دراسة قانونية هامة حول الموت الرحيم
إعداد: الدكتور نادر عبد العزيز شافي
دكتوراه دولة في الحقوق – محام بالإستئناف
مجلة الجيش
العدد 315 – آب, 2011
*** *** *** ****
مفهومه وجذوره والمواقف الدينية والقانونية منه
يعتبر الحق في الحياة، في الديانات كافة، حق مقدس، يستند إلى تكريم الإنسان، وينطلق من مبدأ حرمة هذه الحياة وحفظها من كل اعتداء يمكن أن يقع عليها. لذلك يعتبر قتل النفس من أبشع الجرائم، وقد اتفقت الديانات السماوية على أن الحياة هبة من الخالق لا يحق لأحد غير الله أن يتصرف فيها.
إلا أن حياة الإنسان قد تمر بظروف صعبة عندما يُصاب بأمراض معضلة أو مستعصية قد تصل به الى حالة من العجز أو اليأس من الشفاء، مع ما يرافقها من آلام مبرحة لا تُحتمل. هذا الواقع طرح مسألة القتل الرحيم التي باتت واحدة من القضايا الخلافية في العالم من ناحية شرعيتها ومحاولة تبريرها أخلاقيًا ودينيًا وقانونيًا.
بدافع الرحمة…
إن للظاهرة المسماة «الموت الرحيم» أو «القتل الرحيم» أو «القتل بدافع الرحمة… جذورًا تمتد لعشرات السنين، فهناك من طالب السلطات بإباحة الإجهاز على المريض الميؤوس من شفائه. وما زالت هذه الدعوة تكسب أنصارًا في عدة دول، وقد انتشرت انتشارًا كبيرًا في دول الغرب بل إن بعض هذه الدول وضع تشريعات قانونية تسمح بهذا الفعل ولا تجرّم مرتكبيه من الأطباء وغيرهم (مثل هولندا). كما وصل الحدُّ ببعض الأطباء إلى اختراع الأجهزة التي تسهِّل الانتحار للراغبين فيه وأُعدَّت البرامج الإعلامية لترويجه.
وهنا تُطرح التساؤلات: هل يمكن أن تكون طلقة الرحمة حلاً للأمراض المستعصية وللشيخوخة؟ وهل يجوز التفكير بالموت بوصفه حلاًّ لما يعانيه الانسان؟ وهل يمكن أن يكون التخلّص من الحياة أمرًا قابلاً للتنفيذ؟ وهل يُسمح بمجرد التفكير بالموت الرحيم ؟
تعريف الموت الرحيم
الموت الرحيم، أو القتل الرحيم، أو رصاصة الرحمة، كلها عبارات تدل على امر واحد وهو: انهاء عذاب مريض استحال شفاؤه، بواسطة أساليب طبية غير مؤلمة. انه وضع حدٍ لحياة انسان مريض بمرض لا شفاء منه. فالقتل الرحيم أو الموت الرحيم هو التعبير الطبي العلمي المعاصر، لما يعني تسهيل موت الشخص المريض الميؤوس من شفائه بناء على طلب مقدم من طبيبه المعالج. إن جوهر المشكلة يكمن في التعجيل بإنهاء حياة محكوم عليها بالهلاك حتمًا. انه «الموت المُيسَّر طبياً لأشخاص ميؤوس من شفائهم». ويتم تنفيذ الموت الرحيم في الحالات المرضية الآتي ذكرها:
• الحالة الاولى: الكوما في درجتها القصوى الرابعة، التي يكون فيها المريض في حالة تنفس اصطناعي بسبب غيبوية متقدمة مع أضرار قوية في الدماغ.
• الحالة الثانية: الأمراض المستعصية المسببة الأوجاع الأليمة، كالسرطان، وخصوصًا عند انتشاره في كل الجسم.
• الحالة الثالثة: التهاب الرئة المزمن الذي يمنع المريض من التنفس الا بواسطة الآلات (تنفس اصطناعي)، الى ما هنالك من حالات صعبة ومستعصية ولا أمل لها بالشفاء طبياً.
ومقابل الموت الرحيم، يوجد ما يسمى بالموت الـ «كلينيكي»، أو ما يعرف بالموت العيادي أو السريري، وهو الموت الذي يمنع تعذيب المريض المحتضر باستعمال أية أدوات أو أدوية متى يتبين للطبيب أن هذا كله لا جدوى منه. وقد اعتبر البعض أنه لا يوجد أي خطأ أو مسؤولية إذا تم توقيف الأجهزة التي تساعد على التنفس وعلى النبض، متى تبيّن للطبيب المختص القائم بالعلاج أن حالة المحتضر ذاهبة به إلى الموت.
للقتل الرحيم عدة طرق وأشكال
•الأولى: القتل الفعَّال أو المباشر، كإعطاء المريض جرعة قاتلة من دواء معد لذلك، وهو على أشكال: الحالة الاختيارية أو الإرادية وتكون بناء على وصية مكتوبة مسبقاً من المريض، والحالة اللاإرادية عندما يكون المريض فاقدًا الوعي فيقوم الطبيب بتقدير حالة المريض.
•الثانية: المساعدة على الانتحار, كإطلاق النار في الرأس، أو القفز من مكانٍ عالٍ…
•الثالثة: القتل غير المباشر، عبر إعطاء المريض عقاقير لتهدئة الآلام وبمرور الوقت يكون لهذه العقاقير مضاعفات في إحباط التنفس وتثبيط عمل عضلة القلب، وفي النهاية الموت.
•الرابعة: هي القتل غير الفعال، ويتم ذلك برفض علاج المريض أو إيقاف العلاج اللازم كالأجهزة الحيوية للمحافظة على الحياة، أو ايقاف عمل الآلة، أو تخفيف كمية الأوكسجين، أو اعطاء المريض أدوية خاصة على مراحل تؤدي الى توقف عمل القلب.
جذور مفهوم الموت الرحيم
«القتل الرحيم» تعبير يوناني الأصل ويعني الموت الجيد أو الموت اليسير أو الموت الكريم.
وهذا الأخير ليس جديداً، إذ أن الشعوب والقبائل البدائية كانت تمارسه، فكانت مثلاً تقتل الكسيح لأنه يعيق القبيلة في تنقلاتها أو تدفن أصحاب الامراض المعدية أحياءً لأسباب وقائية.
ويرى البعض أن مصدر فكرة الموت الرحيم مأخوذة من الطب البيطري (فالحيوانات التي لاتُنتج تُقتل). ويرى البعض الآخر أنها مأخوذة من معاقل النازية والعنصرية، كما ينسب البعض فكرة الموت الرحيم الى الفيلسوف الانكليزي بيكون (Bacon) الذي يعتبر أن على الأطباء أن يعملوا على إعادة الصحة للمرضى، وتخفيف آلامهم. ولكن إذا وجدوا أن شفاءهم لا أمل فيه، ترتَّب عليهم أن يهيئوا لهم موتاً هادئاً وسهلاً.
ويقول أفلاطون: «إن على كل مواطن في دولة متدينة، واجباً يجب أن يقوم به، لأنه لا يحق لأحد أن يقضي حياته بين الأمراض والأدوية. وعليك يا غلوكون أن تضع قانونًا واجتهادًا، كما نفهمه نحن، مؤداه وجوب تقديم كل عناية للمواطنين الأصحاء جسمًا وعقلاً، أما الذين تنقصهم سلامة الأجسام فيجب أن يُتركوا للموت». وكذلك، دعا أنصار الفلسفة النازية أمثال نيتشيه والكسس كاريل، الى القضاء على المرضى والضعفاء المصابين بعاهات جسدية أو عقلية، معتبرين أنهم جراثيم تعبث بالمجتمع.
مواقف فقهية
استقرَّ فقهاء الديانات السماوية (اليهودية والمسيحية والاسلام) على اعتبار أن قتل الإنسان أيّاً كان، سواء المريض الميؤوس من شفائه أو المُسِن العاجز عن الحركة والعمل، ليس قرارًا متاحًا من الناحية الشرعية للطبيب أو لأسرة المريض أو للمريض نفسه. لأن حياة الإنسان أمانة يجب أن يحافظ عليها، وعليه أن يحفظ بدنه ولا يلقي بنفسه إلى التهلكة. لكن ذلك لا يمنع وجود تفسيرات عند البعض يستنتجون منها أن هذه الديانة أو تلك تجيز شكلاً أو آخر من أشكال الموت الرحيم.
تطرح مسألة الموت الرحيم التساؤل القانوني الآتي: هل يعتبر جريمة قتل عندما لا يصدر عن إرادة إجرامية بل عن نفس رحيمة مشفقة على الإنسان لتخليصه من عذاب مرضه وآلامه التي لا تُطاق؟
من الناحية القانونية، القتل هو إزهاق روح إنسان حي، حتى ولو كان مريضًا مرضًا مستعصيًا وميؤوسًا من شفائه، طالما لم تحن بعد لحظة وفاته الطبيعية، وأي فعل يقع على مثل هذا الإنسان سواء أكان فعلاً إيجابيًا أو امتناعًا عن إعطاء العلاج واقترن بقصد إحداث الوفاة، يكون كافيًا لقيام جريمة القتل العمدي. ولا يغير من هذا الحكم أن يكون المريض راضيًا بوقوع الفعل عليه لأن رضاء المجنى عليه لا قيمة له في جريمة القتل، كما لا يغير من ذلك أن يكون الفاعل مدفوعًا بباعث الشفقة لأنه لا عبرة في القانون بالبواعث من حيث وجود الجريمة ذاتها.
ولما كان القتل الرحيم يستند الى باعث الشفقة، نصت بعض التشريعات الجنائية على اعتباره عذرًا مخففًا للعقاب، إذا وقع القتل بناء على إلحاح المريض، على أساس أن القاتل في هذه الحالة ليس مجرمًا عاديًا بل مجرمًا مثاليًا أقدم على اقتراف فعله تحت تأثير عاطفة نبيلة. وهذا ما نصت عليه المادة 96 من قانون العقوبات الامارتي، فاعتبرت أن دافع الشفقة في القتل عذر قانوني مخفف للعقوبة.
واعتبرت المادة 157 من قانون الجزاء الكويتي أن الإنسان يعتبر أنه قد تسبَّب في قتل إنسان آخر ولو كان فعله ليس هو السبب المباشر أو السبب الوحيد في الموت في عدة حالات، منها إذا كان المجني عليه مصابًا بمرض أو بأذى من شأنه أن يؤدي إلى الوفاة وعجل الفاعل بفعله موت المجني عليه. إلا أن المادة 18 من قانون الجزاء الكويتي تجيز للمحكمة أن تقرر الامتناع عن إصدار الحكم على المتهم إذا رأت في أخلاقه أو صفاته أو سنه أو الظروف التي ارتكب فيها الجريمة ما يبعث على الاعتقاد أنه لن يعود للإجرام.
وعاقبت المادة 538 من قانون العقوبات السوري بالاعتقال من ثلاث إلى عشر سنوات، من قتل إنسانًا قصدًا بعامل الإشفاق بناءً على إلحاحه بالطلب. أما في القانون المصري، فلم يرد أي نص بخصوص القتل إشفاقًا.
ويتبين لنا من خلال هذه التشريعات العربية أن حالة القتل الرحيم أو القتل إشفاقًا هي جريمة من الجرائم الخاصة، لها مميزاتها، ويُعاقب عليها بعقوبة مخفضة أصلاً بموجب النص القانوني الذي يتناولها.
أما في التشريعات الأوروبية والأميركية، فالوضع مختلف أحيانًا، حيث أجازت الدانمارك للمريض المصاب بمرض لا شفاء منه أن يقرّر بنفسه وقف علاجه، وسمحت منذ العام 1992 للدانماركيين أن يعدوا وصية طبية في حالة الإصابة بأمراض لا شفاء منها أو في حالة الحوادث الخطرة. كما أجازت اوستراليا الموت الرحيم العام 1999.
قانون مشروط!
إن أول دولتين في العالم أقرتا قانونًا يجيز الموت الرحيم في الحالات المستعصية، هما هولندا (2001) وبلجيكا (2002). حيث شرَّعت هولندا الموت الرحيم بموجب قانون صادر عن مجلس النواب ومجلس الشيوخ بتاريخ 10/4/2001، يتضمن شروطًا قاسية لتطبيق القتل الرحيم، أهمها توافق رأي طبيبين على أنه لا أمل في شفاء المريض، ومعاناته آلامٍ مبرحة وعذابات لا مبرر لها، وطلب المريض مراراً إنهاء حياته، وضرورة خضوع الأطباء لإشراف لجان إقليمية مؤلفة من قضاة وأطباء، مكلَّفة السهر على احترام الشروط القانونية والتأكّد من توافرها.
وبذلك، وللمرة الاولى في تاريخ البشرية ينظم الموت الرحيم على الصعيد المدني والاجتماعي والقانوني. فبعد 30 سنة من الجدل والإستفتاءات والنقاش، صدر أول قانون في العالم يقونن الموت الرحيم ويعدّه عملاً مشروعًا وفق حالات وشروط دقيقة حدّدها المشرّع. غير أن معارضي القانون اتهموا الحكومة الهولندية بأنها أصدرت هذا القانون لتخفّف من مصاريف المعالجة الطبيّة والأدوية للمواطنين.
وهناك عدة دول تبحث الآن إمكان الاقتداء بهولندا مثل استراليا ونيوزيلنده وفرنسا وسواها.
موقف القانون اللبناني من الموت الرحيم
لا يوجد في لبنان، حتى الآن، أي قانون يسمح بالموت الرحيم، وبالتالي فإن القيام به يعتبر جريمة يُعاقب عليها فاعلها وشريكه والمحرض عليها والمتدخل إذا توافرت شروطها القانونية. فقد اعتمد القانون اللبناني النص الفرنسي، ونصت المادة 552 من قانون العقوبات اللبناني على أنه «يعاقب بالاعتقال عشر سنوات على الأكثر من قتل إنسانًا قصدًا بعامل الاشفاق بناء على الحاحه في الطلب».
فالقانون اللبناني جرَّم هذا النوع من القتل، وعاقب عليه، وإن لم يتم ذكر الموت الرحيم بالتسمية ذاتها، لكنه أشار اليه بعبارة أخرى؛ اذ جاء نص المادة 552 عقوبات بعبارة عامل الاشفاق، مع شرط إضافي يتمثل بإرادة المريض نفسه، حتى الحاحه في الطلب.
من يقرّر أن الشفاء مستحيل؟
من المُسلَّم به أن الحياة نعمة من الله، والروح الانسانية هبة منحها رب العالمين للبشرية لنحيا بها، وتقرير الموت هو قرار يفوق قدرة الانسان، لأن أخذ الروح وإنهاء حياة الأشخاص رهن بإرادة الله فقط، فلا يحق لإنسان أن يُقرِّر مصيره بنفسه أو مصير إنسان آخر.
كما أنه من الصعوبة جدًا على الطبيب أن يُقدِّر ما اذا كان المـريض قد وصل الى مرحلة الموت أم لم يصل اليها بعد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المريض أو ذويه إذا كان هذا الأخير غير واعٍ.
ويُقرّ الطب بأنه لا يمكن القول بأن المريض في حالة صحية متدهورة وبأنه ميؤوس من شفائه، إلا في حال أجمعت الاثباتات العلمية الواضحة على أن الدماغ قد توقف وتوقفت كهرباء الرأس ولم يعد الدم يمر في شرايين الدماغ، وبعد ان يكون الفحص السريري قد أثبت توقف التنفس الطبيعي.
كما أكَّدت المبادىء الدينية والأخلاقية والقانونية والطبية كافة على وجوب التداوي من أجل أن يحيا الإنسان حياة طيبة، وألزمت الأطباء أن يهتموا بالمريض وأن يبذلوا نهاية جهدهم للعناية به.
وهناك مئات وآلاف، وربما ملايين، الحالات من المرضى الذين كانوا في حالة ميؤوس من شفائها، وعاشوا عشرات السنين بعد أن كانوا يُحتضرون.
فالعلم يأتي كل يوم بجديد، ومن الممكن للمريض الذي لا علاج له اليوم أن يشفى غدًا، فمهمة الطبيب حماية حياة المريض ومتابعة علاجه بكل الوسائل الممكنة.
إن ما يستند اليه مؤيدو فكرة الموت الرحيم هو مبدأ حرية الإنسان في تقرير مصيره وحق التصرف بجسده كيفما يشاء، وأن القتل الرحيم من شأنه أن يريح المريض من معاناته وآلامه، وهو بمنزلة مساعدة على الانتحار.
وكذلك يعتبر هؤلاء أن حياة بعض كبار السن والمرضى لا تساوي عدمها وخير لهم أن يموتوا، لأن قيمة الحياة تقاس بمقدار مساهمة الإنسان إبداعًا وإنتاجًا.
في المقابل ثمة من يرد على هذه الحجج بأنها مادية النزعة، لأنها تهدر قيمة الحياة البشرية، وتقيسها بالنفع المادي للإنسان، وتستهزء بإنسانيته.
المراجع:
• الأستاذ نواف جابر الشمري:
القتل الرحيم بين الشريعة والقانون، الـجامـعة الخليجية، رسالة ماجستير، بحث منشور على موقع:
http://www.hdrmut.net
• د. منى الجفيري: القتل الرحيم من المنظور الإسلامي.
http://www.arabworldbooks.com
• د. إحسان شيط: القتل الرحيم ومشكلات الخوف والألم.
http://www.vivalebanon.net
• المحامية غادة إبراهيم: الموت الرحيم.. قرار صائب أم جريمة بحق الإنسانية؟ مقال منشور على موقع:
• جريدة النهار، تاريخ 11/4/2001.
• د. رامز عمار: حقوق الانسان والحريات العامة.
اترك تعليقاً