اذا نظرنا إلى التنظيمات المقارنة لمجلس الدولة، على مستوى العالم، سنكتشف بسهولة إدراك الدول المختلفة لهذه الحقائق، وأن مجرد إلقاء نظرة على تلك التنظيمات، سنجد فيها ما يكفي للرد على كل هذه المغالطات. ولن يتسع المقام إلى ذكر جميع النماذج، ولكننا سنكتفي بإيراد أبرزها، ونقصد بها، مجلس الدولة الفرنسي والتركي، والبلجيكي، والهولندي، كما وجدنا وضعاً فريداً في دولة الكويت يدعو إلى تسليط الضوء عليه.
أولا : مجلس الدولة الفرنسي
• ليس لمجلس الدولة الفرنسي نص خاص في الدستور الفرنسي ، على عكس المجلس الدستوري الذي أفرد بنصوص خاصة تحدد تشكيله واختصاصاته (المواد 56 الى 63)، وإن ذُكر مجلس الدولة في بعض المواضع المتفرقة في الدستور الفرنسي (المواد 37، 38، 39 وتتعلق بقسم التشريع بمجلس الدولة، والمادة 74 والخاصة بممارسة الولاية القضائية على القرارات الإدارية) .
• مجلس الدولة الفرنسي هو النموذج الرائد بالنسبة للقضاء المزدوج وأنشئ عام 1799، وأخذ في التطور إلى أن أصبح اليوم تتبعه المحاكم الإدارية، ويفصل في بعض المنازعات بهيئة استئنافية، وبعتبر محكمة آخر درجة (تمييز) بالنسبة لجميع المنازعات الإدارية والتأديبية، كما يتولى الافتاء والصياغة التشريعية، وتنظمه أحكام قانون العدالة الإدارية Code de justice administrative
ثانياً : مجلس الدولة التركي
تناولت المادة 155 من الدستور التركي بالتنظيم مجلس الدولة ، وتنص على أن :
(مجلس الدولة هو محكمة آخر درجة لرقابة القرارات والأحكام الصادرة من المحاكم الإدارية التي لا يجعلها هذا الدستور من اختصاص محاكم إدارية أخرى، ويكون المجلس محكمة أول وآخر درجة في الحالات والمنازعات التي يحددها القانون.
ويتولى مجلس الدولة الفصل في المنازعات الإدارية، ويبدي رأيه في غضون شهرين بشأن مشاريع القوانين والتشريعات والشروط والعقود ، التي بموجبها يتم منح الإمتيازات المتعلقة بالخدمات العامة ، والتي تقدم بها وعرضها رئيس مجلس الوزراء ومجلس الوزراء.
كما يقوم مجلس الدولة بدراسة مشروعات الأنظمة (اللوائح)، ويتولى تسوية المنازعات الإدارية ويحدد القانون اختصاصاته الأخرى….)
أي أن مجلس الدولة التركي بنص الدستور يختص بالقضاء الإداري والافتاء القانوني ومراجعة العقود والصياغة التشريعية وتسوية المنازعات.
ثالثا : مجلس الدولة البلجيكي
تنص المادتين160 ، 161 من الدستور البلجيكي على أن :
(يكون لبلجيكا مجلس دولة ، يحدد القانون تشكيله ووظائفه واختصاصاته ، ويجوز للقانون أن يخول الملك صلاحية تحديد الإجراءات المتبعة أمام مجلس الدولة بمرسوم وفق المبادئ التي يقررها القانون .
ويصدر مجلس الدولة أحكامه بهيئة محاكم إدارية ، كما يتولى الافتاء القانوني للجهات والمسائل التي يحددها القانون . ولا يجوز تعديل القانون المنظم لإجراءات التقاضي أمام مجلس الدولة إلا وفق الأغلبية المنصوص عليها في المادة 4 فقرة أخيرة. (- ثلثا أعضاء البرلمان-).
و( يكون إنشاء محاكم إدارية بموجب قانون).
أي أن القضاء الإداري والافتاء القانوني في بلجيكا هما اختصاصان مقرران لمجلس الدولة بنص الدستور.
رابعاً : مجلس الدولة الهولندي
تنص المادة 73 من الدستور الهولندي على أن:
( تجب استشارة مجلس الدولة أو القسم المختص في مشروعات القوانين و القرارات، وإعداد ما يلزم من إجراءات للموافقة على مشروعات المعاهدات من قبل الولايات . ويجوز الاستغناء عن هذه الاستشارة في الحالات التي يصدر بها قانون من البرلمان .
يتولى مجلس الدولة الفصل في المنازعات الإدارية متى كان مرجعها مرسوم ملكي .
يجوز بقانون يصدر من البرلمان أن يعهد إلى مجلس الدولة بنظر المنازعات الإدارية ).
أي أنه بموجب نص الدستور الهولندي، فإن مجلس الدولة يختص بالفصل في المنازعات الإدارية والصياغة التشريعية للعقود والمعاهدات الدولية إلا في الحالات الاستثنائية التي يحددها القانون.
الكويت نموذجاً لفهم تدرج المسألة:
وإذا نظرنا للدستور الكويتي، على سبيل المثال، فإنه يمثل حالة فريدة من حالات بيان التحول من نظام القضاء الموحد إلى نظام القضاء المزدوج ، ونستطيع من خلاله أن نرى الصورة على نحو أوضح، وأن نفهم منطق التدرج فيها.
• فالكويت تطبق الآن نظام القضاء الموحد ، بمعنى أن نظر المنازعات الإدارية منعقد لهيئة القضاء ككل ولا يوجد جهاز متخصص لنظر المنازعات الإدارية، وذلك من خلال تخصيص دائرة إدارية في نطاق المحاكم الإبتدائية ، فتنص المادة 169من الدستور الكويتي على أن :
“ينظم القانون الفصل في الخصومات الإدارية بواسطة غرفة أو محكمة خاصة يبين القانون نظامها و كيفية ممارستها للقضاء الإداري شاملاً ولاية الإلغاء وولاية التعويض بالنسبة إلى القرارات الإدارية المخالفة للقانون.”
• وفي ذات الوقت، تتولى هيئة الفتوىوالتشريع التي تتبع رئاسة مجلس الوزراء تمثيل الدولة في الخصومات المختلفة أمام المحاكم وتبدي الرأي في المسائل القانونية ، وهذا مفهوم لعدم وجود الجهاز المتخصص الذي يقوم بهذه المهمة، فتنص المادة 170على أن: ” يرتب القانون الهيئة التي تتولى إبداء الرأي القانوني للوزارات و المصالح العامة ، و تقوم بصياغة مشروعات القوانين و اللوائح، كما يرتب تمثيل الدولة و سائر الهيئات العامة أمام جهات القضاء” .
• وأخيراً، فإن إنشاء مجلس دولة كنظام قضائي مزدوج يستتبع بالضرورة أن يُعهد إلى هذا المجلس بمهام الفصل في المنازعات الإدارية والافتاء القانوني والصياغة التشريعية ، فنرى المادة 171 من الدستور الكويتي وقد نصت على أن:
” يجوز بقانون إنشاء مجلس دولة يختص بوظائف القضاء الإداري و الإفتاء و الصياغة المنصوص عليها في المادتين السابقتين” .
خـلاصــــة :
• هذا هو منطق الأمور وفلسفتها، فمتى أخذت الدولة بنظام القضاء المزدوج، وأنشات مجلس دولة، فيتيعن أن يعهد إليه وفق العقل والمنطق والتخصص والممارسات المقارنة بمهام الفصل في المنازعات الإدارية والإفتاء القانوني والصياغة التشريعية ، وهذا ما سارت عليه مصر منذ عام 1879.
• مسيرة الدول في هذا المجال تتقدم للأمام، وتتجه نحو تخصص القاضي، ولا يفترض فيها الرجوع للخلف. ولا يكون تغيير ذلك إلا لأسباب جوهوية حقيقية وليست أسباب وهمية منتحلة ، ويجب أن تكون هذه الأسباب معبرة عن حاجة مجتمعية عامة وملحة ، وليست فئوية خاصة، فلا تطلبها جهة لنفسها.
• سبق أن أوضح مجلس الدولة أن مزاعم البطء في القضاء التأديبي غير حقيقية ، وبين عدد القضايا المتداولة والتي فصل فيها والمتبقي منها ، وهو ما يستخلص منه أن حجم العمل بالنسبة للقضاء التأديبي لا يستأهل كل هذه الضجة.
• سبق أن أوضحنا أن مجلس الدولة لم يراجع عقود الخصخصة التي أبطلتها محاكمة ، وليس لأي جهة أخرى في ذلك من فضل تدعيه ، بل إن أحد أسباب بطلان تلك العقود على نحو ما بينّته المحكمة في أسباب حكمها هو عدم مراجعة تلك العقود.
• إن مجالس الدولة في كل من فرنسا وتركيا وبلجيكا وهولندا والكويت (وهذه مجرد أمثلة) تجمع بين اختصاصات القضاء الإداري والإفتاء القانوني والصياغة التشريعية، بل إن بعض مجالس الدولة تراجع الاتفاقيات الدولية (هولندا)، وتسوي المنازعات (تركيا)، وهذا ما جرى عليه العمل في الدول الآخذة بنظام القضاء المزدوج ، الأمر الذي حدا بالبعض إلى أن يصف مجلس الدولة، وبحق ، أنه الهيئة في ملتقى السلطات الثلاث التقليدية للدولة
بقلم المستشار محمود فوزي
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً