بحث قانوني محكم عن أحكام النكول عن اليمين في الفقه و النظام السعودي
إعداد
د. عبد العزيز بن صالح الشاوي
الأستاذ المساعد في قسم الفقه بكلية الشريعة وأصول الدين بجامعة القصيم.
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين… وبعد،
فهذا بحث بعنوان ” أحكام النكول عن اليمين في الفقه والنظام” مقدم لوزارة العدل للمشاركة في الندوة العدلية المقامة في منطقة القصيم.
ويتكون البحث من تسعة فصول، حرصت جهدي أن تكون شاملة قدر الامكان للموضوع مع الحرص على الاختصار.
أسأل الله أن يبارك في الجهود، ويسدد الخطا إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الباحث
د. عبد العزيز بن صالح الشاوي
الفصل الأول تعريف النكول في اللغة والاصطلاح
وفيه مبحثان
المبحث الأول تعريف النكول في اللغة
يقال (نَكَلَ) (نَكَلاً) .. وهو الجبن والتأخر، و(نََكَلَ) به (يَنكُلُ) من باب قَتَل (نُكلَة) قبيحة أصابه بنازلة، و(نَكٌلَ) به بالتشديد مبالغة أيضاً والاسم (النٌكال) (1).
وقال ابن فارس : النون والكاف واللام أصل صحيح يدل على منع وإمتناع، وإليه يرجع فروعه (2).
المبحث الثاني تعريف النكول في الاصطلاح
عرف بعض الفقهاء النكول بأنه ” الامتناع عن اليمين” (3)، وعرفه بعضهم بأنه ” التأخر عن اليمين الواجبة” (4).
والتعريف الاصطلاحي الدقيق هو ما ذكره الزرقاء بأنه ” إستنكاف الخصم عن حلف اليمين الموجهة عليه من القاضي” (5).
(1) انظر المصباح المنير للرافعي ص (625). مختار الصحاح للرازي ص (679).
(2) معجم مقاييس اللغة لابن فارس(5/473).
(3) القاموس الفقهي سعدي ابو حبيب ص 362.
(4) البحر الزخار (4/410).
(5) المدخل الفقهي للزرقاء (2/1065).
الفصل الثاني كيفية النكول عن اليمين
نكول المدعى عليه عن اليمين إما أن يكون حقيقة كقوله ” لا أحلف ” أو حكماً كأن يسكت دون أن يكون هناك عارض يمنعه من الحلف مثل الخرس والطرش (1).
وإذا نكل من توجهت إليه اليمين عنها وقال ” لي بينة أقيمها أو حساب استثبته لأحلف على ما اتيقن، فذكر أبو الخطاب من الحنابلة ” أنه لا يمهل وإن لم يحلف جعل ناكلاً ” وقيل لا يكون ذلك نكولاً ويمهل مدة قريبة (2) وحدد صاحب المهذب المدة القريبة بثلاثة أيام (3).
الفصل الثالث نكول المدعى عليه عن اليمين
وفيه أربعة مباحث
المبحث الأول ما يفعله القاضي إذا نكل المدعى عليه عن اليمين
إذا وجه القاضي اليمين الى المدعى عليه فنكل عنها، فقد اختلف العلماء فيما يجب على القاضي فعله على خمسة أقوال :
القول الأول : أن القاضي يقضي على المدعى عليه بالنكول عن اليمين ويلزمه بما ادعاه عليه المدعي.
(1) انظر اللباب في شرح الكتاب للميداني (4/31)، تبصرة الحكام لابن فرحون (1/225)، مغني المحتاج للشربيني (4/478)، المغني لابن قدامة (14/233)”، الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي (6/517).
(2) أنظر المغني لابن قدامة (14/233).
(3) انظر الام للشافعي (7/39)، المهذب للشيرازي (2/301)، مغني المحتاج للشربيني(4/479).
وهذا قول الحنفيه (1) ورواية عن الإمام احمد وهي المذهب (2).
وبه قال عثمان (3) وأبو موسى الأشعري وإبن عباس وإبن عمر وإسحاق في أحد قوليه (4) وشريح في قول له (5).
القول الثاني : يرد القاضي اليمين إلى المدعي، فيستحق الدعوى بيمينه لا نكول خصمه.
وبهذا قال المالكية (6) والشافعية (7) ورواية عن الإمام احمد اختارها أبو الخطاب (8).
وهو قول عمر، وعلي، والمقداد بن الأسود، وأبي إبن كعب، وزيد بن ثابت (9).
وبه قال ابن سيرين، وسوار بن عبد الله، وعبيد الله بن الحسن، وأبي عبيد، وأحد قولي إسحاق، وهو قول لابن أبي ليلى (10)، وقال به الشعيبي، والنخعي (11) والاوزاعي (12)، وأبو ثور (13) وهو مروي عن شريح (14).
(1) انظر بدائع الصنائع للكاساني (6/230). اللباب في شرح الكتاب للميداني (4/30)، البناية في شرح الهداية للعيني (8/401).
(2) انظر المغني لابن قدامة (14/233)، الفروع لابن مفلح (6/476)، الإنصاف للمرداوي (11/254).
(3) انظر المحلى لابن حزم (9/373)، الطرق الحكمية لابن القيم (ص 129).
(4) انظر المحلى لابن حزم (9/373).
(5) انظر المحلى لابن حزم (9/373)، الطرق الحكمية لابن القيم (129).
(6) انظر الاستذكار لابن عبد البر (22″/71)، شرح الخرشي عن مختصر خليل (7/241). الذخيرة للقرافي (11/76)، بداية المجتهد لابن رشد (2/472).
(7) انظر المهذب للشيرازي (2/318)، الحاوي للماوردي (21/150)، روضة الطالبين للنووي (12/47)، مغني المحتاج للشربيني (4/477).
(8) انظر الفروع لابن مفلح (6/477)، المغني لابن قدامة (14/233)، الإنصاف للمرداوي (11/254).
(9) انظر المحلي لابن حزم (9/376)، الطرق الحكمية لابن القيم (ص 129).
(10) انظر المحلى لابن حزم (9/377).
(11) انظر المغني لابن قدامة (14/233).
(12) انظر الطرق الحكمية لابن القيم (ص 127).
(13) انظر المحلى لابن حزم (9/377).
(14) انظر المحلى لابن حزم (9/377).
القول الثالث : أن القاضي يحبس (1) المدعى عليه حتى يجيب بإقرار أو إنكار يحلف معه.
وهذا قول في مذهب الحنابلة (2) وبه قال الظاهرية (3).
وهو مروي عن ابن أبي ليلى (4)، حيث قال ” لا أدعه حتى يقر أو يحلف (5)”.
القول الرابع : إذا كان المدعي متهماًَ (6) ردت عليه اليمين، وإن لم يكن متهماً قضي له بنكول خصمه.
وهذا القول محكي عن إبن أبي ليلى (7)، وقال إبن القيم :” وله حظ من الفقه” (8).
القول الخامس : إذا كان المدعي ينفرد وحده بالعلم بالشيء المدعى به فللقاضي رد اليمين عليه (9)، وإن كان المدعى عليه هو العالم وحده بالشيء المدعى به (10) فيحكم عليه بالنكول ولا ترد اليمين على المدعي.
وبهذا قال شيخ الإسلام إبن تيمية (11) وقال إبن القيم ” هو الحق” (12).
الأدلة : –
أدلة القول الأول : استدل أصحاب هذا القول القائلون بأن القاضي يقضي على المدعى عليه بالنكول عن اليمين ويلزمه بما ادعاه عليه المدعي بالأدلة التالية : –
(1) وله أن يضربه – أنظر الطرق الحكمية لابن القيم (ص 130).
(2) انظر الفروع لابن مفلح (6/477)، الإنصاف للمرداوي (11/254)، الطرق الحكمية لابن القيم (ص 128).
(3) انظر المحلى لابن حزم (9/372 – 373).
(4) انظر المحلى لابن حزم (9/377)، الذخيرة للقرافي(11/76)، الطرق الحكمية لابن القيم (ص 128).
(5) انظر الطرق الحكمية لابن القيم(ص 128)، المغني لابن قدامه (14/234).
(6) انظر معنى التهمة – الموسوعة الفقهية الكويتية (14/90).
(7) انظر المحلى لابن حزم (9/377)، بداية المجتهد لابن رشد (2/472).
(8) انظر الطرق الحكمية لابن القيم (ص 134).
(9) كالدعوى على ورثة ميت حقاً عليه يتعلق بتركته.
(10)كأن يدعي الورثة أو الوصي على غريم للميت فينكر، فلا يحلف المدعي.
(11)انظر الفروع (6/477). الطرق الحكمية لابن القيم (ص 116)، الإنصاف (11/255).
(12)الطرق الحكمية لابن القيم (ص 133).
أولاً : – قوله تعالى ( إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة) (1).
وجه الدلالة : – حيث منع الله سبحانه من أن يستحق أحد بيمينه على غيره حقاً فلا ترد اليمين لئلا يستحق بيمينه مال غيره (2)
ونوقش : – بأن الآية تصف اليمين الكاذبة التي يقتطع بها المرء مال أخيه ظلماً وعدواناً، وأما إذا كان صادقاً فلا إثم ولا حرج في يمينه واستحقاقه بها، مثله في ذلك مثل المدعى عليه فإن كان كاذباً فقد ارتكب كبيرة، وإن كان صادقاً فلا حرج فيها لحفظ ماله (3).
ثانياً : – عن إبن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) (4).
وجه الدلالة : – حيث حصر الرسول صلى الله عليه وسلم جنس اليمين في جانب المدعى عليه، فلم تشرع في غيره، فلا ترد اليمين على المدعي (5).
ونوقش : – بأن دعوى حصر اليمين في جانب المدعى عليه فيها نظر، فقد ثبتت اليمين للمدعي في حالات متعددة، قبل فيها الشارع قول الشخص مع يمينه، كالأمين إذا ادعى التلف أو الرد وكذا المودع والوصي (6).
ثالثاً : – قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ( البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه) (7).
وجه الدلالة : – حيث جعل الرسول – صلى الله عليه وسلم – جنس اليمين في جنبة المدعى عليه، كما جعل جنس البينة في جنبة المدعي، فقسم بينهما،
(1) سورة آل عمران آية (77).
(2) انظر الذخيرة للقرافي (11/78)، والفروق للقرافي (4/93).
(3) انظر الذخيرة للقرافي (11/78).
(4) أخرجه مسلم في كتاب الاقضية – باب اليمين على المدعى عليه (3/1336) حديث رقم (1711).
(5) انظر تبيين الحقائق للزيلعي (4/294)، بداية المجتهد لابن رشد (2/472)، المغني لابن قدامة (14/234).
(6) انظر الكافي لابن قدامة (2/380).
(7) اخرجه الترمذي في كتاب الأحكام، باب (ما جاء في البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) (3/616) رقم (1341)، والدار قطني (4/218)، رقم (53) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
– وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى كتاب (الدعوى والبينات) باب (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) (10/252) من حديث ابن عباس.
– وصححه الألباني في الارواء (8/279).
والقسمة تنافي الشركة، ولما لم يجز نقل حجة المدعي إلى جهة المدعى عليه، ولم يجز أيضاً نقل حجة المدعى عليه إلى جهة المدعي (1).
ونوقش : – بأن الحديث وارد فيمن يتوجه عليه اليمين ابتداء، وهذا ما يقول به من يرى رد اليمين، وأما ما نحن فيه فلم يتعرض له الحديث والمنكر قد يقيم البينة إذا ادعى وفاء الدين فتقبل. فكذلك اليمين قد توجه إلى المدعي عند نكول المدعى عليه فتقبل (2).
رابعاً : – حديث وائل بن حجر عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم – قال للحضرمي حين أنكره الكندي : ألك بينة؟ قال : لا. قال : فلك يمينه، قال : يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شيء. فقال : ليس لك منه إلا ذلك. (3).
وجه الدلالة : – أن النبي صلى الله عليه وسلم – بين له أن حقه في أحد أمرين:- بينته أو يمين خصمه، فدل على أن لا حق له في يمين نفسه، وبالتالي يحكم على المدعى عليه بالنكول (4).
ونوقش : – بأن الخصم كان باذلاً لليمين، وليس للطالب مع بذل اليمين إلا اليمين. وفي مسألتنا هذه – الخصم ناكل عن اليمين فترد إلى المدعي (5).
خامساً : – حديث ابن عمر أنه باع زيد ابن ثابت عبداً فادعى عليه زيد أنه باعه إياه عالماً بعيبه، فأنكره ابن عمر فتحاكما إلى عثمان – رضي الله عنه – فقال عثمان لابن عمر : أحلف أنك ما علمت به عيباً، فأبى ابن عمر أن يحلف، فرد عليه العبد (6).
(1) انظر بدائع الصنائع للكاساني (6/225)، البناية في شرح الهداية للعيني (8/401)، الذخيرة للقرافي (11/78)،الحاوي للماوردي (21/151)، المغني لابن قدامة (14/234).
(2) انظر الذخيرة للقرافي (11/79).
(3) اخرجه مسلم في كتاب (الايمان) باب (وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فأجره النار) (1/123) رقم (139).
(4) انظر الحاوي للماوردي (21/151).
(5) انظر الذخيرة للقرافي (11/79)، الحاوي للماوردي (21/156).
(6) قال الألباني في الارواء (8/263). ولم أره في مسند احمد، فالظاهر أنه في غيره من كتب الإمام وقد صححه الألباني انظر المصدر السابق.
وجه الدلالة : – حيث قضى عثمان على عبد الله بن عمر بالنكول، ولم ينكر عليه ذلك، وهذا يدل على مشروعيه القضاء بالنكول، وعدم رد اليمين إلى المدعي (1).
ونوقش : – بأن الرواية الثانية عن ابن عمر أنه إمتنع عن اليمين وارتجع العبد (2) فدل هذا على أنه اختار أن يرتجع العبد فرده إليه عثمان برضاه، وبهذا لا يمكن نسبة القضاء بالنكول لعثمان، وإذا كانت الروايتان قد تعارضتا ولا مرجح لاحدهما، فإنه يسقط الاستدلال بهما (3).
سادساً : – روى المغيرة عن الحارث قال : نكل رجل عند شريح عن اليمين فقضى شريح عليه، فقال الرجل : أنا أحلف، فقال شريح : قد مضى قضائي (4).
وروى ابن جريج عن ابن أبي مليكه عن ابن عباس أنه أمره أن يستحلف إمراة فأبت أن تحلف فألزمها ذلك (5).
وجه الدلالة : – إن مثل هذه القضايا لا تخفى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل أنه أنكرها منكر، فيكون إجماعاً منهم على جواز القضاء بالنكول (6).
ونوقش من وجهين : –
الأول : – أن هذا الاستدلال بالإجماع السكوتي، فقد اختلف في حجيته(7).
الثاني : – أنه قد ورد عن عدد من الصحابة القول برد اليمين وهو يخالف دعوى الإجماع السكوتي.
(1) انظر المغني لابن قدامة (14/234).
(2) اخرج هذه الرواية مالك في الموطأ كتاب (البيوع) باب (العيب في الرقيق) (2/613)، والبيهقي في السنن الكبرى كتاب (البيوع) باب (بيع البراءة) (5/328).
– وعبد الرزاق في مصنفه (8/163) وصححه الألباني في الارواء (8/264).
(3) انظر المحلى لابن حزم (9/376).
(4) و (5) أخرج الروايتين ابن أبي شعيبة في مصنفه (4/429).
(6)انظر بدائع الصنائع للكاساني (6/230).
(7)انظر شرح الكوكب المنير لابن النجار (2/255).
سابعاً : – أنه ظهر صدق المدعي في دعواه عند نكول المدعى عليه فيقضى له كما لو أقام البينة. ودلالة الوصف أن المانع من ظهور الصدق في خبره إنكار المدعى عليه، وقد عارضه النكول، لأنه لو كان صادقاً في إنكاره لما نكل، فزال المانع للتعارض، وظهر صدق المدعي في دعواه (1).
ونوقش : – بأن النكول يحتمل التورع عن اليمين الصادقة كما فعل عثمان – رضي الله عنه- ويحتمل الإحجام عن اليمين الكاذبة، ويحتمل الاشتباه والشك في ثبوت المدعى به، ومع هذه الاحتمالات لا يبقى النكول حجة ودليلاً للحكم، فيحلف المدعي ليكون دليلاً في الدعوى (2).
ثامناً : – أنها بينة في المال، فحكم فيها بالنكول كما لو مات من لا وارث له، فوجد الإمام في دفتره ديناً له على إنسان فطالبه به، فأنكره، وطلب منه اليمين فأنكره، فإنه لا خلاف أن اليمين لا ترد (3).
ويناقش : – بوجود الفارق، حيث أن ما ذكر لا علم للإمام به فكيف يحلف، وأما ما يمكن علم المدعي به فلا مانع من أن توجه إليه اليمين.
تاسعاً : – أن البينة موضوعة للإثبات، واليمين موضوعة للنفي، فلما لم يجز أن يعدل بالبينة إلى النفي، لم يجز أن يعدل باليمين إلى الإثبات (4).
ونوقش : – بأن البينة مستعملة في الإثبات دون النفي، فلم تنقل إلى جنبة المدعى عليه، لأنه ينفي بها ولا يثبت، واليمين مستعملة في النفي والإثبات جميعاً، فجاز نقلها عن المدعى عليه إذا لم ينف بها، إلى المدعي ليثبت بها (5).
عاشراً : – أن اليمين قول المدعي، فوجب أن لا يلزم به حكم كالدعوى (6).
ونوقش : – بأن اليمين حجة تخالف القول، كما أن يمين المدعى عليه تخالف الإنكار، وإن لم يكن الإنكار حجة، فصارت يمين المدعي حجة، وإن لم تكن دعواه حجة (7).
الحادي عشر : – أن المدعي رجح دعواه بقوله، فلم يقض فيه، كتكرير الدعوى (8).
(1) انظر بدائع الصنائع للكاساني (6/230)، معين الحكام للطرابلسي (ص 96).
(2) انظر بدائع الصنائع للكاساني (6/230)، مغني المحتاج للشربيني (4/477)، المغني لابن قدامة (14/234).
(3) انظر المغني لابن قدامة (14/234).
(4) انظر الذخيرة للقرافي (11/78)، الحاوي للماوردي (21/151).
(5) انظر الذخيرة للقرافي (11/79)، الحاوي للماوردي (21/156).
(6) (7) (8) أنظر الحاوي للماوردي (21/152).
ونوقش : – بأن تكرار الإنكار لما لم يكن حجة للمدعى عليه، لم يكن تكرار الدعوى حجة للمدعي، ولما كانت اليمين حجة للمدعى عليه، جاز أن تكون حجة للمدعي (1).
أدلة القول الثاني : –
أستدل أصحاب هذا القول القائلون بأن القاضي يرد اليمين إلى المدعي إذا نكل عنها المدعى عليه بالأدلة التالية :
أولاً : – قال تعالى ( ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد إيمان بعد إيمانهم) (2).
وجه الدلالة : – أن الآية نص في رد الايمان بعد الايمان الأولى، ولا يحلف ثانية بعد اليمين إلا برد اليمين، وهو تحويل لليمين من موضع إلى موضع آخر يخالفه، وكذلك اليمين المردودة تحول من المدعى عليه إلى المدعي (3).
ونوقش من وجهين : –
الأول : – أن الآية منسوخ حكمها بآية (ممن ترضون من الشهداء) (4) (5). والمالكية والشافعية لم يقبلوا شهادة الكافر على المسلم مطلقاً في الحضر ولا في السفر، فكيف يستدلون بها هنا في رد اليمين (6).
وأجيب : بأن القول بنسخ حكم الآية مختلف فيه، فقد قال الحسن : حكمها ثابت (7) ونقل عن الإمام احمد أنه يجيز شهادة الكافر في السفر للضرورة إذا لم يوجد من يشهد من المسلمين (8).
الثاني : – إذا سلم بعدم النسخ فإن الآية تفيد رد اليمين من الشاهدين إلى الشاهدين، وهذا يخالف رد اليمين من المدعى عليه إلى المدعي (9).
(1) انظر الحاوي للماوردي (21/156).
(2) سورة المائدة آية (108).
(3) انظر الذخيرة للقرافي (11/76)، الحاوي للماوردي (21/152)، مغنى المحتاج للشربيني (4/477)، المحلى لابن حزم (9/378).
(4) سورة البقرة – الآية (282).
(5) انظر أحكام القرآن لابن العربي (2/731).
(6) انظر المحلى لابن حزم (9/379).
(7) انظر أحكام القرآن لابن العربي (2/731).
(8) انظر أحكام القرآن لابن العربي (2/732).
(9) انظر المحلي لابن حزم (9/379).
وأجيب : – بأن الآية وردت في رد الايمان من جهة إلى جهة، وليس في تحليف الشهود، وأن الحلف على الشهادة في الآية هو اليمين على المدعى عليه، وليس على الشهادة، لأنهم لم يكونوا شهوداً، فالآية دليل على جواز رد اليمين من جهة إلى جهة عند الاتهام والشك في الوقوع في الإثم.
ثانياً : – عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق (1).
وجه الدلالة : – أن الحديث صريح في القضاء برد اليمين على المدعي، وأنه لا يقضى بنكول المدعى عليه عن اليمين..
ونوقش من وجهين : –
الأول : – أن الحديث ضعيف الإسناد فلا يحتج به (2).
الثاني : – أن ابن عمر راوي الحديث قد خالف ما رواه في قصته مع زيد بن ثابت حينما أبى أن يحلف في قضية العبد وحكم عليه بالنكول (3) وهذا يدل على ضعف الحديث (4).
وأجيب على الوجه الثاني بأمرين : –
الأول : – أن الرواية الثانية عن ابن عمر أنه أبى أن يحلف وارتجع العبد (5) أي لم يحكم بنكوله، فلم يخالف روايته، وليست إحدى القصتين أولى من الأخرى.
الثاني : – على فرض التسليم بالمخالفة فإن العبرة بما روى الصحابي لا بما رأى (6).
(1) اخرجه الحاكم في المستدرك (4/113) وصحح إسناده، والدارقطني في سننه (4/213)، والبيهقي في السنن الكبرى في كتاب (الشهادات) باب (النكول ورد اليمين) (10/184).
– وقال ابن حجر في التلخيص (4/230) وفيه محمد بن مسروق لا يعرف وإسحاق بن الفرات مختلف فيه.
(2) انظر المغني لابن قدامة (14/234) وراجع تخريج الحديث.
(3) راجع ص (8).
(4) انظر المغني لابن قدامة (14/234).
(5) راجع ص (9).
(6) انظر فتح الباري لابن حجر (5/423).
ثالثاً : – روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من كانت له طلبة عند أحد فعليه البينة، والمطلوب أولى باليمين، فإن نكل حلف الطالبة وأخذ (1).
فالحديث نص في رد اليمين إلى المدعي عند نكول المدعى عليه.
ونوقش : – بأن الحديث مرسل لا يقوى على الاحتجاج به (2).
رابعاً : – عن سهل بن أبي حثمة أن عبد الله بن سهل الأنصاري ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر، فتفرقا لحاجتهما، فقتل عبد الله بن سهل، فجاء عبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة ابنا مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن اخو المقتول يتكلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر، فتكلما في صاحبهما، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أيحلف منكم خمسون فتستحقون قاتلكم أو صاحبكم؟ فقالوا : يا رسول الله لم نحضر ولم نشهد، فقال صلى الله عليه وسلم : فتبرئكم يهود بإيمان خمسين منهم، فقالوا : يا رسول الله قوم كفار. قال فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله (3).
وجه الدلالة : – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد اليمين ممن وجبت عليه أولاً إلى خصمه عندما رفض الأول أداء اليمين، وهذا يدل على جواز رد اليمين من المدعى عليه إلى المدعي (4).
ونوقش : – بأن الرسول صلى الله عليه وسلم عرض اليمين على المدعين أولاً، واليمين المردودة هي التي تطلب من المدعي بعد نكول المدعى عليه عنها، فجاء الحديث على خلاف الأصل، وما جاء على خلاف الأصل لا يقاس عليه (5).
(1) ذكره ابن حجر في التلخيص (4/231) من رواية عبد الملك بن حبيب في الواضحةوقال ابن حجر : هذا مرسل.
(2) انظر الحاوي للماوردي (21/152)،المحلى لابن حزم (9/،380)، الطرق الحكمية لابن القيم (ص 130).
(3) اخرجه البخاري في كتاب (الأدب) باب (إكرام الكبير ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال) (4/117) رقم (6142) ،ومسلم في كتاب (القسامة والمحاربين والقصاص والديات) باب ( القسامة) (3/1291) رقم (1669).
(4) انظر البناية في شرح الهداية للعيني (8/402)، الاشراف للقاضي عبد الوهاب (2/287)، بداية المجتهد لابن رشد (2/472)، الأم للشافعي (7/39)، المحلى لابن حزم(9/378).
(5) انظر المحلى لابن حزم (9/379). الطرق الحكمية لابن القيم (ص 130).
وأجيب : – بأن اليمين جعلت في جانب المدعي هنا لقوة جانبه باللوث فإذا تقوى جانب المدعي بنكول المدعى عليه شرعت اليمين في حقه (1).
خامساً : – روي أن المقداد استقرض من عثمان سبعة آلاف درهم فلما، تقاضاه قال : إنما هي أربعة آلاف درهم، فخاصمه إلى عمر، فقال المقداد : أحلف أنها سبعة آلاف، فقال عمر رضي الله عنه : أنصفك، فأبى أن يحلف، فقال عمر : خذ ما أعطاك (2).
وجه الدلالة : – أن عمر رضي الله عنه رد اليمين إلى المدعي، وهذا أمر مستفيض في الصحابة، لم يظهر له مخالف فثبت أنه إجماع (3).
ونوقش من وجوه : –
الأول : – أن الأثر ضعيف الإسناد فلا يصح الاحتجاج به.
الثاني : – أن هذا الأثر فيه ذكر الرد من غير نكول المدعى عليه، وهو خارج عن أقاويل الكل، فكان مؤولاً عند الكل (4).
الثالث : – أن المقداد ادعى الإيفاء فأنكر عثمان فتوجهت اليمين عليه فنكل وهذا ما يقول به من يرى القضاء بالنكول، فلا دلالة فيه على اليمين المردودة (5).
وأجيب : – بأن الخلاف على المقدار هل هو سبعة آلاف أم أربعة آلاف وأما ادعاء الإيفاء فلا تصريح فيه، ولا يوجد ما يدل عليه.
سادساً : – عن سليمان بن يسار أن رجلاً من بني سعد بن ثابت أجرى فرساً فوطىء على إصبع رجل من جهينة فتألم منها دهراً ثم مات فتنازعوا إلى عمر رضي الله عنه – فقال للمدعى عليهم : أتحلفون خمسين يميناً أنه ما مات منها، فأبوا، فقال للمدعين أحلفوا أنتم فأبوا (6).
وجه الدلالة : – أن هذه قضية مشهورة في رد اليمين إلى المدعي لم يظهر فيها مخالف (7).
(1) انظر الطرق الحكمية لابن القيم (ص 130).
(2) اخرجه البيهقي في السنن الكبرى كتاب (الشهادات) باب (النكول ورد اليمين) (10/184). وقال : إسناده صحيح إلا أنه منقطع، وضعفه الألباني في الارواء (8/268).
(3) انظر الذخيرة للقرافي (11/77)،الحاوي للماوردي (21/153).
(4) (5) انظر بدائع الصنائع للكاساني (6/230).
(6)اخرجه مالك في الموطأ كتاب (العقول) باب (دية الخطأ في القتل) (2/851)، والبيهقي في السنن الكبرى كتاب (الشهادات) باب (النكول ورد اليمين) (10/183).
(7)انظر الحاوي للماوردي (21/153).
ويناقش من وجهين : –
الأول : – أن هذا إستناد إلى حجية الإجماع السكوتي، وهو مختلف فيه (1) كيف وقد ورد عن عدد من الصحابة الخلاف في ذلك (2).
الثاني : – أن عمر رضي الله عنه جعل اليمين على الجهنيينحتى يستحقوا ما ادعوه فلما أبو الحلف ردها إلى الليثيين ليبرؤا من الدعوى، فهذا تحويل يمين من موضع قد رئيت فيه إلى الموضع الذي يخالفه فدل على أنه لا يحكم بمجرد النكول عن اليمين بل لا بد من رد اليمين.
سابعاً : – روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : المدعى عليه أولى باليمين فإن نكل حلف صاحب الحق وأخذه (3).
وروي عنه أيضاً أنه قال : اليمين مع الشاهد فإن لم يكن له بينة فاليمين على المدعى عليه إذا كان قد خالطه، فإن نكل حلف المدعي (4).
و هذان القولان عن علي – رضي الله عنه – صريحان في رد اليمين على المدعي وعدم الحكم بالنكول.
ويناقش من وجهين : –
الأول : – أن إسناد الأثر الأول فيه فقال فلا يقوى على الاحتجاج به.
الثاني : – أن هذا اجتهاد من علي – رضي الله عنه – وقد ورد ما يخالفه من الصحابة، وليس قول بعضهم أولى من بعض.
ثامناً : – أن اليمين في الأصول توجه إلى أقوى المتداعيين سبباً، وفي هذا الموضع أقواهما سبباً هو المدعي، لأنه قوى سببه بنكول المدعى عليه فوجبت اليمين من جهته (5).
تاسعاً : – أن يمين المدعى عليه حجة له في النفي، كما أن بينة المدعي حجة له في الإثبات فلما كان ترك المدعي بحجته موجباً للعدول إلى يمين المدعى عليه، وجب أن يكون ترك المدعى عليه لحجته – وهي اليمين – موجباً للعدول إلى يمين المدعي (6).
(1) راجع ص (9).
(2) راجع ص (9).
(3)اخرجه الدارقطني في سننه (4/214) وفي إسناده (حسين بن عبد الله بن ضميرة).
– كذبه مالك، وقال أبو حاتم : متروك كذاب، وقال احمد : لا يساوي شيئاً. وقال ابن معين وليس بثقة ولا مأمون.وقال البخاري : منكر الحديث: ، اأنظر التعليق المغني على الدارقطني (43/214).
(4)اخرجه البيهقي في السنن الكبرى كتاب (الشهادات”) باب (النكول ورد اليمين) (10/184).
(5)انظر بدائع الصنائع للكاساني (6/230)، الاشراف للقاضي عبد الوهاب (2/287)، الحاوي للماوردي (21/155-156)، المغني لابن قدامة (14/234).
(6)انظر الحاوي للماوردي (21/155).
عاشراً : – أن النكول كما يحتمل أن يكون تحرزاً عن اليمين الكاذبة يحتمل أن يكون تورعاً عن اليمين الصادقة، فلا يقضى به مع التردد، فترد اليمين إلى المدعي (1).
أدلة القول الثالث : –
أستدل أصحاب هذا القول القائلون بأن القاضي يحبس المدعى عليه إذا نكل حتى يجيب بإقرار أو إنكار يحلف معه، بالأدلة التالية : –
– ذكر بن حزم أن اليمين لا ترد إلا في ثلاثة مواضع لا رابع لها أحدها القسامة والثاني الوصية في السفر إذا لم يشهد عليها إلا الكفار، والثالث إذا أقام شاهداً واحداً حلف معه (2).
قال وإن إمتنع المدعى عليه عن اليمين أجبر عليها بالأدب، لان اليمين واجبة عليه فإن لم يقر ولم يحلف فإنه ممتنع عن الواجب، وارتكب منكراً بيقين فوجب تغييره باليد بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن من رأى منكم منكراً فليغيره بيده (3) وذلك بالضرب أبداً حتى يحييه الحق من إقراره أو يمينه أو يقتله الحق من تغيير ما أعلن به من المنكر ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه (4).
ونوقش من وجوه : –
الأول : – أن الأدلة قد ثبتت برد اليمين على طالب الحق، والقضاء بالنكول أدلته لها حظ من النظر (5).
الثاني : – أنه لم يرد قرآن ولا سنة بحبس المدعى عليه بعد نكوله، ولا بضربه وتعذيبه، فإما أن يحكم عليه بالنكول، أو ترد اليمين إلى المدعي.
الثالث : – أن المدعى عليه قد يكون معذوراً في نكوله، غير آثم به، بأن يدعي أنه أ أقرضه ويكون قد وفاه، ولا يرضى منه إلا بالجواب على وفق الدعوى، وقد يتحرج من الحلف مخافة موافقة قضاء وقدر كما روي عن جماعة من السلف (6) فلا يجوز أن يحبس حتى يحلف (7).
(1) انظر بدائع الصنائع للكاساني (6/230)، مغني المحتاج للشربيني (4/477)،المغني لابن قدامة (14/234).
(2) انظر المحلى لابن حزم (9/373).
(3) اخرجه مسلم في كتاب (الايمان) باب (بيان كون النهي عن المنكر من الايمان…) (1/69). رقم (49).
(4) انظر المحلى لابن حزم (9/383).
(5) راجع ص (6،11) .
(6) انظر السنن الكبرى للبيهقي (10/177).
(7) انظر الطرق الحكمية لابن القيم (ص 133).
الرابع : – قوله إن هذا منكر يجب تغييره باليد، فيه نظر فإن تورعه عن اليمين ليس منكراً، بل قد يكون واجباً أومستحباً أو جائزاًَ وقد يكون معصية (1).
أدلة القول الرابع : –
أستدل أصحاب هذا القول القائلون بأن المدعي إن كان متهماً ردت عليه اليمين، وإن لم يكن متهماً قضي له بنكول خصمه.
بقولهم : – إن المدعي إذا لم يكن متهمًا غلب على الظن صدقه، فإذا نكل خصمه قوى ظن صدقه فلم يحتج إلى اليمين، وأما إذا كان متهماً لم يبق معنا إلا مجرد النكول فقويناه برد اليمين عليه (2).
ويناقش : – بأن هذا مجرد استحسان، وهو مختلف في حجيته (3).
أدلة القول الخامس : –
استدل أصحاب هذا القول القائلون بأن المدعي إذا انفرد وحده بالعلم بالشيء المدعى به فللقاضي رد اليمين عليه، وإن كان المدعى عليه هو العالم وحده بالشيء المدعى به فيحكم عليه بالنكول ولا ترد اليمين إلى المدعي.
بقولهم : – إن الصحابة – رضي الله عنهم – حكموا بالرد على النكول في موضع، وبالنكول وحده في موضع، وهذا من كمال فهمهم وعلمهم بالجامع والفارق والحكم والمناسبات.
– فعثمان بن عفان – رضي الله عنه – قال لابن عمر: أحلف بالله لقد بعت العبد وما به داء علمته فأبى فحكم عليه بالنكول ولم يرد اليمين في هذه الصورة على المدعي، لان هذا مما لا يمكن أن يعلمه المدعي، ويمكن المدعى عليه معرفته، فإذا لم يحلف المدعى عليه لم يكلف المدعي اليمين.
– وأما أثر عمر بن الخطاب، وقوله للمقداد : أحلف أنها سبعة آلاف فأبى أن يحلف فلم يحكم له بنكول عثمان.
فوجهه : – أن المقرض إن كان عالماً بصدق نفسه وصحة دعواه حلف وأخذه وإن لم يعلم ذلك لم يحل له الدعوى بما لا يعلم صحته، فإذا نكل عن اليمين لم يقض له بمجرد نكول خصمه، فقد لا يكون عالماً بصحة دعواه، فإذا قال للمدعي: إن كنت عالماًُ بصحة دعواك فأحلف وخذ، فقد أنصفه جد الإنصاف (4).
(1) انظر الطرق الحكمية (ص 133 – 134).
(2) انظر الطرق الحكمية لابن القيم (ص 134).
(3) انظر شرح الكوكب المنير لابن النجار (4/430).
(4) انظر الطرق الحكمية لابن القيم (ص 132 – 133).
واستدلوا بعدم استحلاف من لا يعلم بقوله – صلى الله عليه وسلم – لا تضطروا الناس في أيمانهم أن يحلفوا على ما لا يعلمون (1).
ويناقش : – بأن الحديث ضعيف لا يقوى على الاحتجاج به.
الترجيح : –
وبعد عرض الأقوال فيما يفعله القاضي إذا نكل المدعى عليه عن اليمين، وأدلة كل قول وما أورد عليها من مناقشات يتبين أن الراجح – والله أعلم – هو القول الخامس القائل بأن المدعي إذا انفرد وحده بالعلم بالشيء المدعى به فللقاضي رد اليمين عليه، وإن كان المدعى عليه هو العالم وحده بالشيء المدعى به فيحكم عليه بالنكول ولا ترد اليمين إلى المدعي (2).
– وبهذا تجتمع الأدلة، وأما إن كان كل من المدعي أو المدعى عليه يمكنه معرفة الشيء المدعى به فيتوجه القول برد اليمين على المدعي عند نكول المدعى عليه حيث أن ذلك حكم بالنكول وزيادة والله أعلم.
المبحث الثاني اشتراط إذن المدعى عليه في الرد.
اختلف القائلون برد اليمين على المدعي إذا نكل المدعى عليه، هل ترد بمجرد نكول المدعى عليه، أم لا ترد حتى يأذن في ذلك على قولين:
القول الأول : – أنه يشترط إذن الناكل في رد اليمين.
وهذا قول عند الحنابلة، قال به أبو الخطاب (3)، قال ابن قدامة: يقول له : لك رد اليمين على المدعي فإن ردها حلف وقضى له (4).
القول الثاني : – أنه لا يشترط إذن الناكل في الرد، فيرد القاضي اليمين بمجرد الحكم بالنكول.
وبه قال الشافعية (5)، وقول للحنابلة قال المرداوي : وهو ظاهر كلام الإمام احمد رحمه الله (6).
(1) اخرجه عبد الرازق في مصنفه (8/494) رقم (16030) عن القاسم بن عبد الرحمن مرسلاً وضعفه الألباني في الارواء (8/308) رقم (2688).
(2) إن كان المدعي يدعي العلم والمنكر يدعي العلم فهنا يتوجه القولان فإن حلف حكم له وإن نكل صرفهما القاضي، أنظر الفروع لابن مفلح(6/477)، الانصاف للمرداوي (11/255).
(3) انظر الإنصاف للمرداوي (11/257-258).
(4) انظر المغني لابن قدامة (14/235).
(5) انظر روضة الطالبين للنووي (12/43)، مغني المحتاج للشربيني (4/478).
(6) انظر الإنصاف للمرداوي (11/258).
الأدلة : –
دليل القول الأول : –
– أستدل أصحاب هذا القول القائلون باشتراط إذن المدعى عليه في الرد بقولهم : إن اليمين من جهته، وهو أحق بها من المدعي، ولا تنقل عنه إلى المدعي إلا بإذنه (1).
ويناقش : – بأن المدعى عليه أحق باليمين بأن تعرض عليه أولاً، فإذا رفضها سقط حقه فلا يشترط إذنه بالرد.
دليل القول الثاني : –
– أستدل أصحاب هذا القول القائلون بعدم اشتراط إذن الناكل في رد اليمين إلى المدعي بقولهم :
إنه لما رغب عن اليمين انتقلت إلى المدعي، لأنه برغبته ونكوله عنها مع تمكنه من الحلف، صار راضياً بيمين المدعي، فجرى ذلك مجرى إذنه (2).
الترجيح : –
الراجح والله أعلم هو القول الثاني بأنه لا يشترط إذن الناكل في رد اليمين إلى المدعي وذلك لقوة دليل هذا القول، وضعف دليل القول الآخر بما أورد عليه من مناقشة.
المبحث الثالث
تكرار العرض على المدعى عليه قبل رد اليمين أو الحكم بنكوله.
تعرض اليمين على المدعى عليه مرة واحدة (3)، واستحب الفقهاء عرض اليمين عليه ثلاث مرات سواء قيل برد اليمين أو الحكم بنكوله (4).
واستدلوا لذلك بالآتي : –
أولاً : – أن ذلك لإعلامه بالحكم المترتب على نكوله – سواء رد اليمين أو الحكم بالنكول – إذ الحكم موضع خفاء عند البعض (5).
(1) انظر الطرق الحكمية لابن القيم (ص 137).
(2) انظر الطرق الحكمية لابن القيم (ص 136).
(3) انظر اللباب في شرح الكتاب للميداني (4/30)، الفروع لابن مفلح (6/476)، الإنصاف للمرداوي (12/257).
(4) انظر البناية في شرح الهداية للعيني (8/406)، روضة الطالبين للنووي (12/44)، المغني لابن قدامة (14/235)، الإنصاف للمرداوي (12/257).
(5) انظر بدائع الصنائع للكاساني (6/230)، اللباب في شرح الكتاب للميداني (4/30).
– عند الخصاف من الحنفية أن العرض ثلاثاً شرط للقضاء بالنكول “أنظر البناية في شرح الهداية للعيني (8/407)”.
ثانياً: – أن ذلك لزيادة الاحتياط، والمبالغة في العذر، لان المدعى عليه ربما تلحقه مهابة مجلس القضاء في المرة الأولى (1).
المبحث الرابع ضوابط النكول المعتبر للحكم به
لا يصح الحكم بنكول المدعى عليه عن اليمين عند من يقول به حتى تتحقق فيه الضوابط التالية:-
الضابط الأول: –
أن تكون اليمين الموجهة إلى المدعى عليه قد استوفت شروطها الشرعية (2).
الضابط الثاني: –
أن يكون النكول أمام القاضي في مجلس الحكم.
جاء في نتائج الأفكار تكملة فتح القدير (3) ” ولا بد أن يكون النكول في مجلس القضاء” (4). لان الاعتبار باليمين القاطعة للخصومة، ولا يعتد باليمين عند غير القاضي في حق الخصومة، والنكول مبني على اليمين فلا يصح في غير مجلس القضاء (5).
الضابط الثالث:-
أن يكون النكول صادراً من المدعى عليه مباشرة دون وكيله أو إخبار وكيله عنه لان اليمين لا تدخلها النيابة، ولا يحلف أحدهم عن غيره، والنكول مبني على اليمين (6).
الضابط الرابع: –
أن يكرر العرض على المدعى عليه قبل الحكم بنكوله.
وقد سبق تفصيل ذلك في المبحث الثالث من هذا الفصل (7).
(1) انظر بدائع الصنائع للكاساني (6/230).
(2) انظر روضة الطالبين للنووي (12/31-43)،المغني لابن قدامة (14/222-235).
(3) لقاضي زادة (8/180).
(4) انظر المبسوط للسرخسي (18/153).
(5) انظر نتائج الأفكار تكملة شرح فتح القدير لقاضي زادة (8/180).
(6) انظر المغني لابن قدامة (14/233).
(7) راجع ص (19).
الضابط الخامس:
ألا يكون للناكل عذر معتد به في النكول عن اليمين.
وقد سبق بيان ذلك في الفصل الثاني (1).
الفصل الرابع نكول المدعي عن اليمين بعد ردها إليه.
إذا توقف المدعي عن الحلف بعد رد اليمين إليه دون أن يكون له عذر فقد اتفق الفقهاء القائلون برد اليمين على الحكم بنكوله، وسقوط الدعوى (2) ولا يحكم بنكوله حتى يسأله القاضي عن سبب توقفه عن اليمين، فإن ذكر أنه متوقف عن اليمين ليرجع إلى حسابه، ويستظهر لنفسه، أنظر بها، وكان على حقه في اليمين ولا تضيق عليه المدة (3).
ودليل سقوط الدعوى بنكوله: –
أن اليمين حق له، ينبني عليها ثبوت المدعى به، فإذا أسقطها سقطت دعواه (4).
الفصل الخامس
تحديد مفهوم القضاء باليمين المردودة.
إذا ردت اليمين على المدعي فكيف يكون تكييفها ؟
اختلف القائلون برد اليمين على المدعي في هذه المسألة على قولين :
القول الأول: – أن يمين المدعي تكون كالبينة.
وهذا قول للشافعية (5)، وقول عند الحنابلة (6).
القول الثاني: – أن يمين المدعي تكون كإقرار المدعى عليه.
(1) راجع (ص 4).
(2) انظر شرح الخرشي على مختصر خليل (7/241)، الذخيرة للقرافي (11/76)، المهذب للشيرازي (2/301)،الحاوي للماوردي (21/144)، الفروع لابن مفلح (6/477)، الإنصاف للمرداوي (11/258).
(3) انظر المهذب للشيرازي (2/301)، المغني لابن قدامة (14/235).
(4) انظر الحاوي للماوردي (21/144)، المغني لابن قدامة (14/235).
(5) انظر المهذب للشيرازي (2/301)، روضة الطالبين للنووي (12/45).
(6) انظر الإنصاف للمرداوي (11/255).
وهذا أظهر القولين عند الشافعية (1) وقول الحنابلة (2).
الأدلة: –
دليل القول الأول: –
أستدل من قال: إن يمين المدعي كالبينة
بقولهم: لأنها حجة من جهة المدعي (3).
دليل القول الثاني: –
أستدل من قال: إن يمين المدعي كإقرار المدعى عليه.
بقولهم: إن النكول صادر من جهة المدعى عليه، ويمين المدعي مبنية على نكول المدعى عليه تُوصل بها إلى الحق، فأشبه إقرار المدعى عليه (4).
ويناقش : – بأن نكول المدعى عليه مع تمكنه من اليمين دليل على صحة دعوى المدعي، وبيان أنها حق، فإذا ردت اليمين وحلف المدعي ازداد الامر وضوحاً فكان كالبينة.
وينبني على الخلاف في المسألة أنه لو أقام المدعى عليه بينة بالأداء بعد ما حلف المدعي، فإن قيل: يمين المدعي كالبينة سمعت بينة المدعى عليه، وإن قيل: يمين المدعي كإقرار المدعى عليه لم تسمع بينة المدعى عليه لكونها مكذبة لإقراره (5).
الراجح : – هو القول الأول أن اليمين المردودة كالبينة وليست كإقرار المدعى عليه وذلك لقوة دليل هذا القول وضعف دليل القول الثاني بما أورد عليه من مناقشة.
الفصل السادس تحديد مفهوم القضاء بالنكول.
اختلف القائلون بالقضاء على المدعى عليه عند نكوله عن اليمين، في تحديد مفهوم النكول على أقوال:
القول الأول: – أن النكول بذل (6).
(1) انظر المهذب للشيرازي (2/301)، روضة الطالبين للنووي (12/45).
(2) انظر الإنصاف للمرداوي (11/255).
(3) انظر المهذب للشيرازي (2/301).
(4) انظر المهذب للشيرازي (2/301)، مغني المحتاج للشربيني (4/478).
(5) انظر مغني المحتاج للشربيني (4/478) ،الطرق الحكمية لابن القيم (ص 134).
(6) ومعناه: ترك المنازعة والإعراض عنها وإباحة المال والتبرع به في سبيل قطع الخصومة بدفع ما يدعيه الخصم، أنظر الفقه الإسلامي وأدلته د. وهبة الزحيلي (6/518).
وبهذا قال الإمام أبو حنيفة – رحمة الله – (1)، وهو وجه عند الحنابلة (2).
القول الثاني: – أن النكول إقرار بالحق.
وهذا قول صاحبي أبي حنيفة: أبي يوسف ومحمد بن الحسن (3) وهو وجه عند الحنابلة (4).
القول الثالث: – أن النكول يقوم مقام الشاهد والبينة لا مقام الإقرار ولا البذل.
وهذا قول عند الحنابلة (5) واختاره ابن القيم (6).
الأدلة: –
دليل القول الأول: –
استدل من قال إن نكول المدعى عليه بذل
بقولهم: إننا لو اعتبرناه إقراراً فإنه يكون كاذباً في إنكاره، والكذب حرام، فيفسق بالنكول بعد الإنكار، وهذا باطل، فجعلناه بذلاً وإباحة، صيانة له عما يقدح في عدالته، ويجعله كاذباً (7).
ونوقش: – بأن البذل إباحة وتبرع، وهو لم يقصد ذلك، ولم يخطر على قلبه وقد يكون المدعي مريضاً مرض الموت، فلو كان النكول بذلاً وإباحة أعتبر خروج المدعى به من الثلث (8).
دليل القول الثاني: –
استدل من قال إن نكول المدعى عليه إقرار بالحق
بقولهم: – إن الناكل كالممتنع من اليمين الكاذبة ظاهراً، فيصير معترفاً بالمدعى به، لأنه لما نكل – مع إمكان تخلصه باليمين – دل نكوله على أنه لو حلف لكان كاذباً وهو دليل اعترافه (9).
ونوقش من وجوه: –
الأول: – أن الناكل قد صرح بالإنكار وأنه لا يستحق المدعى به، وهو مصر على ذلك، متورع عن اليمين، فكيف يقال : أنه مقر مع إصراره على الإنكار، ويجعل مكذباً لنفسه ؟ (10).
(1)انظر بدائع الصنائع للكاساني (6/227).
(2) انظر الإنصاف للمرداوي (11/256).
(3)انظر بدائع الصنائع للكاساني (6/227).
(4)انظر تقرير القواعد لابن رجب (2/459)، الإنصاف للمرداوي (11/256).
(5)انظر كشاف القناع للبهوتي (6/339).
(6)انظر الطرق الحكمية لابن القيم (ص 135).
(7)انظر الطرق الحكمية لابن القيم (ص 135).
(8)انظر المصدر السابق (ص 136).
(9)انظر المصدر السابق (ص 135).
(10)انظر المصدر السابق (ص 136).
الثاني: – أنه لو كان مقراً لم تسمع منه بينة نكوله بالإبراء والأداء، فإنه يكون مكذباً
لنفسه (1).
الثالث : – أن الإقرار إخبار وشهادة للمرء على نفسه، فكيف يجعل مقراً شاهداً على نفسه بسكوته (2).
دليل القول الثالث : –
استدل من قال إن النكول يقوم مقام الشاهد والبينة.
بقولهم : – إن البينة اسم لما يبين الحق، ونكوله – مع تمكنه من اليمين الصادقة التي يبرأ بها من المدعى عليه به ويتخلص بها من خصمه – دليل ظاهر على صحة دعوى خصمه وبيان أنها حق، فقام مقام شاهد القرائن (3).
ونوقش : – بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – أجرى السكوت مجرى الإقرار والبذل في حق البكر إذا استؤذنت (4) (5).
وأجيب : – بأن هذا ليس نكولاً، إنما هو دليل على الرضاء بما استؤذنت فيه، لأنها تستحي من الكلام، ويلحقها العار لكلامها الدال على طلبها، فنزل سكوتها منزلة رضاها للضرورة.
وههنا المدعى عليه لا يستحي من الكلام، ولا عار عليه فيه فلا يشبه البكر (6).
الترجيح : –
الراجح بعد ما سبق هو القول الثالث أن النكول يقوم مقام الشاهد والبينة وذلك لقوة دليل هذا القول، وورود المناقشة على أدلة القولين الآخرين والله أعلم.
ومن ثمرة الخلاف بين القول الأول والثاني أن الصبي المأذون له بالتجارة هل يحلف أم لا ؟.
فعند أبي حنيفة : لا يحلف، لأنه لو نكل كان باذلاً، وهو ليس من أهل البذل، وعند الصاحبين يحلف، لان النكول إقرار وهو من أهل الإقرار (7).
(1)(2) انظر المصدر السابق (ص 136).
(3)انظر المصدر السابق (ص 136).
(4)عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” البكر تستأذن، قلت إن البكر تستحي؟ قال : إذنها صماتها” أخرجه البخاري في كتاب (الحيل) باب (النكاح) (4/291) رقم (6971).
(5)انظر الطرق الحكمية لابن القيم (ص 136).
(6)انظر المصدر السابق ص (136).
(7)انظر الفقه الإسلامي وأدلته د. وهبة الزحيلي (6/518).
ومن ثمرة الخلاف عند الحنابلة إذا أدعى نكاح إمراة واستحلفت فنكلت، فهل يقضى عليها بالنكول، وتجعل زوجته ؟.
إذا قيل : هو إقرار حكم عليها بذلك، وإن قيل هو بذل لم يحكم بذلك، لان الزوجية لا تستباح بالبذل (1).
الفصل السابع الأحوال التي يجوز فيها رد اليمين على المدعي عند القائلين به.
اختلف العلماء القائلون برد اليمين على المدعي إذا نكل المدعى عليه في الأحوال التي يجوز فيها الرد على قولين :
القول الأول : – ترد اليمين في المال وما يؤول إليه المال وبهذا قال المالكية (2).
القول الثاني : – أن كل حق سمعت الدعوى فيه وجازت المطالبة به وجبت اليمين على منكره، وردت اليمين بالنكول عنها على مدعيه، سواء أكان الحق مالاً كالعين والدين، أم غير مال من قصاص، أو نكاح، أو طلاق أو عتق أو نسب.
وبهذا قال الشافعية (3).
الأدلة : –
دليل القول الأول : –
أستدل أصحاب هذا القول على أن اليمين لا ترد إلا في المال وما يؤول إليه المال بقولهم : –
أن الشاهد و المرأتين أقوى من النكول واليمين، لان النكول حجة من غير جهة المدعي، ولأنه لا يحتاج إليها مع المرأتين فإذا ثبت ذلك ثم كان الطلاق والنكاح لا يحكم فيه بالشاهد والمرأتين كان بأن لا يحكم فيه باليمين والنكول أولى (4).
(1)انظر الإنصاف للمرداوي (11/256).
(2) انظر بداية المجتهد لابن رشد (2/472). الأشراف للقاضي عبد الوهاب (2/287). شرح الخرشي على مختصر خليل (7/241).
(3)انظر الحاوي للماوردي (21/157). روضة الطالبين للنووي (12/37-38).
(4)انظر الأشراف للقاضي عبد الوهاب (2/288).
ويناقش من وجهين : –
الأول : – أن العبرة بما تثبت فيه اليمين على المدعى عليه، فهو الذي إذا نكل ردت اليمين على المدعي، وليس العبرة بما تثبت فيه دعوى المدعي إبتداءاً.
الثاني : – أن الحجة في يمين المدعي بعد الرد وليس بنكول المدعى عليه.
أدلة القول الثاني : –
أستدل أصحاب هذا القول القائلون بأن اليمين ترد عن المدعي عند نكول المدعى عليه في كل حق سمعت فيه الدعوى، ووجبت اليمين على المنكر بالأدلة التالية :-
الأول: – ما روى ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :” البينة على المدعي، واليمين على من أنكر” (1).
وجه الدلالة: – أن قوله – صلى الله عليه وسلم – ” واليمين على من أنكر” عام يشمل كل ما سمعت فيه الدعوى، فترد اليمين على المدعي عند نكول المدعى عليه (2).
الثاني : – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أحلف ركانة حين طلق امرأته البتة، وأنه أراد بالبتة واحدة (3) (4) .
وجه الدلالة: – حيث أحلف النبي – صلى الله عليه وسلم – ركانة في أمر الطلاق، وليس هو بمال، وإذا صح الحلف في غير المال صح رد اليمين عند نكول المدعى عليه.
ويناقش: – بأن الحديث ضعيف ولا يقوى على الاحتجاج به.
الثالث: – أن كل دعوى لزمت الإجابة عنها وجبت اليمين فيها، وردت اليمين بالنكول عنها على المدعي كالقصاص (5).
الترجيح: – الراجح بعد عرض الأدلة والمناقشة هو القول الثاني
أن اليمين ترد على المدعي عند نكول المدعى عليه في كل حق سمع فيه الدعوى، وتجب اليمين على المنكر، لقوة أدلته وضعف دليل أصحاب القول الأول بما أورد عليه من مناقشة.
(1) اخرجه البيهقي في السنن الكبرى كتاب (الدعوى والبينات) باب ( البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) (10/252) وصححه الألباني في الارواء (8/307) رقم (2685).
(2) انظر الحاوي للماوردي (21/158).
(3) اخرجه أبو داود في كتاب (الطلاق) باب في (البتة) (2/263) رقم (2208). والترمذي في كتاب (الطلاق واللعان) باب ( ما جاء في الرجل يطلق امرأته البتة) (3/471) رقم (1177). وابن ماجه في كتاب (الطلاق) باب (طلاق البتة) (1/661) رقم (2051) . وضعفه الألباني في الارواء (7/139) رقم (2063).
(4) انظر الحاوي للماوردي (21/158).
(5) انظر المصدر السابق.
الفصل الثامن الأحوال التي يجوز فيها القضاء بالنكول عند القائلين به.
اختلف العلماء القائلون بالقضاء على المدعى عليه إذا نكل في الأحوال التي يجوز فيها القضاء بالنكول على ثلاثة أقوال :
القول الأول : – أنه يقضى بالنكول في المال وما يقصد منه المال.
وهذا قول للحنابلة (1)، قال المردواي : ” هذا المذهب” (2).
القول الثاني : – أنه يقضى بالنكول في كل ما يصح فيه البذل والإباحة كالأموال وقصاص الأطراف.
وهذا قول أبي حنيفة رحمة الله (3).
القول الثالث : – أنه يقضى بالنكول في كل ما تصح فيه اليمين سواء أكان مالاً أم غيره.
وهذا قول صاحبي أبي حنيفة (4)، وهو رواية عن الامام احمد (5).
الأدلة : –
دليل القول الأول : –
استدل أصحاب هذا القول القائلون بأنه يقضى بالنكول في المال وما يقصد منه المال بقولهم : –
إن النكول مبني على الاستحلاف ولا يستحلف المنكر إلا فيما كان مالاً او المقصود منه المال (6) .
ويناقش : – بأن هذا غير مسلم إذ يصح الاستحلاف في غير ذلك.
دليل القول الثاني : – استدل أصحاب هذا القول القائلون بأنه يقضى بالنكول في كل ما يصح فيه البذل والإباحة بقولهم : –
إن النكول يعتبر بذلاً وإباحة فلا يقضى بالنكول عن اليمين إلا فيما يصح فيه البذل والإباحة، ولذا لا يقضى بالنكول في النكاح والطلاق والرجعة والفيئة في الايلاء، ودعوى الرق، والاستيلاد والنسب و الولاء والقذف ولا تجب فيه اليمين على المنكر (7).
(1) انظر المغني لابن قدامة (12/235)، الإنصاف للمرداوي (12/112).
(2) انظر الإنصاف (12/112).
(3) انظر بدائع الصنائع للكاساني (6/230).
(4) انظر المصدر السابق.,
(5) انظر المغني لابن قدامة (12/235)،الإنصاف للمرداوي (12/112).
(6) انظر حاشية الروض المربع لابن قاسم (7/627).
(7) انظر بدائع الصنائع للكاساني (6/230)، الحاوي للماوردي (21/157).
وقد سبق مناقشة ذلك في تحديد مفهوم النكول (1).
أدلة القول الثالث : –
استدل أصحاب هذا القول القائلون بأنه يقضى بالنكول في كل ما تصح فيه اليمين سواء أكان مالاً أم غيره – بالدليلين التاليين : –
الدليل الأول : – أن النكول مبني على توجيه اليمين فكل ما توجهت فيه اليمين إلى المدعى عليه ونكل عنها حكم عليه بالنكول.
الدليل الثاني : – أن النكول يعتبر إقراراً والإقرار يجري في المال وفي غيره.
وقد سبق مناقشة ذلك في تحديد مفهوم النكول (2).
الترجيح : – الراجح بعدما سبق هو القول الثالث أنه يقضى بالنكول في كل ما تصح فيه اليمين سواء أكان مالاً أم غيره لقوة أدلة هذا القول في الجملة، وضعف أدلة القولين الآخرين بما أورد عليها من مناقشة.
الفصل التاسع التطبيقات النظامية للنكول عن اليمين
جاء في المادة الثامنة بعد المائة من نظام المرافعات الشرعية الصادر عام 1421هـ ما نصه :
” لا تكون اليمين ولا النكول عنها إلا أمام قاضي الدعوى في مجلس القضاء، ولا اعتبار لهما خارجه ما لم يوجد نص يخالف ذلك”.
إنعبارة ” لا تكون اليمين ولا النكول عنها إلا أمام قاضي الدعوى في مجلس الحكم” مطابقة تماماً لما ورد في الضابط الثاني من ضوابط النكول المعتبرة للحكم به الواردة في هذا البحث (3).
وقوله ” ما لم يوجد نص يخالف ذلك ” وهذا النص هو المادة العاشرة بعد المائة من هذا النظام.
وجاء في المادة التاسعة بعد المائة من نظام المرافعات الشرعية ما نصه :
” من دعي للحضور للمحكمة لأداء اليمين وجب عليه الحضور، فإن حضر وامتنع دون أن ينازع من وجهت إليه اليمين لا في جوازها ولا في تعلقها بالدعوى وجب عليه إن كان حاضراً بنفسه – أن يحلفها فوراً أو يردها على خصمه، وإن تخلف بغير عذر عد ناكلاً كذلك “.
(1) (2) راجع ص (22)
(3) راجع ص (20).
قوله ” أو يردها على خصمه” يفهم منه أنه لا ترد اليمين إلى المدعي عند نكول المدعى عليه إلا بإذنه، وقد سبق عرض الأقوال في هذه المسألة في المبحث الثاني من الفصل الثالث (1). وتبين أن القول الراجح هو عدم اشتراط إذن المدعى عليه الناكل في رد اليمين.
كما يفهم من هذا النص ترجيح القول برد اليمين على المدعي عند نكول المدعى عليه ولا يحكم عليه بمجرد نكوله. وقد سبق في المبحث الأول من الفصل الثالث (2) ذكر الخلاف في هذه المسألة وترجح أن اليمين ترد على المدعي إذا انفرد بالعلم، ولا ترد عليه إذا انفرد المدعى عليه بالعلم بل يلزم باليمين أو يحكم عليه بالنكول، وإذا كان كل من المدعي والمدعى عليه يمكن علمه بالشيء المدعى به فيترجح القول برد اليمين على المدعي عند نكول المدعى عليه.
وجاء في اللائحة التنفيذية (3) للمادة التاسعة بعد المائة في الفقرة الأولى منها:
109/1 – “لا يعد الممتنع عن أداء اليمين ناكلاً حتى ينذر ثلاث مرات ويدون ذلك في الضبط”.
يفهم من هذا أن الإنذار ثلاث مرات شرط للحكم بالنكول، وقد سبق في المبحث الثالث من الفصل الثالث أن تكرار العرض للاستحباب وليس للوجوب (4).
وفي الفقرة الثالثة من اللائحة التنفيذية للمادة التاسعة بعد المائة:
109/3 –” للقاضي إمهال من توجهت عليه اليمين عند الاقتضاء”.
وهذا يؤكده ما ورد في الفصل الثاني من هذا البحث (5)، وذكر كذلك في الضابط الخامس من ضوابط النكول المعتبر للحكم (6).
هذه هي المواد الواردة في نظام المرافعات الشرعية، واللائحة التنفيذية لها والمرتبطة بنكول المدعى عليه عن اليمين ومقارنة ذلك بما ورد في هذا البحث والله الموفق.
(1)راجع (ص 19).
(2) راجع ص (4).
(3)صدرت بتاريخ 3/6/1423هـ.
(4)راجع (ص 19).
(5)راجع (ص 4).
(6)راجع (ص 21).
اترك تعليقاً