بحث ودراسة قانونية حول العيوب الموجبة لفسخ عقد النكاح
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعـد:
فهذا بحث موجز عن العيوب الموجبة لفسخ عقد النكاح وهوموضوع مهم
وتظهر أهميته من خلال الأمرين الآتيين:
1- أن هذا من الموضوعات العملية التي تقع في المجتمع كثيراً ولاسيماً مع كثرة الأمراض المعدية، فهو من الموضوعات التي تشغل المحاكم كثيراً.
2- أن هناك أمراضاً قد ظهرت في العصر الحاضر وتؤثر في العلاقة الزوجية بشكل مباشر وتؤثر في النسل الذي هو من أهم مقاصد النكاح، مثل «الإيدز»، وغيرها من الأمراض التناسلية والجنسية التي ستأتي ذكرها في طيات هذا البحث.
ونظراً لهذه الأهمية الكبيرة أخترت الكتابة فيه.
ومنهج البحث يتلخص في العناصر الآتية:
1- الرجوع إلى المذاهب الأربعة والمذهب الظاهري والمقارنة بين آرائها.
2- الحرص على ذكر آراء الصحابة والتابعين.
3- الحرص على ذكر الدليل والمناقشة إن وجد.
4- تخريج الأحاديث النبوية الشريفة من مظانها والحكم عليها ما لم يكن في الصحيحين أو أحدهما.
5- الترجيح بعد ذكر الأدلة والمناقشات مع ذكر أسبابه.
6- ترجمة الأعلام إلا المشهورين جداً مثل الخلفاء الأربعة -رضي الله عنهم-، والأئمة الأربعة -رحمهم الله تعالى-، ونحوهم.
7- عزو الآيات إلى سورها وذكر رقمها.
8- الرجوع إلى الكتب الأصلية للمذاهب ونقل أرائها من كتبها المعتمدة.
هذا وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
المطلب الأول: تعــريــف العـيـب
ويشتمل على فرعين:
الفرع الأول: تعريف العيب لغة:
العيب لغة الوصمة، والرداءة، وهي ما يخلو عنه أصل الفطرة السليمة مما يعد به ناقصاً، وجمعه عيوب[1].
الفرع الثاني: تعريف العيب اصطلاحاً:
للعيب في اصطلاح الفقهاء تعريفات عديدة، والسبب في ذلك اختلاف مجالات العيوب في الشرع بحسب نوع العقد الذي يبحث فيه، فالعقد قد يكون بيعاً وقد يكون نكاحاً، فيتخلف بناء على ذلك تعريف العيب، فقد عرف العيب في النكاح بأكثر من تعريف منها:
التعريف الأول:
ما يخل بمقصود النكاح الأصلي كالتنفير عن الوطء وكسر الشهوة[2].
ويؤخذ على هذا التعريف أنه أعم مما يريده الفقهاء في هذا المجال، فالتنفير وكسر الشهوة يشملان عدم جمال أحد الزوجين مثلاً، وهو ليس من العيوب الموجبة لفسخ عقد النكاح باتفاق العلماء.
التعريف الثاني:
وعرفه بعض الفقهاء المعاصرين بأنه: «نقصان بدني أو عقلي في أحد الزوجين يجعل الحياة الزوجية غير مثمرة أو قلقة لاستقرار فيها[3].
التعريف المختار:
ويمكن تعريفه بأنه: «وصف بدني أو عقلي مذموم اقتضى العرف سلامة الزوجين منه غالباً، يمنع من تحصيل مقاصد النكاح والتمتع بالحياة الزوجية».
وبناء على ما سبق من ذكر تعريفات العلماء يمكن القول أن العيوب في باب النكاح خاصة بالنقائص الخَلقية في أحد الزوجين، وإن كانت كلمة العيوب عامة تشمل غيرها من النقائض المالية والخُلقية والعَقَدِية من الكفر والردة، فلا تشمل كلمة العيوب في باب النكاح عند الفقهاء تلك النقائص وإن كان يفسخ بها عقد النكاح. فالفقهاء يفرقون بين النقائص الخَلقية والعقلية، فيسمونها عيبوبا في باب النكاح، وبين الأسباب الأخرى للفسخ مثل الإعسار بالنفقة وبالمهر، والردة ونحو ذلك فلا يسمونها عيوبا، وإن كانت هذه الأسباب نقائض يصح أن تسمى عيوبا لغة[4].
المطلب الثاني: تعريف الموجب
الموجب اسم فاعل من وجب، والوجوب في اللغة اللزوم والاستحقاق والسقوط[5].
ولفظ الموجب وإن كان يوحي باللزوم، إلا أن المراد به هنا ليس اللزوم، بل المراد بالموجب هنا ما يستحق به أحد الزوجين طلب التفريق بينهما على وجه الخيار لا على وجه اللزوم والوجوب، وإطلاق مثل هذا التعبير شائع عند الفقهاء.
المطلب الثالث: تعريف الفسخ والفرق بينه وبين الطلاق
ويشتمل على ثلاثة فروع:
الفرع الأول: تعريف الفسخ لغة:
يطلق الفسخ في اللغة على عدة معان، منها النقض والرفع والقطع والإزالة، يقال: فسخ العقد نقضه، ورفعه.
الفرع الثاني: تعريف الفسخ اصطلاحاً:
لا يخرج الاستعمال الفقهي لكلمة الفسخ عن مدلولها اللغوي عند الفقهاء وعلى ذلك عرفه ابن نجيم[6] بأنه «حل رابطة العقد»[7]، وعرفه الكاساني[8] بقوله: «فسخ العقد رفعه من الأصل وجعله كأن لم يكن»[9].
الفرع الثاني: الفرق بين الفسخ والطلاق:
يختلف الفسخ عن الطلاق من عدة وجوه:
1- من حيث الأسباب:
الطلاق لا يكون إلا في العقد الصحيح، فالصحة شرط فيه؛ لأن الطلاق أثر من آثار الزواج الصحيح، وهو من الحقوق التي يملكها الزوج على زوجته بموجب عقد صحيح.
وأما الفسخ فسببه إما حالات طارئة على العقد تمنع بقاء النكاح واستمراره، أو وجود حالات يتصل بإنشاء العقد، وهذا يعتبر نقضا للعقد من أصله بخلاف الأول فإنه لا يعتبر نقضا للعقد[10].
2- من حيث الآثـار:
أ- أن الفسخ لاينقص عدد الطلقات التي يملكها الزوج، فلو فسخ مرة ثم جدد العقد ثم فسخ ثانياً وهكذا، لم تحرم عليه الحرمة الكبرى، بخلاف ما إذا طلق ثلاثا فإنها تحرم عليه حرمة كبرى ولا تحل له إلا أن تنكح زوجا غيره[11].
ب- أن في حالة الفسخ لا توارث بين الزوجين، بخلاف الطلاق، فإنهما يتوارثان مادامت في عصمته[12].
ج- أن الفرقة التي تكون طلاقا، إذا حصلت قبل الدخول، فللمرأة نصف المهر المسمى، وإن لم يكن هناك مهر مسمى استحقت المتعة، وأما الفرقة التي تكون فسخا إذا حصلت قبل الدخول فلا شيء لها من المهر[13].
المطلب الرابع: تـعـريـف الـعـقـــد
ويشتمل على فرعين:
الفرع الأول: تعريف العقد لغـةً:
العقد في اللغة يطلق على عدة معان، ومنها: الشد والربط والإحكام والتوثيق والعهد[14].
الفرع الثاني: تعريف العقد اصطلاحاً:
«إرتباط إيجاب بقبول على وجه مشروع يثبت أثره في محله»[15].
المطلب الخامس: تـعــريـف الـنـكاح
ويشتمل على فرعين:
الفرع الأول: تعريف النكاح لغة:
النكاح في اللغة الضم والجمع والوطء والتداخل[16]، قال الأزهري: «أصل النكاح في كلام العرب الوطء وقيل للتزوج النكاح؛ لأنه سبب للوطء المباح»[17].
الفرع الثاني: تعريف النكاح اصطلاحاً:
عرفه الحنفية بأنه: «عقد يرد على تمليك منفعة البضع قصداً»[18]، وعُرِّف عندهم أيضاً بأنه: «هو عقد وضع لتملك المتعة بالأنثى قصداً»[19]، وقولهم «قصداً» أرادوا به التحرز من شراء الأمة، فإنه وإن أفاد تملك المتعة، ولكنه ليس بالنكاح؛ لأن إفادته ملك المتعة جاء تبعاً لا قصداً، إذ المقصود منه ملك الرقبة[20].
ولغير الحنفية أيضاً عبارات متعددة في تعريف النكاح وهي قريبة من تعريف الحنفية ومنها:
تعريف الشافعية أنه: «عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ إنكاح أو تزويج أو ترجمته»[21].
وتعريف الحنابلة: «عقد يعتبر فيه لفظ إنكاح أوتزويج»[22].
وهذه التعريفات متقاربة المعاني وإن اختلفت في الألفاظ.
المبحث الأول: مشروعية فسخ عقد النكاح بالعيب
إن عقد النكاح من عقود المعاوضات، ومن شروط لزوم عقود المعاوضات خلو المعقود عليه من العيوب، فهل يشترط هذا الشرط كذلك في عقد النكاح؟ وإذا كان أحد الزوجين فيه عيباً فهل يحق للآخر أن يطالب بفسخ العقد، أو أن هذا الحق لا يثبت في عقد النكاح؟
وإذا قلنا بثبوت هذا الحق في عقد النكاح فهل يثبت في حق الزوجين أو يثبت ذلك في حق الزوجة فقط دون الزوج لما يملك من حق الطلاق؟ وهذا السؤالان يشكلان مطلبين في هذا المبحث، وهما:
المطلب الأول: الخلاف في مشروعية فسخ عقد النكاح بالعيب.
المطلب الثاني: الخلاف في ثبوت ذلك في حق الزوج.
المطللب الأول: الخلاف في مشروعية فسخ عقد النكاح بالعيوب
لأهل العلم في مشروعية فسخ عقد النكاح بالعيوب قولان:
القول الأول: جواز فسخ عقد النكاح بالعيوب، وإلى هذا ذهب علماء المذاهب الأربع، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وابنه[23]، وعثمان بن عفان، وعبدالله بن مسعود[24]، وغيرهم من الصحابة -رضي الله عنهم-، وهو قول جابر[25] بن زيد ، وإسحاق[26]، وغيرهم من العلماء[27].
ثم إن القائلين بهذا القول اختلفوا في تفاصيل ذلك وفي تعيين العيوب التي يفسخ بها عقد النكاح، وستأتي تفاصيل ذلك في المباحث والمطالب القادمة بإذن الله تعالى.
القول الثاني: عدم جواز فسخ عقد النكاح بالعيب مطلقا إذا كان النكاح قد تم بعقد صحيح، وإلى هذا ذهب الظاهرية، وهو منقول عن النخعي[28]، والثوري[29]، وهو ظاهر قول الشوكاني[30] من المتأخرين[31].
قال ابن حزم[32] -رحمه الله تعالى-: «ومن تزوج امرأة فلم يقدر على وطئها مرة أو مرارا أو لم يطأها قط، فلا يجوز للحاكم ولا غيره أن يفرق بينهما أصلا، ولا أن يؤجل له أجلا وهي امرأته إن شاء طلق وإن شاء أمسك»[33].
الأدلـة:
استدل الجمهور لقولهم بأدلة من الكتاب والسنة والأثر والمعقول:
أ- من الكتاب:
قول الله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}[34].
وجه الاستدلال: أن الله تعالى أمر بإمساك الزوجة بمعروف أو تركها وطلاقها بإحسان، فاستبقاء الزوجة على قيد عقد النكاح مع تضررها بالعيوب الموجودة لدى الزوج التي لا تتحقق معها مقاصد النكاح ليس من الإمساك بالمعروف، فتعين التسريح بالإحسان إذا فعل الزوج ذلك، وإذا لم يفعل فيقوم القاضي مقامه في ذلك[35].
ب- من السنـة:
1- ما رواه الإمام أحمد في مسنده أن رسول الله تزوج امرأة من بني غفار فلما دخل عليها ووضع ثوبه وقعد على الفراش فأبصر بكشحها بياضا فانحاز عن الفراش، ثم قال: «خذي عليك ثيابك، ولم يأخذ مما آتاها شيئا»، وفي رواية: «ألحقي بأهلك»، وفي رواية أخرى: فلما أدخلت رأى بكشحها وضحا فردها إلى أهلها، وقال: «دلستم علي»[36].
وجه الاستدلال: أن فسخ عقد النكاح بالعيب مشروع؛ لأن النبي ردها للعيب، وهو البياض الذي كان في جنبها[37].
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: من ناحية السند، وهو أن الحديث ضعيف لا تقوم به الحجة[38].
والثاني: على فرض صحة الحديث فإنه يحتمل أن النبي طلقها، والطلاق مشروع[39].
وأجيب عن الوجه الثاني للمناقشة بأنه خلاف الظاهر؛ لأن نقل الحكم مع السبب يقتضي تعلق الحكم بالسبب، كتعلق الحكم بالعلة، والطلاق لا يتعلق بالعيب[40].
2- ما رواه عكرمة[41] عن ابن عباس[42] -رضي الله عنهما- قال: نكح عبد يزيد أبو ركانة[43]، امرأة من مزينة[44]، فجاءت إلى النبي فأخذت شعرة من رأسها وقالت: إن يزيد لا يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة، ففرق بيني وبينه، فأخذت رسول الله حمية… الحديث، وفيه أن النبي قال: «طلقها» ففعل[45].
وجه الاستدلال: أن النبي فرق عبد يزيد وبين زوجته بناء على طلبها بسبب العيب وهو عدم تمكنه من جماعها، فدل الحديث على مشروعية فسخ النكاح بالعيب.
ونوقش هذا الاستدلال بأن الحديث ضعيف لا تقوم به الحجة، قال ابن حزم -رحمه الله- في ذلك: «أما الخبر فضعيف لأنه عمن لم يسم ولا عرف من بني أبي رافع، فهو لا يصح، وأيضاً فإن عبد يزيد لم تكن لـه قط صحبة ولا إسلام وإنما الصحبة لركانة فسقط التمويه به»[46].
وأجاب ابن القيم[47] -رحمه الله- عن هذه المناقشة بقولـه: «ولا علة لهذا الحديث إلا رواية ابن جريج[48] لـه عن بعض بني أبي رافع وهو مجهول، ولكن هو تابعي، وابن جريج من الأئمة الثقات العدول، ورواية العدل عن غيره تعديل لـه ما لم يعلم فيه جرح، ولم يكن الكذب ظاهرا في التابعين، ولاسيما التابعين من أهل المدينة، ولاسيما موالي رسول الله ، ولاسيما مثل هذه السنة التي تشتد حاجة الناس إليها، لا يظن بابن جريج أنه حملها عن كذاب ولا عن غير ثقة عنده، ولم يبين حاله»[49].
3- قوله : «فر من المجزوم كما تفر من الأسد»[50].
وجه الاستدلال: أن الرسول أمرنا بالفرار من المجذوم كما يفر أحدنا من الأسد، فإذا أصيب به أحد الزوجين فلا سبيل للفرار منه إلا بفسخ عقد النكاح؛ لأن لو لزم البقاء في قيد عقد النكاح لما أمر بالفرار، فدل على أن الجذام عيب يفسخ به عقد النكاح[51].
ونوقش هذا الاستدلال بأن الفرار يتحقق بالفسخ كما يتحقق بالطلاق أيضاً فينبغي أن يحمل عليه لأنه الأصل[52].
ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة، بأن الطلاق يصلح طريقاً للفرار بالنسبة للزوج، فماذا تفعل الزوجة؟ ثم إن الطلاق لـه تبعات مالية لا ينبغي أن يتحملها الزوج في هذه الحالة.
4- قوله : «لا ضرر ولا ضرار»[53].
وجه الاستدلال: أن لإبقاء النكاح مع وجود العيب في أحد الزوجين ضرر على السليم منهما، فقد نفي الرسول الضرر، فيفسخ عقد النكاح لنفي الضرر[54].
ج- من الأثـر:
ما رواه الإمام مالك وغيره عن سعيد[55] بن المسيب عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال: «أيما امرأة غر بها رجل بها جنون أو جذام أو برص فلها مهرها بما أصاب منها، وصداق الرجل على من غره»[56].
وفي لفظ آخر: «قضى عمر في البرصاء والجذماء والمجنونة إذا دخل بها، فرق بينهما، والصداق لها بمسه إياها، وهو له على وليها»[57].
وجه الاستدلال: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حكم بالتفريق بالعيوب المذكورة وهو صريح، يدل على مشروعية الفسخ بالعيب[58].
ونوقش: بأنه قول صحابي، وقول صحابي ليس بحجة[59].
ويمكن أن يجاب بأنه على فرض التسليم بأن قول الصحابي ليس بحجة، أن مثل هذا الحكم لا يكون إلا عن طريق التوقيف.
د – من المعقـول:
1- أن وجود العيب في أحد الزوجين إذا كان يمنع المقصود من عقد النكاح فاستبقاء العقد يلزم منه تضرر أحد الزوجين إذا لم يرد البقاء مع المعيب، فتجب إزالة الضرر بفسخ عقد النكاح[60].
2- قياس فسخ عقد النكاح بالعيب على فسخ عقد البيع به، بجامع فوات المقصود في الكل، فكما أن البيع يفسخ بالعيب بسبب نقص المالية في أحد العوضين، فكذلك النكاح، بل إن عقد النكاح أولى بالفسخ، لكونه قد آكد في الوفاء بالشروط فيه[61].
واستدل القائلون بعدم جواز الفسخ بالعيوب بأدلة من الكتاب والسنة والمعقول:
أ – من الكتـاب:
أن كل نكاح صح بكلمة الله عز وجل وسنة رسوله فقد حرم الله تعالى بشرتها وفرجها على كل من سواه فمن فرق بينهما بغير قرآن أو سنة ثابتة فقد دخل في صفة الذين ذمهم الله تعالى بقوله: {فيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}[62].
ويناقش هذا الاستدلال بأنه مجرد مطالبة بدليل، وقد سبق ذكر الأدلة على ذلك.
وأما استدلالهم بالآية فليس في محله؛ لأن الآية الكريمة جاءت في التفريق بالسحر للعداوة وغير ذلك.
ب- من السنـة:
ما جاء من رواية عروة[63] بن الزبير عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- «أن مطلقة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله ، فقالت: يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي، وإني نكحت عبدالرحمن[64] بن الزبير، وأنه والله ما معه إلا مثل هذه الهدبة، وأخذت بهدبة من جلبابها فتبسم رسول الله ضاحكاً وقال: «لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك»[65].
وجه الاستدلال: أن النبي لم يفرق بين عبدالرحمن بن الزبير وزوجته التي اشتكت إلى النبي عنته، وهذا يدل على عدم مشروعية التفريق بالعيب[66].
ونوقش هذا الاستدلال بأنه خارج عن محل النـزاع؛ لأن المرأة المذكورة كانت تريد أن ترجع إلى زوجها الأول بعد أن نكحت زوجا غيره، فبين النبي لها أنها لا تحل لزوجها الأول بمجرد العقد، بل لابد من من أن يطأها الزوج الثاني لتحل للزوج الأول، وهي لم تشك العنة، بل أرادت الرجوع إلى الزوج الأول[67].
ج- من المعقـول:
أن عقد النكاح إما أن يجري مجرى عقود المعاوضات كالبيوع، فيجب أن يفسخ بكل عيب، وإما أن يجري مجرى عقود الهبات والصلات فيجب أن لا يفسخ بعيب، وفي إجماع العلماء على أنه لا يفسخ بكل عيب، دليل على أنه لا يفسخ بشيء من العيوب[68].
ونوقش بأن عقد النكاح أقرب إلى عقود البيوع؛ لأنه عقد معاوضة، ولكن يختلف عن البيوع بأن جميع العيوب تؤثر في نقصان الثمن فيفسخ بكل عيب مؤثر في ذلك، وفي عقد النكاح لا يؤثر جميع العيوب في نقصان الاستمتاع فلا يفسخ بكل عيب، بل بالعيوب التي تؤثر في نقصان الاستمتاع[69].
الترجيح:
ولعل الراجح -والله تعالى أعلم- هو القول بجواز فسخ عقد النكاح بالعيب، لقوة أدلة هذا القول، وضعف أدلة القول المخالف وعدم ثبوتها أمام المناقشة.
________________________________________
[1] ينظر: الصحاح الجوهري 1/190، وتهذيب لأسماء اللغات للنووي 2/53.
[2] حاشية القليوبي 2/197.
[3] أحكام الأسرة في الإسلام للشبلي ص587.
[4] ينظر: بدائع الصنائع للكاساني 2/476، وبداية المجتهد 2/58، والحاوي الكبير 9/329، والمغني 10/57.
[5] ينظر: مختار الصحاح ص/625.
[6] هو: زين الدين بن إبراهيم بن محمد الشهير بابن نجيم، فقيه حنفي مصري، توفي سنة (970هـ)، ومن مؤلفاته: البحر الرائق شرح كنز الدقائق، والأشباه والنظائر، والفوائد الزينية في فقه الحنفية. ينظر: الأعلام للزركلي 3/104، ومعجم المؤلفين، كحالة 4/192.
[7] الأشباه والنظائر بشرح الحموي 3/442.
[8] هو: علاء الدين أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني، ينسب إلى كاسان بلدة في تركستان، وهومن أهل حلب، توفي بها سنة (587هـ) من أئمة الحنفية، يلقب بملك العلماء، ومن مؤلفاته: بدائع الصنائع شرح تحفة الفقهاء، والسلطان المبين في أصول الدين. ينظر: الأعلام للزركلي2/70، ومعجم المؤلفين، لكحالة 3/75.
[9] بدائع الصنائع 2/436.
[10] ينظر: بدائع الصنائع 2/436، والأم 5/105، ومغني المحتاج 3/279، والفقه المقارن للأحوال الشخصية لبدران أبو العينين ص296.
[11] ينظر: قوانين الأحكام الفقهية لابن جزي ص/140.
[12] ينظر: المرجع السابق.
[13] ينظر: بدائع الصنائع 2/436.
[14] ينظر: المصباح المنير 2/502، ومختار الصحاح ص391.
[15] مجلة الأحكام العدلية مادة رقم/ 103.
[16] ينظر: لسان العرب لابن منظور 2/625، والصحاح للجوهري 1/413.
[17] الصحاح للجوهري 1/413.
[18] التعريفات للجرجاني ص/246.
[19] فتح القدير 3/186.
[20] ينظر: المرجعان السابقان، وتبيين الحقائق 2/94.
[21] مغني المحتاج 3/123.
[22] الروض المربع ص378.
[23] هو: عبدالله بن عمر بن الخطاب، أبو عبدالرحمن العدوي القرشي، صاحب رسول الله أفتى ستين سنة وكف بصره في آخر حياته، وهو أحد المكثرين من الحديث عن رسول الله مات سنة (73هـ). ينظر: أسد الغابة 3/236، وسير أعلام النبلاء 3/203.
[24] هو: عبدالله بن مسعود من غافل بن حبيب الهذلي، أبو عبدالرحمن، أسلم قديماً وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً والمشاهد بعدها، ولازم النبي وحدث عنه أحاديث كثيرة وتوفي سنة
(33هـ). ينظر: الإصابة 2/360.
[25] هو: جابر بن زيد الأزدي البصري، أصله من عمان، تابعي فقيه من الأئمة صحب ابن عباس
-رضي الله عنهما-، وكان من بحور العلم، توفي عام (712هـ. ينظر: تذكرة الحفاظ 1/67، والأعلام 2/104.
[26] هو: الحافظ الإمام إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحفظي المروزي يعرف بابن راهويه ولد سنة
(166هـ) وصنف تصانيف كثيرة لم يصل إلينا عنه شيء قال الإمام أحمد عنه: «لا أعلم في العراق له نظيراً»، توفي سنة (236هـ) وقيل سنة (236هـ). ينظر: تهذيب التهذيب 1/216، وتذكرة الحفاظ 2/433، ووفيات الأعيان 1/199.
[27] ينظر: بدائع الصنائع 2/476، والمبسوط 5/97، وفتح القدير 3/267، وبداية المجتهد 2/58، وحاشية الدسوقي 2/437، والحاوي 9/109 و 338، والمهذب 2/48، والمغني 10/56، وكشاف القناع 5/111، وزاد المعاد 5/181 وما بعدها.
[28] هو: إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي، أحد كبار علماء التابعين، كان فقيه العراق في وقته، مات متخفياً من الحجاج، ولما بلغ الشعبي موته قال: «ما ترك بعده مثله» توفي سنة (96هـ). ينظر: سير أعلام النبلاء 4/520، وطبقات ابن سعد 6/188.
[29] هو: إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان، وأبو ثور لقبه، أصله من كلب من بغداد، كان أحد الأئمة في الفقه والعلم والورع، صاحب الإمام الشافعي، ولد عام (170هـ) وتوفي عام (240هـ). ينظر: تهذيب التهذيب 1/118، وتذكرة الحفاظ 2/512.
[30] هو: محمد بن علي بن محمد بن عبدالله الشوكاني، فقيه مجتهد، من كبار علماء اليمن، من أهل صنعاء، ولد بهجرة شوكان من بلاد خولان باليمن، ونشأ بصنعاء، وولي قضاءها، ومات حاكماً بها سنة (1250هـ) ومن أشهر مؤلفاته: نيل الأوطار، وفتح القدير في التفسير، وإرشاد الفحول في أصول الفقه. ينظر: الأعلام 7/190 و 191.
[31] ينظر: المحلى 10/58، والمغني 10/56، وزاد المعاد 5/182، ونيل الأوطار 6/166.
[32] هو: علي بن أحمد بن سعيد بن مزن الأموي مولاهم، كان ذكياً حافظاً واسع العلم، وهو الذي تولى نشر المذهب الظاهري ودافع عنه، ولـه مؤلفات كثيرة، ومن أشهرها المحلى في الفقه، والأحكام في أصول الفقه، والفصل في الملل والنحل توفي سنة (456هـ). ينظر: شذرات الذهب 3/399، والأعلام 4/254.
[33] المحلى 10/58.
[34] سورة البقرة، الآية رقم 229.
[35] ينظر: بدائع الصنائع 2/447.
[36] أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/493، والبيهقي في سننه 7/214، وفي سنده جميل بن زيد البصري الكائي وقال الشوكاني عنه «وجميل بن زيد المذكور ضعيف وقد اضطرب في هذا الحديث» نيل الأوطار 6/165.
[37] ينظر: الحاوي 9/339.
[38] ينظر: نيل الأوطار 6/165.
[39] ينظر: المرجع السابق 6/165.
[40] ينظر: الحاوي 9/339.
[41] هو: عكرمة بن عبدالله مولى ابن عباس -رضي الله عنهما-، أحد فقهاء التابعين، وهو بربري الأصل، توفي سنة (107هـ). ينظر: سير الأعلام النبلاء 5/12، مشاهير علماء الأمصار
ص/82.
[42] هو: عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عم رسول الله يكنى أبا العباس، ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات، كان يسمى البحر لسعة علمه، ويسمى حبر الأمة وترجمان القرآن، ودعا لـه رسول الله بالفقه في الدين والعلم بالتأويل توفي سنة (68هـ). ينظر: أسد الغابة 3/192، والإصابة 2/320.
[43] هو: ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب، بن عبد مناف القرشي، أسلم عام الفتح، وهو الذي صارع النبي فصرعه النبي قبل إسلامه، نزل المدينة ومات بها في خلافة عثمان . ينظر: أسد الغابة 2/84، وتهذيب التهذيب 3/287.
[44] أخرجه أبو داود في سننه 2/259، برقم (2196)، والحاكم في المستدرك 2/491، والبيهقي في السنن الكبرى 7/339، وهكذا جاء عند أبي داود وغيره، قال الذهبي -رحمه الله تعالى-: «والخبر خطأ، وعبد يزيد لم يدرك الإسلام». تلخيص المستدرك بذيل المستدرك 2/491، وقال أيضاً: «وهذا لا يصح، والمعروف أن صاحب القصة ركانه»، التجريد 2/360، وعلى هذا فصاحب القصة هو ركانة وليس أباه، والحديث قد اختلف فيه فضعفه ابن حزم -رحمه الله تعالى-، والذهبي، ويرى آخرون أنه صالح للاحتجاج به كما يرى ابن القيم -رحمه الله تعالى- وقال العلامة الألباني -رحمه الله تعالى-: «وهذا الإسناد وإن كان فيه ضعفاً لجهالة البعض من بني رافع أو ضعفه لكنه قد توبع»، إرواء الغليل 7/144، وقال بعد أن ذكر متابعات الحديث: «فلا أقل أن يكون الحديث حسناً بمجموع الطريقين عن عكرمة» إرواء الغليل 7/144.
[45] المحلى 10/60.
[46] المرجع السابق.
[47] هو: محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، الفقيه الأصولي المفسر، المجتهد، لازم ابن تيمية وتأثر به، وحمل لواء رسالته من بعده، لـه مصنفات كثيرة، أشهرها: أعلام الموقعين، وزاد المعاد، والطرق الحكمية، توفي سنة (751هـ). ينظر: البدر الطالع 2/143، والنجوم الزاهرة 10/449.
[48] هو: عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج، المفسر والمحدث والفقيه، يقال: إنه أول من صنف الكتب، قال أحمد: كان ابن جريج من أوعية العلم. توفي سنة (150هـ). ينظر: الوفيات لابن قنفذ ، ص/130، ومشاهير علماء الأمصار ص/145.
[49] زاد المعاد 5/181.
[50] جزء من حديث طويل أخرجه البخاري معلقا برقم (5707).
[51] ينظر: فتح القدير 4/304.
[52] ينظر: المبسوط 5/97.
[53] أخرجه ابن ماجه في سننه في باب من بنى في حقه ما يضر بجاره من كتاب الأحكام سنن ابن ماجه 2/784، والإمام مالك مرسلا في باب القضاء في الرفق من كتاب الأقضية الموطأ 2/745، والإمام أحمد في مسنده 1/313، و 5/327، قال النووي -رحمه الله تعالى-: «لـه طرق يقوي بعضها بعضاً». الأربعين حديثاً ص/286، وصححه الألباني -رحمه الله تعالى- في إرواء الغليل
3/408.
[54] ينظر: بدائع الصنائع 2/477.
[55] هو: سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي أبو محمد، كان صاحب عبادة وجماعة وعفة وقناعة، من كبار التابعين أخذ عن زيد بن ثابت وجالس ابن عباس وابن عمر. توفي سنة (91هـ) وقيل غير ذلك. ينظر: تذكرة الحفاظ 1/54-56.
[56] أخرجه الإمام مالك في الموطأ 2/526، في كتاب النكاح، باب ما جاء في الصداق والحباء، وعبدالرزاق في مصنفه برقم (10679)، والبيهقي في سننه 7/214.
[57] أخرجه البيهقي في سننه 7/215.
[58] ينظر: زاد المعاد 5/180، ونيل الأوطار 6/165.
[59] ينظر: نيل الأوطار 6/166.
[60] ينظر: الحاوي 9/336، وزاد المعاد 5/183.
[61] ينظر: بداية المجتهد 2/50، والحاوي 9/339، والمغني 10/56، وزاد المعاد 5/183.
[62] سورة البقرة، الآية رقم (102).
[63] هو: عروة بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي إمام من أئمة التابعين وأحد الفقهاء السبعة، روى كثير من الأحاديث عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، توفي سنة (93هـ). ينظر: تذكرة الحفاظ 1/62.
[64] هو: عبدالرحمن بن الزبير بن باطا القرظي المدني وله صحبة، وهو الذي تزوج المرأة التي طلقها رفاعة القرضي، روي حديثه ابن وهب عن مالك عن المسور بن رفاعة عن الزبير بن عبدالرحمن ابن الزبير عن رفاعة. ينظر: تهذيب التهذيب 6/170، وأسد الغابة 3/342.
[65] متفق عليه ورقمه في البخاري (5260) وفي مسلم (5792).
[66] ينظر: المحلى 10/62.
[67] ينظر: فتح الباري 9/368، وسبل السلام 3/301.
[68] ينظر: الحاوي 9/338، والمغني 10/56.
[69] ينظر: الحاوي 9/340.
اترك تعليقاً