اجراءات الإثبات – الإعتراض على الحكام القضائة – لائحة اعتراضية
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصَحْبه، ومَن اهتدى بهداه.
أمَّا بعدُ:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيَّاكم الله مستمعي الأفاضل في برنامجكم “فقه التقاضي”، وسبَقت الإشارة في حلقةٍ مضَت إلى أنَّ إصدار الحكم في القضية هو الثمرة المقصودة من إقامة الدعوى، وهو النتيجة النهائية لأيِّ مرافعة يواصل طرَفاها – المدَّعي والمدَّعى عليه – السير فيها، وقد أنْهَيت الحديث حول الباب العاشر من نظام المرافعات السعودي الصادر عام 1421هـ، والمُخصَّص للحديث عن إصدار الأحكام وتصحيحها وتفسيرها.
واليوم موعدنا للشروع في الباب الحادي عشر من نظام المرافعات “طُرق الاعتراض على الأحكام”، وهو من أهم أبواب المرافعات.
فإذا أصدَر القاضي حُكمه في القضيَّة المعروضة عليه، فإن الأنظمة القضائيَّة في الدول قاطبةً، تُعطي الطرَف المحكوم عليه حقَّ الاعتراض على الحكم، وطلبَ رَفْعه إلى جهة قضائيَّة أعلى، تتولَّى تدقيق الحكم وتمييزه، أو تتولَّى استئناف النظر في القضيَّة؛ أي: إعادة النظر فيها من جديد من قِبَل محكمة أعلى من المحكمة الأولى التي أصدَرت الحكم الأَوَّلي أو الابتدائي.
وهذه ضمانة للمتخاصمين، تُتيح لهم طلبَ رَفْع الحكم والترافع لدى جهةٍ أعلى.
وكالمعتاد – وقبل الشروع في المواد النظاميَّة الواردة في نظام المرافعات السعودي – نأخُذ جولة قصيرة حول مراجعة الأحكام القضائيَّة في الفقه الإسلامي.
وأُلَخِّص لكم مستمعي الأفاضل ما سطَّره الباحث الدكتور ناصر الجوفان تحت عنوان: (الضمانات القضائيَّة المتعلقة بمراجعة الأحكام في الأنظمة العدلية الجديدة)، ومما ورَد في هذا البحث المفيد:
“إنَّ الأصل في القضاء الإسلامي أنَّ القاضي متى حكَم في القضيَّة التي يَنظرها، فإن حُكمه في هذه الحالة يكون قطعيًّا ونهائيًّا، لا يَقبل المراجعة؛ لأنَّ الأصل في أحكام القاضي الصِّحة، ولأنه حُكمٌ صدَر ممن له ولاية إصداره، كما أنَّ الأصل في الفقه الإسلامي أنَّ حكم القاضي قاطعٌ للنزاع وحاسمٌ للخلاف؛ لِما يتَّصف به من الحجيَّة وقوة الإلزام، فلا يَصِحُّ التعرُّضُ له بالنقض والإبطال؛ ولذا قرَّر الفقهاء – رحمهم الله تعالى – أنه ليس للقاضي تتبُّعُ الأحكام الصادرة من القُضاة قبله؛ لأنَّ الظاهر من هذه الأحكام أنها صدَرتْ صحيحة، فهي تُحمَل على الصواب والسَّداد، ولأنه لا يُولَّى على القضاء عادةً إلاَّ مَن هو أهلٌ لولايته، ولأنه ناظرٌ في قادم الأحكام دون ماضِيها؛ قال ابن فرحون – رحمه الله تعالى -: “ويُحمَل القضاء على الصِّحة ما لَم يَثبُت الجَوْر، وفي التعرُّض لذلك ضرَرٌ بالناس ووهنٌ للقضاء، فإن القاضي لا يَخلو من أعداءٍ يَرمونه بالجَوْر، فإذا مات أو عُزِل، قاموا يريدون الانتقامَ منه بنَقْض أحكامه”؛ ا. هـ.
وقال ابن القاص – رحمه الله تعالى -: “اتَّفق الجميع على أنْ ليس للقاضي أن يتعقَّب حُكمَ مَن كان قبله” ا. هـ.
ولأنَّ تتبُّعَه لقضايا مَن قبله يُفضي إلى حصول التسلسُل الذي لا نهايةَ له، وذلك يترتَّب عليه مفسدةٌ عُظمى، وهي اضطراب الأحكام القضائية، وتَزَعْزُعها، وعدم انضباطها، وفَقْدها لحُجيَّتها، فلا يَستقرُّ لأحدٍ ملكٌ ولا حقٌّ.
كما أنه لَم يَتعرَّض أحدٌ من الخلفاء إلى نقضِ ما رآه الآخر، وإنما كان كلُّ واحد منهم يَحكم بما يظهر له، حتى وإن خالَف حُكمَ مَن قبله.
إلا أنَّ هناك استثناءً يردُّ على هذا الأصل، وذلك أنه لَمَّا كان من أهم أهداف الشريعة الإسلامية إقرارُ العدل ورَفْعُ الظلم، وكان حُكم القاضي مُحتمِلاً للخطأ ومُجانَبة الصواب لأيِّ سببٍ من الأسباب؛ لذا فإنَّ الفقه الإسلامي قرَّر للمحكوم عليه الطْعنَ في الحكم الصادر ضدَّه، متى توافَرتْ مسوِّغات هذا الطَّعن، وحدَّد تلك المسوِّغات؛ من أجْل الموازنة بين احترام الأحكام القضائيَّة وتحقيقها للمصلحة، وبين ضمان عدالة هذه الأحكام؛ إذ لو تُرِك الطَّعْن في الأحكام القضائيَّة دون ضوابطَ، فلرُبَّما كان الدافع عليه مجرَّد عدم رضا المحكوم عليه بالحُكم، ورغبته في نقْضه تَشَهِّيًا من تلقاء نفسه، أو لمجرَّد الهروب من الضرر اللاحق به من الحكم.
فلكي يُقبَل طَعنُ المحكوم عليه في الحكم الصادر ضده، لا بدَّ من توافر مُبرِّرات شرعيَّة، يعتمد عليها الطاعنُ في اعتراضه على الحكم، وطلبه إعادةَ النظر فيه.
والمسوِّغات التي حدَّدها الفقهاء للطَّعن في الحكم متنوعة؛ منها:
أولاً: مخالفة الحُكم لنصٍّ من القرآن الكريم:
فمتى كان حُكم القاضي مخالفًا لنصٍّ في القرآن الكريم، لَم يَستقرَّ هذا الحكم، ويتعيَّن نقضُه؛ لتيقُّن خطئه، وظهور مُجانبته للصواب، وللمحكوم عليه الحقُّ في أن يَعترض على هذا الحكم، ويَطعن فيه.
ومن الأمثلة على الحكم المخالف لنصِّ القرآن:
1- أن يَثبت على شخص حدُّ السرقة، وتتوافَر شروط إقامة الحدِّ، فيَحكم القاضي بقتْل السارق بدلاً من قَطْع يده، فإنَّ هذا الحكم لا يستقرُّ ولا يَنْفُذ، بل يُنقَض، وللمحكوم عليه حقُّ الطَّعن فيه؛ لمخالفته قولَه تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ ﴾ [المائدة: 38].
2- أن يتوجَّه الحقُّ على شخصٍ في جناية على ما دون النَّفْس؛ كالعين، والأنف، والسِّن، فيَحكم القاضي بقتل الجاني بدلاً من إجراء القِصاص منه في الطرف بالمِثل، فإنَّ هذا الحكم لا يستقرُّ، بل يُنقَض، وللمحكوم عليه حقُّ الطعن فيه؛ لمخالفته قولَ الله تعالى: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ [المائدة: 45].
ثانيًا: مخالفة الحكم لنصِّ السُّنة:
فإذا تبيَّن أنَّ حكم القاضي وقَع مخالفًا للسُّنَّة، فإنه لا يستقرُّ، بل يُنقَض، وللمحكوم عليه حقُّ الطَّعن فيه.
ومن الأمثلة على الحُكم المخالف للسُّنة:
القضاء بحلِّ المطلقة ثلاثًا بنِكاح الثاني بلا وَطْءٍ؛ لمخالفته الحديثَ المشهور، وهو حديث العُسيلة المشهور.
ثالثًا: مخالفة الحكم للإجماع:
فالحكم المخالف للإجماع لا يَستقر أيضًا، بل يُنقَض، ويحقُّ للمحكوم عليه أن يطعـنَ فيـه، ويطـلبَ إعـادة النـظر فيه؛ لأن ما خـالَـف الإجماعَ يكـون باطلاً، والباطلُ لا اعتبارَ له في الشرع، فتعيَّن فَسْخُ ما خالَف الإجماع.
ومن الأمثلة على الحُكم المخالِف للإجماع:
1- لو حكَم القاضي بحلِّ نِكاح المُتعة، فإنه يُنقَض؛ لإجماع الصحابة – رضي الله عنهم – على فساده، ويَحِقُّ للمحكوم عليه أن يطعنَ فيه بناءً على ذلك.
2- لو حكَم القاضي بأنَّ الميراث كلَّه للأخ دون الجدِّ، فهذا خلاف الإجماع.
فهذه بعض مسوِّغات الطَّعْن فـي الحُكم الصادر من القاضي في الجملة، والتي لا يَستقرُّ فيها حكمه، بل يُنقَض، عِلمًا بأنَّ هذه المسوِّغات ليستْ محلَّ اتِّفاقٍ عند الفقهاء.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً