وظيفة النائب العام كنموذج لتركيز السلطة
الدكتور .. الهادي أبو حمرة
النائب العام هو صاحب الحق الأصيل في تحريك الدعوى الجنائية واستعمالها، وله كافة الاختصاصات التي يقررها القانون لأعضاء النيابة، باعتباره احدهم، وان كان يتميز عنهم بأصالته وامتداد سلطته إلى إنحاء الإقليم الليبي كافة، فهو المختص أصلا بمباشرة الدعوى الجنائية، ويقوم بذلك بنفسه أو بواسطة احد أعضاء النيابة العامة، الذين هم وكلاء عنه بموجب وكالة تثبت بالتعيين في جهاز النيابة العامة.
ويترتب على ذلك نتيجتان:
1- انه يجوز للنائب العام أن يحل محل أي عضو نيابة في مباشرة اختصاصه بصفته الأصيل.
2- أن كل عمل يقوم به الوكيل خلافا لتعليمات الأصيل ( النائب العام ) يعد باطلا.
وحتى مع القول إن عضو النيابة يستمد سلطته في التحقيق من القانون مباشرة باعتباره عملا قضائيا بخلاف الاتهام، فان للنائب العام أن يسحب القضية من عضو النيابة المحقق ويتولى تحقيقها بنفسه، أو ينيب احد أعضاء النيابة الآخرين لتحقيقها بدلا من عضو النيابة الذي لم يلتزم بتعليماته. بالإضافة إلى ذلك، للنائب العام اختصاصات ذاتية لا يباشرها الوكلاء عنه، منها: الأمر بإصدار أمر بأن لا وجه لإقامة أي دعوى جنائية، وبالتالي منعها من دخول حوزة القضاء في أي جريمة تقع في الإقليم الليبي، ولو تصرف عضو النيابة خلافا لذلك ورفع الدعوى، فعلى المحكمة أن تحكم بعدم قبولها، وله أن يلغى أي أمر بان لا وجه لإقامة الدعوى يصدر في أي دعوى في دائرة أي نيابة في ليبيا.
ومن الطبيعي انه إذا توقف الأمر على شخص واحد في المسائل الجنائية ، فان السيطرة على هذا الشخص من قبل أي جهة أخرى تعنى سيطرة على جهاز النيابة العامة ، ومن ثم السيطرة على الدعوى الجنائية في كافة أرجاء الإقليم ، الأمر الذي يعنى التحكم في تطبيق قانون العقوبات ، خصوصا أن من يستطيع إدخال الدعوى في حوزة القضاء – كقاعدة عامة – هي النيابة العامة، وبدون عملها لا يملك القضاء الفصل فيها؛ لان وظيفته مطلوبة وليست تلقائية ؛ ولأنه ولى زمان اعتبار كل قاض هو مدع عام .
ومن هنا فان الإشكالية الأساسية في جهاز النيابة العامة هي تركيز السلطة في وظيفة النائب العام ، فهو الرجل الأقوى في الدولة قانونا في مواجهة حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية ؛لأنه يستطيع ممارسة السلطة بنفسه مباشرة أو عن طريق أعضاء النيابة الذين يعملون بتكليف منه وتحت إشرافه ويستمر هو باعتباره المصدر الرئيس للسلطة .
وإذا كان الأمر كذلك فان المشكلة لا تكمن- فقط- في عدم استقلال النيابة العامة في مواجهة السلطات الأخرى التشريعية والتنفيذية ، وإنما تمتد إلى إشكالية استقلال عضو النيابة العامة في مواجهة النائب العام ،الأمر الذي ينتج – بالضرورة – إشكالية متعلقة بالحياد ، للتلازم بين الاستقلال والحياد ، وهما من لوازم ممارسة النيابة العامة لوظيفة التحقيق والتصرف فيه بشكل يكفل حماية فعالة للمواطنين ضد الجريمة وحماية للمصالح العامة ووجود نظام محايد وعادل للدعوى الجنائية ، وتفعيل قانون العقوبات . ولمعالجة هذه الإشكالية، هناك تصورات يمكن أن تطرح في هذا الإطار منها:
أولا / الفكرة التي تحد من سلطة النائب العام في الدعوى الجنائية هي فكرة الفصل بين وظيفتي الاتهام والتحقيق ، بحيث تنحصر وظيفة النيابة العامة في الاتهام ، وتستحدث وظيفة قاضي التحقيق . يلاحظ أن هذا هو الوضع في القانون الفرنسي وبعض التشريعات العربية ، الا انه يجب التنويه أن هناك تشريعات أخذت بهذا النظام ، ثم عدلت عنه كالقانون الألماني ، بالإضافة إلى أن هذا النظام هو محل جدل حاليا في فرنسا نفسها ، والدفاع عنه في فرنسا – مثله مثل الدفاع عن نظام المحلفين – يعتمد على معطيات تاريخية خاصة ، توجب عدم التغيير إلا في حالات ضرورية ، وبعد التأكد من فاعلية البديل عند إدخاله في نظام اعتاد على العمل بقاضي التحقيق ، حيت انه مؤسسة ترجع إلي سنة 1670.م.
ومع ذلك، فان النقطة الأهم في موضوعنا هذا ، والمتمثلة في سيطرة النائب العام على إمكانية تحريك الدعوى الجنائية ؛ لا يؤثر فيها إيجاد قاضي التحقيق ، لأنه وان كان ذلك يعني إخراج وظيفة التحقيق من يد النيابة العامة ، وبالتالي من سيطرة النائب العام ، إلا أن قاضي التحقيق سيعتمد في عمله على النيابة العامة ، التي تملك أن تحيل إلى قاضي التحقيق أو لا تحيل ، فهو يعتمد في عمله على تغذيته من النيابة العامة ، التي تدار بطريقة مركزية .
فبالإضافة إلى أن الأمر سوف ينتهي إلى أن يجمع قاضي التحقيق بين الوظيفتين : الاتهام والتحقيق ، فهو من يملك سلطة التصرف في التحقيق بالإحالة ، أو الأمر بان لا وجه ، وهو العدول عن الاتهام ، أو الاتهام في صورته النهائية ، ما يعني أن تركيز السلطة في النيابة العامة لا يزال قائما ؛لان عمل قاضي التحقيق سوف يعتمد على الإحالة إليه من النيابة العامة ، وبالتالي حتى مع فرضية تبني قاضي التحقيق فان بقاء النيابة العامة بهذه الهرمية وتركيز السلطة ، مع وجود سلطة الملائمة ، يبقي تحريك الدعوى الجنائية في يد النائب العام .
ثانيا / حتمية رفع الدعوى : من شأن استبعاد مبدأ ملائمة تحريك الدعوى أو رفعها ، والأخذ بمبدأ حتمية الإدخال في حوزة المحكمة لكي تفصل في موضوعها بالبراءة أو الإدانة ، الحد من سلطة النيابة العامة ، ومن ثم من سلطة النائب العام ، أي أنها لا تملك الأمر بالحفظ أو بان لا وجه لعدم الأهمية ، إلا أن هذا الحل له أثار سلبية منها أن رفع الدعوى – في ذاته – قد يتعارض مع المصلحة العامة ، وقد يتعارض مع حسن إدارة نظام العدالة الجنائية ، وبالتالي نعالج مشكلة بطريقة ترتب أثارا سلبية تتجاوز المصلحة المقصود الوصول إليها.
ثالثا/ فكرة النائب العام التخصصي الذي يرأس نيابة تخصصية ، وبقدر النيابات التخصصية يكون عدد النواب العامين التخصصيين ، الأمر الذي يحد من تركيز السلطة ويصعب عملية السيطرة علي الدعوى الجنائية ، ويلغى اختزالها في شخص واحد ، ويمكن أن يكون هذا الحل مدخلا للتوسع في تخصص أعضاء النيابة ، ويفتح المجال لإنشاء نيابات كالنيابة الإدارية .
أما بالنسبة للتنسيق بين عمل أعضاء النيابة العامة في الإقليم ، فيمكن أن يضمن بمجلس يضم النواب التخصصيين برئاسة أقدمهم ، تكون مهمته وضع السياسة العامة للنيابة العامة ، وإصدار التعليمات ، على أن لا يباشر اختصاصات النيابة العامة ، ولا الاختصاصات الذاتية التي يمارسها النائب العام حاليا ، فكما يمكن أن تكون وحدة السلطة في ظل الفرد ، يمكن أن تكون في ظل المجلس أو اللجنة بدلا من الفرد ، وهذا أدنى للاستقلالية من تركيز السلطة في شخص واحد.
رابعا / يبقى الوضع على ما هو عليه ،على أن يقتصر دور النائب العام على التنسيق ،ورسم سياسة النيابة العامة، وضمان وحدة تفسير القانون وإعماله فيما يتعلق بأعمال النيابة العامة عن طريق ما يصدره من تعليمات عامة ، دون أن يملك مباشرة الاختصاص بنفسه أو التعقيب على عمل أعضاء النيابة ، وبالتالي يبقى النائب العام مجردا من تركيز السلطة الذي يمثله حاليا ، ويستمر وجوده في جانبه الايجابي ممثلا للنيابة العامة في مجلس القضاء ، ولا يمارس دورا في الدعوى الجنائية ، إلا في حالة عدم انعقاد الاختصاص لأي من المحامين العامين ، أو في جرائم خطيرة يحددها القانون على سبيل الحصر.
بمعنى أن النيابة العامة تدار بنظام لا مركزي تحت إشراف مركزي، حيث تصبح سلطات النيابة تمارس على مستوى الاختصاص الإقليمي لمحاكم الاستئناف, وبالتالي يكون المحامى العام هو نائب عام في دائر اختصاصه ، دون أن يكون للنائب العام أي اختصاص في هذه الدائرة ، إلا ما يحدده القانون على سبيل الحصر في جرائم محددة ، مع كون السياسة العامة لممارسة سلطة النيابة تتم على مستوى النائب العام أو مجلس القضاء الواقف (النيابة العامة) دون أن يكون له – كقاعدة عامة – التدخل في قضية بعينها. أي ( نيابة عامة على النمط الفيدرالي ).
والقول بإعطاء النائب العام سلطات بشأن جرائم محددة مبني على انه لا يمكن إنكار أهمية مركزية السلطة بشأن بعض الجرائم كالجرائم الإرهابية وبعض الدعاوى الجنائية التي لها نتائج سياسية مهمة مثل: الجرائم التي ترتكب في النزاعات القبلية ، أو المظاهرات السياسية ، أو تتنازع مع مصالح أجنبية. حيث إن التقرير بملائمة، أو عدم ملائمة رفع الدعوى بشأنها له بعد سياسي، يقدره رأس النيابة العامة.
خامسا/ الإبقاء على الجمع بين وظيفتي التحقيق والاتهام في يد النيابة العامة على أن يعطى لأعضاء النيابة العامة مركز القاضي الذي يمارس الوظيفتين باستقلاليه كاملة ويبقي النائب العام كمجلس القضاء بالنسبة للقضاء ، على أن تتغير الشروط اللازمة لتولى وظيفة عضو النيابة العامة ومنها الشروط المتعلقة بالسن والخبرة في مجال الأعمال القانونية والقضائية الأخرى .
أي الإبقاء على جهاز النيابة العامة ليتولى التحقيق والاتهام على أن يعدل النظام الأساسي للنيابة العامة ، بحيث يصبح عضو النيابة العامة بمثابة قاض تحقيق يختاره المجلس الأعلى للهيئات القضائية , وبالتالي فان هناك جهازين (النيابة العامة وقضاة الحكم) مع الفصل بين الوظيفتين ، ولا يمارس احدهما وظيفة الأخر ، على عكس نظام الندب لقاضي التحقيق ، على أن يتمتع أعضاء النيابة العامة بنفس خصائص القضاء ومنها: إلغاء خاصية التبعية ، والهرمية التي تحكم عمل أعضاء النيابة العامة. مع ملاحظة أن هذا الاقتراح يختلف بشكل جوهري عن نظام قاضي التحقيق المعمول به في فرنسا وبعض الدول الأخرى.
أما بالنسبة لضمان استقلال عمل النائب العام أو النيابة العامة ، في ظل الوضع القائم ، فان الأمر يتطلب تعديلا في كيفية اختيار النائب العام والشروط اللازم توفرها فيمن يرشح لذلك ، كأن يكون أقدم المحامين العامين وبالتالي فان تدرج أعضاء النيابة العامة ينتج بشكل تلقائي وظيفة النائب العام ، على أن يعاد النظر في شروط من يعين محاميا عاما ، أو أن يكون اختيار النائب العام من المجلس الأعلى للقضاء وفقا لتشكيلته المقترحة حاليا في مشروع قانون نظام القضاء من بين المحامين العامين ، أو غيرهم ممن هم بدرجة مستشار بمحكمة استئناف ، بشرط أن يكون اشتغل – فعليا – في النيابة العامة فترة زمنية يحددها القانون ، بحيث لا تحسب فترة الندب من ضمن فترة الخبرة اللازمة لتولى منصب النائب العام ، على أن تتم المصادقة على هذا الاختيار من رأس التنظيم السياسي في الدولة . الذي يملك بدوره إرجاع الأمر من جديد إلى المجلس الأعلى لإعادة الاختيار .
هذا التصور نعتقد انه يحقق التوازن بين الجانب القضائي والجانب السياسي لوظيفة النائب العام ، فأداة التنفيذ أو التشريع لا تملك الاختيار ، واختيار المجلس الأعلى يعتمد على موافقة الجانب السياسي ، بمعنى أن المجلس الأعلى عند اختياره للنائب العام يقدر الجانب القضائي لوظيفة النائب العام ، والجهة التي تعتمد الاختيار تقدر البعد السياسي لهذه الوظيفة وأخيرا يلاحظ أن استقلال النائب العام المختار، وفقا لهذا التصور، يستوجب الفصل بين المجلس الأعلى للهيئات القضائية وأمانة العدل ومن ذلك إخراج أمين العدل والكاتب العام للعدل ورؤساء الهيئات التي يعتبرها قانون نظام القضاء الحالي هيئات قضائية( إدارة القضايا ، إدارة المحاماة الشعبية،إدارة القانون ) من تشكيلة المجلس .
اترك تعليقاً