الآثار السلبية للواسطة على المجتمع السعودي
الواسطة ليست أمراً مذموماً باللسان فحسب، بل هي جريمة حقيقية منصوص عليها في القانون ومقرَّرٌ لها عقوبات صارمة، ولها طرق للتبليغ ومكافآت من الدولة على ذلك، وسأسلِّط الضوء هنا على جوانب معنوية تفوق خطورتها خطورة الجانب القانوني، لعل من يقرأ هذا الكلام يكون له واعظ أبلغ من واعظ التهديد والوعيد.
تتجلى خطورة الواسطة في عدة نواحٍ؛ كل ناحية هي أكبر من أختها.
فأما أولها –وهو الأثر الأول الذي يتبادر إلى الذهن- فهو الأثر الاجتماعي، وله صور كثيرة تتلخص في تفكيك المجتمع ونشر الفوضى، قد يبدو هذا الكلام بسيطاً أو إنشائياً حين يُختصر في هاتين الكلمتين، ولكنه عند تفصيله مخيف حقاً، فحين تكون الواسطة سبباً لإعطاء من لا يستحق حقَّ من يستحق، أو حماية المجرم من العقوبة، يشيع في المجتمع شعور الظلم والحقد وينتشر اليأس من تحقق العدل، وهذا في حد ذاته -بالإضافة لكونه سبباً لمداولة الحسد والبغض وحصول الأسقام للأبدان والقلوب- هو سبب لاستسهال الجريمة، كما أنه يؤدي إلى انعدام هيبة القانون في النفوس.
حيث يشعر الأفراد أن القانون مجرد صورة لا تمثل أي تقييد حقيقي لرغباتهم الجامحة مادم الواحد منهم يعرف واسطة تخلصه منه، والمجتمع الذي لا يحترم القانون يستحيل عليه التقدم من مكانه قيد أنملة حيث القانون هو الفرق بين حرية الإنسان وحرية الحيوان، وهيهات للحيوان أن يبني الحضارة.
وهناك ضرر آخر خفي لا ينتبه له كثير من الناس وهو أن انتشار الواسطة يؤدي لانتشار النفاق الاجتماعي والعلاقات (المصلحجية) التي ينعدم فيها الوئام والحب الصادق ولعل من كان له قريب من المسؤولين يشعر بهذه النفحة المتملقة في كثير ممن حوله ويؤذيه جداً هذا الشعور بانعدام الصدق في المجتمع.
وهل هناك أقبح من حياة لا تشعر فيها بالصدق والمحبة خارج بيتك؟ نعم هناك ما هو أقبح، وهي الحياة التي لا تشعر فيها بالصدق والحب حتى داخل بيتك وذلك حين يكون زواجك مستغلاً كواسطة، ليس هذا جديداً على العلاقات الإنسانية، فقد شهد التاريخ الشرقي والغربي منذ قديم الزمان تسجيل زيجات بين أبناء ملوك أو شيوخ قبائل لأجل التقارب وإحلال الصلح أو الحصول على مصالح مشتركة، ولكن الجديد في أيامنا هذه أن يكون الزواج من ابنة مسؤول له مدة محددة سيزول بعدها، ويتم استهلاك هذا المسؤول خلالها عن طريق هذه المصاهرة في تمرير المعاملات والشفاعات وتوفير الحماية والحصانة لكل عائلة الزوج أو قبيلته وأصدقائه… إلخ فكيف يكون شعور هذه الزوجة المسكينة التي تم تسليعها لمنفعة مؤقتة، وأين الأمان في زواج لا تدري فيه أهي العروس المعشوقة أم أبوها؟
ومن الآثار التدميرية للواسطة على الصعيد الاجتماعي دورها في تكريس الطبقية، ترى كبار المسؤولين يجامل بعضهم بعضاً في التوظيف، فالمسؤول الفلاني يوظف ابن المسؤول العلاني عنده على وظيفة عالية وبالمقابل يرد له المسؤول الآخر بتوظيف قريبه أو قبول شفاعته على نفس الطريقة، كما أن التجار الكبار والشخصيات الوجيهة لا تكاد تُرد لهم شفاعة أو واسطة في توظيف أبنائهم أو استخراج تصاريحهم، وهكذا يتم تداول الوظائف والأموال بين الطبقات العليا من المجتمع ويُترك للطبقات الدنيا فُتات العيش من وظائف هزيلة، ولا تفيدهم شهاداتهم ولا اجتهاداتهم لبلوغ الطبقات العليا في ظل انعدام الواسطة لديهم، ونفس الكلام يصدق على تكريس المناطقية، فتجد المسؤول الفلاني بمجرد استلامه لمنصبه العالي «يستقدم» أبناء قبيلته أو منطقته ليسيطروا على تلك الإدارة -وقد تكون وزارة كاملة أو قطاعاً حيوياً هاماً- وبهذا يحصل الشقاق الاجتماعي بين أبناء الوطن الواحد، حيث يشيع بينهم الشعور أن أبناء المنطقة الفلانية ذوو حظوة بالمناصب والمال، بينما أبناء المنطقة الفلانية مهمشون ومتجاهلون رغم كفاءاتهم وخبراتهم.
كذلك من الأثر التدميري اجتماعياً للواسطة أنها تكرّس العنصرية، حيث تؤدي الواسطة التي تختار الوظائف المحددة وتخصها بصلات اجتماعية محددة إلى تكريس العنصرية في النفوس وهدم كل الجهود الرامية إلى خلق وطن متماسك تحت مظلة العدالة والمساواة، إنها أضرار فادحة في أمننا، الواسطة قنبلة موقوتة توشك على الانفجار في سفينتنا لتهلك الصالح والطالح.
ثانياً: أثرها الكارثي على الصعيد المهني والفني والإداري
وهو ما يغفل عن الحديث عنه معظم الذين يثيرون هذا الموضوع، حيث يكتفون بالحديث الإنشائي عن خطورة الظلم ومرارته، وهو كلام صحيح دون شك، ولا ينبغي التهوين من شأنه، ولكنه يبقى في نهاية المطاف أمراً شخصياً محدوداً، لا يكاد يُقارن بخطورة الضرر العام الناتج عن الفراغ الداخلي الذي يسيطر على المؤسسات التي تنخر فيها الواسطة.
ومن هنا كان غياب الوازع الديني الذاتي مدخلاً مباشراً لإساءة استغلال السلطة على حساب المصلحة العامة، فتجد المسؤول يريد حجز مقعد مفضّل عند مسؤول آخر أو وجيه عن طريق توظيف من يشير به عليه، متجاهلاً قلة الكفاءة، أو سوء العقل لدى هذا الموظف، وحين يستبد المسؤول ويعلم أنه لا رقيب ولا حسيب يكثر من هذا الأمر حتى تطغى على مؤسسته الكوادر الهشة التي ما جاء بها إلى مناصبها إلا الواساطات، هذه الكوادر لا هي أنجزت بكفاءة، ولا هي تركت المكان لمن ينجز، ولو طوَّفت بخيالك قليلاً لوجدت أمثلةً أكثر من الحصر، والمصيبة أنه إذا وقعت مصيبة أو (تعطلت تنمية)، وقع الحساب على غير هذا المسؤول، أو تجوهل الأمر، وتحمل الشعب بأكمله فداحة العاقبة.
هذا في واسطات الأعمال الإدارية والفنية بشكل عام، وأمّا الجريمة التي لا تغتفر ولا يمكن وصفها – على الرغم من شدة انتشارها واستسهال سماعها – فهي مايحدث في الجامعات، بتعيين المعيدين من غير ذوي الكفاءات، بل بالواسطات والمحسوبيّات، فمع أن الواسطة متشعبة في كافة التوظيفات إلا أن أثرها يتفاقم خطورةً في أوساط التعليم العالي، حين يتم تعيين المعيد عديم الكفاءة مراعاةً لمصلحة شخصية، فإن ذلك لا يكون خرقاً للنظام فحسب، ولا إغلاقاً للباب أمام الكفاءات الحقيقية فحسب، ولا ارتكاباً لجريمةٍ قد تدخل ضمن التكييف الجنائي للرشوة فحسب.
بل هو إدخالٌ في هيئة التدريس الجامعية ومجالس الأقسام من لايعرف رأسه من رجله، فيُسيء إيصال رسالة العلم المقدسة، ويُحسَب زوراً وبهتاناً على معلمي الناس الخير، وعلى الشخصيات الثقافية، ويُجعَل مشاركاً في صنع القرار مستقبلاً، من ناحية إقرار المناهج وتعديلها في المراحل الجامعية، وكذلك مراحل الدراسات العليا، و مرحلة الإشراف على الرسائل العلمية، مما ينتج ضعفاً شديداً في المخرجات وفي جودة الخريجين قد تُفقد الشهادات العالية قيمتها، وينهار بالسمعة الثقافية.
وفوق ذلك تتبناه تلك الواسطة للوصول إلى المناصب القيادية، ولا تسأل عن الفساد في كراسي البحث العلمي فهو مما يندى له الجبين، وقد تؤدي تلك الواسطة لجعل هذا الفاشل مشرفاً على صرحٍ تعليمي، متخصّصاً في تدميره تربوياً وتعليمياً، هذه الصروح التعليمية ستكون بسبب هؤلاء مسؤولة عن إنتاج المدرسين الفاشلين، وتمكينهم من بناء أجيال كاملة من الفارغين الذين سيُضافون كلبنات فاسدة لبناء أمة مهلهلة، ويالها من جريمةٍ لن تنساها الأجيال.
ولا يقف الأمر هنا، بل نجد – بهائل المرارة – أن الواسطة قد طالت حتى القطاعات الصحية، بتوظيف الأطباء والممرضين، ونيل المصالح الشخصية على حساب أرواح الآخرين، أو لتحقيق مكاسب لا تخفى على من راقب أحوال المستشفيات، فهذا مستشفى يغلب على دكاترته أنهم مطاوعة وذاك ليبرالية وآخر يسوده أبناء منطقة معينة … إلخ هنا باتت الجريمة محزنة جداً، تجاوزت الأبعاد الأخلاقية والقانونية لتضرب أساسيات الإنسانية، هنا يعجز البيان عن البيان، وتصير الكلمات عبثاً وضجيجاً لا معنى له.
خالد خلاوي
بكالوريوس في الشريعة، ماجستير في القانون، باحث لدرجة الدكتوراه في القانون، مدون إلكتروني وكاتب صحفي.
اترك تعليقاً