استقلال عمل الطبيب الشرعي مطلب للحياد”
يعتبر الطب الشرعي إحدى الطرق العلمية المهمة، التي تقود المحقق إلى كشف غوامض الجريمة والتعرف على الحقائق وجمع الأدلة والقرائن التي تساعده في الكشف عن مرتكبي الجرائم وتقديمهم إلى المحاكمة، وخصوصاً مع تطور الجريمة.
فالاعتماد على استخراج الأدلة والقرائن بالوسائل العلمية كالطب الشرعي مثلاً، يضيِّق من هامش الخطأ، وبذلك يكون حكم العدالة صائباً ومقنعاً.
ومن بين أهم ما يقوم به الطبيب الشرعي في الكشف عن الجريمة؛ فحص المصابين في الاعتداءات الجسدية وحوادث المرور، فحص ضحايا الاعتداءات الجنسية وإصدار الشهادات، القيام بالخبرات الطبية لتحديد نسبة العجز الدائم للمصابين في الاعتداءات والحوادث، التنقل لمسرح الجريمة أو أماكن اكتشاف الجثة للمشاركة بإبداء الرأي الطبي عن ظروف وملابسات الوفاة، القيام بالتشريح الطبي الشرعي في حالة الوفيات الغامضة والتي تنتج عن عنف أو اختناق أو غيرها… والكثير من الأعمال الأخرى.
ولا شك في أن تحرير تلك التقارير يجب أن يكون بطريقة متكاملة ودقيقة وواضحة، فلا يكتفي الطبيب الشرعي مثلاً بالإشارة إلى الوفاة بالطلق الناري من دون أن يحدد عيار هذا الطلق وموقع إطلاقه ومستواه، فهذه الأمور تستفيد منها النيابة العامة وكذلك القضاء عند الوصف القانوني للتهمة وعند تفنيد الأدلة، كما يجب أن يحدّد سبب الوفاة المباشر وما إذا كانت هناك أسباب أخرى ساهمت بشكل أو بآخر في الوفاة، كأن يقول إن الوفاة ناتجة عن اختناق مثلاً، وذلك كله لكي لا يسهم في ضياع حقوق أبرياء.
وللأهمية البالغة للطب الشرعي ودوره البارز في الإشارة إلى مرتكب الجريمة؛ فقد اهتمت به التشريعات القديمة وذلك في سبيل إحقاق الحق، ففي العام 2200 قبل الميلاد جاء في «مسلة حمورابي» عشرات المواد التي تتعلق بممارسة الطب الشرعي ومركزه القانوني واستقلاله، والحال نفسه بالنسبة إلى شريعة ليت عشتار وقانون ايشنونا (الحضارة السومرية)، فقد سُنّت الكثير من القوانين التي تتعلق بالطب الشرعي واستقلاله بهيئة منفصلة. والحال ذاته بالنسبة إلى الحضارة اليونانية والدولة العباسية. لكن هل ارتقت بلداننا العربية بالطب الشرعي في الوقت الحاضر؟
فبتطلعنا إلى مصر في الأحداث الأخيرة التي مرت بها مثلاً؛ نجد أن حاجتها إلى استقلال مصلحة الطب الشرعي باتت ملحة، وذلك نقلاً عن رجالات القانون والحقوقيين، فعلى حد قولهم إن قضايا قتل الثوار قد فجّرت بركان المطالبة بعدم تبعية مصلحة الطب الشرعي المصري إلى وزارة العدل، ولضرورة وجود قانون مستقل يبين المركز القانوني للطبيب الشرعي، لما له من دور فعال في صناعة الأحكام العادلة، حيث إن تبعيتها لها؛ مؤداها انعدام الحيدة والنزاهة في تحرير التقارير الفنية، وإثارة الشكوك حول صحتها بما يهدر الثقة بالقضاء برمته، مفنّدين ذلك بأن الأطباء الشرعيين هم أعوان القضاة بحسب طبيعة عملهم، فلا يجب أن يقعوا تحت سطوة إدارة السلطة التنفيذية بأي شكل من الأشكال، بل يجب أن تكون لهم هيئة فنية منفصلة.
وبتطلعنا إلى الجزائر نجد أن الحال ذاته، حيث نادى فقهاء القانون هناك بإفراد قانون خاص بالطب الشرعي وبضرورة استقلاله، فعلى رغم أهميته البالغة في التحقيق الجنائي؛ فإن مركزه القانوني مازال قاصراً، فلم يرد بيانه إلا تلميحاً بالرجوع لقانون الإجراءات الجزائية. حيث نصت المادة 82 من القانون رقم 70/20 المؤرخ في 19 فيفري (فبراير/ شباط) 1970 والمتعلق بالحالة المدنية أنه «… إذا لوحظت علامات أو آثار تدل على الموت بطرق العنف أو طرق أخرى تثير الشك؛ فلا يمكن إجراء الدفن إلا بعدما يقوم ضابط الشرطة بمساعدة طبيب بتحرير محضر عن حالة الجثة والظروف المتعلقة بالوفاة…».
كما نصّت المادة 62 من قانون الإجراءات الجزائية على أنه «إذا عُثر على جثة شخص وكان سبب الوفاة مجهولاً أو مشتبهاً فيه… ينتقل وكيل الجمهورية إلى المكان إذا رأى لذلك ضرورة ويصطحب معه أشخاصاً قادرين على تقدير ظروف الوفاة كما يمكنه أن يندب لإجراء ذلك من يرى…». والأمر لا يختلف كثيراً بالنسبة إلى سورية ولبنان.
أما الوضع بالنسبة لمملكة البحرين فلا يختلف كثيراً عن الوضع في الدول السابق ذكرها، فالطب الشرعي يتبع النيابة العامة، وبالتالي فهو غير مستقل عن سلطتي الاتهام والتحقيق.
فجاء ذكره في المادة 128 من قانون الإجراءات الجنائية بصورة مقتضبة وغير متناسبة مع أهميته وحجمه، والتي نصت على الآتي: «إذا اقتضى التحقيق الاستعانة بطبيب أو غيره من الخبراء لإثبات حالة من الحالات، وجب على عضو النيابة أن يصدر أمراً بندبه يحدّد فيه المهمة المكلف بها».
وعليه أجد أن بإفراد قانون مستقل للطب الشرعي يتم تحديد التزاماته وحقوقه ومسئوليته وعدم تبعيته الإدارية والوظيفية لجهتي الاتهام والتحقيق، التي غالباً ما يُفترض مع تلك التبعية عدم الحيدة وعدم الاستقلال…- وإن لم تصدق-.
فمن الطبيعي بمكان أن الموظف بأية جهة سيعمل على الانضمام إلى تلك الجهة بآرائه، وفي تفنيده لتلك الآراء ليسير بخطىً متطابقة مع رأي رؤسائه والجهة التي يتبع، كما أن البلدان العربية قد شهدت مشاكل كثيرة متعلقة ومرتبطة بعدم استقلال الطب الشرعي، وعليه يجب أن نضع تلك المشاكل نصب أعيننا للوقوف لحل تلك المشكلة لدينا.
وأخيراً… أجد أن بالتكامل لا بالتبعية بين الأطراف الثلاثة، وهم القضاء والنيابة العامة والطب الشرعي، تتحقق الغاية التي يسعى إليها الجميع، وهي حسن سير التحقيق وإظهار الحقيقة والسير نحو عدالة أوفى في القضاء.
* بقلم : د .نفيسة دعبل *
اترك تعليقاً