل ما يتعلق بالحق بحيث يمكن ذلك من صياغة نظرية إسلامية كاملة في موضوع الحق مستقلة عن غيرها من النظريات.
اترك تعليقاً