اضاءات حول عبء اثبات القانون الأجنبي في ضوء أحكام الفقه والقضاء
قد يثور أمام القضاء الوطني منازعات ينخرط فيها عنصر أجنبي، كشأن عقد أبرم في الخارج وتم تنفيذه – كله أو جزء منه – في الوطن، أو العكس. أو قد يتمسك أحد الخصوم بتطبيق قانون أجنبي على الوقائع محل النزاع حيث تلزمه قواعد الإسناد في قانونه الوطني بتطبيق القانون الأجنبي عليها.
وهنا يثور التساؤل حول إمكانية افتراض علم القاضي الوطني بمضمون القانون الأجنبي المراد تطبيقه. ولما كان من البديهي عدم إمكان توقع علم القاضي الوطني بجميع قوانين دول العالم أجمع، وبالتالي يقع عبء إثبات هذا القانون الأجنبي على ذوي الشأن من الخصوم، وإلا كان القاضي في حل من تطبيقه إذا ما عجز ذوي الشأن عن إثباته.
ولقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجب على ذوي الشأن من الخصوم في هذه الحالة إثبات هذا القانون الأجنبي وسارت على ذلك محاكم فرنسا وإنجلترا وكانت محاكم مصر المختلطة فيما سبق تسير على ذلك أيضا.
إلا أن جانب آخر من الفقه ذهب إلى القول بأنه يجب على القاضي أن يبحث عن هذا القانون ويطبقه كما يطبق قانون بلاده.
وقد ذهب فريق من الشراح من أنصار هذا المذهب الأخير إلى القول بأن القاضي الوطني يجب أن يطبق القانون الأجنبي من تلقاء نفسه في الحالات التي تلزمه قواعد الإسناد في قانونه الوطني بتطبيقه, ومن ثم فلا حاجة بداءة إلى تمسك الخصوم بالقانون الأجنبي, ولا حاجة بهم إلى إثباته ولا داعي لتكليفهم بذلك. بل أن القاضي هو الذي يجب أن ينشط للتعرف علي القانون الأجنبي بنفسه.
إلا أن جمهور الفقهاء على أن القانون الأجنبي يعتبر بمثابة “واقعة” من واقعات الدعوى, ومن ثم يلزم ذوي الشأن من الخصوم بإثباته.([1]) وقد ساير القضاء هذا الرأي سواء في مصر أم في فرنسا، مع مراعاة أنه يترتب على الأخذ بهذا الرأي: عدم إخضاع فهم القاضي الوطني للقانون الأجنبي الواجب التطبيق لرقابة محكمة النقض المصرية، على أساس أن فهمه له يمثل تقديراً منه لواقعة من وقائع الدعوى المطروحة عليه، ومحكمة النقض لا تراقب قاضي الموضوع في تقديره للوقائع.
ولقد استقر القضاء على تحديد وسيلة إثبات القانون الأجنبي, فهو لا يقبل في هذا الشأن إلا شهادة من السلطات الأجنبية الرسمية، مع ترجمة معتمدة لها، وهذه الشهادة تسمي في الاصطلاح CERTIFICAT DE COUTUME ([2]) وإن كان يبدو من قضاء محكمة النقض الفرنسية أنها قد مالت إلى التساهل وقبول إثبات القانون الأجنبي عن طريق تقديم مؤلفات الفقهاء الأجانب.([3])
هذا ولقد ذهب رأي ثالث من الشراح إلي أن القانون الأجنبي لا يخرج عن كونه قانوناً, وغاية ما في الأمر أن الصعوبات العملية في التعرف على القوانين الأجنبية تبرر الحلول التي ذهب إليها القضاء من تطلب قيام الخصوم بإثبات هذه القوانين.
ويري البعض أن هذا الرأي لم يعد له محل من الناحية العملية حيث أن ما كان مثاراً في الماضي من صعوبة التعرف على القوانين الأجنبية قد هان شأنه إزاء تقدم الحضارة وسهولة المواصلات وتوثق الاتصالات بين الدول وانتشار التبادل الثقافي وإقبال أبناء كل أمة على تعلم لغات الأمم الأخرى وإتقان الترجمة. هذا فضلاً عن أن معظم البلدان تنشئ إدارات لجمع وترتيب الوثائق الخاصة بالقوانين الأجنبية مثل إدارة التشريعات الأجنبية في وزارات العدل بفرنسا ومصر.
أما في مصر فإن القضاء([4]) لم يعرض لهذه المسألة إلا في الأحكام قليلة العدد والتي كانت تجري علي نهج القضاء الفرنسي.
وينقسم الفقه في مصر([5]) على ذات النحو الذي رأيناه في فرنسا وإن لم تكن اتجاهات بعض شراحه من الوضوح على النحو الذي يبدو في فقه الشراح الفرنسيين.
فالرأي الغالب في الفقه المصري يميل إلى القول بأنه ليس على الخصوم إثبات ما يتمسكون به من قواعد القانون الأجنبي بل أنه ينبغي على القاضي أن ينهض إلى البحث عن هذه القواعد. وسندهم في ذلك أن القاعدة القانونية لا تتغير طبيعتها لمجرد أن الذي يقوم بتطبيقها هو قاض أجنبي، فالقانون الأجنبي يأخذ حكم القانون الوطني ويفترض علم القاضي به ولا يطلب من الخصوم إثباته.
وأنه ما دام القانون الوطني، يقضي في خصوص مسألة معينة، بتطبيق قانون أجنبي معين عليها، فإنه يتوجب على القاضي أن يطبق هذا القانون وعلى نحوه السليم. فإن لم يطبقه، أو أخطأ في فهمه وجره ذلك إلى الخطأ في تطبيقه، فإنه يعتبر بذلك قد تخالف، ليس مع حكم القانون الأجنبي الذي لم يحسن فهمه فحسب، بل مع قانونه الوطني أيضاً، الذي أملى عليه أمراً فلم يصدع له.
ويري فريق آخر أن القانون الأجنبي يجب أن يكون محلاً للإثبات أي أنه يكون على صاحب المصلحة التمسك بقاعدة القانون الأجنبي أن يثبتها. وسندهم في ذلك أنه يتعذر على القاضي الوطني الإلمام بالقوانين الأجنبية، لذلك فإن طرف الدعوى الذي يطالب بتطبيق قانون أجنبي، يتحمل عبء إثباته، ويتم ذلك عن طريق الشهادات الصادرة من السلطات المختصة بالدولة الأجنبية، أو مجموعات الأحكام، أو المؤلفات العلمية.
هذا ويذهب بعض الفقهاء إلى تأسيس رأيهم بشأن إلزام الخصوم بإثبات القانون الأجنبي على الصعوبات العملية. ومع ذلك فإن جانبا من هذا التوجه الأخير يتجه بالإضافة إلى الصعوبات العملية إلى اعتبار القانون الأجنبي في حكم الواقعة, مع أن هذا الاعتبار الأخير وحده يجعل التذرع بالصعوبات العملية من غير أساس ولا ضرورة حيث أن التعلل بهذه الصعوبات يعني عدم اعتبار القانون الأجنبي واقعة, ومن ثم فإنه يكون من التناقض أن نجمع في نفس الوقت بين الحجتين.
ومن جانبنا فإننا نري اعتبار القانون الأجنبي واقعة لأن افتراض علم القاضي بقانون دولته يرجع إلى أنه هو ذاته أداة هذه الدولة لتطبيق القانون ولذلك ينبغي أن يتحقق عما صدر فيها من قوانين. أما الدول الأجنبية فهي أشخاص معنوية أخري لا يعتبر القاضي أداة من أدواتها أو عضوا فيها, ولهذا لا يفترض فيه العلم بقوانينها كما لا يفترض فيه العلم بما صنع الأفراد في دولته لاختلاف أشخاصهم عن شخص الدولة.
وقد جاء في حكم لمحكمة النقض المصرية أن الاستناد إلى قانون أجنبي – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة لا يعدو أن يكون مجرد واقعة مادية وهو ما يوجب على الخصوم إقامة الدليل عليها وإذا لم تقدم الطاعنة بملف الطعن صورة رسمية للتشريع الأجنبي الذي تستند إليه ولا ترجمة رسمية له فإن النعي يكون غير مقبول.([6])
كما قضت محكمة النقض بأن: “الاستناد إلى قانون أجنبي. واقعة مادية يجب على الخصوم إقامة الدليل عليها. عدم تقديم الطاعن ما يثبت تمسكه بهذا الدفع أمام محكمة الموضوع. إثارته أمام محكمة النقض. سبب جديد. غير مقبول. (نقض جلسة 18/11/1972 مجموعة المكتب الفني – السنة 23 – صـ 1257. ونقض جلسة 19/1/1977 مجموعة المكتب الفني – السنة 28 – صـ 276).
وفي هذا السياق فإنه لا يمكن الاعتراض بأن قانون القاضي الوطني يلزمه، وفقاً لقواعد الإسناد، في بعض الأحوال بأن يطبق قانون الدولة الأجنبية, لأن ذلك لا يعني حتماً أن يبحث القاضي عن قانون تلك الدولة الأجنبية أو أن يفترض فيه العلم به, ذلك أن هذه الحالة تتساوى في الحكم مع الحالة التي يلزم فيها المشرع القاضي الوطني بأن ينزل حكم العقد على أطرافه ويعتبر العقد “قانوناً للعاقدين” ومع ذلك لم يجادل أحد في إلزام العاقد بإثبات العقد ودلالته.([7])
وغاية ما في الأمر أن القانون الأجنبي وإن كان واقعة إلا أنه ليس واقعة خاصة بطرفي الخصومة بل هو واقعة عامة من الوقائع التي يمكن أن تكون محلاً لعلم الكافة بها – فلا جناح على القاضي أن يبحث أن شاء ولا عليه أيضاً أن أجري في شأنها علمه الشخصي([8]), فإن لم يطمئن القاضي إلى نتائج بحثه أو يجد إليه سبيلا, وجب على الخصوم إقناعه بقاعدة القانون الأجنبي على الصورة المعمول بها في بلادها, فإن لم يثبتوا له ذلك جاز له أن يعتبر هذه الحالة من الحالات التي لا يوجد فيها نص تشريعي, وقد يري تطبيق القانون المصري على أساس أن هذا هو ما تقضي به العدالة.([9])
وإن قيل أن في مكنة القاضي الاستعانة بمترجم فإن الرد على ذلك أن هذا من سلطته, على أنه لن يكون أمامه في هذه الحالة إلا أن يفترض في الترجمة مطابقتها للواقع وهو ما يجعل الحكم في النهاية في يد المترجم عملا. هذا فضلاً عما يحدث كل يوم من التعديلات والتغييرات في القوانين مما قد يغيب عن القاضي. أضف إلى هذا أن معرفة القوانين الأجنبية لا تقف عند حد العثور على نصوصها بل تتعدى ذلك إلي معرفة مدلول هذه النصوص. ولهذا فإننا لا نقر رأي الشراح الذين يريدون أن يفرضوا على القاضي العلم بالقوانين الأجنبية.
وأخيراً، يجب مراعاة أن قاعدة إقامة الدليل على القانون الأجنبي، مناطها، أن يكون هذا القانون الأجنبي غريباً عن القاضي الوطني ويصعب عليه الوقوف على أحكامه أو الوصول إلى مصادره، فإذا كان القاضي الوطني على علم بمضمونه أو يفترض العلم به، أمتنع تطبيق قاعدة إقامة الدليل على القانون الأجنبي.
حيث قضت محكمة النقض المصرية بأنه: “المقرر في قضاء هذه المحكمة أن التمسك بقانون أجنبي لا يعدو أن يكون مجرد واقعة يجب إقامة الدليل عليها وكان مرد هذا القضاء هو الاستجابة للاعتبارات العملية التي لا يتيسر معها للقاضي الإلمام بأحكام ذلك القانون فإن مناط تطبيق هذه القاعدة أن يكون القانون الأجنبي غريبا عن القاضي يصعب عليه الوقوف على أحكامه والوصول إلى مصادره أما إذا كان القاضي يعلم بمضمونه أو كان علمه به مفترضا فلا محل للتمسك بتطبيق القاعدة، لما كان ذلك وكانت المعاهدات الدولية قد أصبحت مصدرا هاما من مصادر القانون البحري وطريقا لتوحيد أحكامه على النطاق الدولي وصارت قواعده بمقتضى هذه المعاهدات قواعد دولية معروفة لدى القضاء البحري في كثير من الدول وكانت مصر قد انضمت إلى المعاهدة الدولية الخاصة بتوحيد بعض القواعد القانونية المتعلقة بسندات الشحن الموقعة ببروكسل في 25/8/1924 والتي أصبحت تشريعا نافذ المفعول في مصر بموجب المرسوم بالقانون الصادر في 31/1/1944 وكان بروتوكول هذه المعاهدة قد خول الدول المتعاقدة الحق في تنفيذه إما بإعطائها قوة القانون أو بإدخال أحكامها في تشريعها الوطني وكان من المعلوم فقها وقضاء أن إنجلترا قد أدخلت أحكام معاهدة سندات الشحن لسنة 1924 في تشريعها الداخلي حيث أصدرت قانون نقل البضائع بحراً لسنة 1924 وجعلت أحكامه مطابقة لأحكام المعاهدة المذكورة التي أصبحت تشريعا نافذاً في مصر فإن علم القاضي بمضمون هذا القانون يكون مفترضاً ولا يكون ثمة محل لإلقاء عبء إثبات مضمونة على عاتق من يتمسك به“. (نقض مدني في الطعن رقم 2317 لسنة 59 قضائية – جلسة 8/2/1996 مجموعة المكتب الفني – السنة 47 – الجزء الأول – صـ 317).
هذا، والله أعلى وأعلم،،،
([1]) نقض مدني فرنسي 26 أبريل 1950 منشور في دالوز 1950 قضاء 9 صـ 361. كما قضت محكمة النقض المصرية بأن: “الاستناد إلى قانون أجنبي – وعلى ما جرى به قضاء محكمة النقض – لا يعدو أن يكون مجرد واقعة وهو ما يوجب على الخصوم إقامة الدليل عليه”. نقض مدني رقم 8 لسنة 35 قضائية، جلسة 26/7/1967.
([2]) أنظر نقض فرنسي 31/10/1923 و 27/11/1926 وباتيفول ومراجعه. ويري بعض الشراح أن اعتبار القانون الأجنبي واقعة يبيح إثباته بأي وسيلة: ريجو, القانون الدولي الخاص, صـ 145.
([3]) حكم نقض 16 أبريل 1950.
(4) فالمقرر في قضاء محكمة النقض أن القانون الأجنبي لا يعدو أن يكون مجرد واقعة مادية يجب على الخصوم إقامة الدليل عليها. مجموعة المكتب الفني، أنظر”أحكام ومبادئ النقض في مائة عام في قانون الإثبات” صـ 276.
([5]) وأما التشريع فلم يرد فيه نص بهذا الخصوص وإن كان المشروع التمهيدي للقانون المدني قد ورد فيه نص جرت في شأنه مناقشة انتهت إلى صياغته بالشكل الآتي: “في جميع الحالات التي سيقرر فيها أن قانوناً أجنبياً هو الواجب التطبيق يطبق عليه القانون المصري إذا كان وجود القانون الأجنبي أو مدلوله غير ممكن إثباته” مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني على المادة 27 منه صفحة 314و 315 بالهامش من الجزء الأول في طبعة وزارة العدل. لكن هذا النص أهمل عند إفراغ القانون المدني في صيغته النهائية لا بقصد استبعاد حكمه, وإنما لأن اهتمام المشـرع على ما يظهر كان منصرفاً إلى مسألة الإحالة والإحالة المزدوجـة.
(35) الطعنان رقما 25و 28 لسنة 32 قضائية “أحوال شخصية”, جلسة 29/12/1971, مجموعة المكتب الفني، السنة 22، صـ 1126.
(36) أنظر: “سافاتييه” في: تغيرات وجه القانون، وقرب ما ذكرناه وما جاء في بحث العلاقة بما ورد هانز كلسن عن العقود في سجلات (أرشيف) فلسفة القانون في العدد الخاص بالعقد من أن العقد ينشئ قاعدة nor ,e وأن القانون هنا يفرض الحكم للعقد آي أن هناك تفويضاً délégation إحالة كما في حالة الإحالة إلى قانون أجنبي (أرشيف – سنة 1940 – عدد 4/1 صـ 36).
([8]) ولا يكون قضاؤه فيها بعلمه محل طعن ما دام علمه مطابقاً للحقيقة, انظر باتيفول بند 336 و353 و355.
([9] ( وفي ذلك قضت محكمة النقض بأن: “الاستناد إلى قانون أجنبي – وعلى ما جرى به قضاء محكمة النقض – لا يعدو أن يكون مجرد واقعة وهو ما يوجب على الخصوم إقامة الدليل عليه”. نقض مدني في الطعن رقم 8 لسنة 35 قضائية، جلسة 26/7/1967.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً