من المعلوم أن هناك خصائص مشتركة بين كل من الحكم الشرعي والقاعدة القانونية وان هناك نقاط تمايز بين كل منهما تقتضيها طبيعة كل منهما المختلفة، فطبيعة الاحكام الشرعية تختلف تماما عن طبيعة القانون كون الاحكام الشرعية منزلة من رب العالمين الى البشر لينظموا حياتهم على منوالها والقوانين الوضعية ما هي الا مناهج ارضية من صنع البشر، وكل منهما ـ الاحكام الشرعية والقواعد القانونية ـ يتمثل فيه بجلاء صفات واضعه فالاحكام الشرعية يتمثل فيها كمال خالق البشر القواعد القانونية يتمثل فيها نقص البشر وعجزهم وضعفهم وقلة حيلتهم ، والحقيقة اننا لسنا بصدد بيان ما هو مشترك من الخصائص بين الاحكام الشرعية والقواعد القانونية فالذي يهمنا هو بيان ما طرا من تغير على الأحكام المتعلقة بالاحوال الشخصية بعد تقعيدها في قواعد قانونية حيث يظهر هذا التغير من خلال الاشارة الى ما يميز الحكم الشرعي عن القاعدة القانونية وهي امور كثيرة من اهمها:
1. ان الأحكام الشرعية التي تتكون منها الشريعة الاسلامية احكام وضعها الله سبحانه وتعالى على سبيل الدوام لتنظيم شؤون الجماعة ، ولها مدارك احكام متنوعة ترجع الى القران الكريم والسنة السنية وتعمل في الوقت نفسه كمولدات احكام داخل الشريعة ذاتها فتمدها باحكام جديدة لما يستجد من تصرفات ووقائع في كل زمان ومكان فهي بذلك احكام صالحة خالدة(1). وقد صيغت هذه الأحكام بحيث لا يؤثر عليها مرور الزمن ولا يبلي جدتها ولا يقتضي تغيير قواعدها العامة ونظرياتها الاساسية فجاءت من العموم والمرونة بحيث تحكم كل حالة جديدة ولو لم يكن في الامكان توقعها ومن ثم كانت غير قابلة للتغيير والتبديل كما تتغير القواعد القانونية وتتبدل(2). وهو ما لانجده في اطار القواعد القانونية فالاخيرة عبارة عن قواعد مؤقتة تضعها الجماعة لتنظيم شؤونها وسد حاجاتها فهي قواعد متاخرة عن الجماعة أو هي في مستوى الجماعة اليوم ومتخلفة عن الجماعة غدا وهي قواعد تتفق مع حال الجماعة المؤقتة وتستوجب التغير كلما تغيرت حال الجماعة فهي عرضة للتغيير والتبديل(3). أو ما نسميه التطور كلما تطورت الجماعة إلى درجة لم تكن متوقعة أو وجدت حالات لم تكن منتظرة فالقانون ناقص دائما ولا يمكن أن يبلغ حد الكمال ما دام صانعه لا يمكن أن يوصف بالكمال ولا يستطيع أن يحيط بما سيكون وان استطاع الالمام بما كان.
2. ان الاحكام الشرعية تستغرق شؤون الانسان كلها الفردية والجماعية الدنيوية والاخروية وتبدا مع الانسان مذ هو جنين الى ان يبارح الدنيا وتمتد الى حياته الاخروية منذ حياته وهي عامة للناس جميعا شاملة احوالهم جمعاء (4). فلم تات هذه الاحكام لجماعة دون جماعة أو لقوم دون قوم او لدولة دون دولة وإنما جاءت للناس كافة… وقد جاءت كاملة شاملة لامور الافراد والجماعات والدول… كما انها لم تات لوقت دون وقت أو لعصر دون عصر أو لزمن دون زمن وإنما هي لكل وقت ولكل عصر وللزمن كله حتى يرث الله الأرض ومن عليها(5). اما القواعد القانونية فلا تتمتع بهذا الشمول الذي تتمتع به الاحكام الشرعية فهي على فرض استيعابها لشؤون الانسان الدنيوية فهي قواعد قاصرة عن شؤون الانسان الاخروية.
3. ان الأحكام الشرعية لم تنشا محدودة ثم تطورت ولم تكن قواعد قليلة ثم كثرت ولا مبادئ متفرقة ثم تجمعت ولا نظريات اولية ثم هذبت ولم تولد الاحكام طفلة مع الجماعة الإسلامية ثم سايرت تطورها ونمت بنموها وإنما ولدت شابة مكتملة ، فالاحكام الشرعية ذات اسس وقواعد ومناهج وضوابط ابدعها الخالق العليم بمن خلق تتقبلها الفطرة وتتطلبها حياة الانسان على هذه الأرض كي تكون حياة كريمة وهي في الوقت نفسه شريعة تابى التلون والتغير وفقا لما تفرزه عقول البشر الناقصة المتاثرة بشهواتهم الخفية والظاهرة، اما القواعد القانونية التي تنشا في الجماعة التي تنظمها وتحكمها فهي تنشا ضئيلة محدودة ثم تتطور بتطور الجماعة فتزداد وتتسامى نظرياتها كلما ازدادت حاجات الجماعة وتنوعت وكلما تقدمت الجماعة في تفكيرها وعلومها وادابها، فالقواعد القانونية كالوليد ينشا صغيرا ضعيفا ثم ينمو ويقوى شيئا فشيئا حتى يبلغ اشده وهو يسرع في التطور والنمو والسمو كلما تطورت الجماعة التي تحكمها واخذت بخط الرقي والسمو وتبطيء في تطورها ونموها كلما كانت الجماعة بطيئة النمو والتطور فالجماعة إذا هي التي تخلق القواعد القانونية وتضمنها على الوجه الذي يسد حاجاتها وينظم حياتها وهي تابعة لها وتقدمُها مرتبط بتقدمها(6).
4. أن الأحكام الشرعية لا تتضمن أي نفع لواضعها لان واضع هذه الاحكام غني عن العالمين وإنما شرع الأحكام لتحقيق مصالحهم بالدرجة الأولى.. في حين أن النصوص القانونية قد تتضمن نفعا لواضعها وتقرر له الامتيازات والمكاسب فكل من الأحكام الشرعية والنصوص القانونية ما هي الا وسائل لتحقيق الغايات التي هي المصالح فالاحكام الشرعية وسيلة لتحقيق المصالح الشرعية والقواعد القانونية وسيلة لتحصيل غايات مشرعيها وفي ذلك تحقيق مصالحهم أو أغراضهم وهذا يعني أن عدالة قانون ما أو نزاهته إنما ينبني على شرف نوايا مشرعيه وحسن مقاصدهم وهذه الأخيرة تنبني على حسن الغايات المراد تحقيقها فعليا أي في الواقع بواسطة ذلك القانون(7). لذا فان صلاح كل نظام يستلزم أمورا أهمها علم صحيح بالمصالح وباعث شريف يدفع إلى تحقيق تلك المصالح وبذلك تتميز الأحكام الشرعية على النصوص القانونية فالأحكام الشرعية نصوص وضعها عليم خبير بأحوال الخلق غني عنهم اما القواعد القانونية فنصوص وضعها بشر خوطبوا بقوله تعالى وما اوتيتم من العلم إلا قليلا(8). بشر تتجاذوهم الاغراض والدوافع.
5. ولعل أهم ما تتميز به الأحكام الشرعية عن القواعد القانونية اختلاف كل منهما في الجزاء المترتب على مخالفة كل منهما فالجزاء على مخالفة الأحكام الشرعية يكون دنيويا ويكون اخرويا (فإذا كانت المخالفة تستوجب المسالة القضائية يكون العقاب دنيويا اما إذا كانت لا تستوجب المسالة إلا ديانة أو أن المخالف لم يسال عنها في الدنيا يكون الجزاء اخرويا ولهذا فان الجاني لا يستطيع الإفلات بجريمته مهما اعد من احتياطات لإخفائها عن أعين الناس أو السلطة العامة فان استطاع أن يرتكب جناية في غفلة من الناس والسلطة فان الله سبحانه وتعالى لا يغفل ولا ينام عنه وهو بكل شيء محيط فيعاقبه على جنايته في الآخرة بينما الجزاء في القاعدة القانونية دنيوي فقط قد يفلت منه الجاني)(9).
ولا يخفى ما للجزاء الاخروي من فائدة (ففيه من جانب الترغيب العقلي في أعمال الخير والصلاح وفيه من جانب اخر الترهيب من العقوبة اليقينية على أعمال الشر والفساد وان ضابطته ونظامه هذا لا يحتاج في بقائه وقيامه إلى قوة مادية ولا إلى سلطة حكومية وإنما هو يضع في نفس كل انسان بواسطة الايمان باليوم الاخر ضميرا حيا يرغبه… في الفضائل والمعروفات التي قد قررها الاسلام فضائل ومعروفات على اعتبار نتائجها النهائية ويحذره من الرذائل والمنكرات التي قد قررها الاسلام رذائل ومنكرات على اعتبار نتائجها النهائية)(10).
وعلى هذا فان تقعيد الأحكام الشرعية في قواعد قانونية قد يؤدي إلى تضييق نطاق الجزاء المترتب على مخالفة هذه الأحكام من دنيوي واخروي إلى دنيوي فقط وهو ما يتوهمه الكثير من الناس كما يشهد له واقع تطبيق قواعد قانون الأحوال الشخصية فتكثر المحاولات للتحايل على الأحكام الواردة في هذا القانون نتيجة لهذا الوهم لذا يجب بيان أن تحول هذه الأحكام لا يفقدها صفة الجزاء الاخروي فالأحكام الشرعية بالمعنى الأصولي بمعنى خطاب الله المتمثل في القران والسنة النبوية لا شك في أن مخالفته ترتب جزاء دنيويا واخرويا والأحكام الشرعية بالمعنى الفقهي وهو ما ثبت بخطاب الله فكما هو معلوم منه ما هو اجتهادي ومنه ما هو نصي غير اجتهادي ومعلوم أن مخالفة كل منهما يترتب عليه جزاء دنيوي واخروي وهو ظاهر في الأحكام النصية اما الأحكام الشرعية الاجتهادية فمخالفتها أيضا توجب نفس الجزاء لأسباب أهمها أن هذه الأحكام ليست من ابتكار هؤلاء المجتهدين على عظم قدرهم وسعة معرفتهم فغاية فعل المجتهد التوسل بالوسائل لكشف حكم الله في المسالة ومعلوم أن للمجتهد في إدراك الأحكام الشرعية مصادر منها أصلية متفق على حجيتها باعتبارها مصادر للأحكام الشرعية وهي القران والسنة النبوية ومصادر تبعية ترجع إلى المصادر الأصلية فعمل المجتهد كاشف لحكم الله في المسالة وليس منشئا له هذا من جهة ومن جهة أخرى أن مما هو معلوم أن تخير ولي الأمر يقطع الخلاف في المسائل الخلافية وقواعد قانون الأحوال الشخصية ما هي إلا مجموعة من الأحكام الشرعية المتعلقة بالأحوال الشخصية وعلى هذا لا بد من التأكيد على أن مخالفة مثل هكذا قانون لا توجب جزاء دنيويا فقط وإنما يترتب على مخالفتها جزاءٌ دنيوي وأخروي.
________________________
[1]- د . عبد الله مصطفى النقشبندي، معالم الطريق في عمل الروح الاسلامي، دون اسم مطبعة وسنة طبع ص18.
2- عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الاسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، دار احياء التراث العربي، ط4، 1405هـ ، 1985م، 1/14-16.
3- المرجع السابق ، 1 / 19
4- د. عبد الله مصطفى النقشبندي، المرجع السابق، ص18.
5- عبد القادر عودة، المرجع السابق، 1/16.
6- المرجع السابق، 1/14.
7- د. علي احمد صالح المهداوي، المصلحة واثرها في القانون، اطروحة دوكتوراه مقدمة إلى مجلس كلية القانون جامعة بغداد كجزء من متطلبات نيل شهادة الدكتوراه في القانون، اشراف الاستاذ المتمرس الدكتور مصطفى ابراهيم الزلمي، ص220.
8- سورة الاسراء / 85.
9- د. عمر كرامة مبارك سويلم، اوجه دلالات النصوص على الاحكام، اطروحة دوكتوراه مقدمة إلى مجلس كلية القانون جامعة بغداد كجزء من متطلبات نيل شهادة الدكتوراه في القانون الخاص، اشراف الاستاذ المتمرس الدكتور مصطفى ابراهيم الزلمي، 1402هـ، 1999م، ص136.
0[1]- سعيد حوى، الاسلام، دار الكتب العلمية، ط2، 1399هـ، 1979م، ص814.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً