أهـمية تدوين القوانين
المحامية / سهى منذر
لا يعد التدوين مرحلة من مراحل تكوين القاعدة القانونية فالاخيرة اكتملت خصائصها منذ عصر التقاليد الدينية كما انها اي القاعدة القانونية انفصلت عن الدين واتسمت بكيانها المستقل منذ مرحلة التقاليد العرفية .
فعملية التدوين لا شأن لها بالتطور الذي مر على القاعدة القانونية منذ نشأتها البدائية في عصر القوة الى مرحلة اكتمال خصائصها في عصر التقاليد الدينية ثم الى استقلالها عن الدين في مرحلة التقاليد العرفية ، لكن الذي حصل ان الشعوب حالما اكتشفت الكتابة سارعت الى تدوين اوجه نشاطها الحضاري المختلف المجالات ومن بينها القانون. كان اكتشاف الكتابة يمثل حدثا مهما في حياة البشرية نقلها من عصر ما قبل التاريخ الى العصور التاريخية لكن القاعدة القانونية ظلت كما هي لان ظروف المجتمع الاقتصادية والاجتماعية لم تتغير الى درجة ان تغير من طبيعة وخصائص القاعدة القانونية فالظروف التي سادت قبل التدوين هي بعينها التي استمرت قائمة عند التدوين وبعده .
وإذا كان تدوين القانون ظاهرة لم تقتصر على شعب من دون آخر سواء في الشرق ام الغرب، فإن الملاحظ مع ذلك أن اكتشاف الكتابة قد اقترن بدرجة النمو الحضاري لكل شعب.
وبعض الشعوب وصلت إلى هذه الدرجة من الحضارة في الوقت الذي استقرت فيها قوانينها في صورة تقاليد دينية، ومن ثم عبرت مدوناتها القانونية عن هذا الواقع فكانت تقنينا لتقاليدها الدينية.
وهذا هو شأن الهنود واليهود ، أما الشعوب التي اكتشفت الكتابة بعد أن توصلت إلى مرحلة التقاليد العرفية، فقد جاءت مدوناتها القانونية معبرة عن الأعراف السائدة في مجتمعاتها ، وهذا هو شأن المدونات القانونية الأولى التي صدرت في روما وبابل وآشور ، وايا كان الأمر فان الملاحظ إن بعض الشعوب التي دونت قوانينها قد أصدرتها في صورة تشريعات. وهذه هي المدونات الرسمية التي صدرت في روما واليونان وبابل.
أما الشعوب الاخرى فقد دونت قوانينها في سجلات من وضع الأفراد المهتمين بالقانون من دون أن تصدر بها تشريعات من السلطة الحاكمة وهذه هي السجلات العرفية التي عرفها الآشوريون والحيثيون ، وهي سجلات غير رسمية أطلق عليها الباحثون مع ذلك تعبير مدونة وإن وصفوها بالعرفية تمييزا لها عن المدونات الرسمية.
وهكذا ارتبط التدوين بالكتابة وهو قد يحدث عن طريق التشريع أو عن غير طريقه والتشريع وإن ارتبط في الأذهان بالكتابة، أي بصدوره من السلطة العامة في صورة قانون مكتوب، إلا أن هذا الارتباط غير حقيقي إذ قد يتصور وجود التشريع، كمصدر للقانون، قبل ظهور الكتابة وهذا ما حدث بالفعل في المجتمعات الأولى في صورة أوامر صادرة من رؤساء الجماعة فالتشريع كمصدر للقانون يرتبط إذن بوجود التنظيم السياسي في المجتمع وليس الكتابة.
وقد تعددت الأسباب التي دفعت الإنسان إلى تدوين قانونه ، فهناك أولا سبب جغرافي هو اتساع رقعة الدولة وازدياد عدد السكان على نحو يتعذر معه انفراد شخص واحد بمهمة القضاء. وإذا تعدد القضاة فلا بد من تطبيقهم لقانون موحد. وأيسر سبل التوحيد هي التدوين ، ولعل مدونة حمورابي خير شاهد على سلامة هذا الطرح. فقد أصدر حمورابي مدونته لتوحيد القانون الواجب التطبيق بعد اندماج دويلات ما بين النهرين في دولة واحدة هي دولة بابل.
ومن ناحية أخرى فإن التدوين يحفظ القواعد القانونية من الضياع أو التحريف ، فهو وسيلة أكثر فاعلية في هذا السبيل من مجرد الاعتماد على ذاكرة شيوخ الجماعة كما كان الحال قديما ، بل أن التدوين هو الذي ييسر على القاضي تطبيق القانون وتفسيره، بدلا من قيام الجدل بشأن وجود القاعدة العرفية وتفسيرها ، فضلا على ذلك فأن التدوين هو الوسيلة الطبيعية لنشر القانون بين الناس حتى لا يتأثر احدهم بالعلم وأحكامه، مما ييسر على طبقات معينة تفسيره وفقا لأهوائها.
وقد كان هذا الاعتبار بصفة عامة هو الدافع لتدوين القانون لدى الرومان والإغريق.
مثلت المدونات القانونية القديمة صورة أمينة وصادقة للحياة السياسية والاجتماعية للمجتمع الذي ظهرت فيه ، وتاريخ صدورها يكشف عن الزمن الذي وصل فيه هذا المجتمع إلى هذه الدرجة من الحضارة ، وقد تميزت المدونات القانونية القديمة بعدة خصائص سواء من حيث الصياغة، ام من حيث المضمون، أو من حيث مدى احترام الناس لها .
فمن حيث الصياغة : تميزت المدونات القديمة بأسلوبها الموجز الذي يكاد أن يكون شعرا منثورا كما تتميز هذه المدونات أيضا باهتمامها بالفروع والجزئيات أكثر من الأصول والعموميات وأخيرا فقد اتبعت هذه المدونات ترتيبا وتبويبا يختلف كثيرا عن المألوف في وقتنا هذا ، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى عدم إسهام الفقه في تدوينها، ولهذا صيغت بمقتضاها التقاليد الدينية أو العرفية بالحالة التي كانت عليها، أي في صورة أحكام قضائية فردية ذات أصل ديني أو عرفي أو في صورة أقوال مأثورة يرجع أصلها غالبا إلى رجال الدين.
أما من حيث المضمون : فقد اختلفت المدونات القديمة تبعا لحالة المجتمع الذي ظهرت فيه فمنها ما اقتصر على القواعد القانونية من دون تعرض لقواعد الدين أو الأخلاق، لان المجتمع الذي نشأت في رحابه قد وصل عند التدوين إلى مرحلة انفصال القانون عن الدين، وهذا هو شأن المدونات الرومانية والإغريقية مثلا.
ومنها ما ضم خليطا من قواعد القانون وقواعد الدين والأخلاق، لان التدوين تم في وقت كان المجتمع فيه يعيش في رحاب التقاليد الدينية. وهذا هو شأن المدونات الهندية واليهودية ، ومن جهة أخرى فإن بعض المدونات لم تتضمن تقنينا شاملا لكل القواعد القانونية السائدة وقت وضعها، بل اقتصرت على تدوين ما غمض من قواعد القانون تاركة قواعده المستقرة والواضحة التي لا خلاف بخصوصها إلى العرف، مثل قانون الألواح الاثني عشر عند الرومان ، بينما اشتملت بعض المدونات الأخرى على كل قواعد السلوك في المجتمع منذ ميلاد الإنسان إلى وفاته وهذا هو شأن قانون مانو الهندي.
وإذا كانت بعض المدونات القانونية تعد تسجيلا للتقاليد الدينية أو العرفية التي كانت سائدة وقت وضعها، فان بعضها قد تضمن أحكاما جديدة أو معدلة حرص المشرعون على إدراجها لتغيير الأوضاع القائمة.
وأخيرا فقد تميزت المدونات القديمة باكتسابها احترام الناس إلى حد بعيد، لا خوفا من الجزاء المقرر منذ مخالفة أحكامها فقط، وإنما بصفة خاصة نتيجة للظروف التي أحاطت بصدورها فبعض هذه المدونات صدر عن الإله كقانون مانو الهندي، وبعضها صدر عن مصلح اجتماعي مشهور كمدونة حمورابي كما صدر بعضها نتيجة أحداث سياسية واجتماعية مهمة، ما دفع الشعب إلى احترامها والحفاظ عليها كالألواح الاثني عشر.
وقد ترتب على الاحترام الشديد الذي حرص الناس على إبدائه لهذه المدونات القديمة أن حرص المشرعون اللاحقون على نسبة ما يصدرونه من تشريعات جديدة إلى تلك المدونات السابقة على وقتهم، حتى تكتسب تشريعاتهم ذات القدر من الاحترام ، بل إن الشُرّاح والفقهاء قد حرصوا على نسبة ما يجد من قواعد نتيجة لتطور العرف أو نتيجة لاجتهادات فقهية أو قضائية إلى هذه المدونات وذلك تحت ستار التفسير
اترك تعليقاً