القواعد الحاكمة للدستور: من شرعية الإشهار إلى مشروعية الإلزام والالتزام (سوريا أنموذجًا)
حبيب عيسى
اختلف فقهاء الدستور حول القواعد التي يجب الاستناد إليها في إعداد الدساتير، وتحديد مصادر التشريع فيها، ومن ثم مصادر شرعيتها، وإن كان الفقه الدستوري كاد يستقر على أن الدستور هو التعبير السياسي والقانوني عن العقد الاجتماعي؛ بما يتضمنه من مبادئ وقيم اجتماعية وثقافية وعقائدية واقتصادية، تختلف من مجتمع إلى آخر في التفاصيل، لكنها محكومة بمنظومة قيم إنسانية، تكاد تكون عامة، تتعلق بحقوق الإنسان الأساسية في المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص، وعدم التمييز بين أفراد المجموعة البشرية على أساس من اللون أو العرق أو الجنس أو الدين أو الحالة الاجتماعية والاقتصادية.
ولكي تأتي مواد الدستور ملبّية لذلك كله؛ لا بد من أن تتضمن ديباجته تلك المبادئ العامة، والتي يطلق عليها الفقهاء “روح الدستور”، تلك الروح التي تنتقل من ديباجته إلى كل مادة من مواده، تبث فيها الحياة. وروح الدستور تلك لا تأتي من فراغ، وإنما هي انعكاس لروح الاجتماع الإنساني، وللتراكم التاريخي الثقافي والقانوني الذي راكمته البشرية عبر العصور، منذ أن وُجد الإنسان على هذا الكوكب، وحتى لحظة كتابة الدستور، وهو ما يُعبر عنه بالقواعد أو المبادئ التي يجب التأسيس عليها في أي بناء دستوري، وإن كان بعضهم، ومن باب الحرص على استقرارها وعدم المس بها، يطلق عليها المبادئ فوق الدستورية، ونحن لا نذهب هذا المذهب؛ فتلك المبادئ يجب أن يتضمنها الدستور، وبمجرد إقراره واكتسابه المشروعية، يتضمن تلك المبادئ ولا تسموا عليه، خاصة أن تلك المبادئ، مهما كانت سامية في فترة تاريخية معينة، قد تتجاوزها البشرية خلال تطورها إلى مرحلة أكثر سمواً؛ فهي إنتاج بشري قابل للتطور والتغيير، مهما بدت في لحظة تاريخية ما، وكأنها ثابتة، فلا أبدية لها، ولا يجوز وضع قيد على تطور الإنسان، أو على حقه في الإبداع والتطور والسمو.
نعتقد أن العصر الذي كان فيه الدستور يقدم كمنحة إلهية من الحاكم، أو ترضية وتقديسًا لشخصه، أو تمييزًا لجماعة على أخرى، أو امتيازًا لجنس على آخر، أو تقديسًا لعقيدة وشيطنة لأخرى، قد انقضى.
القضية المهمة الأخرى التي يجب الانتباه إليها، هي اللحظة التاريخية، والواقع الموضوعي لميلاد الدستور؛ حيث لا يمكن الفصل بين آليات إعداد الدستور، وبين الواقع الموضوعي، والحالة المجتمعية التي ترافق ذلك، وكذلك الحاجة الإنسانية للدستور، وفي الحالة السورية، نجد أن المسألة بالغة التعقيد؛ ذلك أننا حتى الآن لا نعرف كيف سيتم الانتقال إلى المرحلة الانتقالية، ولا ماهية طبيعتها، ولا طبيعة القوى التي ستتحكم بها، ولا مدى توافر شروط الحرية التي سترافق كتابة الدستور، إضافة إلى مسألة بالغة الأهمية تتعلق بالنسيج الاجتماعي الذي أصيب بعطب شديد؛ نتيجة الاستبداد المديد من جهة، ونتيجة المرحلة العنفية الأخيرة، بالغة القسوة والمأساوية، والتي لا يمكن أن نتكهن بآثارها المدمرة، والفترة الزمنية اللازمة؛ كي يتعافى المجتمع من عقابيلها، فنحن مازلنا في مركز كرة النار التي تعصف بمجتمعنا، وهذا سيلقي بظلاله على الدستور المنتظر؛ لذلك، ومع تقديرنا لقاعدة استقرار الدستور، فقد تفرض المرحلة الانتقالية إعداد دستور مرن غير جامد، بحيث يتمكن الشعب، في سورية، من المراجعة والتعديل لبعض مواده بعد فترة زمنية مُحددة، قد تكون دورتين تشريعيتين، يكون فيها الشعب قد ضمد جراحه، واستعاد حيويته السياسية، واستعادت مؤسسات الدولة هيكليتها الفاعلة، واستعاد المجتمع استقراره وسكينته، وتم فيها اختبار الدستور، ومدى الحاجة للتعديل من عدمه.
نعود بعد هذه المقدمة التي لا بد منها؛ لنحدد القواعد التي يجب الاستناد إليها في إعداد الدستور:
أولًا: ضرورة أن يصدر الدستور عن جمعية تأسيسية تمثيلية للشعب، منتخبة خصيصًا لممارسة السلطة التأسيسية ووضع الدستور، تحقيقًا لفكرة العقد الاجتماعي الذي يُنشئ الجماعة السياسية، ويؤسس السلطة العامة فيها، ومن ثم يجب أن يضعه الشعب في مجموعه، وليس أي سلطة أخرى، حتى لو كانت تشريعية، ومن هنا جاءت ضرورة الجمعية التأسيسية التمثيلية المنتخبة، ويرى أغلب الفقهاء الدستوريين ضرورة توافر شروط معينة في الجمعية التأسيسية؛ ليكون الدستور الذي تضعه الجمعية التأسيسية شرعيًا ومعبرًا عن إرادة الشعب، وتلك الشروط التي يجب توافرها في الجمعية هي:
1 – يجب أن تكون الجمعية التأسيسية منتخبة بواسطة الشعب.
2 – أن يكون الانتخاب ديمقراطيًا، وتحت إشراف ورقابة القضاء، خاصة في المراحل الانتقالية.
3 – ولكي يكون الانتخاب حرًا، فإنه من الضروري وجود خيارات متعددة أمام الناخبين، وهذا ما توفّره الأحزاب السيادية.
4 – يجب أن تكون الحريات العامة مصانة ومكفولة، بعيداً عن جوٍ القمع والكَبْت للحريات، ومؤثرات القهر المادي.
5 – أن تُمارس الجمعية عملها بحريّةٍ وحيادٍ، بعيدًا عن الضغوط السياسية التي قد تؤثر في عملها، وفي حال رأت الجمعية المنتخبة أنها بحاجة إلى خبرات في الصياغة القانونية، فيمكن تلافي ذلك بضم عناصر من ذوي الخبرة إلى الجمعية، وتكوين لجان استشارية لمساعدتها، ويجب تحديد اختصاصاتها ومدة عملها بزمن محدد، وكذلك على الجمعية إنجاز مشروع الدستور في فترة زمنية، تتحدد في اللوائح التنظيمية لتشكيلها.
ثانيًا: تعلن الجمعية التأسيسية أسس المجتمع الجديد، وما يجب أن يسود فيه من مبادئ، والتي سيتم اعتمادها لإعداد الدستور في وثيقة علنية، حتى يتاح لكل فرد، حاكم أو محكوم، أن يتعرّف فلسفة النظام الجديد ومبادئه، وما للفرد من حقوق، وما عليه من واجبات، حتى تسود الثقة والاستقرار بين الفرد والجماعة، ومدى تلبية مواد الدستور لذلك.
ثالثًا: اجتماعات الجمعية التأسيسية علنية ومنقولة على وسائل الاتصال الاجتماعي، بحيث يطلع الشعب على المناقشات لمواد الدستور، مادة، مادة، وعلى المقترحات البديلة.
رابعًا: يصدر الدستور باسم الشعب في سورية بوصفه عقدًا بين أفراده، وتأكيدًا لقاعدة أن الشعب هو الذي وضع الدستور، وهو المعني بالالتزام به، فعوضًا عما كان من أن الحاكم يقول: نحن فلان نقرر، الآن: نحن الشعب نقرر.
خامسًا: الشعب في سورية بما يحمله من تراث تاريخي وعقائدي وإنساني ومعاصر، واستنادًا إلى معارفه ومعرفته، هو المصدر الوحيد للتشريع.
سادسًا: المواطنة، والمساواة، والعدالة، وتكافؤ الفرص قواعد أساسية حاكمة لمواد الدستور، لا امتيازًا لأحد، ولا تهميشًا لأحد، ولا فرضًا لعقيدة أودين من أحد على أحد، ولا أقليات وأكثريات، إلا ما تفرزه صناديق الاقتراع السياسية، والتي تتغير من دورة انتخابية إلى أخرى.
سابعًا: حرية الرأي والمعتقد والصحافة والنشر، قواعد أساسية حاكمة لمواد الدستور.
ثامنًا: اعتماد وحماية الحقوق الأساسية للأفراد، وتحريم الاعتداء على تلك الحقوق.
تاسعًا: اعتماد مبادئ نظام الحكم السياسي، كمبدأي: سيادة الشعب، وفصل السلطات؛ فالوظائف العامة تخضع لمبدأ تكافؤ الفرص والكفاءة، دون اعتبار لأي معايير أخرى، عرقية أو دينية أو تتعلق بالجنس. والمناصب التمثيلية كذلك تُشغل بموجب صناديق الاقتراع، والشروط العامة لشغل المنصب، والتي لا تكون حصرًا في أحد، أو يستثنى منها أحد، وفقًا لحسابات دينية أو عرقية أو مذهبية أو طائفية.
عاشرًا: إن الضمانات التي تكفل التطبيق التنفيذي للدستور تتأتى من الاحترام والاستقرار؛ كونه ملائمًا للأحوال الموضوعية والاجتماعية والسياسية، ومدى قوة قناعة الرأي العام به، ومدى تمسك الشعب بمبادئه وقيمه، وحقوقه، وبمدى تماسك النصوص الدستورية ووضوحها؛ بحيث يخشى الحاكمون والمحكومون التفكير في انتهاك حقوق المواطنين، أو القواعد الدستورية، أو القوانين التي تحكم النظام العام في المجتمع.
حادي عشر: إن الدستور بوصفه أبا القوانين الخاصة والعامة، يوفر المناخ العام للتطور الاجتماعي، بقدر ما ينظم ويضع الأسس لعمل السلطات؛ فلا تتناقض ولا تتعثر، وفي الوقت ذاته، يرفع القيود التي تعيق التطور؛ وبالتالي، يجب الابتعاد عن إغراق الدساتير في التفاصيل، وعن التوسع في ذكر الجزئيات، ما يجعلها مستعصية على التعديل عند الحاجة، أو أن تتراخى التعديلات زمنًا؛ بسبب صعوبة إجراء تعديل الدساتير الجامدة، وتكون نتيجة ذلك اتساع الفجوة بين الحاجات الحقيقية للجماعة والنصوص الدستورية التي تحكمها؛ ما يفتح الباب أمام الهزات السياسية.
ثاني عشر: إن كثيرًا من الدساتير التي توضع في أعقاب تغيرات سياسية مفاجئة، تُسيطر على واضعيها الملابسات المصاحبة لها، وقد تكون عابرة؛ فتأتي النصوص معبرة عنها وحدها، ومن ثم تُصبح عاجزة عن تحقيق الاستقرار بعد زوالها؛ ما يقتضي النظرة الاستراتيجية الشاملة، وعدم الوقوع في هذا المطب.
ثالث عشر: يضمن الدستور حق الملكية، وحق الأمن، وحق مقاومة الظلم والاستبداد، و لا حد لحقوق الإنسان إلا عدم الاعتداء على حقوق الإنسان الآخر.
رابع عشر: عدم جواز تنفيذ القانون الجنائي بأثر رجعي، وعدّ الإنسان بريئًا حتى تثبت إدانته بحكم قضائي مبرم.
خامس عشر: ضمان حقوق الملكية؛ فلا يجوز نزع الملكية من أحد، إلا إذا اقتضت المصلحة العمومية ذلك اقتضاءً صريحًا، وفي هذه الحالة يُعطي الذي تُنزع منه ملكيته تعويضًا ملائمًا.
سادس عشر: إن الشعب هو صاحب السلطة السياسية النهائية التي لا تكمن لدى الحكومة، أو لدى أي مسؤول حكومي، وهو الذي يسن الدستور والقوانين، وهو من يفوض هيئة مؤلفة من ممثلين له منتخبين صلاحيات القيام بأعمال الحكم اليومية نيابة عنه، ولكن تفويض هذه الصلاحيات لا ينال ولا ينتقص من حقوق الشعب، كونه هو صاحب السيادة العليا، فشرعية الحكم تبقى معتمدة على الشعب الذي يحتفظ بحقه الذي يجب أن يكرسه الدستور في تغيير الحاكمين، وتعديل الدستور وكافة القوانين الوضعية؛ فوكالة الشعب للحكومة التي ينتخبها قابلة للعزل في أية لحظة يقررها، ولا قيد عليه في ذلك من أحد، كائنًا من كان.
سابع عشر: يضمن الدستور وينظم عدالة الحكم وسيادة القانون؛ حتى لا يكون الشعب ضحية حكم تعسفي أو سلطوي، فمبدأ سيادة القانون لا ينطبق على حقوق وحريات المواطنين فحسب، بل ينطبق على الحكام أيضًا؛ وبالتالي، يجب أن يضمن الدستور منع الأفراد والحكومة -معًا- من تجاوز القانون الأعلى للبلاد.
ثامن عشر: وحتى يكون الدستور باسم الشعب فعلًا، يجب أن تعرضه الجمعية التأسيسية على الشعب للاستفتاء عليه.
تاسع عشر: وحتى يكون الاستفتاء ترجمة صادقة لإرادة الشعب، صاحب السيادة، يجب توفير الضمانات التالية:
1 – انقضاء فترة زمنية معقولة، بين إعداد مشروع الدستور، وبين إعلانه على الشعب، وتاريخ الاستفتاء عليه، حتى يتمكن الشعب من دراسته وتحديد الموقف بشأنه.
2 – إتاحة الفرص المتكافئة لكل القوى والاتجاهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ للتعبير عن آرائها فيه.
3 – أن يجري الاستفتاء دون ضغوط مادية أو معنوية على إرادة الجماهير.
عشرون: يجب ان يقر الشعب الدستور بأغلبية الثلثين من الذين أدلوا بأصواتهم، على أن يتجاوز عدد الموافقين على الدستور نسبة الخمسين بالمائة من عدد مجمل الناخبين، وفي حال عدم تحقق هذين الشرطين، يعاد مشروع الدستور إلى الجمعية التأسيسية لتعديله، ومن ثم إعادة عرضه على الشعب للاستفتاء عليه.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً