العقود التجارية في بعض ألفاظها حقائق قانونية وعرفية ، قد تتحول لمعنى آخر ، ولحقيقة أخرى ، لذلك فإن الإلمام بذلك مهم لصائغ العقود ، ولمفسرها ، ولا يقل أهمية للقاضي والمحامي على حد سواء، ولم أجد من عرّف هذا المفهوم الشرعي و القانوني، ويمكن أن نعرفه : بأنه انتقال لفظ العقد من حقيقة لأخرى.
أي حينما نعرف أن القبض في البيع له حقيقة لغوية، فإننا عند التفسير القضائي للعقد نجد أن القبض انتقل لحقيقة عرفية توجب علينا اعتبارها.
تفسير ألفاظ العقود :
عندما يفسر القاضي أو المحامي ، أو المحامية العقد فإنه يرجع إلى عادة الناس وعرفهم في تحديد المعاني من الألفاظ، فالبيع والنكاح، والقبض والدرهم والدينار، ونحو ذلك من الأسماء التي لم يحدها الشارع بحد، ولا لها حد واحد يشترك فيه جميع أهل اللغة، بل يختلف قدره وصفته باختلاف عادات الناس، فلا يحق لأحد أن يحده بحد معين، ويلزم الناس بعدم تعديه ومجاوزته إلى غيره، بناءً على أنه الحد المراد شرعًا، وأن ما عداه ليس بمراد، بل المخاطبون يعرفون المراد بهذه الأسماء وحدودها عن طريق عرف الناس وعاداتهم، من غير حدّ شرعي ولا لغوي.
فالعقود تنعقد بما دل على مقصودها من قول أو فعل، فما عده الناس بيعًا فهو بيع، وما عدوه إجارة فهو إجارة، وما عدوه هبة فهو هبة، وما عدوه وقفًا فهو وقف، وما عدوه ضمانًا فهو ضمان، لا يعتبر في ذلك لفظ معين، وليس له حد مستمر لا في شرع ولا في لغة، بل يتنوع بحسب عادات الناس وعرفهم، وينعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال، وهذا عام في جميع العقود؛ وذلك لأن الشارع لم يحد في ألفاظ العقود حدًّا معينًا، بل ذكرها مطلقة، وليس لها حد في اللغة منضبط، فيرجع في تحديدها إلى عرف الناس وعاداتهم.
إن الدلالة على رضا الإنسان بتصرف غيره في حقه لم يضع الشارع لمعرفتها حدًّا يرجع الناس إليه، بحيث لا يتجاوزونه، وليس في لغة العرب حد منضبط للتعبير عن إرادة هذا المعنى، فكان المرجع في تحديده إلى عرف الناس وعاداتهم، فما عده الناس إذنًا فهو إذن، سواء أكان لفظيًّا أم فعليًّا.
فالعرف تنشأ به لغة جديدة، تكون هي المعتبرة في تنـزيل كلام الناس عليها، وتحديد ما يترتب على تصرفاتهم القولية من حقوق وواجبات، بحسب المعاني العرفية.
معاني ألفاظ العقود والمجتمع :
فالألفاظ الدالة على المعاني تختلف اختلافا متباينًا، وتتنوع تنوعًا ظاهرًا من بيئة لأخرى ومن مجتمع لآخر، بحسب العادات والطبائع واللغات، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «الأيمان وغيرها من كلام الناس بعضهم لبعض، في المعاملات، والمراسلات، والمصنفات، وغيرها، تجمعها كلها: دلالة اللفظ على قصد المتكلم ومراده، وذلك متنوع بتنوع اللغات والعادات»، ويقول أيضًا: «حال المتكلم والمستمع: لا بد من اعتباره في جميع الكلام، فإنه إذا عرف المتكلم فهم من معنى كلامه ما لا يفهم إذا لم يعرف؛ لأنه بذلك يعرف عادته في خطابه، واللفظ إنما يدل إذا عرف لغة المتكلم التي بها يتكلم، وهي عادته وعرفه التي يعتادها في خطابه».
فحمل كلام المتكلم على خلاف عرفه واصطلاحه الذي يتكلم به، وإلزامه بالمعنى اللغوي الذي لا يعرفه، أو لم يقصده، إلزام له بشيء لم يلتزمه، ولم يرده بكلامه، بل لعله لم يخطر على باله، ولا يجوز إلزام أحد بشيء «لم يرده ولا التزمه ولا خطر بباله».
قال ابن القيم رحمه الله: «من أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب، على اختلاف عرفهم وعوائدهم، وأزمنتهم وأمكنتهم، وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم، على اختلاف بلادهم وعوائدهم، وأزمنتهم وطبائعهم، بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل، وهذا المفتي الجاهل أضر على أديان الناس، وأبدانهم». وسأذكر في مقال آخر بعض الأمثلة على ذلك .
من الأمثلة على مقالي السابق ، الأجور والأثمان فالمرجع فيها إلى العرف، فإذا لم يذكر الثمن في عقد البيع فيرجع القاضي إلى ثمن المثل، وبما يبيع به الناس، والشراء، والاستئجار يكون بالعوض المعروف، دون تحديد سعر معين، ويرجع في تقدير العوض إلى العرف؛ وذلك لأن الله لم يشترط في البيع إلا التراضي، ولم يحد له حدًّا يرجع الناس إليه، فكان مرجع ذلك إلى عرف الناس، وغالب الخلق يرضون بالسعر العام، وبما يبيع به عموم الناس.
أجرة المثل :
وأجرة المثل ليست شيئًا محدودًا، وإنما هي ما يساوي الشيء في نفوس أهل الرغبة, وهي تختلف باختلاف الأحوال، والعادات.
والناس في مقادير الدرهم والدينار على عاداتهم، فما اصطلحوا عليه وجعلوه درهما، وتعاملوا به تكون أحكامه أحكام الدرهم، وما جعلوه دينارًا فهو دينار، وماجعلوه ريالا فهو كذلك وخطاب الشارع يتناول ما اعتادوه، سواءٌ أكان صغيرًا أم كبيرًا، ذلك لأن النبي لم يحد للدرهم والدينار حدًّا معينًا، وليس له في اللغة حد منضبط، فكان المرجع في تحديد مقداره إلى عرف الناس وعاداتهم.
وإذا عرض على القاضي عقد مطلق ، ولم يحدد المصطلح منه فإنه يرجع في تفسيره إلى عرف الناس وعاداتهم، ويرجع في موجبه إلى العرف: إذا لم يكن هناك تحديد لفظي من قبل المتعاقدين.
تحديد الالتزامات الناشئة عن العقد :
وبناء عليه فإن الالتزامات الناشئة عن العقد يرجع في تحديدها، ومن تجب عليه إلى العرف، من ذلك مثلاً: أنه لا نفقة للمضارب في شركة المضاربة إلا بشرط أو عادة, وكذلك العقد المطلق يقتضي السلامة من العيوب في الثمن والمثمن، فإذا اكتشف أحد المتبايعين في نصيبه عيبًا كان له الحق في الرجوع على صاحبه, وكذلك: «أجرة السمسار ، وأجرة إخراج البضاعة المبيعة من مستودعها، وأجرة كيلها أو وزنها لأجل تسليمها…» كل ذلك يرجع في تحديده إلى عرف المتبايعين، إذا لم يكن هناك تحديد لفظي من قبلهما.
ومن ذلك أيضا القبض المذكور في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال: رسول الله : ((من ابتاع طعامًا، فلا يبعه حتى يقبضه)) ، يرجع في تحديده إلى عرف الناس، فما عده الناس قبضًا فهو قبض، وما لم يعدوه قبضًا فليس كذلك.
كذلك الجائحة التي ينفسخ العقد بحدوثها، يرجع في تقديرها إلى عرف الناس وعاداتهم، فما كان يسمى جائحة تعلق الحكم به، وما لا يسمى جائحة، مما يأكله الطير من الزرع، أو ما جرت العادة بسقوطه مثلاً، ونحو ذلك، لا ينفسخ به العقد.
ولفظ الواقف ولفظ الحالف، والشافع والموصي، وكل عاقد، يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها، سواء أوافقت العربية العرباء، أم العربية المولدة أم العربية الملحونة، أم كانت غير عربية، وسواء أوافقت لغة الشارع، أم لم توافقها، فإن المقصود من الألفاظ دلالتها على مراد الناطقين بها، فنحن نحتاج إلى معرفة كلام الشارع؛ لأن معرفة لغته وعرفه وعادته تدل على معرفة مراده، وكذلك في خطاب كل أمة، وكل قوم، فإذا تخاطبوا بينهم في البيع والإجارة، أو الوقف، أو الوصية، أو النذر، أو غير ذلك بكلام رجع إلى معرفة مرادهم، وإلى ما يدل على مرادهم من عاداتهم في الخطاب، وما يقترن بذلك من الأسباب.
إن الرجوع إلى العرف لتفسير مراد المتعاقدين، أو أحدهما ليس على إطلاقه، ولا يرجع إليه في كل الأحوال، بل لا يصار إليه إلا في أحوال معينة، ولمعرفة تلك الحالات التي يصار فيها إلى العرف، لا بد من هذا التقسيم.
أولاً: أن يكون المتعاقد منشئًا لالتزام يستقل به: مثل: الوصية، والوقف.
ففي هذه الحالة، يصار أولاً إلى مقصود المتكلم ومراده، فإذا قال: إنما قصدت بهذا اللفظ هذا المعنى، قبل منه، وكذلك يقبل تفسير الموصي مراده، وافق ظاهر اللفظ أو خالفه، وفي الوقف: يقبل في الألفاظ المجملة والمتعارضة، ولو فسره بما يخالف الظاهر فقد يحتمل القبول، كما لو قال: عبدي، أو أمتي، أو ثوبي وقف، وفسره بمعين، وإن كان ظاهره العموم. وهذا أصل عظيم في الإنشاءات التي يستقل بها.
فإن لم يكن هناك مقصد معين، فإنه يصار ثانيًا إلى القرائن المختلفة بالخطاب، من حال المتكلم، أو حال المخاطب، أو غير ذلك من القرائن التي تدل على المعنى المراد .
ثانيًا: أن يكون من الإنشاءات التي لا يستقل بها، كالبيع والإجارة ونحوها.
ففي هذه الحالة: إذا كان المعنى العرفي هو الظاهر المتبادر من اللفظ، فإنه يصار إليه، ولا يقبل تفسير المراد بما يخالفه، إلا إذا وافقه الطرف الآخر، فإنه يقبل منه تفسيره، بما يخالف الظاهر .
ويظهر مما سبق أهمية ألفاظ العقد ، وأنها قد تنتقل للغة جديدة وعرف حديث يجب الأخذ به في الاعتبار.
المحامي د. عبدالكريم بن إبراهيم العريني
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً