الترجمة والعقد
خالد بن محمد العنقري
في يوم حار من أيام الصيف في إحدى الجامعات السورية، وفي قاعة خالية من التكييف شرع المحاضر في شرح قصيدة لشكسبير، يصف حبيبته فيها بالصيف، ما أثار حفيظة أحد الطلبة الذي اشمأز من هذا الوصف، ومن يعرف الأجواء الإنجليزية يعرف جمال الصيف هناك وروعته. من هذا الموقف ولدت رسالة دكتوراه حول الثقافات والترجمة للدكتور أحمد خليل البحر. من المقرر في علم الترجمة أن للمترجم دورا بارزا في نقل النص نقلا صحيحا حسب مقصد مؤلفه، كما أن ترجمة بعض النصوص الأدبية كانت أجمل من أصلها، وبعضها شوهت النص أو قتلته، كما أن لمعرفة الثقافة المنقول منها وإليها دورا مهما في هذا الفن.
من خلال عملي كمحام اطلعت على كثير من العقود باللغة الإنجليزية، والغريب أن جهة التقاضي في هذه العقود هي المحاكم السعودية أو التحكيم في المملكة وطرفي العقد من العرب “الأقحاح”؛ فما الحاجة الداعية إلى ذلك؟ مع ما يكتنف ذلك من مخاطر. إن العقد أهم رابط في التعامل بين المتعاقدين، ويحكم أي نزاع بين طرفيه، ويعرض على المحكمة بلغتها ما يعني أن العقد بغير اللغة العربية واجب الترجمة أمام المحاكم السعودية.
من المعمول به في علم الترجمة ترجمة النص بمعناه وما يفهم من السياق، كما أنه لا بد للمترجم من معرفة المكافئ اللفظي للمصطلحات في اللغة المنقول إليها، ما يجعل ترجمة النص القانوني تحتاج إلى مختص في القانون مع دقة في الصياغة واحترافية في الترجمة حسب مراد المتعاقدين، ما يجعل هذا الأمر في غاية التعقيد، مع ما قد يسببه من نزاع في صحة الترجمة ودقتها. إن اللغة القانونية تعد من أصعب اللغات في العلوم الإنسانية، وترجمة العقد من قبل مكاتب الترجمة العامة هي أقرب للترجمة الحرفية منها للترجمة بالمعنى، ما يوجد جملا خالية من الروح القانونية، مع ما فيها من ركاكة في اللغة.
من المبادئ المقررة قضاء “أن العبرة بالعقود على المقاصد والمعاني لا الألفاظ والمباني”، وأن العقد قد يفسر بعضه بعضا أو يعارض بعضه بعضا، وأن للقاضي سلطة تقويم هذا العقد ما أمكن للعمل به بما يحقق غاية المتعاقدين عند التعارض أو مخالفة المقتضى، وترك هذا الأمر بيد المترجم مغامرة ليست من الحكمة بمكان.
نعلم جميعا أن اللغة العربية لغة ثرية بالمفردات المترادفة دقيقة الألفاظ واضحة التعبير، وهي لغتنا الأم التي نستطيع شرح مقصودنا عن طريقها بوضوح، وهي لغة التقاضي لدينا؛ فلماذا اللجوء إلى لغة أخرى مع ما يكتنفه من غموض ومغامرة ولا سيما أن كثيرا من المشاكل منشؤها في فهم النص القانوني أو بنود العقود بسبب الترجمة السيئة أو المغايرة في التكافؤ اللفظي بين لغتي النص الأصل والمترجم، ما يجعل الحاجة داعية حال الاضطرار إلى التعاقد بغير اللغة الأم لاعتماد الترجمة قبل التوقيع؛ فحسن الظن وتقديم النيات الحسنة ليس محلا للنظر عند تطبيق العقود المتفق عليها، وفي المقابل فترجمة النص القانوني قد توجد ثغرة قانونية تفسر بخلاف ما قصده المنظم، وبالمثال يتضح المقال؛ ففي نظام إحدى الدول العربية نص يقول “يحق لمواطني.. الحصول على جنسية واحدة فقط” هذا النص المترجم سيفهمه رجل القانون بأحقية المواطن هناك بالحصول على جنسية موحدة غير الجنسية الأصلية، بينما المقصود “لا يحق لمواطني.. الحصول على جنسيات أخرى”. وبالله التوفيق،،،
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً