الآراء الفقهية حول تعريف الدولة و أركانها
تعريف الدولة و أركانها / أ. حنين نصار
لقد تعددت الآراء الفقهية حول تعريف الدولة نذكر منها :
1- الدولة مجموعة من الأفراد يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد و يخضعون لتنظيم معيّن.
2- الدولة ظاهرة سياسية و قانونية تعني جماعة من الناس يقطنون رقعة جغرافية معينة بصفة دائمة و مستقرة و يخضعون لتنظيم معيّن.
3- الدولة الشخص المعنوي الذي يرمز إلى شعب مستقر على إقليم معيّن حكاما و محكومين بحيث يكون لهذا الشخص المعنوي سلطة سياسية ذات سيادة.
و إذا كان من الممكن رد ظاهرة الدولة المعاصرة إلى أواخر القرن 15 حيث تكونت الممالك الحديثة في أوروبا بعد زوال عصر الإقطاع الذي ساد القرون الوسطى، إلاّ أن هذه لم تكن الصورة الوحيدة لنظام الدولة فقد عرف الإنسان القديم نظام الدولة في إطار نظام المدن السياسية في روما و أثينا و إسبرطا و في الحضارة الفرعونية و بابل و آشور و الهند و الصين القديمة.
غير أن الكثيرين ينكرون على تلك الإمبراطوريات صفة الدولة و هذا بسبب ارتكاز النظام فيها على قاعدة النظام الفردي بحيث تتركز السلطة في يد زعيم أو قائد هو مصدر الإلزام إذ يستمد سلطته من الوحي الإلهي أو القوة، و يفرض على الناس منطق المصلحة العامة للمدينة بما لا يكون أمامهم إلاّ الطاعة و الخضوع و هذا باستثناء المدن السياسية القديمة عند الإغريق و الرومان و كذلك الدولة التي نشأت في بداية الرسالة المحمدية فقد كانت لها نفس الخصائص و السمات الاجتماعية و القانونية التي هي للدولة الحديثة، و رغم ذلك فقد انهارت فكرة الدولة في أوروبا بسقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية بعد غزو القبائل الجرمانية لها، و أدت إلى نشوء نظام الإقطاع، و لم تعرف العصور الوسطى فكرة إسناد السلطة السياسية إلى شخص مجرّد مستقل عن أشخاص الحاكم بل كان الفرد يعد تابعا للسيّد الإقطاعي تبعية شخصية، و الذي يميّز نظام الدولة المعاصرة عن سابقتها في العصور القديمة و الوسطى أنها منظمة قانونية أما سوابقها في التاريخ فلم تكن كذلك إذ لم يكن الإنسان قد تصور بعد فكرة الدستور في مفهومها القانوني الملزم المعروف حاليا و كان ذلك أمرا طبيعيا في ظل نظم سياسية تقوم على فكرة الزعامة و اختلاط الدولة بشخص الحاكم فهي بعض حقوقه و امتيازاته الخاصة تسنده فيها القوة المادية و عمق تأثير العقائد و التقاليد.
فحين ظهرت التفرقة بين صاحب السلطة و من يمارسها و قام الفصل بين الحاكم و سلطة الحكم و هو ما يسميه بعض الفقهاء بتأسيس السلطة أي قيام الدولة صاحبة للسلطة السياسية و أن الحاكم أصبح مجرد أداة في يد الدولة تمارس من خلاله سلطتها، قامت حينئذ الدولة المعاصرة حسب التعاريف المقدمة آنفا.
التفرقة بين المجتمع و الدولة
انطلاقا من فكرة أن الإنسان اجتماعي بطبعه أي أنه لا يستطيع العيش منفردا، فإن المقصود بالمجتمع الإنساني هو جماعة من الناس يعيشون معا في منطقة معينة يجمع بينهم شعور واحد و روابط مختلفة بحيث ينظرون إلى أنفسهم ككيان متميّز، و يتضمن المجتمع جميع النظم الاجتماعية الأساسية و الضرورية لإشباع الحاجات البشرية الأساسية بينما الدولة هي جماعة منظمة تنظيما سياسيا.
إن الدولة ليست بالضرورة متوحدة مع المجتمع سواء من حيث مجال النشاط فالمجتمع يقوم على الإرادة الطيبة و التعاون بينما الدولة تقوم على القوّة. أو من حيث الاتساع فقد يكون المجتمع أوسع أو أضيق من الدولة فقد تستعمل عبارة المجتمع للدلالة على المجتمع القروي أو الإسلامي …
فالدولة بناء غير مماثل للمجتمع أو متساوي معه في الامتداد لكنه مشيّد داخله كنظام محدد لبلوغ أهداف معينة، و أن المجتمع متماسك مع بعضه بواسطة الدولة.
و يمكن أن نبيّن أوجه الاختلاف بينهما كالآتي :
1- من حيث الغرض أو الوظيفة :
الدولة تعد اجتماعا قانونيا يعمل لتحقيق الغرض القانوني “فرض النظام” داخل المجتمع، بينما يعمل المجتمع على تحقيق العديد من الأغراض غير القانونية و هذه الأهداف متعددة، فكرية، أخلاقية، دينية، اقتصادية و اجتماعية … فالدولة تحقق هدفا واحدا كبيرا بينما المجتمع يحقق أهدافا كثيرة بعضها كبير و بعضها صغير.
2- من حيث التنظيم:
الدولة منظمة قانونية واحدة بينما المجتمع يشمل تنظيمات متعددة بعدد الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها و بالتالي يمكن القول أن المجتمع السياسي الذي تحققه الدولة هو أحد أهداف الجماعة فالمجتمع سابق عن الدولة.
3- من حيث المنهج :
الدولة تستخدم منهج القوة و الإجبار أما المجتمع فيستخدم العمل الاختياري أي منهج الإقناع لأن ذلك يتوافق مع طبيعته.
المجتمع المدني
هو مجتمع المدن و مؤسساته هي التي ينشئها الأفراد لتنظيم حياتهم الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية فهي مؤسسات إرادية يقيمها الناس و ينسحبون منها بكل حرية على عكس مؤسسات المجتمع البدوي القروي هي مؤسسات طبيعية يولد الفرد منتميا و مندمجا فيها لا يستطيع الانسحاب منها كالقبيلة، العشيرة… أي هو نمط من التنظيم الاجتماعي و السياسي و الثقافي … خارج كثيرا أو قليلا عن سلطة الدولة و تمثل هذه التنظيمات وسائل تعبير و معارضة بالنسبة للمجتمع اتجاه سلطة الدولة.
من خلال التعاريف المقدمة آنفا نستنتج بأن للدولة أركان ثلاثة هي :
مجموعة من الناس : الشعب
بديهيا أن الدولة لا يمكن أن تقوم بغير جماعة بشرية تعيش على وجه الدوام في حدود إقليم معيّن، و إذا كان وجود الشعب يمثل المحور الأساسي لقيام الدولة فإنه لا يشترط أن يبلغ عدده رقما معينا و ثابتا فعدده يختلف من دولة لأخرى فقد يقل إلى بضعة آلاف و قد يصل إلى مئات الملايين.
من الناحية القانونية كل الدول تتمتع بنفس الخصائص إلاّ أنه من الناحية السياسية و الاقتصادية تعتبر كثافة السكان عاملا هاما في ازدياد قوة الدولة و نفوذها.
و يرى الفقه أن وجود الشعب يعد ظاهرة طبيعية و سياسية، فالظاهرة السياسية تتمثل في أن أفراد الشعب يقطنون حتما أرضا معينة أما الظاهرة السياسية فتتمثل في خضوع هؤلاء الأفراد لنظام سياسي معين و تجدر الإشارة إلى أن هذه الجماعة البشرية المكونة للشعب لا يشترط فيها أن تكون متجانسة أو غير متجانسة من الناحية الاجتماعية : اللغة، الدين …
التمييز بين المدلول السياسي و المدلول الاجتماعي للشعب :
المدلول الاجتماعي لكلمة الشعب هو مجموع الأفراد المقيمين على إقليم الدولة و المتمتعين بجنسيتها سواء كانوا رجالا أو نساء كبارا أو صغار عقلاء أو مجانين و كذلك المتمتعين بالحقوق السياسية منهم و المحرومين منها و يطلق على هؤلاء مواطني الدولة أو رعاياها.
أما المدلول السياسي للشعب، فيقصد به مجموع الأفراد المتمتعين بالحقوق السياسية و بذلك يخرج من مدلول الشعب السياسي الأطفال و المحرومين من الحقوق السياسية سواء لأسباب تتعلق بالناحية العقلية أو لأسباب أدبية كمرتكبي الجرائم المخلة بالشرف.
و بذلك يتضح أن المدلول السياسي للشعب أضيق من المدلول الاجتماعي.
التفرقة بين الشعب و سكان الدولة :
إذا كان الشعب بمفهوميه الاجتماعي و السياسي يعني مجموع الأفراد المرتبطين بجنسية الدولة فإن المقصود بسكان الدولة هو مجموع الأفراد المقيمين على إقليمها سواء كانوا من شعبها أو من الأجانب الذين لا تربطهم بالدولة رابطة الولاء حيث لا يتمتعون بجنسيتها و إنما تربطهم بها رابطة الإقامة أو التوطن.
التفرقة بين الشعب و الأمة :
سبق لنا أن عرّفنا اصطلاح الشعب في الفقرة السابقة، أما الأمة فهي ظاهرة اجتماعية مفادها وجود جماعة من الناس يستقرون على أرض معينة و يرتبطون بها معنويا، و تستند على مقومات مشتركة من أصل، الدين، اللغة، التاريخ، العادات، الذكريات، الآمال المشتركة … التي تولد الرغبة لدى الأفراد في العيش معا.
ما يميّز الأمة عن الشعب هو الظاهرة الاجتماعية و التي تكمن في وجود المصالح و الروابط بين أفراد الجماعة غير أنه لا يشترط لقيام الأمة توافر الظاهرة السياسية أي الخضوع لسلطة سياسية فقد تقوم الأمة دون أن ينشأ عنها دولة مثل الأمة العربية و قد تنشأ دولة تضم شعبا يتكوّن من عدة أمم مثل الإتحاد السوفياتي سابقا الذي كان شعبه يتكوّن من عدة أمم و قد تنشأ دولة يكون شعبها مكونا لأمة في نفس الوقت مثل الإيطالي، الألماني، الفرنسي … الذي هو شعب و أمة في نفس الوقت.
و قد تباينت الآراء الفقهية حول العوامل المكونة للأمة إلاّ أن أغلبها يتمحور حول النظريات الآتية :
النظرية الموضوعية : التي يأخذ بها الفقهاء الألمان و تركز على عوامل الأصل اللغة و الدين.
النظرية الشخصية : يأخذ بها الفقه الفرنسي و مضمونها أن الأمة تجد أساسها في الحس التضامني الذي يوحد إرادة الأفراد في العيش معا أي أنها تركز على العامل النفسي و الإرادي.
النظرية المادية : يأخذ بها الفقه الماركسي و هي تستند على النواحي الاقتصادية و الاجتماعية فوفقا لهذه النظرية وحدة المصالح الاقتصادية هي التي تقرر باقي العلاقات بين الأفراد و تصهرهم في نظام اجتماعي موحد.
النقد الموجه لهذه النظريات : أنها تركز على جوانب معينة من مكونات الأمة و تهمل الجوانب الأخرى و السبب في ذلك أن هذه النظريات هي وليدة ظروف و بيئة سياسية معينة القصد منها خدمة الأهداف السياسية للتجمعات التي وجدت فيها و بالتالي لا يمكن تعميمها لتشمل مفهوم الأمة بصفة مطلقة.
و خلاصة القول أن تكوين الأمة تشترك فيه مجموعة كثيرة من العوامل : الأصل، اللغة، الدين، العادات و التقاليد، التاريخ، المصير المشترك و الرغبة في العيش معا.
تم توظيف كلمة أمة في القرآن الكريم في 44 آية و بمعان مختلفة.
مفهوم الأمة الإسلامية :
البعض يطلق تسمية الأمة الإسلامية إنطلاقا من الآية : <<وَ جَعلنَاكم أمة وسطا>> هذا المصطلح من الناحية الدينية لكن من الناحية السياسية لا يعبر عن الحقيقة فهناك أمم متعددة تضمها الأمة الإسلامية بالمفهوم الديني.
الإقليم
لقيام الدولة لابد من وجود رقعة من الأرض يقيم عليها أفراد الشعب على وجه الدوام و الاستقرار و من ثمة فإن القبائل الرحل لا يمكن أن تشكل دولة لعدم استقرارها في رقعة معينة. و الإقليم هو النطاق الجغرافي الذي تباشر فيه الدولة سلطتها حيث لا يمكن لسلطتين مستقلتين تتمتع كل منهما بالسيادة أن تجتمع معا إقليم واحد.
و إقليم الدولة يشمل على ما يلي :
* الإقليم الأرضي : يتحدد بحدود طبيعية مثل الجبال أو البحار أو بحدود اصطناعية مثل الأملاك الشائكة أو الأسوار أو أي علامات يستدل بها على نهاية الإقليم و يمكن أن يكتفي بخطوط الطول و العرض لتعيين الحد الفاصل بين دولة و أخرى.
* الإقليم البحري : يشمل الجزء الساحلي من مياه البحر العامة المجاورة لشواطئ الدولة و كذلك المياه الداخلية في حدودها من البحيرات و الأنهار الداخلية و قد ثار جدل فقهي حول تحديد نطاق البحر الإقليمي حسم هذا النقاش في إطار اتفاقية قانون البحار 1982 بمسافة 12 ميل بحري.
* الإقليم الجوي : يشمل الفضاء الذي يعلو كل من الإقليم الأرضي و البحري و لا بد من التفرقة بين طبقتين من الجو، طبقة الغلاف الهوائي المحيط بالأرض حتى ارتفاع حوالي 1000 كلم فهذه الطبقة تخضع لسيادة الدولة بالكامل. و لهذا نصت اتفاقية شيكاغو في المادة 1-1944 : <تقر الدول المتعاقدة بأن لكل منها السيادة على الفضاء الجوي الذي يعلو إقليمها>، و فيه تتمتع الطائرات المدنية (دون حربية) يحق الهبوط لأسباب تقنية و يمكن للدولة أن تغلق أجوائها في وجه الطائرات الأجنبية كما يحق لها تحديد ممرات جوية معينة للدخول إلى إقليمها.
و طبقة الفضاء الجوي، و تمتد إلى ما لا نهاية و هي غير خاضعة لسيادة دولة ما وفقا لقرارات الأمم المتحدة الصادرة سنة 1963-1966 بشأن اكتشاف الفضاء حيث أصبحت ملكية مشتركة للبشرية.
طبيعة حق الدولة على إقليمها
اختلف الفقه في تكييف الدولة على إقليمها فذهب رأي على أنه حق سيادة غير أن هذا الرأي منتقد على أساس أن السيادة تمارس على الأشخاص و ليس على الأشياء بينما ذهب في إتجاه آخر إلى تكييف ذلك الحق بأنه حق ملكية لكن هذا الرأي منتقد هو الآخر إذ يتعارض مع حق الملكية الفردية للعقارات. و الرأي الحديث يعتبر الإقليم بمثابة المنطقة الجغرافية التي يحق للدولة أن تستعمل سلطتها داخلها على الأفراد دون غيرها بعبارة أخرى أنه المجال الذي تتحدد فيه سلطات الدولة.
السلطة السياسية
تعتبر السلطة السياسية من أهم العناصر في تكوين الدولة حتى أن البعض يعرّف الدولة بالسلطة و يقول بأنها تنظيم لسلطة القهر أو الإجبار.
و يمكن تعريف السلطة السياسية بأنها قدرة التصرف الحر التي تباشر بحكم سموها حكم الناس عن طريق خلق النظام و القانون بصفة مستمرة، و تتولى السلطة السياسية أداء وظائف الدولة الداخلية و الخارجية و تكون مسؤولة أمام الجماعات الأخرى عن كافة الشؤون التي تتعلق بالإقليم و الشعب.
و لعل الطابع الرئيسي الذي يميّز الدولة الحديثة عن الوحدات السياسية التي كانت موجودة في السابق هو تجميع السلطات في يد حكومة واحدة تملك من الوسائل المادية و القانونية ما يمكنها من السيطرة التامة على الإقليم دون منازعة من أية سلطة أخرى.
أصل نشأة السلطة
الجماعة البشرية نشأت بقصد تحقيق هدف معيّن مادي و معنوي و هذا الهدف هو الذي يحدد أنماط السلوك و نمط حياة الأفراد داخل الجماعة و إذا كان الهدف في الجماعات البدائية الأولى كالأسر و القبائل لا يتجاوز الرغبة في حفظ النوع و الدفاع ضد الاعتداءات الأخرى فإنه حيث تقدّم الزمن بالجماعات البشرية بدأت تتولد بينهم علاقات قرابة جديدة لا تنبع من وحدة السلالة أو الدم فحسب و لكنها تنبع من وحدة أسلوب الحياة و من وحدة المصالح المرتبطة بوحدة الأرض و من تشابك الهدف الاجتماعي و امتداده ليربط بين أفراد المجتمع في أجياله المتعاقبة و بذلك يتكوّن تدريجيا ضمير جماعي يحتوي الضمائر الفردية في المجتمع و يحملها على الرضا بالنظام الجماعي.
و ينمو الضمير الجماعي و بهدف صيانته ضد النزعات الفردية تظهر السلطة العامة لتسهر على المصلحة الجماعية و تطورها و لتلزم السلوكات الفردية بما يحقق الأمن و السلام الجماعيين.
خصائص السلطة السياسية
1- السلطة السياسية ظاهرة اجتماعية لارتباطها بالجماعة البشرية إذ لا يستقيم النظام الجماعي و لا يستقر دون وجود هذه السلطة و تقوم ظاهرة السلطة على أساس الإحساس بالحاجة إليها و هذا الإحساس بضرورة الحياة الجماعية و المحافظة عليها.
2- السلطة السياسية ظاهرة نفسية تقوم على الرضا، فالسلطة السياسية إذ تجد سندها الاجتماعي في كونها تسعى لتحقيق الهدف الجماعي و صيانته و تطويره و تعمل على تحقيق آمال الأفراد و أهدافهم و لهذا فإن السلطة العامة و إن أخذت في الحياة الواقعية شكل القوة المادية فإنها قبل كل شيء تعتمد في وجودها و في شرعية تصرفاتها على مدى ارتباطها بالضمير الجماعي و صدق تعبيرها عنه و من ثم فهي تستقر في الأساس على رضا المحكومين بها و قبولهم لها.
و لذلك قيل إن السلطة لا تنشئ الخضوع و لكن الهدف الاجتماعي الذي تمثله السلطة هو الذي يدعم هذا الخضوع و يؤكده، و تأسيسا على ذلك استقر الفكر السياسي الحديث على أن كل زمن تعيشه السلطة في أمن و بدون معارضة قوية من أحد يمثل قرينة نسبية لأن الناس قد تقبل السلطة السياسية بالعادة أو بالكسل عن البحث عن سلطة أخرى أو بالخوف من مقاومتها خشية التعرّض لبطشها و انتقامها أيا كان الأمر فلابد من الملاحظة التالية :
– السلطة السياسية كثيرا ما تعتمد في الدولة المعاصرة على أسباب مختلفة بعضها للضغط و بعضها للإقناع حتى تحمل الأفراد الخاضعين لها على الرضا بها و تقبلها.
و مظاهر التخويف و الضغط ما تعتمده الدولة دائما من قوة عسكرية و شرطة بوليسية لحماية وجودها و أمنها و لفرض سيطرتها بالقوة المادية عند الاقتضاء “بالضرورة”.
و تلعب السجون و المعتقلات و غيرها من وسائل العقاب دورا كبيرا في هذا المجال “إن رجل النيابة و القاضي يحملان رمز القوة المادية الضاغطة باسم القانون و مصلحة المجتمع على حريات الأفراد و أموالهم غير أنه يلاحظ أن سيادة القانون لا تزال تغلب على قوة الدولة المادية و ترسم من إجراءات التحقيق و الإثبات و حياد القاضي ما يهذبها و ينزع عنها مظنّة الاستبداد المادي و بجانب وسائل القهر المختلفة تلعب الدعاية دورا رئيسيا في الدول المعاصرة في محاولة لخلق الرضا بالسلطة عن طريق محاولة إقناع الشعب بأن السلطة القائمة هي أحسن سلطة يمكن أن تعبر عن أمالهم”.
السلطة و الحرية :
إن السلطة و هي تكفل الوجود الجماعي و تحميه فإنها لا تعارض فكرة الحرية الفردية و لا تقضي عليها فهي تعمل على خلق نوع من التنسيق بين حريات هؤلاء الأفراد و مجالات الصالح العام المشتركة بينهم و هذا التنسيق هو أمر نسبي يتغيّر بتغيّر الزمان و المكان كما يتحدد في ضوء فلسفة الدولة الشاملة و نظرتها إلى ما يجب أن يكون عليه تركيبها الاجتماعي و الاقتصادي “الرأسمالية و الاشتراكية”.
السلطة كظاهرة قانونية :
المصلحة العامة التي تتجمع حولها الحياة الجماعية و تحدد أهداف الأفراد و أمالهم المستقبلية لا تتحقق تلقائيا فهي تتطلب من الأفراد أن يسلكوا فيما بينهم أنماطا معينة من السلوك لا تهدد هذه المصلحة العامة و لا تمنع دون تطورها و ليست قواعد هذا السلوك في النهاية غير القانون و من ثم تأكد أن القانون ظاهرة اجتماعية يرتبط وجوده بوجود الجماعة ينشأ معها و يتطور بتطورها و هو في نشأته و تطوره يأخذ صورة الجماعة لأنها هي التي توجبه و تفرضه صيانة للأمن و السلام الجماعيين غير أن القانون يبقى في حاجة إلى قوة عاملة تتولى في شأنه مهمتين :
1- تقوم على استنباط فكرة القانون التي تعيش في ضمير الأفراد و تضعها موضع التنفيذ فتحدد الفكرة و تبلورها في الواقع من خلال ما تضعه من قواعد سلوك محددة و معلنة رسميا للناس.
2- تسهر على تنفيذ هذه القواعد السلوكية و حمايتها ضد كل محاولة للخروج عليها من جانب الأفراد مستخدمة في ذلك قوتها المادية عند الاقتضاء.
و من هنا يقوم التلازم بين فكرة السلطة و فكرة القانون، فالسلطة طالما بقيت أمينة لفكرة القانون التي تعيش في ضمير الأفراد فإنها تجد سندها النفسي لدى الأفراد دون صعوبة و لكنها تبدأ تتعرض لاحتمالات عدم الرضا بها حين يتعارض سلوكها مع ما توجبه فكرة القانون من أحكام.
اترك تعليقاً