قد تصدر في بعض الأحيان عن القضاة أعمالاً لا تتفق وشرف الوظيفة القضائية، وهم بصدد فض الخصومات الأمر الذي قد يلحق ضرراً بأحد الخصوم، ووفقاً للقاعدة القائلة بأن كل خطأ صدر عن أحد الأشخاص سبب ضرراً يقابله تعويض، فبات من حق الخصم المتضرر من جراء خطأ القاضي المطالبة بالتعويض، إلا أن مطالبة القاضي بالتعويض وفقاً للنحو المألوف قد يربك نوعاً ما مركز القاضي، إزاء هذا الأمر لم تشأ التشريعات جعل القاضي مسؤولاً مسؤولية مدنية عن أي خطأ يرتكبه أثناء تأديته لوظيفته كشأن سائر موظفي الدولة، بل رسمت طريقاً يتمكن بموجبه المتضرر من مطالبة القاضي دون الإشهار بسمعته ومركزه الوظيفي فظهر نظام الشكوى من القضاة. إن الشكوى أو دعوى مسؤولية القاضي، ما هي إلا دعوى مسؤولية مدنية لكن من نوع خاص يهدف بالدرجة الأساس الى التوفيق ما بين حق المتضرر في الحصول على التعويض نتيجة الضرر الذي لحق به وما بين المحافظة على مركز القاضي وشرف وظيفته وعدم التشهير به(1).
إن السبب في عدم جعل القاضي مسؤولاً كأي موظف من موظفي الدولة في حال ارتكابه لخطأ أثناء تأديته لوظيفته، هو للحيلولة دون النيل من كرامة القاضي، ولكي لا ينشغل القاضي بالدعاوى المرفوعة عليه وهو بصدد فض الخصومات، فضلاً عن تهيئة جو صالح للقاضي يكفل له الاطمئنان على عمله الوظيفي والحد من الدعاوى الكيدية التي قد ترفع ضده(2). وقد بين المشرع العراقي(3). الأحوال التي يجوز فيها لكل من طرفي الخصومة من رفع دعوى الشكوى على القاضي أو هيئة المحكمة أو أحد قضاتها، وتتمثل هذه الحالات في صدور أي غش أو تدليس أو خطأ مهني جسيم من القاضي المشكو منه وذلك عند قيامه بأداء وظيفته بما يتعارض وأحكام القانون أو بدافع التحيز أو بقصد الإضرار بأحد الخصوم، والحالة الأخرى هي قبول القاضي المشكو منه منفعة مادية لمحاباة أحد الخصوم، كذلك يعد الامتناع عن إحقاق الحق من قبل القاضي سبباً لرفع الشكوى ضده. إن محكمة الاستئناف التي يتبع لها القاضي المشكو منه هي المرجع في نظر الشكوى، لكن اذا تعلقت الشكوى برئيس محكمة الاستئناف أو أحد قضاتها حينذاك تقدم الشكوى الى محكمة التمييز(4).
أما عن آلية تقديم عريضة الشكوى، فيتوجب أن تكون موقعة من المشتكي أو من يوكله في ذلك توكيلاً خاصاً ومصدقاً من الكاتب العدل، فضلاً عن ذلك يجب أن تكون العريضة مشتملة على اسم المشتكي وحرفته ومحل إقامته، كذلك أن تحوي على اسم المشكو منه والمحكمة التي يتبع لها مع الأسباب التي دعت بالمشتكي لرفع شكواه، ويتم رفق الأوراق الثبوتية المؤيدة لطلب المشتكي مع ايداع تأمينات معينة في صندوق المحكمة عند تقديم العريضة وتلتزم الجهة التي تتولى نظر الشكوى التأكد من الشروط السابقة في العريضة وبخلافها لا تقبل العريضة المقدمة ويكون مصيرها البطلان(5).ومن اجل أن يكون القاضي المشكو منه على بينة تامة بالشكوى المرفوعة ضده، وعلى اعتبار أن الشكوى ما هي إلا دعوى شأنها في ذلك شأن باقي الدعاوى الأخرى، فيلزم الأمر تبليغ المشكو منه بتلك الشكوى لإبداء دفاعه والإجابة عليها. من هنا تبرز أهمية التبليغات في دعوى المسؤولية الناشئة عن أعمال القضاة، حيث يترتب على تبليغ المشكو منه بعريضة الشكوى عدم جواز نظره لدعوى المشتكي أو أية دعوى تتعلق به أو بأقاربه أو بأصهاره حتى الدرجة الرابعة وذلك الى حين البت في الشكوى، فاذا ما جاء بنتيجة القرار عدم قبول الشكوى أو عجز المشتكي عن إثبات ما نسبه الى المشكو منه، عندها يستأنف المشكو منه في الدعوى ولا يمنعه من الاستمرار في نظر الدعوى تقديم المشتكي شكوى أخرى ضده مالم يصدر قرار من المحكمة بصحة هذه الشكوى(6).
وتبدو العلة واضحة في منع القاضي المشكو منه بعد تبليغه بعريضة الشكوى من نظر أية دعوى تتعلق بالمشتكي أو أقاربه أو أصهاره، وتتمثل في تجنب سوء الظن بالقاضي المشكو منه، ولكي لا يكون القاضي خصماً وحكماً في الوقت نفسه، إذن فالوقت الذي يعد فيه المشكو منه ممنوعاً من نظر أية دعوى تتعلق بالمشتكي تبدأ بعد إجراء التبليغ للمشكو منه، ولا تكون دعوى المشتكي الأخرى في حال رفض شكواه الأولى حائلاً دون استمرار القاضي المشكو منه في الاستمرار في نظر الدعوى، ولا يترتب على تبليغه للمرة الثانية من توقفه لنظر الدعوى مالم يصدر قرار من المحكمة بصحة الشكوى الثانية. وبعد تبليغ العريضة الى المشكو منه، وجب عليه الإجابة عليها كتابة خلال الأيام الثمانية لتبليغه بها، وبعد وصول جواب المشكو منه أو انقضاء المدة المعينة للجواب، تقوم المحكمة بتدقيق الأوراق من ناحية تعلق أوجه المخاصمة بالدعوى وجواز قبولها، فاذا ما قررت المحكمة جواز الشكوى، حددت يوماً لنظرها وتبلغ الخصوم بذلك(7). بعدها تقوم المحكمة التي تنظر الشكوى بدعوة الأطراف للمحاكمة، وتتبع في هذه المحاكمة القواعد العامة من حيث إصدار الأحكام وقواعد الحضور والغياب وإجراء التبليغات على النحو المقرر، وتبت المحكمة بعدها في الشكوى وقرارها في ذلك لايعدو عن أحد احتمالين. أما الاحتمال الأول فهو رد الشكوى، ويكون ذلك فيما اذا وجدت المحكمة المختصة بنظر الشكوى أن الأسباب التي استند اليها المشتكي غير كافية، أو إذا تبين أنه قد عجز عن إثبات دعواه ففي هذه الحالة يحكم على المشتكي بالغرامة المقررة، فضلاً عن تعويض المشكو منه عما لحقه من ضرر(8).
أما الاحتمال الآخر فيتمثل بقبول دعوى الشكوى، وذلك اذا أثبت المشتكي صحة دعواه، بأن استند الى إحدى الحالات المقررة لقيام الشكوى، مع جدية الأسباب والأسانيد التي قدمها، عندها تقضي المحكمة المختصة بنظر الشكوى بالزام القاضي المشكو منه تعويض الضرر الذي لحق بالمشتكي وتبلغ الأمر الى وزارة العدل لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة(9).مما تقدم يتضح دور التبليغات في دعوى المسؤولية الناشئة عن أعمال القضاة، هذا الدور الذي لا يقل أهمية عن دوره في الدعاوى العادية، وهي نتيجة طبيعية لفعالية هذا الإجراء والذي لايمكن تجاهله، فكما أن الدعاوى العادية تستلزم حصول مواجهة ما بين الخصوم، فكذا الأمر بالنسبة للشكوى المرفوعة ضد القضاة، إذ لابد من حصول تلك المواجهة ما بين القاضي المشكو منه وبين المشتكي، وبطبيعة الحال لا يمكن تصور كل ذلك مالم تكن هناك تبليغات تعلم الأطراف بذلك.
____________________________________________________
1- للمزيد من التفصيل، راجع: حاجم فلاح راكان الشمري، مخاصمة القضاة، رسالة ماجستير مقدمة الى كلية القانون، جامعة بغداد، 1989.
2-د. أحمد أبو الوفا، أصول المحاكمات المدنية، مصدر سابق، ص105.
3- راجع المادة (286) مرافعات عراقي.
وقد اعتبر المشرع المصري صدور الغش أو التدليس أو الغدر أو الخطأ المهني الجسيم وامتناع القاضي من الإجابة على عريضة قدمت له او من الفصل في قضية صالحة للحكم، وفي كافة الأحوال التي يقضي فيها القانون بمسؤوليته، حالات تجوز فيها مخاصمة القضاة وأعضاء النيابة، المادة (494) مرافعات.
في حين أن المشرع اللبناني أجاز مداعاة الدولة بشأن المسؤولية الناجمة عن أعمال القاضي في حالات الاستنكاف عن إحقاق الحق والخداع والغش والرشوة فضلاً عن الخطأ المهني الجسيم الذي يصدر عن القاضي، المادة (741) أصول لبناني.
4- راجع الفقرة (1) من المادة (287) مرافعات عراقي.
5- راجع الفقرة (2) من المادة (287) مرافعات عراقي.
6- راجع المادة (289) مرافعات عراقي.
7- راجع المادة (290) مرافعات عراقي.
8-راجع الفقرة (1) من المادة (291) مرافعات عراقي.
9- راجع الفقرة (3) من المادة (291) مرافعات عراقي.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً