بحث ودراسة قانونية عن المسؤولية الطبية
أ / ابراهيم العناني
المسئولية الطبية
مقدمة:
لقد خلق الله الإنسان وكرمه قال تعالى:(ولقد كرمنا بني آدم)(الإسراء:70) وهو تعالى الذي خلقه في أحسن تقويم قال تعالى : (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) (التين:4) لذلك فقد عنيت الشريعة الإسلامية, أيما عناية , بحماية النفس البشرية فحرمت قتل النفس وحفظت حق الإنسان في الحياة الكريمة.
ويقتضي العمل في المجال الطبي بمختلف تخصصاته تعامل الطبيب مع مرضاه ويقتضي هذا التعامل ترتب مسئولية يتحدد حجمها تبعا لطبيعة التعامل ومقداره. والطب أمانة، فمن تعلمه وامتهنه أصبح مكلفا ومسئولا بعلمه وعمله بما يترتب على ذلك من جزاء. وتتميز مسئولية الطبيب عن المسئولية في أي مهنة أخرى لارتباطها المباشر بالنفس البشرية .
حرمة الجسد الآدمي:
دلت نصوص الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة على حرمة الجسد الآدمي فقد توعد الله سبحانه و تعالى كل من أقدم على إتلاف النفس في آيات كثيرة منها قوله تعالى : ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون).الآيه (الأنعام : 151 ) و أرشدت السنة النبوية الشريفة إلى هذا، ففي الحديث الصحيح: ” إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ففي بلدكم هذا في شهركم هذا “. رواه البخاري. و يدخل تحت هذه الحرمة التعدي من الإنسان على نفسه وعلى نفس غيره فكلاهما محرم, وإنما أباحت الشريعة الإسلامية علاج جسم أو جراحته وقطع جزء منه من باب الضرورة حيث يتدارك هلاك النفس بإتلاف جزء أو طرف منها. فالتداوي مطلب شرعي فيه محافظة على النفس وقد سبق الحديث عن أحكامه في موضوع الطب النبوي وموضوع التداوي.
مشروعية المسئولية في العمل الطبي ومعيارها:
كل مهنة في إطار العلاقات والمنافع المشروعة بين الناس أمانة، ولكن الأمانة في المفهوم الشرعي ليست مجرد إنجاز عمل تم الاتفاق عليه بين طرفين أو أكثر بل هي – بالإضافة إلى هذا – نية صادقة تعبر عن رغبة داخلية في إتقان العمل المنجز كما لو كان منجزه يريد هذا العمل لنفسه ” لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه “.
المسئولية عن التطبيب:
إن العلاقة التي تنشأ بين المريض والطبيب علاقة توجب طبيعتها التزام الطبيب ببذل جهده في علاج المريض , بعد إذنه وموافقته مع حسن نيته في العمل .. كما توجب على المريض التزاما بقبول عمل الطبيب وعلاجه ودفع اجره إن كان عمله بأجر.
أدلة مشروعية المسئولية في العمل الطبي:
• دلالة الكتاب: دل الكتاب العزيز على مشروعية المسئولية الطبية في آيات كثيرة منها قوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها). الآيه ( الشورى : 40 )
وقوله تعالى: (وأن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عُوقبتم به). الآيه ( النحل : 126 )
وقوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم). الآيه ( البقره : 194 )
• دلالة السنة: دلت السنه النبوية على مسئولية الطبيب عن جنايته بعموم النهي عن الضرر فقد روى الإمام مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا ضرر ولا ضرار”.
وروى أبو داود بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من تطبب ولم يُعلم منه طب فهو ضامن”.
• دلالة الإجماع: دل الإجماع على مشروعية المسئولية الطبية كما نقله بعض العلماء كابن المنذر رضي الله عنه إذ قال: “وأجمعوا أن قطع الخاتن إذا أخطأ فقطع الذكر، أو الحشفة أو بعضها، فعليه ما أخطأ به، يعقله عنه العاقلة”.
• دلالة العقل: استدل العلماء على تضمين الطبيب إذا أخطأ أو تعدى مما أمر به العقل، فقد جعلوا حكم الطبيب في هذه الحالة كالجاني المتعدي بجناية، فكما يضمن الجاني سراية جنايته وخطئه فكذلك الطبيب يضمن سراية ما تسبب به.
أخطاء الأطباء:
تتشابه أخطاء الأطباء في كل مكان وزمان وإن تباينت أسماؤها ذلكم أنها تنصب في مكان واحد هو الجسم في أعضائه أو منافعه أو صفاته ، ومن هذه الأخطاء:
تجاوز الموضع المعتاد: كعلاج الطبيب عضواً لا يحتاج إلى علاج وتركه ما يحتاج إلى علاج ، أو علاج موضع الألم مع تعديه إلى موضع آخر مما يفسده.
قطع الحجام أو الجراح الأكلة أو السلعة ( الغدة) وسريان القطع إلى عضو أو أعضاء أخرى من الجسم مما يؤدي إلى تلفها أو وفاة المريض.
خطأ الكحال (طبيب العيون) إذا ذهب ضوء العين.
وصف الطبيب لمريض شربةً أو دواءً أدى إلى وفاته.
ويمكن تقسيم الاخطاء التي يقع فيها الأطراء والعاملون في المجال الصحي في الوقت الحاضر إلى أقسام ثلاثة وهي :
الخطأ العادي و الخطأ الطبي و الخطأ المسلكي.
وسنتحدث بتفصيل أكثر عن الخطأ الطبي وخاصة الخطأ المهني لأهميته.
الخطأ المهني:
وهي الأخطاء التي تتعلق بالمهنة من حيث أصولها وممارستها سواء كانت بسيطة أو معقدة، ومن هذه الأخطاء ما يلي:
سوء التشخيص:
ويرجع سوء التشخيص إلى عدم قدرة الطبيب عمليا على التشخيص مقارنة مع من هم في منزلته أو إلى عدم استعماله وسائل التشخيص المعروفة كسماعة الطبيب والفحوصات المخبرية والأشعة، وتصرفه في جسم المريض خلاف ما تقضي به قواعد المهنة، كما يرجع إلى استعمال هذه الوسائل بما لا يتفق مع الغرض منها أو مع طبيعة المرض المعالج كاستعمال الأشعة في حالات لا تسمح بذلك كحالات الحمل.
الإنفراد بالتشخيص:
لم يعد انفراد الطبيب في الوقت لحاضر بالتشخيص أمراً مقبولا خاصة في المستشفيات الكبيرة أو في عدد من الأمراض المعينة حيث أصبحت “المشورة” أو “الإحالة” في التشخيص أمرا مطلوبا وربما واجباً في بعض الأحيان.
مد العملية الجراحية:
ويحدث هذا عندما يكون التشخيص غير دقيق فيقرر إجراء عملية جراحية في أحد أجزاء الجسم ظناً منه أن هذا الجزء هو المريض ثم يكتشف أثناء إجرائه لها أن المرض ليس في هذا الجزء، ويختلف الحكم على هذا الأمر باختلاف الحالة المرضية والجزء المتعدى عليه.
الإهمال وعدم الملاحظة:
قد لا يعطي الطبيب أو الجراح عمله ما يستحقه من الدقة والملاحظة فينتج عن ذلك آثار مَرَضِية ومن ذلك : إهمال الجراح إعداد المريض لعملية يُراد إجراؤها لـه بحجة الإسراع في معالجة المرض المفاجئ الذي تــعرض لـه كأن لايجرى فحوص الدم لمريض يشكو من الزائده الدوديه مثلاً ويكتشف فيما بعد أنه مصاب بأحد أمراض النزف. ومن ذلك استئثاره برأيه في عملية لا تدخل كل أجزائها في اختصاصه.
الجهل بأمور فنية يُفترض فيمن كان في مثل تخصصه ودرجته المهنية الإلمام بها.
استعمال الآلات أو الأجهزة الطبية دون أن يكون على علم كاف بطريقة استعمالها ، مثل الإقدام على إجراء فحص أو عمليه بالمنظار وهو لم يتدرب عليهمن قبل تحب إشراف مختصيين.
أو دون أن يتخذ الاحتياطات الكفيلة بمنع حدوث ضرر من جراء هذا الاستعمال.
تضمين الطبيب الجاهل:
يعتبر هذا الموجب من أشنع موجبات المسئولية الطبية بعد العمد، وذلك أن الطبيب الجاهل قد أقدم على نفوس المرضى وأرواحهم بما فيه تغرير ومخاطرة كما أن المتطبب لم يحصل على أذن من المريض بعلاجه، وبذلك يكون المتطبب قد جمع بين أمرين محرمين، يكفي واحد منهما في تضمينه ومعاقبته. وقد أتفق الفقهاء على تضمين الطبيب الجاهل ما تسبب في إتلافه وتغريره بالمريض. وقد نقل الإجماع على ذلك القاضي أبو الوليد بن رشد الحفيد رحمه الله حيث قال: [..ولا خلاف إنه إذا لم يكن من أهل الطب أنه يضمن، لأنه متعد، وقد ورد في ذلك مع الإجماع حديث عمرو بن شعيب من أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)].
ويمكن أن يكون الجهل تاما أو جزئياً كأن يقوم بإجراء طبي ليس من اختصاصه أو يوهِم المريض بأنه ضمن اختصاصه أو أن يستخدم من الإجراءات الطبية أو الأدوية مالا يعرفه على وجه صحيح.
المسئولية عن فعل العمد :
تجب المسؤولية على الطبيب حين يتعدى عمداً مثل أن يُكره الطبيب مريضه على قطع جزء منه فيه المرض، فما يترتب على القطع وسرايته مضمون بالقصاص ولا ينفي هذه المسؤولية إلا كون المريض صغيراً والقائم بعلاجه وليه أو وصيه أو الحاكم أو أمينه المتولي عليه لأنه قصد مصلحته. ومن العمد أيضا أن يقدم الطبيب على قتل المريض بمداواته بدواء يقتل غالباً، قصد إتلافه أو إتلاف بعض منافعه.
المسئولية عن فعل الخطأ:
وهو ما لم يقصد الطبيب نتيجته رغم اجتهاده لتلافي حدوثها، وقد تعرض الفقهاء لعدد من الحالات وأوجبوا فيها الضمان ومنها ما يلي:
1- وجوب الدية على الخاتن، إذا قطع خطأ الحشفة ووجوب الضمان على الطبيب إذا تعدت يده على عضو صحيح فتلف.
2- وجوب الضمان في حال عدم الإذن وفي ذلك يرى الإمام بن القيم، أن من قطع جزءاً من رجل بغير إذنه أو من الصبي أو مجنون بغير إذن وليه فأدى فعله إلى التلف فعليه الضمان وقيل لا يضمنه لأنه محسن “وما على المحسنين من سبيل”. والمقصود بهذا عدم الإذن غير المصحوب بإكراه.
3- وجوب الضمان على الطبيب إذا كان المريض يظن أنه طبيب وأذن له طبه، أما إذا علم المجني عليه أنه جاهل لا علم لـه بالطب وأذن لـه في طبه لم يضمن. والأساس في عدم الضمان “إذن المجني عليه” حيث يسقط هذا الإذن العقوبة التي يستحقها المتعدي سواء كانت العقوبة قصاصا أو دية.
4- وجوب الضمان إذا تخلف إذن الولي وهو الحاكم أو من يمثله كالجهة التي تُرخص للأطباء.
أركان المسئولية:
لا تقوم مسئولية الطبيب عن الخطأ الطبي المهني إلا إذا توفرت فيها أركان المسؤولية الثلاثة وهي :
1- الخطأ أو الإهمال
2- حدوث الضرر
3- العلاقة السببية أو الرابطة السببية بين الخطأ والضرر.
فلا تكتمل المسؤولية إلا بهذه الأركان , فقد يقع الخطاء دون أن يحدث ضرراً أو أن يكون الضرر غير ناتج عن الخطاء مباشرة أوغير مباشرة.
انتفاء المسؤولية:
يُشترط لانتفاء مسؤولية الطبيب عن خطئه أن يكون ماهراً في عمله وللمهارة أوصاف وشروط مشددة لا تتوفر إلا في من أُتي من علم الطب الشيء الكثير وتحقق له من التدريب والخبرة القدر الوفير بحيث يكون أساس علاجه كما قال ابن القيم:
حفظ الصحة الموجودة
رد الصحة المفقودة بحسب الإمكان.
إزالة العلة أو تقليلها حسب الإمكان.
احتمال أدنى المفسدتين لإزالة أعظمهما.
تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعظمهما.
كما يُشترط لانتفاء المسئولية ألا تتعدى يد الطبيب إلى عضو صحيح فيتلفه وهو ما يعبر عنه الفقهاء بـ:”عدم تجاوز الموضع” وأن يكون علاجه للمريض بإذنه أو أذن وليه أو وصيه وأن يكون هذا الإذن صريحاً ودون قسر أو إكراه وان يكون الخطأ الذي حدث من الطبيب غير فاحش عند من يرى ذلك.
كما تسقط المسئولية إذا تخلف أحد أركانها، على انه يمكن معاقبة الطبيب بالحق العام دون الحق الخاص مثلاً إذا أخطأ ولم يحدث ضرر للمريض.
اترك تعليقاً