إلى متى لا يحترم النظام
من المشاهد المألوفة في بلادنا وعند إشارة المرور، بعد أن تضيء خضراؤها ينعطف يساراً الذي في المسار الأيمن معترضاً جميع السيارات، ولا يجد في ذلك حرجاً لما يسببه من إرباك ومضايقة وتهديد لحياة الناس وممتلكاتهم، ومن المألوف أيضاً أن يغيب معظم الطلاب عن الدراسة قبل أسبوع من الإجازة بصورة تمديد قسري لها، ولا يحضر معظمهم عند العودة للمدرسة إلا بعد مضي أيام من الدراسة ويحدث ذلك أيضاً في بعض الدوائر الحكومية، ومن المألوف أن تجد من يدخن وخلفه تماماً لوحة (ممنوع التدخين)، ومن المألوف أن يضرب موعد لندوة أو مناسبة فلا يحضر معظم المدعوين إلا بعد مرور نصف ساعة على الموعد المحدد ومن المألوف أيضاً أن نستبق كل أمر بشفاعة وواسطة حتى نكاد لا نثق بأننا سنحصل على حقوقنا دون ذلك. ومن غير المألوف أن ننضبط بنظام نحترمه، ففي كل شأن نسعى للحصول على استثناء خاص أو تميز.
مالنا كأمة لا نحترم ما لدينا من قوانين ونظم والتي يفترض أن تنظم حياتنا وتضمن حصولنا على حقوقنا المشروعة وتضمن سلامتنا؟، وما بالنا نجد في المخالفة والتعدي على النظام تميزاً يؤثرنا على سوانا؟، وما بالنا لا نجد قيمة في الانضباط الاجتماعي واحترام حقوق الآخرين عندما نعتدي عليهم في سلامتهم وأمنهم وحقوقهم في المساواة بالفرص والمكتسبات؟، وما بالنا لا نحترم المسؤولية التي تقع علينا كعقلاء تجاه مستقبلنا كجماعة وكأفراد وتجاه حماية قيمنا السامية؟، وما بالنا نختزل سلوكنا الاجتماعي في مجاملات جوفاء نعطر بها حديثنا لبعض في حين حقيقة سلوكنا مناف لذلك؟، وما بالنا لا نستلهم ديننا سلوكاً اجتماعياً في حين نستثار عندما يساق لنا فكر غير مألوف؟.
هناك استعداد اجتماعي لقبول هذه الفوضوية، فقليل منا يعترض تلك المخالفات أو حتى يعبر عن عدم رضاه بها، بل إن كثيرين يجدون في الفزعة لمواجهة النظام في سبيل إرضاء أو خدمة صديق أو قريب قمة الشهامة والنخوة، ابتداء بمحاولة السعي لشطب مخالفة مرور إلى التدخل في قرارات لجان رسمية لتسيير تلك القرارات في صالح من لا يستحقها، هذا الاستعداد الاجتماعي يعبر عن خلل في النظام القيمي لدى المجتمع فتسود لديه الإثرة على الحق، ويعبر عن خلل في إدراك وتقييم وتحمل المسؤولية تجاه العدالة لمن يمارس الأثرة على الناس، ويعبر عن ضعف القيمة الذاتية للفرد فلا يجد نفسه يستحق أن يعامل بعدل حين يسلبه حقه صاحب سطوة أو جاه، هذه الفوضوية هي سمة لا تليق بمجتمع متحضر بات عليه أن ينضوي تحت مظلة عقد اجتماعي سائد يقوم على قيم سامية يصونها الجميع، وباتت لديه نظم وقوانين تحدد علاقات أفراده ببعض وتحمي مكتسباتهم وحقوقهم وسلامتهم.
الفوضوية وعدم الانضباط بالعقد الاجتماعي السائد أو النظام المقنن سمة للشعوب غير المتحضرة التي يسود فيها الجهل وسطوة السلطة المستمدة من التفاضل الطبقي والشوفانية القبلية، وهذه الشعوب البدائية لا تحترم ولا تخضع إلا لقانون واحد، هو قانون الأثرة، فالقدرة على انتزاع الحقوق وفرض السيادة مستمدة من القدرة على البطش والإذلال، لذا يسعى أفراد تلك المجتمعات إلى اكتساب تلك القدرة ويفنى كثير منهم في سبيل فرض قدرتهم، ولذا يستأثر قليل منهم بمعظم ثروة المجتمع ويحرم معظم المجتمع من أبسط الحقوق.
نحن مجتمع متحضر ترسخت لديه قيم سامية تقدس العدل والمسؤولية وحماية الحقوق ولدينا نظام وقوانين مفصلة تنظم التفاعل الاجتماعي وتحمي كيان المجتمع وتنوعه وتمايزه ضمن أطر حرية الاختيار والإبداع، لذا يجب أن نفعّل لدينا آلية الضبط السلوكي بحيث نحترم النظام ولا نتعدى عليه ونستمرئ مخالفته، ونعي المسؤولية، فلا نهمل أو نتراخى فيما وليناه من شأن ونستشعر العدالة لنا ولغيرنا فلا نتعدى ولا نقبل التعدي، وفوق كل ذلك لابد أن نستلهم المثل العليا من الدين الذي نمارسه كل يوم فوعينا بما يفرضه علينا من سلوك حري بأن يجعلنا ضمن أكثر الأمم تحضراً.
اترك تعليقاً