دراسة قانونية وبحث حول الحصانة القضائية للدبلوماسيين
لقد شهدت العلاقات الدولية تطوراً كبيرًا وأصبحت السياسة الخارجية تلعب الدور الرئيسي والفعال في علاقات الدول مع بعضها البعض وزاد من عظمة تلك العلاقات أن العالم قد أصبح كالقرية الواحدة نتيجة للتطور التكنولوجي والتقني الكبير فنشطت المنظمات الدولية والإقليمية لتلعب أدوارا سياسية وفكرية وإنسانية فعالة بين الدول وزاد حجم قنصليات وبعثات الدول الدبلوماسية بعد أن أدركت كل دول العالم إن الدبلوماسية هـي التي تستطيع أن ترسم من خلالها علاقاتها مع بعضها البعض لا سيما إذا كان التمثيل على درجة عالية من الحنكة والبراعة لأن الغرض من تلك البعثات الدبلوماسية هـو توطيد أواصر العلاقة والأخوة بين شعوب الدول.
ولقد ظلت الدبلوماسية في تطور مستمر منذ عهد النهضة حيث تطورت من دبلوماسية مؤقتة إلى دبلوماسية دائمة ومن الدبلوماسية الملكية المطلقة الشخصية إلى الدبلوماسية الملكية الدستورية ثم تطورت للدبلوماسية البرلمانية الديمقراطية ومن الدبلوماسية السرية إلى الدبلوماسية العلنية ومن الدبلوماسية الثنائية إلى الدبلوماسية المتعددة الأطراف ومن الدبلوماسية غير المقننة إلى الدبلوماسية المقننة حيث نجحت الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية في إصدار اتفاقيات كانت ثمرتها تنظيم قواعد التبادل الدبلوماسي الدائم والخاص بين الدول من جهة والمنظمات الدولية من جهة أخرى حيث صدرت اتفاقية العلاقات الدبلوماسية لعام 1961م ثم اتفاقية البعثات الخاصة لسنة 1969م ثم اتفاقية بعثات الدول لدى المنظمات لسنة 1975م بالإضافة إلى اتفاقية العلاقات القنصلية لعام 1963م وجميع اتفاقيات المقر المبرمة منذ العام 1946م والتي تنظم العلاقة بين الدول المضيفة والمنظمات الدولية الإقليمية ([1]). وتمخضت تلك الاتفاقيات بالفعل عن امتيازات وحصانات الدبلوماسيين وإقرار تلك الحصانات وتنظيمها حتى يستطيع الدبلوماسي أداء عمله على الوجه الفعال فكانت الحصانة الشخصية إلا أن الفقه والعرف الدوليين لم يكتفيا بالحصانة الشخصية وحدها فقد استقر الرأي الفقهي والعرف الدولي منذ القرن السابع عشر على عدم خضوع الدبلوماسيين للقضاء المحلى للدولة المعتمد لديها بشقيه الجنائي والمدني ، حيث رأى الفقهاء أن تمتع الدبلوماسيين بالحصانة الشخصية وحدها لا يكفى بل لا بد أن يتمتعوا أيضا بحصانة قضائية كاملة تعفيهم من الخضوع لقضاء الدولة المعتمد لديها ولقد ثار جدل فقهي وقانوني كبير حول مدى تلك الحصانة وسوف نستعرض من خلال فصول البحث تلك الآراء الفقهية بالتفصيل.
الفصل الأول الحصانة الجنائيــة
المبحث الأول نطاق الحصانة الجنائية
لقد استقر العرف الدولي كما أسلفنا منذ القرن السابع عشر على عدم خضوع الدبلوماسيين للقضاء المحلى للدولة بشقيه الجنائي والمدني ولقد قرر القضاء الإنجليزي في سابقه in the republic Bolivie Exportation synacateltd أن المبعوث الدبلوماسي المعتمد من قبل دولة أجنبية لا يخضع لأحكام القضاء الإنجليزي ، ولقد سارت فرنسا على نفس النهج , وكل الدول الغربية الأخرى ثم تبع ذلك كافة دول العالم حيث اقر الفقه والاجتهاد الدوليين حصانة قضائية كاملة من المسائل الجنائية للدبلوماسيين حيث لا يجوز مطلقاً إخضاعهم لقضاء الدولة المعتمدين لديها مهما ارتكبوا من مخالفات معاقب عليها بموجب القانون الجنائي للدولة المعتمد لديها ([2]) وذلك تطبيقاً وتأييداً للمبدأ القائل أن (فائدة احترام حصانات السفراء أكثر قيمة من فائدة العقاب على الجرائم ([3]) ولقد أيد الفقهاء هذا المبدأ واعتبروا إن المبعوث الدبلوماسي يبقى متمتعاً بحصانه قضائية حتى ولو ارتكب جريمة أو اشترك في مؤامرة ضد الدولة المعتمد لديها وذلك لأنه لو جاز للسلطات الإقليمية أن تتخذ ضد المبعوثين الدبلوماسيين في حالة وقوع جريمة من أحدهم أو الاشتباه في ارتكابه لها لو جاز أن تتخذ ضدهم إجراءات القبض والحبس والمحاكمة وما يتبع ذلك من توقيع عقوبات عليهم ، لأصبحوا تحت رحمة الحكومات المعتمدين لديها ولما أمكنهم أن يحتفظوا باستقلالهم في القيام بمهامهم ، فضلاً عن أن أسرار حكوماتهم تكون عرضة لان تنتهك بدعوى التحري عن الجرائم التي قد تنسب إليهم أو تقع في مقرهم وان محاكمتهم أمام القضاء الجنائي قد تكون وسيلة للتشهير بهم أو للانتقام من حماستهم ونشاطهم في الدفاع عن مصالح دولهم في اتجاه حكومة الدولة المعتمدين لديها . يتضح لنا مما تقدم الحكمة من وراء منح الدبلوماسيين حصانة قضائية مطلقة عن جميع الأعمال والتصرفات التي يقومون بها.
ويصبح بذلك المبعوث الدبلوماسي بمنأى عن الملاحقة أمام المحاكم المحلية للدولة المعتمد لديها ([4]).
وإذا كان من المسلم به دولياً هو إعفاء الدبلوماسيين من أي مساءلة جنائية إلا أن الفقهاء ومنذ عام 1584م قد أقروا مبدأ اتخاذ بعض تدابير الحيطة مثل الاستدعاء أو الإبعاد أو الطرد من الدولة المعتمد لديها ويقول د. أبو هيف ([5]) أنه لا يحق للدولة المعتمد لديها المبعوث الدبلوماسي أن تتخذ من هذه الإجراءات في حالة ارتكاب الجرائم إلا ما يلزم لتجنيبه المخاطر لمنع أذى أو تجنب خطر كإحاطة الدار التي يقيم فيها بالقوات اللازمة لمنع اتصاله بالخارج وذلك حتى يتثنى إبعاده لكن لا يحق لها إطلاقاً أياً كانت الجـريمة المنسوبة إليه أن تحاكمـه أمام محاكمها أو أن توقع عليه العقـوبة المقررة في قوانينها ، كما إن وضع الدبلـوماسي تحت الحراسة يجب ألا يمس كرامته وحرمته الذاتية.
ولقد اعتمدت و طبقت كل الدول تقريباً هذه المبادئ قد نصت كل الاتفاقيات الدبلوماسية على هـذه المبادئ واعتمدتها وطبقتها ([6]) (راجـع في ذلك اتفاقية هافانا) ([7]) والتي نصت في مادتها التاسعة عشر على مبدأ الحصانة الدبلوماسية المطلقة. ويضرب روسو ([8]) مثلاً لذلك بحادثة قتل سفير فرنسا المشهورة والتي حدثت في 6 نوفمبر 1976م أثناء عودة سفيري النمسا وفرنسا من رحلة صيد في يوغسلافيا حيث قتل سفير النمسا في بلغراد السفير الفرنسي أوتو بحادثة عرضية غير مقصودة فاكتفت محاكم بلغراد بإدانة دولة النمسا في 12/يناير/1977م وهذه الحادثة تؤكد بوضوح مدى قوة تلك الحصانة الجنائية مهما كانت فداحة الجريمة.
المبحث الثاني الإستثناءات الواردة على الحصانة الجنائية
لقد اتضح لنا من خلال ما تقدم أن المبعوثين الدبلوماسيين يتمتعون بحصانة جنائية تامة ولكن وعلى الرغم من ذلك فهنالك إستثناءات يخضع فيها الدبلوماسيين للقضاء المحلى للدولة المعتمدين لديها وتتمثل هذه الإستثناءات في الآتي:
1- الفعل المدني المرتبط بالفعل الجنائي:
ويكون ذلك في الحالات التي ينتج فيها عن فعل الدبلوماسي الجنائي ضرر مدني يتطلب جبره كما في حالة القتل أو الجرح الخطأ ففي هذه الأحوال ينعقد الاختصاص للقضاء المحلى للدولة كمثال لذلك إدانة دولة النمسا من قبل محكمة بلغراد في المثال السالف الذكر ([9]) في هذه الحالة لا يتصور بالطبع توقيع أي عقوبة جنائية وإنما ينحصر الأمر فقط في جبر الضرر مادياً إن أمكن ذلك.
2- الجرم المشهود في حالة تجارة المخدرات:
من المسلم به أن المبعوث الدبلوماسي يتمتع بحصانته الجنائية حتى في حالات الجرم المشهود إذ ليس أمام الدولة المعتمد لديها من خيار سوى أن تطلب من الدولة المعتمدة التنازل عن حصانة موظفيها الدبلوماسيين أو أن تطلب منها محاكمتهم أمام محاكمها إلا أنه يستثنى من ذلك الجرم المشهود في حالة تجارة المخدرات وهنالك عدة أمثله على ذلك منها توقيف السكرتير الثاني بسفارة غانا في بيروت في عام 1970م وكذلك تم في نفس العام توقيف موظف دبلوماسي تنزاني يعمل في موسكو أثناء مروره في بيروت وفى عام 1971م تم توقيف دبلوماسي كيني في بيروت أيضاً بناءً على نفس السبب وهو تجارة المخدرات ([10]).
3- جرائم الحرب :
لا يجوز الدفع بالحصانة القضائية بالنسبة لجرائم الحرب ، فالمبعوث الدبلوماسي يحاسب ويقاضى أمام المحاكم الوطنية عن أي جريمة حرب يرتكبها فالحصانة القضائية للمبعوث الدبلوماسي لا تنفى المسئولية الدولية فما أقره الفقه والاجتهاد بالنسبة لرؤساء الدول في هذا المجال ينطبق تلقائيا على المبعوثين الدبلوماسيين الذين يتهمون بارتكاب جرائم حرب وإذا كان قد اتضح لنا مما تقدم بأنه لا يحق للدولة المعتمد لديها المبعوث الدبلوماسي أن تستدعيه أو أن توجه إليه أي تهمة أو أن تخضعه لأي محاكمة أمام قضائها إلا انه يجوز للدولة المعتمدة ملاحقة الدبلوماسي الذي يرتكب جريمة على أرضها بمحاكمته أمام قضاء دولته باعتباره مسئولاً هو ودولته عن كافة الجرائم والمخالفات التي يرتكبها في إقليم الدولة المعتمد لديها.
وإذا تقاعست الدولة المعتمدة عن مقاضاته فإنه يجوز للدولة المعتمد لديها اتخاذ ما تراه مناسباً من المواقف السياسية والقانونية ([11]) وهذا أيضاً هو ما أكدته اتفاقية فيينا سنة 1961م ([12]) عندما نصت في الفقرة الرابعة من المادة (31) على أن (تمتع الدبلوماسي بالحصانة القضائية في الدولة المعتمد لديها لا يقيه من قضاء الدولة المعتمدة) أي دولته.
الفصل الثاني الحصانة المدنية
المبحث الأول نطاق الحصانة المدنية
لقد ظل المبعوثون الدبلوماسيون يتمتعون بالحصانة القضائية المطلقة جنائية ومدنية منذ القرن السابع عشر واستمر ذلك حتى أواخر القرن التاسع عشر . ففي إنجلترا قرر القضاء الإنجليزي عدم خضوع الدبلوماسي للقضاء المحلى بشقيه الجنائي والمدني ، ولقد سارت فرنسا على نفس المنوال حيث حاولت بعض المحاكم الأدنى التفرقة بين التزامات المبعوث الدبلوماسي المتصلة بمهنته والالتزامات الخاصة به خارج نطاق المهنة وقررت خضوع الدبلوماسيين للقضاء المحلى في الحالة الثانية وقد أصدرت محكمة أول درجة حكماً غيابياً في عام 1891م ضد مستشار السفارة البلجيكية في باريس وألزمته بأن يدفع للمدعى ديناً عليه خاص بشئون مسكنه إلا أن محكمة النقض قد ألغت ذلك الحكم وجاء في حيثيات قرارها بأن خضوع الدبلوماسي للقضاء المدني في هذه الحالة يؤدى إلى ملاحقته من قبل دائنيه الأمر الذي يعطله عن القيام بمهامه الرسمية وهذا هو أيضاً ما استقر عليه العمل في الولايات المتحدة الأمريكية وفى ألمانيا وهولندا والبرتغال وأسبانيا والنمسا وإيطاليا وغيرها من الدول الغربية.
ولقد ساد مبدأ الحصانة المدنية المطلقة في جميع المسائل والأعمال التي يقوم بها المبعوث الدبلوماسي في الدولة المعتمد لديها ويرجع الفقهاء تبرير ذلك لسببين أو اعتبارين :
أولهما: إن إقامة المبعوث الدبلوماسي في الدولة المعتمد لديها إقامة مؤقتة مهما طال أمدها ، ومحل إقامته الثابت هو دولته (الدولة المعتمدة) باعتبارها وطنه ومقره الأصلي لذلك يجب أن يقاضى ويحاسب أمام قضاء دولته
ثانيهما: أن طبيعة عمل الدبلوماسي تقتضي المحافظة على استقلاله وعلى هيبته المستمدة من هيبة واستقلال الدول المعتمدة ([13]) إلا أنه وفى أواخر القرن التاسع عشر بدأت الدول في التراجع عن مبدأ الحصانة المدنية المطلقة بعد أن أقدم عدد كبير من الدبلوماسيين إلى إبرام تصرفات وتعاقدات تجارية ومالية لا علاقة لها بمهامهم الدبلوماسية حيث أدى الإسراف في تلك التصرفات إلى تراجع الدول الغربية عن مبدأ الإعفاء الكامل من القضاء المدني الإقليمي ولقد عضد ذلك أيضاً أن المجامع العلمية الدولية قد بدأت هي الأخرى ومنذ أواخر القرن التاسع عشر تنادى وتقرر في مشروعات قوانينها مبدأ تقييد الإعفاء من القضاء المدني واستثناء بعض الأعمال من هذا الإعفاء . ففي عام 1895م أقر معهد القانون الدولي في اجتماعه ذلك المبدأ حيث نص في المادة (16) من مشروعه على أنه (لا يجوز التمسك بالحصانة القضائية والمدنية في حالة المقاضاة بسبب التزامات تعاقد عليها المبعوث الدبلوماسي خلال قيامه بممارسة مهنة أخرى بجانب مهامه الدبلوماسية في البلد المعتمد لديه كما لا يجـوز التمسك بهذه الحصانة في الدعاوى العينية ومنها دعاوى الحيازة الخاصة بمال موجود في الدولة المعتمد لديها الدبلوماسي سواء كان هذا المال عقاراً أو منقولاً) .
وفى عام 1929م قرر هذا المعهد نفسه في اجتماعه المنعقد بنيويورك أن الإعفاء من القضاء المدني الإقليمي لا يشمل الإعفاء من الحالات الآتية:
1- إذا كانت الدعوى تتعلق بأموال عقارية يملكها المبعوث الدبلوماسي في إقليم الدولة المعتمد لديها.
2- إذا كانت الدعوى ناشئة عن أعمال تجارية أو ما شابهها قام بها المبعوث لحسابه الخاص دون أن يكون لها علاقة بمهام وظيفته.
3- إذا كانت الدعوى متفرعة من دعوى أصلية تقدم بها المبعوث بنفسه إلى قضاء الدولة باعتباره مدعياً.
ولقد أبدت الدول الغربية وجهة نظرها بصورة رسمية للجنة القانونية التي كلفت من قبل عصبة الأمم بتدوين القواعد المتعلقة بالحصانات والامتيازات الدبلوماسية ([14]) ولقد بدأ اتجاه الفقهاء يميل بوضوح شديد وكذلك القضاء في الدول الغربية وفى الولايات المتحدة الأمريكية نحو تقييد الإعفاء من القضاء المدني والإداري لا سيما بعد أن ظهرت نظرية ضرورات أو مصلحة الوظيفة كأساس لمنح الحصانات والامتيازات الدبلوماسية . وعندما شرعت هيئة الأمم المتحدة بتدوين قواعد القانون الدولي الدبلوماسي من خلال اللجنة القانونية التي أنشأتها لهذا الخصوص وبعد دراسة المشاريع التي اقترحها الفقهاء والمجامع العلمية القانونية الدولية وبعد استطلاع رأى الدول قررت لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة بعدم الأخذ بمبدأ الإعفاء المطلق من القضاء الإقليمي المدني وصاغت الإستثناءات في المادة (29) من مشروعها الذي قدمته لمؤتمر فيينا لعام 1961م حيث اعتمدته الاتفاقية في مادتها رقم 31 والتي نصت على انه :
1- يتمتع المبعوث الدبلوماسي بالحصانة ضد الاختصاص القضائي الجنائي للدولة المضيفة ويتمتع كذلك بالحصانة ضد الاختصاص القضائي والمدني والإداري فيما عدا الحالات الآتية :
(أ ) الدعاوى العينية المتعلقة بعقار خاص كائن في إقليم الدولة المضيفة ما لم تكن حيازته له بالنيابة عن الدولة الباعثة وذلك لأغراض البعثة.
(ب) الدعاوى المتعلقة بميراث يكون المبعوث داخلاً فيها كمنفذ أو مدير أو وارث أو موصى له وذلك بوصفه شخصاً عادياً وباسمه الخاص لا بالنيابة عن الدولة الباعثة.
(ج) الدعاوى المتعلقة بأي نشاط مهني أو تجارى يمارسه المبعوث الدبلوماسي في الدولة المضيفة خارج نطاق مهامه الرسمية.
2- لا يكون المبعوث الدبلوماسي ملزم بأداء الشهادة كشاهد.
3- لا يجوز اتخاذ إجراءات تنفيذية إزاء المبعوث الدبلوماسي إلا في الحالات الواردة في البنود (أ) و (ب) و (ج) من الفقرة (1) من هذه المادة وعلى أن يكون الإجراء التنفيذي المعنى يمكن أن يتم دون المساس بحرمة شخصه أو مسكنه.
4- لا تعفى الحصانة التي يتمتع بها المبعوث الدبلوماسي في الدولة المضيفة من خضوعه لقضاء دولته (الدولة المعتمدة).
وبذلك يتضح لنا أن اتفاقية فيينا قد أخذت بالحصانة القضائية المطلقة في المسائل الجنائية أما في المسائل المدنية والإدارية فقد أوردت الاتفاقية الإستثناءات المتقدمة الذكر والتي يخضع بمقتضاها المبعوث الدبلوماسي للقضاء المدني المحلى للدولة المضيفة . وبطريقة أخرى أيضاً نستطيع أن نقول بأن اتفاقية فيينا قد ميزت بين الأعمال التي يقوم بها المبعوث الدبلوماسي بصفته الخاصة والشخصية خارج إطار وظيفته الرسمية وبين الأعمال التي يقوم بها بالنيابة عن دولته وأخضعت الأولى لأحكام القضاء المدني المحلى.
شرط الجنسية وأثره في نوع الحصانة التي يتمتع بها المبعوث الدبلوماسي في الدولة المعتمد لديها
لقد نصت اتفاقية فيينا في الفقرة الأولى من المادة (38) على أن المبعوث الدبلوماسي الذي يحمل جنسية الدولة المعتد لديها أو التي يقيم فيها إقامة دائمة لا يتمتع إلا بحصانة قضائية محدودة هي تمتعه بحصانة قضائية فيما يتعلق بالأعمال الرسمية التي يقوم بها أثناء ممارسته لوظيفته وذلك ما لم تمنحه الدولة المعتمد لديها امتيازات وحصانات إضافية . وذلك على عكس المبعوث الدبلوماسي الذي لا ينتمي بجنسيته للدولة المعتمد لـديها ولا يقيم فيها إقامة دائمة إذ يتمتع هذا الأخير بحصانة قضائية مطلقة سواء كان ذلك أثناء ممارسته وظيفته الرسمية أو خارجها ([15]).
حصانة المبعوث الدبلوماسي بعد انتهاء مهمته:
لقد نصت اتفاقية فيينا على تمتع الدبلوماسيين الذين انتهت مهامهم بالامتيازات والحصانات الممنوحة لهم إلى حين مغادرتهم لإقليم الدولة المستضيفة وذلك حتى في حالة وجود نزاع مسلح فبالرجوع لنص المادة (39) من الاتفاقية نجده ينص في فقرته الثانية على أنه تنتهي عادة امتيازات وحصانات كل دبلوماسي انتهت مهنته بمغادرة البلاد أو بعد انقضاء فترة معقولة من الزمن تمنح لهذا الغرض ولكنها تظل قائمة إلى ذلك الوقت حتى في حالة وجود نزاع مسلح وتستمر الحصانة قائمة مع ذلك بالنسبة إلى الأعمال التي يقوم بها هذا الشخص أثناء أداء وظيفته بوصفة أحد أفراد البعثة . بل أن اتفاقية فيينا قد نصت في فقرتها الثالثة من المادة (39) على استمرار تمتع أفراد أسرة الدبلوماسي المتوفى بالامتيازات والحصانات التي يستحقونها حتى انقضاء فترة معقولة من الزمن ممنوحة لمغادر البلاد ([16]).
إعفاء الدبلوماسي من الشهادة
ثار جدل كبير بين الفقهاء حول هذا الموضوع فقد ذهب بعض الفقهاء إلى تأييد مبدأ جواز إدلاء المبعوث الدبلوماسي بشهادته أمام السلطات أو القضاء المحلى ما دام انه ليس هناك ضرر يعود على المبعوث الدبلوماسي أو أي أمر يمكن أن يمس كرامته أو يهدد حياته وذلك انطلاقاً من مبدأ التعاون بين الدول , وبالتالي يمكن له أن يدلي بشهادته دون أي تهديد أو إكراه من أي جهة . أما البعض الأخر من الفقهاء قد ذهب إلى عدم إلزام المبعوث الدبلوماسي بأداء الشهادة مهما كانت الأسباب وذلك انطلاقاً من مبدأ الحفاظ على استقالته وحريته وانطلاقاً أيضاً من مبدأ الحصانـة القضائية التي يتمتع بها عدا تلك الإستثناءات المتعلقة بتلك المسائل المدنية . ولقد أخذت اتفاقية فيينا لعام 1961م بالرأي الأخير فقد نصت هذه الاتفاقية في الفقرة الثانية من المادة (31) على أنه (لا يُلزم المبعوث الدبلوماسي بأن يؤدى الشهادة ) . وذلك على الرغم من تعليق لجنة القانون الدولي على هذا النص يجوز إدلاء المبعوث الدبلوماسي بمعلوماته بالوسائل الخاصة إذا ما طلب منه ذلك معاونة منه للسلطات المحلية في القيام بواجبها ([17]).
المبحث الثاني طرق مقاضاة الدبلوماسيين
أن تمتع المبعوث الدبلومـاسي بحصانة قضائية مطلقة في المسائل الجنائية وبحصانة قضائية مدنية فيما عدا الحالات المستثناء بموجب اتفاقية فيينا لعام 1961م لا يعنى عدم خضوع الدبلوماسي للمساءلة والقضاء بصفة مطلقة فقد اتجه الفقه والاجتهادات الدولية إلى إقرار بعض الوسائل التي يمكن عبرها مساءلة الدبلوماسي ومقاضاته وتتلخص هذه الوسائل في الآتي:
1- الطريق الدبلوماسي: في هذه الحالة يتقدم المضرور بشكوى لوزارة الخارجية والتي تخاطب بدورها رئيس البعثة أو حكومته طالبة منهم التدخل ليقوم الدبلوماسي المخالف بتصحيح أوضاعه والوفاء بالتزاماته وفى حالة عدم حدوث ذلك تقوم وزارة الخارجية بمخاطبة الدولة المعتمدة طالبة منها رفع الحصانة عن الدبلوماسي المعنى والدولة المعتمدة حرة في أن ترفع الحصانة أو ترفض.
2- التنازل عن الحصانة: في هذه الحالة يتنازل الدبلوماسي المخالف عن حصانته ولكن يجب للاعتداد بذلك التنازل أن توافق الدولة المعتمدة عليه وذلك لان الحصانة مقرره أساسا لصالح الدولة وليس لصالح الدبلوماسي . فإذا لم توافق الدولة المعتمدة على التنازل يظل الدبلوماسي المخالف متمتعاً بتلك الحصانة رغم تنازله عنها.
3- اللجوء لمحاكم الدولة المعتمدة: وفى هذه الحالة يلجأ المضرور إلى محاكم الدولة المعتمدة لمقاضاة الدبلوماسي المخالف رافعاً دعوته أمام قضاء الدولة المضيفة . بيد أن هذه الحالة يمثل اللجوء إليها صعوبة كبيرة إذ يكلف رفع الدعوى أمام قضاء الدولة المضيفة مصاريف مادية كبيرة تتمثل في مصاريف السفر والانتقال وهنالك معضلة أخرى قد تثور في حالة ما إذا كان الفعل المنسوب للدبلوماسي المخالف غير معاقب عليه في إقليم الدولة المعتمدة.
4- اللجوء إلى محكمة تحكيم تجنـب الدبلوماسي المثول أمام القضـاء المحلى.
وبالرجوع إلى اتفاقية فيينا لعام 1961م نجد أن هذه الاتفاقية قد اعتمدت طريقتين فقط من تلك الوسائل الأربعة هما اللجوء لمحاكم الدولة المعتمدة ([18]) والثانية هي محاولة إمكانية رفع الحصانة القضائية ([19]) وفى هذه يجب أن تكون موافقة الدولة صريحة وان تقترن تلك الموافقة الصريحة بإذن يصدر بصورة مباشرة من الدولة المعتمد أو من رئيس البعثة بصفته ممثلاً لدولته , ولقد برز هذا الاتجاه منذ عام 1906م بعد حادثة القتل الذي قام بها قائم بأعمال سفارة أجنبية في بلجيكا والذي قام بقتل خطيب أخته حيث لم تقم السلطات البلجيكية بتوقيفه إلا بعد حصولها على إذن من الدولة المعتمدة.
وتأكد أيضاً هذا الاتجاه في المسائل المدنية منذ عام 1956م أنه يجب الحصول على الرضى الصريح للدولة المتعمدة في المسائل المدنية حتى يكون تنازل المبعوث الدبلوماسي عن حصانته صالحاً ([20]).
ويقول د. أبو هيف أن الرأي الغالب لدى الفقهاء هو أن الدولة وحدها هي صاحبة الحق في أن تتمسك بالحصانة أو بالتخلي عنها ولاشك أن الدولة لا تتخلى عن الحصانة بالنسبة لأحد مبعوثيها إلا إذا كانت لديها أسباب جديه تبرر ذلك وكانت تصرفات المبعوث تقتضي منها اتخاذ مثل هذا الموقف . وبناء على ذلك فان التنازل عنها أو التمسك بها هو من حق الدولة المعتمدة وهى حرة في ذلك ويجوز أن يجرى هذا التنازل في حالة حدوثه من الدولة مباشرة أو من قبل رئيس بعثتها إذا تعلق أمر التنازل بأحد موظفي البعثة باعتبار أن رئيس البعثة بصفته ممثلاً لدولته فإنه يلزم دولته بهذا التنازل ولا يجوز لها التنكر له ([21]) أما إذا كان رئيس البعثة هو المدعى عليه فلا يجوز أن يتنازل عن حصانته دون موافقة دولته الصريحة وعلى هذا الأساس اتجهت اتفاقية فيينا لعام 1961م ([22]) وبالرجوع إلى اتفاقية فيينا نجدها قد نصت على مبدأ التنازل الصريح عن الحصانة القضائية وربطت ذلك بموافقة الدولة المعتمدة ورضاها لأنها هي صاحبة الحق في التنازل عن الحصانة القضائية وليس المبعوث الدبلوماسي . فقد نصت في المادة رقم (32) على الآتي:
1- يجـوز للدولة المعتمـدة أن تتنازل عـن الحصانة القضائية التي يتمتع بها المبعوثين الدبلوماسيين والأشخاص المتمتعـين بها بموجب المادة (37).
2- يكون التنازل صريحاً في جميع الأحوال.
المبحث الثالث الحصانة التنفيذية
لقد اتضح لنا مما تقدم أن الحصانة القضائية التي يتمتع بها المبعوث الدبلوماسي تعتبر امتداد لحصانة البعثة القضائية ومن ثم لحصانة الدولة القضائية وهذا هو أيضاً ما ينسحب على الحصانة التنفيذية والتي تعنى عدم اتخاذ أي تدابير تنفيذية كالحجز والإخلاء والتوقيف والتفتيش وغيرها من التدابير التنفيذية ، وتشمل الحصانة التنفيذية جميع مرافق الدولة وأشخاصها من موظفين دبلوماسيين وقنصليين ورؤساء دول وحكومات . ووفقاً لذلك فإن المبعوث الدبلوماسي يتمتع بحصانة تنفيذية قائمة بذاتها ومستقلة عن الحصانة القضائية التي يتمتع بها.
والتنازل عن الحصانة القضائية لا يعنى التنازل عن الحصانة التنفيذية فالتنازل عن الحصانة التنفيذية يتطلب هو الأخر موافقة دولته الصريحة وبناءً على ذلك فإن الحكم الصادر على الدبلوماسي بناءً على تنازله عن الحصانة وموافقة دولته لا يمكن أن ينفذ إلا بعد موافقة الدولة أيضاً على التنفيذ وقد نحى الفقهاء للتمييز بين الحصانة القضائية والحصانة التنفيذية واعتبار كل حصانة مستقلة عن الأخرى . فقد يتنازل الدبلوماسي عن حصانته و توافقه دولته على ذلك إلا انه عند تنفيذ الحكم عليه قد ترفض الدولة التنفيذ ولا تعطى موافقتها إذا رأت أن التنفيذ يضر بمصالحها أو يمس سياستها أو كرامتها أو استقلالها وخير مثال لذلك السابقة القضائية القطرية ففي دولة قطر أصدرت الدائرة الثانية بمحكمة الاستئناف الشرعية برئاسة القاضي السوداني العالم مولانا عبد الرحمن محمد شرفي ([23]). حكماً بالرقم 16/جنايات لسنة 2004م قضى بإلغاء القرار الصادر من المحكمة الابتدائية الشرعية دائرة الجنايات و الحدود في القضية رقم 2681/2003م في مواجهة المتهـم المستأنف فلاح لأخـي العجمي الكويتـي الجنسية ابن المبعوث الدبلوماسي ( مستشار سفارة الكويت بدولة قطر ) . والذي قضت المحكمة الابتدائية بإدانته بجريمة قيادة مركبة برعونة وعدم احتراز والتسبب في القتل الخطأ . وقضت بحبسه لمدة شهر مع وقف التنفيذ ومراقبة التزامه بضوابط المرور لمدة شهرين وتغريمه مبلغ ثلاثة آلاف ريال . وإلزامه بأداء دية المتوفى كور ماك ميشيل جيمسى الايرلندي الجنسية إلى ذويه وقدرها مائة ألف ريال قطري . وجاء في حيثيات محكمة الاستئناف بأن المحكمة الابتدائية قد أخطأت عندما أصدرت حكمها بتنفيذ العقوبة لأن الإذن الصادر من سفارة الكويت كان بالتحقيق مع المتهم وفق الإجراءات المتبعة لذلك.
وان تنفيذ العقوبة يتطلب إذن صريح من السفارة الكويتية وفقاً لنص المادة (32) من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961م والتي تنص على أن (التنازل عن الحصانة القضائية في دعوى مدنية أو إدارية لا يفترض فيه أنه يعنى التنازل عن الحصانة بالنسبة لإجراءات تنفيذ الحكم و لا بد فيما يتعلق بهذه الإجراءات من تنازل قائم بذاته) وقضت محكمة الاستئناف بتأييد الحكم الابتدائي بالإدانة وأمرت بإلغاء الحكم الابتدائي القاضي بحبس المتهم (المستأنف) وتغريمه ثلاثة آلاف ريال قطري واشترطت عند تنفيذ الحكم النهائي بالدية الحصول على إذن جديد بالتنازل عن حصانة التنفيذ من دوله الكويت أو من رئيس بعثتها الدبلوماسية بسفارة الكويت بدولة قطر . ولقد توخت اتفاقية فيينا هذا المنهج حيث ميزت بين الحصانة القضائية والتنازل عنها والحصانة التنفيذية والتنازل عنها وذهبت إلى أن التنازل عن الحصانة القضائية لا يستتبع التنازل عن الحصانة التنفيذية بصورة تلقائية أو مفترضة بل لا بد أن يتبع التنازل عن الحصانة القضائية تنازلاً آخر في مرحلة التنفيذ مستغل تماماً عن التنازل الأول الخاص بالتنازل عن الحصانة القضائية ([24]) وبالرجوع إلى نص المادة (32) من الاتفاقية نجده ينص على أن ( التنازل عن الحصانة القضائية بالنسبة إلى أي دعوى مدنية أو إدارية لا ينطوي على تنازل عن الحصانة بالنسبة إلى تنفيذ الحكم بل لا بد في هذه الحالة الأخيرة من تنازل مستقل ) . بل أن اتفاقية فيينا قد أكدت وأمنت على حصانة التنفيذ بغض النظر عن التنازل عن الحصانة القضائية وذلك حتى عندما لا يتمتع الدبلوماسي بحصانة قضائية فيما يتعلق بالمسائل المدنية والإدارية أو حتى تلك المستثناء في البنود أ و ب و ج من المادة 31(1) إذ اشترطت الاتفاقية حتى في هذه الأحوال إمكانية اتخاذ تلك الإجراءات دون المساس بحرمة شخص الدبلوماسي أو مسكنه.
الحصانة القضائية لبقية أفراد البعثة من غير الدبلوماسيين
لقد ميزت اتفاقية فيينا لسنة 1961م بين أفراد البعثة الدبلوماسية والآخرين حيث اعتبرت أن كل أفراد أسرة المبعوث الدبلوماسي من أهل بيته يتمتعون بجميع الامتيازات والحصانات التي يتمتع بها المبعوث الدبلوماسي ويشمل ذلك على الحصانة القضائية والتنفيذية ويشترط ألا يكونوا من مواطني الدولة المتعمد لديها . أما فيما يتعلق ببقية أفراد البعثة وهم الموظفين الإداريين والفنيين وأسرهم فإنهم يتمتعون بالحصانة القضائية الجنائية أثناء وخارج ممارستهم لوظائفهم ، أما فيما يتعلق بالحصانة المدنية والإدارية فإن الحصانة تشمل فقط الأعمال التي يقومون بها أثناء ممارستهم وظائفهم أما الأعمال التي يقومون بها خارج نطاق وظائفهم فلا تشملها الحصانة القضائية المدنية والإدارية . وكل ذلك بشرط ألا يكونوا من مواطني الدولة المعتمد لديها سواء كانت الحصانة جنائية أو مدنية.
أما فيما يتعلق بمستخدمي البعثة الذين ليسوا من مواطني الدولة المعتمد لديها أو المقيمين فيها إقامة دائمة فإنهم لا يتمتعون بالحصانة القضائية إلا بالنسبة للأعمال التي يقومون بها أثناء ممارستهم لوظائفهم ([25]) ، أما فيما يتعلق بالخدم الخاصين لأفراد البعثة من غير حاملي جنسية الدولة المعتمد لديها وغير المقيمين بها إقامة دائمة فإنهم لا يتمتعون بأية حصانة قضائية إلا بقدر ما تسمح به الدولة المعتمد لديها. أي ترك الخيار للدولة المتعمد لديها بمنح ما تراه مناسبا من الحصانات للخدم الخاصين بيد أن الاتفاقية قد اشترطت في هـذه الحالة على الدولة المعتمد لديها عند ممارستها لقضائها على هؤلاء الأفراد ألا تعيق بشكل زائد وظائف البعثة ([26]).
الفصل الثالث موقف السودان من الحصانة القضائية واتفاقية فينا لسنة 1961م
لقد انضم السودان إلى اتفاقية فيينا في عام 1981م بموجب قانون بالتصديق على اتفاقية فيينا لعام 1981م.
ولقد تحفظ السودان على المادتين 37(2) و 38 من الاتفاقية حيث تحفظ السودان على المادة 37(2) من الاتفاقية بالاتى:
إن الحصانات والامتيازات الواردة في الفقرة الثانية من المادة (37) لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961م والمعترف بها في القانون العرفي وفى ممارسات الدول لصالح رؤساء البعثات الدبلوماسية وأعضاء البعثة من الدبلوماسيين لا يمكن أن تمنحها جمهورية السودان إلا على أساس المعاملة بالمثل فقط . والمادة 37(2) تنص على أنه (يتمتع أعضاء البعثة الإدارية والفنية مع أفراد أسرهم الذين يشكلون جزءً من أهل بيتهم ما لم يكونوا من مواطني الدولة المضيفة أو من المقيمين فيها إقامة دائمة بالامتيازات والحصانات المحددة في المواد من (29) حتى (35) شرط أن لا تمتد الحصانة المنصوص عليها للفقرة 1 من المادة (31) فيما يتعلق بالقضاء المدني والإداري للدولة المعتمد لديها أي الأعمال التي يقومون بها خارج نطاق وظائفهم ويتمتعون كذلك بالامتيازات المنصوص عليها في الفقرة (1) من المادة (36) بالنسبة للمواد التي يستوردونها أثناء أول استقرار لهم.
كما تحفظ السودان أيضاً على المادة (38) من الاتفاقية بالاتى:
عدم منح الممثل الدبلوماسي إذا كان من مواطني الدولة المضيفة أو المقيمين فيها بصفة دائمة أي حصانة قضائية حتى لو كان الفعل المشتكي منه متعلق بالأعمال الرسمية التي يقوم بها عند تأديته لواجباته ([27]).
ويتضح لنا ذلك إن السودان يرفض رفضاً باتاً منح أي حصانة قضائية لأي دبلوماسي فـي أي بعثة دبلوماسية في السودان إذا كان هذا الدبلوماسي يحمل الجنسية السودانيـة (جنسية الدولة المضيفة) حتى لـو كان ذلك أثناء تأديته الأعمال الرسمية.
ويلاحظ أنه و على الرغم من أن السودان قد انضم لهذه الاتفاقية منذ العاشر من يناير 1981م إلا أن تطبيق المحاكم السودانية بالنسبة للاستثناءات الواردة في المادة (31) من الاتفاقية قد كان ضعيفاً إذ كانت أغلب المحاكم تتطلب الحصول على إذن كشرط لتصريح الدعاوى المدنية في مواجهة عدد كبير من الدبلوماسيين الذين دخلوا في معاملات تجارية خارج نطاق أعمالهم ومهامهم الرسمية وارتكبوا العديد من المخالفات ومن أشهر تلك المخالفات عدم دفع أجرة المساكن التي كانوا يستأجرونها لأنفسهم ولغير أغراض البعثة حتى تكدست أدراج ترابيز وزارة الخارجية بعشرات الشكاوى ضد الدبلوماسيين لعدة دول . ولقد حاول السيد رئيس القضاء أن يلفت نظر المحاكم المدنية لضرورة استخدام تلك الإستثناءات الواردة في نص المادة (31) من اتفاقية فيينا لسنة 1961م وبالتالي تصريح الدعاوى المدنية إذا تحققت بشأنها تلك الإستثناءات فاصدر المنشور رقم 2/92 ناصاً على الإستثناءات الواردة في نص المادة (31) من الاتفاقية .
وسرعان ما ازدحمت المحاكم المدنية بالعديد من العرائض والقضايا ضد مبعوثين دبلوماسيين من ذلك العريضة رقم 3333/2000م والقضية رقم 1339/98 و العريضة رقم 3813/2000م أمام محكمة الخرطوم الجزئية وكانت هذه الدعاوى ضد دبلوماسيين يستأجرون عقارات لسكناهم الشخصية ولا علاقة لها بأغراض البعثة وكذلك الدعوى رقم 1337/98 بين عبد الباسط سعيد ضد منظمة اليونيسيف بالخرطوم . والتي كانت أمامنا بمحكمة الخرطوم الجزئية والتي تمثلت وقائعها في قيام المدعى عليها بنشر كتاب المدعى (المسرح من اجل الحياة) باسم شخص آخر وهو يتحدث عن بعض عادات القبائل السودانية بمنطقة جبال النوبة وذلك رقم علمها بأن المدعى هو المؤلف حيث أنه ظل يعمل خبيراً معها و مع الأمم المتحدة لمدة فاقت الخمسة عشر عاما بل وقامت بترجمته للغة الإنجليزية ونشره باسم شخص آخر يعمل معها كموظف دون مراعاة لحق المؤلف (المدعى) وبعد تصريح الدعوى تم إعلان المدعى عليها بوساطة وزارة الخارجية حيث رفضت استلام إعلان بدعوى الحصانة وبناءً على طلب محامى الادعاء استمعت المحكمة لأقوال المدعى على اليمين استناداً لنص المادة (61) إجراءات مدنية لسنة 1983م والذي قدم سبعة مستندات تؤكد ادعائه من بينها إقرارا صادراً من المدعى عليها تعترف فيه بهذا الحق ، بعد ذلك أصدرت المحكمة حكما غيابيا في مواجهة المدعى عليها تحت المادة (61) إجراءات مدنية لسنة 1983م يقضى بالآتي:
إلزام المدعى عليها بوضع اسم المدعى كمؤلف في أي مطبوعات لاحقة للدراسة موضوع الدعوى وإيقاف توزيع ونشر الدراسة باسم مكي عبد النبي محمد كمؤلف.
إلزام المدعى عليها بالاعتذار للمدعى عبر الصحف ودفع تعويضاً له قدره مائتان خمسة وعشرين مليون جنيه ( 225.000.000 جنيه ) وتم إعلانها بصورة من منطوق القرار بوساطة وزارة الخارجية . وبعد انقضاء فترة الاستئناف تم الحجز على ستة من عربات المدعي عليها والتي كانت تقف في فناء مقرها بالقوة الجبرية حيث تم إحضارها لفناء المحكمة الجزئية تمهيداً لبيعها بالمزاد العلني فأقامت المدعى عليها الدنيا وأقعدتها واعتبرت ذلك تجني على حصانتها وانتهاكاً لسيادتها رغـم أن التنفيذ قد تم وفقاً للفقرة الثالثة من المادة (31) من اتفاقية فينا لسنة 1961م والتي تقتضي بأن يتـم التنفيذ دون المساس بحرمة الدبلوماسي أو مسكنه.
ولقد تلاحظ أن هذا السلوك من الدبلوماسيين والمتعلق بالدخول مع مواطني الدولة المضيفة في معاملات تجارية أو إيجار مساكن ثم رفض المثول أمام المحاكم رغم الإستثناءات الواضحة لاتفاقية فينا في هذه الحالة (المادة 31/1 ) يحدث اغلبها في دول العالم الثالث لان هؤلاء الدبلوماسيين لا يقومون بذلك في أوربا وبقية دول العالم المتقدمة لعدة أسباب منها أنهم يخافون على مراكزهم الوظيفية لقوة الحريات في تلك الدول وثانياً لأن الرأي العام في تلك الدول يشكل في حد ذاته سلطة قوية ورأياً مسموعاً.
إننا نرى عموماً أن الحصانة المدنية للدبلوماسيين لا مبرر لها وذلك للأسباب الآتية:
1- عندما قررت الحصانة المدنية كانت الأخلاق عالية للغاية وكان الدبلوماسي يبتعد عن أي عمل تجارى يمكن أن يدخله في مشاكل أو قضايا مع رعايا الدول المضيفة أما الآن فقد تغير الحال وأصبحت عقلية بعض الدبلوماسيين عقلية تجارية لا تتورع في التعامل التجاري مع المواطنين . أو عدم إيفائهم بالتزاماتهم تجاه أولئك المواطنين.
2- أن اتفاقية فينا تنص في مقدمتها على أن الغرض من تلك الحصنات ليس هو إفادة الأفراد بل الغرض منها هو ضمان الأداء الفعال للبعثات الدبلوماسية وتسهيل مهمتها حتى تستطيع أداء عملها الرسمي في توطيد أواصر العلاقة والأخوة بين الشعوب لذلك فإن استئجار عقار من مواطن عادي حتى لو كان ذلك لأغراض البعثة يجب ألا تشمله الحصانة المدينة لأن القول بغير ذلك يهضم حقوق المواطنين في الدولة المضيفة التي أتى إليها أولئك الدبلوماسيون لتمثيل دولتهم فيها خير تمثيل ينعكس إيجاباُ بين الشعوب ولان الدولة الباعثة أيضاُ لن يسرها أن تفتئد بعثتها الدبلوماسية أو بعض أفرادها على حقوق المواطنين في الدولة المضيفة . واليوم توجد عشرات الشكاوى من مواطنين ضد سفارات ودبلوماسيين يستأجرون عقارات منهم رافضين دفع الأجرة ورافضين إخلائها فلا يصبح أمام هؤلاء المواطنين إلا أن يلوذوا بوزارة الخارجية لاستعطاف أولئك الدبلوماسيين إن شاءوا دفعوا أو أخلو العقارات وإن لم يشاءوا فلا إلزام عليهم . لأنه يلاحظ أنه حتى في تلك الحالات التي يجوز فيها مقاضاة الدبلوماسي أو البعثة الدبلوماسية مدنياً فإن ذلك الأمر والحكم يصبح لا معنى له في كثير من الحالات لان التنفيذ قد يكون من شأنه إخلاء الدبلوماسي أو الجهة الدبلوماسية بالقوة الجبرية من المنزل مثلاً أو الحجز على الدبلوماسي إلى حين استيفاء الحق وذلك لأن اتفاقية فينا في المادة 31(3) تشترط أن يتم التنفيذ دون المساس بحرمة الشخص أو مسكنه وبذلك يصبح الحكم الصادر ضد الدبلوماسي أو الجهة الدبلوماسية مجرد حبر على الورق . وكما قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالته الشهيرة لأبي موسى الأشعري ( أنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له ).
________________________________________
[1] الدبلوماسية – نشأتها وتطورها وقواعدها ونظام الحصانات والامتيازات الدبلوماسية د. علي حسين الشامي ص 20 .
[2] الدبلوماسية – نشأتها وتطورها وقواعدها ونظام الحصانات والامتيازات الدبلوماسية ص 546 د. علي حسين الشامي.
[3] القانون الدبلوماسي – عموميات عن الدبلوماسية د. علي صادق أبوهيف ص 183 طبعة منشأة المعارف بلأسكندرية -.
[4] الدبلوماسية د. علي حسين ص 548.
[5] القانون الدبلوماسي – علي أبو الهيف ص 184-185 .
[6] الدبلوماسية – علي حسين ص 550 .
القانون الدبلوماسي د. أبو هيف ص 183 .
[7] اتفاقية هافانا لعام 1928م المادة (19).
[8] القانون الدولي العام روسو ص 210 .
[9] روسو ص 201 .
[10] روسو ص 177 .
[11] الدبلوماسية د. علي حسين ص 552 .
القانون الدبلوماسي د. أبو هيف ص 187 .
[12] أنظر المادة (31) الفقرة الرابعة من اتفاقية فينا لسنة 1961م.
[13] القانون الدبلوماسي د. أبو هيف ص 188 .
[14] راجع في ذلك تقرير لجنة القانون الدولي للأمم المتحدة في كتابها السنوي لعام 1956م الجزء الثاني ص 145 – 148.
[15] الدبلوماسية د. علي حسين ص 558.
[16] راجع نصوص المواد 39(2) 39(3) من اتفاقية فينا لسنة 1961م.
[17] الدبلوماسية – د. علي حسين ص 560
[18] نظرية المادة 31(4) من اتفاقية فيينا لعام 1961م.
[19] المادة 31(1) من اتفاقية فينا لعام 1961م.
[20] القانون الدبلوماسي : د. أبوهيف ص 202 – الدبلوماسية – على حسين ص 565.
[21] راجع تعليق لجنة القانون الدولي على المادة (32) في تقريرها لعام 1958م الجزء الثاني ص 102-103 .
[22] القانون الدبلوماسي: د. أبوهيف ص 203 – 204 .
[23] قاضي المحكمة العليا الآن بالسودان ورئيس إدارة المكتب الفني والبحث العلمي.
[24] أنظر المواد 38(4) من اتفاقية فينا لسنة 1961م.
[25] راجع المادة 37(2)- 37(3) من اتفاقية فينا لسنة 1961م.
[26] أنظر المادة 37(4) من اتفاقية فينا لسنة 1961م.
[27] راجع تحفظ السودان على المادة (38) – قانون التصديق على الانضمام لاتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1981
اترك تعليقاً