بحث قانوني عميق عن الاليات القانونية والمؤسساتية لمكافحة الفساد والوقاية منه
تمهيد
من المسلم به أن الفساد يهدد استقرار المجتمعات بالنظر إلى ما ينجم عنه من عدم الثقة في المؤسسات والقانون، وما يؤدي إليه ذلك من إفراغ كل مخططات الإصلاح والتنمية من محتواها ، نتيجة تراجع سيادة القانون .
و رغم الخلاف حول طبيعة الوظيفة القضائية وما إذا كانت وظيفة علاجية أم وظيفة وقائية أم الاثنين معا ، فإن الأكيد أن دور القضاء في مكافحة جرائم الفساد يبقى مهما ويتراوح بين الدور العلاجي المتمثل في الردع الخاص من خلال المحاسبة والعقاب واسترداد الأموال وبين الدور الوقائي المتمثل في الردع العام .
و في هذا السياق فإن نهوض السلطة القضائية بتطبيق القانون بكل حياد وتجرد مع استقلالها عن السلطتين التشريعية والتنفيذية يجعلها أكثر كفاءة وقوة لكشف جرائم الفساد ومعاقبة مرتكبيها ، لذلك فإن محاربة الفساد تمر حتما عبر توفير عدالة جنائية فعالة تكفل مبدأ عدم الإفلات من العقاب، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال إقرار مجموعة من المبادئ و الآليات القانونية لتفعيل العدالة الجنائية في مجال مكافحة جرائم الفساد ( أولا ) ، فضلا عن خلق مجموعة الآليات المؤسساتية و الإجرائية للكشف عن الجريمة وتشجيع الإبلاغ عنها ( ثانيا ).
أولا : المبادئ الأساسية لدعم العدالة الجنائية في مجال مكافحة جرائم الفساد .
يتطلب قيام الأجهزة القضائية بدورها في مكافحة جرائم الفساد و إقرار سيادة القانون، صون مبدأ استقلال القضاء و تخصصه، و دعم الحق في الوصول إلى المعلومة، فضلا عن توسيع دائرة التجريم وتشديد العقاب.
أ- استقلال القضاء و تخصصه في جرائم الفساد :
1- استقلال القضاء:
أكدت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد على أهمية استقلال القضاء و ماله من دور حاسم في مكافحة الفساد، و حثت الدول على اتخاذ تدابير لدعم النزاهة و محاربة الفساد بين أعضاء الجهاز القضائي.
وفي هذا الإطار فقد جعل المغرب استقلال القضاء مبدأ دستوريا ، فمنذ أول دستور للمملكة كان ولازال النظام الدستوري يقوم على الفصل بين السلط الثلاث للدولة، مع إقرار آليات للتعاون فيما بينها ، ضمانا لفعاليتها ودينامكيتها.
كما أن الدستور الجديد للمملكة الذي تم إقراره مؤخرا عن طريق الاستفتاء ، نص في الفصل 107 على استقلال السلطة القضائية عن كل من السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية ، و أن الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية ، ولم يجعل الدستور الجديد استقلال القضاء حق للقاضي بل واجب عليه ، حيث نص الفصل 109 على إلزام القاضي بإحالة كل أمر يهدد استقلاله على المجلس الأعلى للسلطة القضائية ، ويعد كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد خطأ مهنيا جسيما ، بصرف النظر عن المتابعات القضائية المحتملة .
و إذا كان المشرع المغربي قد جرم كل مساس بمبدأ الفصل بين السلط ، من خلال معاقبة كل مظاهر تدخل إحدى السلط في صلاحيات السلط الأخرى ، ولاسيما ما يتعلق بالتدخل في أعمال السلطة القضائية صونا لاستقلال القضاء (الفصول 237 إلى 240 من القانون الجنائي )، فإن الدستور الجديد سما بمعاقبة كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة، سواء كان من سلط الدولة أو غيرها إلى مستوى المبادئ الدستورية.
2- تخصص القضاء في جرائم الفساد :
تقضي القاعدة بأن تكون الأحكام الصادرة بالإدانة مبنية على اليقين ، غير أن صعوبة كشف و إثبات جرائم الفساد بالنظر إلى كونها من الجرائم المعقدة والمركبة، يفتح باب الشك حول ضلوع المتهم في الجرم ، و الشك يعني البراءة والإفلات من العقاب، لذلك لابد من وجود قضاء متخصص في جرائم الفساد يستطيع فهم الأساليب المتطورة المستعملة في جرائم الأموال و له القدرة على الوصول إلى الحقيقة وبناء أحكامه على اليقين.
و لهذه الغاية أعدت وزارة العدل مشروع قانون يتعلق بتعديل المادة 6 من القانون المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة يقضي بإحداث قضاء متخصص في مكافحة جرائم الأموال وذلك عن طريق إحداث أقسام للبت في جرائم الفساد على مستوى محاكم الاستئناف، وتشتمل هذه الأقسام على غرفة للجنايات الابتدائية وغرف للجنايات الاستئنافية و غرف للتحقيق إضافة إلى النيابة العامة وكتابة للضبط وكتابة للنيابة العامة وهو ما سيمكن هذه الأقسام من كافة الموارد البشرية المتخصصة والمؤهلة التي ستمكنها من أداء مهمتها على الوجه الأكمل.
ب_ توسيع دائرة التجريم و تشديد العقاب:
يدخل العامل الأخلاقي بلا شك كعنصر هام ومؤثر في الحد من جرائم الفساد، غير أن القانون يتدخل في جميع الأحوال إلى جانب الأخلاق ليمنح المبادئ الأخلاقية صفة الإلزامية ويدفع الأفراد إلى احترامها تحت طائلة مساءلتهم قانونا.
وبذلك كلما تم توسيع دائرة تجريم مظاهر الفساد وتشديد العقاب كلما تعمق الشعور بخطورة اقتراف هذا النوع من الجرائم، بحيث أن المسلم به في علم الإجرام ضرورة التناسب بين درجة الألم المصاحب للعقوبة ودرجة خطورة الفعل الجرمي دون إفراط في الزجر أو تفريط فيه .
1_ مظاهر توسيع دائرة التجريم في التشريع المغربي :
– تجريم أفعال الفساد الكلاسيكية المتمثلة في اختلاس المال العام، الرشوة، الغدر استغلال النفوذ( الفصول 241 إلى 256 من القانون الجنائي ).
– تجريم ومعاقبة أفعال الفساد الحديثة وخاصة غسل الأموال الذي يعتبر جريمة في التشريع المغربي ولو ارتكب خارج المغرب( الفصلين 1-574 و 2-574 من القانون الجنائي ).
– تمديد التجريم والعقاب إلى بعض الأفعال التي تلحق بجرائم الفساد كجرائم البورصة والتهرب الضريبي والجمركي وإساءة استمعال أموال الشركة والتفالس .
– إعطاء مفهوم واسع للموظف العمومي في المادة الجنائية، فرغم أن الموظف في فقه القانون الإداري هو الشخص الذي يعمل في مرفق عام تديره الدولة، بعد تعيينه على سبيل الداوم وفق المساطر القانونية والإدارية المعمول بها ، فإن الموظف في القانون الجنائي المغربي ولاسيما في جريمة الرشوة له معنى واسع يشمل الموظف العمومي والمستخدم في القطاع الخاص والعامل أو الأجير والمنتخب ، سواء كان موظفا دائما أم مؤقتا يعمل بمقابل أو بدون مقابل، مع استمرار صفة الموظف بعد انتهاء خدمته إذا كانت هي التي سهلت له الجريمة أو مكنته من تنفيذها، فيما يخص الجرائم التي يرتكبها بهذه الصفة.
– تمديد اختصاص القضاء المغربي ليطال أفعال الفساد المرتكبة خارج المغرب من طرف مغربي أو أجنبي متى توفرت بعض الشروط .
– تضييق نطاق الحصانة و الإمتياز القضائي فيما يتعلق بجرائم الفساد : نصت إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في المادة 30 على ضرورة إتخاذ كل دولة طرف، وفقا لنظامها القانوني و مبادئها الدستورية ، ما قد يلزم من تدابير لإرساء أو إبقاء توازن مناسب بين أية حصانات أو إمتيازات قضائية ممنوحة لموظفيها العموميين من أجل أداء وظائفهم وإمكانية القيام ، عند الضرورة ، بعملية تحقيق وملاحقة ومقاضات في حقهم ، و هو ما أقره المغرب دستوريا ، فبعدما كانت الحصانة الممنوحة للبرلمانيين بموجب القانون رقم 04- 31 حصانة مطلقة تهم جميع أنواع الجرائم ، نص الدستور الجديد للمملكة على حصر هذه الحصانة في إبداء في حرية الرأي و التصويت المكفولة للبرلمانيين بمناسبة مزاولتهم لمهامهم ، ما يعني أن جرائم الفساد لم تعد تخضع لقواعد الحصانة المنصوص عليها لفائدة أعضاء البرلمان.
أما قواعد الاختصاص الاستثنائية المطبقة في الجنايات أو الجنح المنسوبة لبعض القضاة والموظفين فإنها لا ترقى إلى مستوى الحصانة، ولكنها قواعد إجرائية تقتضي مراعاة شكليات وضمانات خاصة بمتابعة هذه الفئة من الموظفين ، ليقتصر بذلك نطاق الحصانة بخصوص جرائم الفساد على الحصانة الدبلوماسية المقررة لفائدة أعضاء السلك الدبلوماسي والقنصلي كما هي مقررة في الاتفاقيات الدولية.
2- مظاهر تشديد العقاب بشأن جرائم الفساد في التشريع المغربي:
* إقرار عقوبات جنائية تصل إلى 20 سنة.
* الحرمان من الحقوق المدنية والوطنية .
* مصادرة الأموال المتحصلة من جرائم الفساد ولو كانت في يد الغير (الفصل 247 من القانون الجنائي ) مع اعتبار إخفاء الأموال المتحصلة من هذا النوع من الجرائم جريمة غسل الأموال ولو ارتكبت خارج المغرب (الفصلين 1-574 و2-574 من القانون الجنائي ).
* الحرمان من مزاولة الوظائف أو الخدمات مدة لا تزيد عن عشر سنوات (الفصل 256 من القانون الجنائي).
رغم توسيع دائرة التجريم وتشديد العقاب في التشريع المغربي فإن ذلك من شأنه أن يبقى بدون فعالية ما لم تصاحبه آليات لكشف الجريمة، إذ العبرة بتطبيق أحكام القانون الجنائي ، وذلك من أجل تقليص الرقم الأسود في جرائم الفساد والمتمثل في الفرق بين عدد جرائم الفساد التي وقعت بالفعل وعدد جرائم الفساد التي تم الكشف عنها .
ثانيا : الآليات المؤسساتية و الإجرائية للكشف عن الجريمة .
تتميز جرائم الفساد بصعوبة كشفها بالنظر إلى كونها جرائم مالية معقدة وتستخدم في إخفاءها وسائل متطورة ، على نحو أصبح معه من اللازم الاهتمام بتعزيز قدرات أجهزة المراقبة والتفتيش وضمان استقلالها الوظيفي، مع دعم الحق في الوصول إلى المعلومة وحماية المبلغين والشهود والخبراء، وهي التدابير التي يعمل المغرب على تطويرها وفق ما يلي :
أ- تعدد أجهزة الرقابة وتعاونها :
تنص اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في المادتين 6 و 36 على أن تتخذ كل دولة طرف، وفقا للمبادئ الأساسية لنظامها القانوني ، ما قد يلزم من تدابير لضمان وجود هيئة أو هيئات متخصصة و أشخاص متخصصين في مكافحة الفساد و الوقاية منه و إنفاذ القانون ، و تمنح تلك الهيئة أو الهيئات هؤلاء الأشخاص ما يلزم من الاستقلالية ، لكي يستطيعوا أداء وظائفهم بفعالية و دون أي تأثير لا مسوغ له .
و في هذا الإطار أحدث المغرب مجموعة من الهيئات والمؤسسات من أجل محاصرة كافة أشكال الفساد و إرساء أسباب كشفه و تقديم مرتكبيه للعدالة ، و من أهم المؤسسات والهيئات التي يمكن أن نذكرها في هذا الباب هناك :
1_ الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة :
تعتبر هذه الهيئة من آليات الوقاية من الفساد و لأهميتها تم رفعها بموجب الدستور الجديد للملكة إلى مصاف المؤسسات الدستورية، وتناط بها مهمة تنسيق سياسيات الوقاية من الرشوة و الإشراف عليها والسهر على تتبع تنفيذها وجمع و نشر المعلومات في هذا المجال، و لهذه الغاية يعهد إليها بمجموعة من المهام نذكر منها على الخصوص إخبار السلطة القضائية المختصة بجميع الأفعال التي تبلغ إلى علمها بمناسبة مزاولة مهامها و التي تعتبرها أفعالا من شأنها أن تشكل رشوة يعاقب عليها القانون، مع ملاحظة أن المرسوم المحدث لهذه الهيئة ينص على أنه يقصد بالرشوة في أحكامه جرائم الرشوة واستغلال النفوذ و الغدر و الاختلاس ، و هو ما يعني أن مهام الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة تشمل جميع جرائم الفساد المنصوص عليها في القانون المغربي.
2-وحدة معالجة المعلومات المالية:
تم التنصيص على هذه الوحدة في القانون رقم 05 – 43 المتعلق بمكافحة غسل الأموال، والذي أدخل مجموعة من التعديلات على مقتضيات مجموعة القانون الجنائي بهدف تجريم غسل الأموال وتحديد العقوبات المرتبطة بهذه الجريمة وسن إجراءات خاصة بالوقاية من غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وتتكون الوحدة التي أحدثت لدى الوزارة الأولى من ممثلين عن جميع القطاعات الحكومية المعنية بجرائم الفساد وغسل الأموال، إضافة إلى ممثلين عن المؤسسات المالية والبنكية، وهو ما يجعل الوحدة مؤهلة لبناء نظام فعال للوقاية من غسل الأموال وكشف جميع العمليات المرتبطة به، خاصة وأنها تتمتع بالاختصاصات وبالاستقلالية الضرورية للقيام بمهامها على الوجه الأكمل، بعد ما تمت ملاءمة إطارها القانوني مع المعايير الدولية المعتمدة في هذا الشأن.
ولهذا الغرض عهد للوحدة بمجموعة من المهام من بينها جمع ومعالجة المعلومات المرتبطة بغسل الأموال، فضلا عن إلزامها وبمجرد توصلها بمعلومات تبرر وجود أفعل من شأنها أن تكون جريمة غسل الأموال، بإحالة الأمر على النيابة العامة.
3-المحاكم المالية:
تعتبر المحاكم المالية من آليات المساءلة والرقابة المالية اللاحقة، المحدثة من أجل تفعيل الاختصاصات المدققة بشكل منهجي ومنتظم، من أجل توطيد مبادئ الحكامة الجيدة في مجال التدبير العمومي، بالإضافة إلى إحالة كل ما يكشف عنه التدقيق من أفعال جرمية على وزير العدل من أجل تحريك مسطرة المتابعات القضائية.
وفي هذا الإطار يأخذ المغرب بنظام الدعوى الموازية الذي يسمح بتحريك الدعوى الجنائية بموازاة مع ممارسة دعوى التأديب المالي بالمحاكم المالية، فإعمالا للمادتين 111 و162 من مدونة المحاكم المالية، فإنه كلما تبين من خلال تدقيق حسابات المؤسسات الخاضعة لرقابة المجلس الأعلى للحسابات، بأن هناك أفعالا تستوجب عقوبة جنائية، رفع الوكيل العام للملك لدى المجلس المذكور الأمر من تلقاء نفسه أو بإيعاز من الرئيس الأول إلى وزير العدل قصد اتخاذ ما يراه ملائما، وأخبر بذلك السلطة التي ينتمي إليها المعني بالأمر، ويخبر وزير العدل المجلس بالتدابير التي اتخذها، بحيث أن وزير العدل يوجه في مثل هذه الحالات تقارير المجلس الأعلى للحسابات أو تقارير المجالس الجهوية للحسابات إلى النيابة العامة ، قصد إجراء الأبحاث اللازمة ومتابعة مرتكبي الأفعال الجرمية و إحالتهم على المحكمة من أجل محاكمتهم طبقا للقانون.
القضايا المحالة على وزارة العدل من طرف المجلس الأعلى للحسابات
السنة عدد الملفات المحالة من المجلس
2001 2
2005 1
2007 9
2008 5
2010 11
2011 5
المجموع 33
وضعية الملفات بعد إحالتها على القضاء الجنائي
الإجراء المتخذ العدد
حكم نهائي 3
الحفظ 2
قيد البحث 12
قيد التحقيق 5
قيد المحاكمة 11
المجموع 33
4-مجلس المنافسة:
يعتبر مجلس المنافسة من آليات ضمان المنافسة الحرة و التنافسية المفتوحة، وصيانة حرية السوق من كل أشكال الاحتكار، كما يعمل على إحالة كل فعل يخل بحرية الأسعار والمنافسة على وكيل الملك المختص من أجل تحريك المتابعة وإحالة الفاعلين على هيئة المحاكمة.
ومن أجل تقوية دور هذه المؤسسة فقد تم الارتقاء بها إلى مصاف المؤسسات الدستورية المنصوص عليها في الدستور الجديد للمملكة.
5-مؤسسة الوسيط:
تم إحداث هذه المؤسسة من أجل إضفاء الفعالية و النجاعة على الدور الذي كان منوطا بمؤسسة ديوان المظالم، والإسهام في إحقاق الحق في النوازل المعروضة على هذه المؤسسة في علاقة المواطنين بمختلف الإدارات، كما تم الارتقاء بها في الدستور الجديد للملكة إلى مصاف المؤسسات الدستورية.
وبالإضافة إلى هذه المؤسسات، فقد تم إحداث آليات و مؤسسات موازية من أجل تخليق الشأن العام، وتضييق أسباب انتشار ظاهرة الفساد، ونذكر بهذا الخصوص، إحداث لجنة وطنية لتحسين وتطوير مناخ الأعمال والوقاية من كل الممارسات الاقتصادية الشائنة، إضافة إلى تدعيم آليات الرقابة الداخلية للإدارات من خلال تقوية دور واختصاصات المفتشيات العامة للوزارات، دون إغفال الإستراتيجية الرقمية “Maroc Numérique ” التي تهدف إلى تطوير الاقتصاد الرقمي والإدارة الإلكترونية إضافة إلى دورها الفعال في تدعيم أسس الشفافية وتكسير المواقع التقليدية للفساد بتقليصها من المساطر الإدارية وتيسير الخدمات على الخط، تفعيلا لحق المواطن في الولوج إلى المعلومة.
هذا وإذا كانت بعض التشريعات المقارنة اختارت منع الأفراد من تحريك المتابعات بشأن جرائم الفساد، وجعلت ذلك حكرا على النيابة العامة وحدها، أو ربطت تحريك المتابعة بتقديم شكاية في الموضوع من جانب الإدارة التي ينتمي إليها الفاعل، فإن التشريع المغربي يسمح للأفراد بتحريك المتابعة بشأن جرائم الفساد، إما عن طريق النيابة العامة، بتقديم شكايات أو وشايات إليها، أو مباشرة عن طريق تقديم شكاية مباشرة لقاضي التحقيق أو قضاء الحكم، وهو ما يعني أن التبليغ عن جرائم الفساد وكشفها في ظل التشريع المغربي، تشكل نظاما شموليا واسع النطاق وفق ما يلي:
ب- دعم آليات كشف جرائم الفساد والتبليغ عنها.
يمثل الكشف عن جرائم الفساد و تشجيع الإبلاغ عن مرتكبيها أهمية خاصة، بالنظر إلى ما يصاحب هذه الجرائم من كتمان، واستغلال الموظفين لسلطاتهم من أجل إخفاء أفعالهم، خاصة عندما ترتبط جرائم الفساد باستخدام التقنيات الحديثة في المجالات الاقتصادية والمصرفية ، لذلك فإن التشريعات المقارنة والاتفاقيات الدولية تسطر في هذا الباب مجموعة من الحلول و التدابير التي تساعد على كشف جرائم الفساد و تشجيع الإبلاغ عنها ، نذكر منها على وجه الخصوص :
1- حماية الشهود والمبلغين والخبراء:
يعد التبليغ عن الجرائم والإدلاء بالشهادة حول وقائعها بشكل عام وعن جرائم الفساد بشكل خاص واجبا قانونيا وأخلاقيا وشرعيا يحول في كثير من الأحيان دون وقوع الجريمة، ويؤدي إلى تعزيز مشاركة الأفراد بشكل خاص والمجتمع بشكل عام في مكافحة الإجرام بشتى صوره ويسهم في بناء الثقة والطمأنينة في المجتمع وترسيخ مبدأ المواطنة الحقة ،لذلك ينبغي أن يقابل هذا الواجب التزام عام بحماية هؤلاء الشهود والمبلغين وأقاربهم وسائر الأشخاص الوثيقي الصلة بهم من أية أعمال انتقامية أو إجراءات تعسفية ، وضرورة توفير مجموعة من الضمانات تكفل سلامة الشاهد والمبلغ جسديا وماديا ومعنويا، وتحول دون إفلات الجناة من العقاب وفق ما نصت عليه صراحة المادتين 32 و33 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لسنة 2003.
والتزاما ببنود الاتفاقية التي تلزم كل دولة طرف باتخاذ تدابير مناسبة وفقا لنظامها الداخلي، تضمنت التشريعات الوطنية نصوصا تتحمل بموجبها الدولة نفقات تنقلات الشهود من تعويض عن الحضور والإقامة ومصاريف السفر، وإمكانية الاستماع إليهم في مكان إقامتهم بواسطة إنابات قضائية وتخصيص قاعة بالمحكمة خاصة بالشهود، والاستماع إلى الأشخاص المقيدين بالسر المهني وفق الشروط وفي نطاق الحدود المقررة في القانون، كما جرم المشرع المغربي استعمال الوعود أو الهبات أو الهدايا أو الضغط أو التهديد أو العنف أو المناورة أو التحايل لحمل الغير على الإدلاء بالشهادة في أي حالة كانت عليها الدعوى.
كما حرص المشرع على إرساء تدابير ونظم تيسر قيام الموظفين بإبلاغ السلطات المعنية عن أفعال الفساد عندما ينتبهون إلى مثل هذه الأفعال أثناء أداء وظائفهم ومنع إقامة أي دعوى في مواجهتهم، كما متع بعذر معفي من العقاب الراشي الذي بلغ السلطات القضائية عن جريمة الرشوة.
و فضلا عن هذا وذلك فقد تم إعداد مشروع قانون رقم 10.37 يتعلق بحماية الضحايا والشهود والخبراء والمبلغين وتأمين سلامتهم وسلامة أسرهم وذلك عبر :
– وضع رقم هاتفي خاص رهن إشارة الضحية أو الشاهد أو الخبير لطلب حماية الشرطة القضائية أو باقي المصالح الأمنية.
– الاستماع شخصيا للشاهد أو الخبير.
– إخفاء هوية الشاهد أو الخبير بشكل يحول دون التعرف على هويته وعلى عنوانه الحقيقيين.
– إخضاع الهواتف التي يستخدمها الشاهد أو الخبير لرقابة السلطات المختصة بعد موافقة المعني بالأمر ضمانا لحمايته.
-توفير حماية جسدية للضحية أو المبلغ أو الشاهد أو الخبير وأسرهم أو أفراد عائلتهم.
– إمكانية تلقي شهادة الشاهد باستعمال الوسائل التقنية الكفيلة بتغيير الصوت ومنع التعرف عليه.
– لا يحول اتخاذ إجراءات إخفاء هوية الشاهد أو الخبير دون تضمين الهوية الحقيقية في ملف خاص يوضع رهن إشارة هيئة المحكمة لتطلع عليه وحدها عند الاقتضاء، مع إمكانية كشف هوية الشاهد استجابة لحقوق الدفاع إذا كانت شهادته هي وسيلة الإثبات الوحيدة وبشرط توفير تدابير الحماية الكافية .
– عدم جواز متابعة الموظف الذي بلغ عن جرائم الفساد بإفشاء السر المهني.
2- رفع السر البنكي :
يأخذ التشريع المغربي بمفهوم السر البنكي النسبي، فمن جهة يلزم الأشخاص الذين يباشرون عمليات البنوك والائتمان وكذا الأشخاص الذين يباشرون مهام الرقابة على هذه العمليات بضرورة كتمان السر المهني ( المادة 79 من قانون مؤسسات الائتمان ).
ومن جهة أخرى ينص على انه لا يجوز الاحتجاج بالسر المهني على السلطة القضائية العاملة في مسطرة جنائية (المادة 80 من قانون مؤسسات الائتمان).
كما ألزم مؤسسات الائتمان والهيئات الأخرى الخاضعة لمراقبة بنك المغرب بضرورة التقيد بواجب اليقظة فيما يتعلق بكل عملية يكون الداعي الاقتصادي إليها أو طابعها المشروع غير واضح (المادة 84 من قانون مؤسسات الائتمان).
وتنص المادتان 110 و161 من مدونة المحاكم المالية على أن المسئولون والمستخدمون لا يلزمون بواجب كثمان السر المهني تجاه قضاة المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية للحسابات بمناسبة التحقيقات التي يقومون بها في إطار اختصاصات المجلس .
وعندما يتعلق الأمر بغسل الأموال فإنه لا مجال للاحتجاج بالسر البنكي، بحيث ألزم القانون رقم 43.05 المتعلق بمكافحة غسل الأموال، جميع المؤسسات المالية باليقظة وجمع كل عناصر المعلومات التي تمكن من تحديد هوية زبنائها المعتادين أو العرضيين، وأن تتحرى حول مصدر الأموال وفي حالة الشك في مصدرها ، ألزم المشرع البنوك وجميع المؤسسات المالية بتقديم تصريح بالاشتباه إلى الوحدة المحدثة لدى الوزارة الأولى الخاصة بمعالجة المعلومات المالية التي تتخذ القرار الملائم بشأن مآل القضية المعروضة عليها، وفي جميع الأحوال يمنع قانون مكافحة غسل الأموال على البنوك وجميع المؤسسات المالية الاحتجاج بالسر البنكي عندما يتعلق الأمر بغسل الأموال.
وبذلك فإن السر البنكي في ظل التشريع المغربي لا يطرح أية مشكلة في الكشف عن جرائم الفساد المالي، مادام المشرع المغربي وإن كان قد قنن السر البنكي وألزم العاملين في المجال المالي بضرورة كتمانه والتقيد به، فإنه منع هؤلاء من الاحتجاج بالسر البنكي عندما يتعلق الأمر بمسطرة قضائية من أجل كشف الجريمة.
3-تعزيز التعاون القضائي الدولي :
بالإضافة إلى مظاهر العولمة المتجلية في ارتفاع مستويات الاعتماد المتبادل وحرية التجارة ، فإن للظاهرة وجه آخر يتمثل في ظهور ما يمسى بالفساد العابر للقارات، حيث أصبحت عمليات الفساد المالي تتم في إطار الجريمة المنظمة عبر الوطنية، وتستعمل فيها أساليب وإمكانيات تتجاوز القدرات الفردية للدول ، وهو ما جعل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد تؤكد في ديباجتها على أهمية التعاون الدولي في مجال مكافحة الفساد وتفرد فصلا كاملا لذلك .
وفي هذا الإطار نصت الفقرة الأولى من المادة 713 من ق.م.ج على سمو الاتفاقيات الدولية على القوانين الوطنية فيما يخص التعاون القضائي مع الدول الأجنبية، وهو المبدأ الذي تم التنصيص عليه في الدستور الجديد للملكة، وهو ما يجعل المغرب من الدول التي يتيح تشريعها الداخلي اعتماد اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد كأساس للتعاون الدولي.
كما نظم المشرع المغربي إجراءات الانابات القضائية الدولية الواردة والصادرة، وكذا إجراءات تسليم المجرمين والاعتراف ببعض الحكام الزجرية الأجنبية واستدعاء الشهود من طرف دولة أجنبية وشكليات تقديم الشكاية الرسمية .
وينخرط المغرب بشكل فعال في علاقات التعاون القضائي الثنائية والدولية من اجل مكافحة الفساد ، بحيث نفذ 34 إنابة واردة سنة 2007 و28 سنة 2008 و26 سنة 2009 و34 سنة 2010 و18 سنة 2011، كما تلقى بخصوص جرائم الفساد المالي 8 شكايات رسمية سنة 2009 و8 شكايات رسمية سنة 2010 و شكاية رسمية واحدة سنة 2011.
ختاما لابد من التأكيد على أن العدالة الجنائية مهما كانت فعالة ومهما كانت سريعة ومتخصصة فإنها مجرد آلية من آليات مكافحة الفساد، لا يمكنها وحدها أن تجتث أسبابه وتحد من مخاطره كما لا يمكن أن نحملها وحدها مسؤولية تفشيه وانتشاره، لذلك لا بد من تظافر الجهود في إطار المواطنة الحقة، والانخراط التام للأفراد والمؤسسات في القطع مع كل السلوكيات والممارسات التي من شأنها أن تشجع جرائم الفساد، في إطار جو من سيادة القانون والمساواة أمام أحكامه .
اترك تعليقاً