“إصلاح القضاء” من أين يبدأ؟
عبدالعزيز محمد العبيد
باحث ومستشار قانوني
لو كان القضاء يعتمد على المعلومة المجردة لكان بوسع الشيخ قوقل أن يكون شيخاً فعلاً ويقضي بين المتخاصمين أو يقضي من خلاله كلُ من يستطيع البحث في فوهة ذلك الفم الفاغر ثم يقوم بعمل ضغطة بهلوانية على زر الإدخال أو ضربة الحظ لتطالعه نتائج الخصومة يختار منها ما يشاء! ولو أن القضاء يعتمد على الهيبة فحسب لكان بوسع كل من لبس عباءة مزركشة الأطراف مشخولة القماش براقة المنظر أن يتصدى لكل خصيمين ويقطع كل نزاع بين اثنين.
لكن أيَّاً من ذلك لا يعني أو يغني شيئاً فالمعلومة وحدها لا تكفي ورخامة الصوت وفخامة المظهر لا تكفيان في تظل تحول المملكة إلى الاستثمار كورقة رابحة بشقيها المحلي والأجنبي لتنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط واستيعاب النمو المتسارع لأعداد البطالة وتحفيز الصناعة وتشجيع المنتج الوطني للاستهلاك الداخلي بل والتصدير.
كل تلك الطموحات لن تخلو من تحديات التحول ومعتركات التنمية حتى يتم تطويع الظروف وتذليل العقبات في طريق الهدف الأبرز الذي يخلق من المملكة قوة استثمارية رائدة ومحور ربط للقارات الثلاث؛ إذاً من أين يبدأ إصلاح القضاء ليتسق مع التسارع المذهل للمستجدات القضائية في بيئتي المال والأعمال وقطاعي الطاقة والصناعة وأنشطة توليد الوظائف تحديداً؟
هل يبدأ بضخ أكبر قدر من المعلومات في أدمغة القضاة ودارسي القضاء؟ أم يبدأ بتحسين الشكليات وتجاهل المشكلات؟ أم يبدأ بسن النظام تلو النظام وتعديل النص إثر النص؟
في نظري أن الإصلاح يبدأ من التعليم “من التعليم لا من المعلومة”.
وقبل أن تتساءل عزيزي القاريء عن سبب التدني الملاحظ في مستوى “بعض” مخرجات التعليم القضائي؛ اقضِ يوماً بين ردهات الكليات والأقسام التي تصنع القضاة تعد بإجابة وافية؛
فحتى كتابة هذه السطور لا تجد تعليم اللغة الانجليزية مادة أساسية أو حتى ربما خياراً متاحاً. وحتى كتابة هذه السطور لا يُستخدم البروجكت والسبورة الذكية والوسائل التعليمية –التي نسميها حديثة- سوى على استحياء لشرح خلاف في مسألة أعيا فهمُها الدارسين في محاضرة ثقيلة بين يدي أستاذ قد تعسّر عليه هو الآخر فهمُ تلك المسألة.
وحتى كتابة هذه السطور لا يتاح للخبراء من القضاة المتمرسين أو المحققين على رأس العمل بالتدريس في تلك الكليات والأقسام سوى لماماً، وهذا الّلمام يعرفه المطلعون ويعرفون أنه يتضاءل حتى ربما أصبح اليوم لَمماً (لست متأكداً).
وحتى كتابة هذه السطور لم تستقل وزارة العدل أو السلطة القضائية بإنشاء أكاديميات لتخريج القضاة المؤهلين أو بالإشراف على معاهد تدريس القضاء التي تزج بالدارسين إلى منصات المحاكم محمّلين بالمفاهيم الأكاديمية النظرية لا باحتياجات البيئة القضائية الحيوية ولا بمتطلبات قطاعيالمال والأعمال المتجددة.
وحتى كتابة هذه السطور لا يدري الدارس ولا المعلم عن أي هدف يجب أن يتجه إلى تحقيقه طرفا العملية التعليمية أثناء شرح المادة، هل ما يجري في تلك القاعات معلمٌ يصنع قاضياً؟ أم متعلمٌ لم يدر بخلده أن يطأ عتبة القضاء؟
لا أدري هل تقع المسؤولية بالدرجة الأولى على المؤسسات التعليمية التي كانت ولا تزال تتقوقع في أصدافها دون أن تجد نفسها منجذبة أو شغوفة بسوق العمل وحراك التنمية؟
أم تقع على عاتق وزارة العدل التي ستعاني كثيراً هي الأخرى حتى تبتكر تعليماً قضائياً شاملاً يعتمد على التطبيقات وتقديم الحلول دون العودة إلى مربع التعليم، -وأياً يكن- فإن تلك التساؤلات لا تجد لها جواباً ولا يلمس المهتمون لعلاجها طرحاً جاداً وعملياً سوى بعثرات من هنا وهناك كهذه البعثرة المتسائلة التي تنطلق في عنان المجهول دون أن يمسك بخطامها مشروعٌ استراتيجي فعال ومحترف يبدأ من الصفر لينتهي بالمائة، وما المانع أن نبدأ من الصفر إذا اتسق الطريق العلمي مع الطريقة العملية فخيرٌ لك أن تصل متأخراً من ألا تصل أبداً.
لا بأس أن نبدأ من الصفر نظير أن يتمتع القضاء بعد عشر أو عشرين سنة بفكر متجدد وطرح أصيل واستيعاب للمتغيراتوقدرةٍ بارعة على التوصيف والتكييف وحسن استخراجٍ للفوارق والنظائر وإقناعٍ في التسبيب بأقلام تسبك الصكوك سبكاً بليغاً وتضع الحرف حيث يجب أن يكون موضعه وتمتشق الكلمة لتنسكب على توصيف الحال بما لا يمكن معه أن تحتمل الوجوه وتراوغ المفسرين.
إن ما يأمله المهتمون مستقبلاً هو صناعة تعليم يقوم على تحليل المعلومة وتوظيفها لا على حفظ المعلومة، ليواكب قَضاؤنا وقُضاتنا ذلك التنوع الثري والتطور الدائم للقضايا التجارية المعقدة –على وجه الخصوص- والنواز لالمعاصرة والسوابق والأوابد والغوامض والعوارض والتي تتطلب أصالةً فكرية مع ثراءٍ معرفي وتجددٍ ذهنيّ، وسيظل من الصعوبة بقدر عميق أن يواكب القاضي الجديد بمدخلاته النظرية التي أثقلته بها جامعته ما تشهده الساحة اليوم -من مستجدات قضائية وتحديثات هيكلية وتنظيمية للكثير من الأنشطة والقطاعات- إلا إذا تمتع بتأصيلٍ علميّ لا مجرد تحصيلٍ معلوماتيّ، وامتلك منهجاً فكرياً يقتحم به لجاج المشتبهات ليغوص تحت جذور الواقعة نزولاً وينظر من شواهق المرتفعات علواً حتى يكتشف ما لم يكن مكشوفاً له باديَ الرأي.
ذات يوم قال لي أحدهم بلهجته المصرية: “يابْني عاوز تفهم القانون؟ (لما تبص ع الشارع بُص من فوق السطوح)”.
كانت تلك الحكمة أجدى لي من ألف معلومة حفظتُها في هواجع الأسحار فنسيتُها في هجير النهار!.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً