لقد تعرض فقهاء المسلمون لأبرز واغلب الجرائم المخلة بالسكينة العامة في أحكام متفرقة، وألفاظ متنوعة ومختلفة، ذلك لأنهم أدركوا بان معظم الأفعال الضارة لها تكدر صفو المواطنين وراحتهم وتضايقهم، ولاحظوا بان هذه المضايقات جانب منها يمكن احتماله وجانب آخر لا يمكن احتماله ويكون مدعاة للضرر وهو الأمر الذي أخذه أصحاب المذاهب في الفقه الإسلامي بنظر الاعتبار وعلى النحو الآتي:
أولاً – رأي الحنفية:
من الأمور المهمة الممنوعة في الفقه الحنفي والتي تسبب ضرراً فاحشاً لا يمكن التحرز منه من قبل الغير وتشكل جريمة من الجرائم الماسة بالسكينة العامة(1) هي إركاض الخيل أو الدواب الأخرى في الجهات المسكونة أو تركها تركض في تلك المناطق الآهلة بالسكان لاسيما في أوقات الليل مما يسبب الاضطراب أو القلق والإزعاج للأفراد، حيث إنهم يعمدون خلال هذه المدة إلى نيل قسط من الراحة لمواجهة متاعب النهار ذلك لان تمتع الإنسان بالراحة البدنية والنفسية هو أمر بغاية الأهمية حيث انه يساعد على دفع عجلة التطور نحو التقدم وتحقيق الاستقرار للدولة، وهذا الفعل يعد احد الجرائم المخلة بالسكينة العامة والتي يعاقب عليها المشرع في نصوصه القانونية كما في نص المادة (495/ سادساً) من قانون العقوبات العراقي(2).
ثانياً – رأي المالكية:
من الأمور التي أخذها المذهب المالكي بنظر الاعتبار وعدها من الأفعال المخلة بالسكينة العامة هو الصوت والاهتزاز الذي تسببه بعض الصناعات الثقيلة نتيجة للآلات المستخدمة فيها كصناعة السفن والبواخر أو صناعة النسيج…الخ، إذ إن الأصوات الصادرة عنها تقلق راحة السكان والاهتزاز يؤثر على صفوهم، فمثلاً يتسبب الحداد في إصدار أصوات مزعجة عند قيامه بممارسة عمله بضرر للغير، فلقد اختلفت الآراء حول الضرر الذي تسببه هذه الأصوات المزعجة فمنهم من رأى ضرورة منعه إذا كان يقلق راحة المواطنين وهو الرأي الراجح، فقانون إدارة البلديات قد قسم الوحدة الإدارية (المدنية) إلى مناطق كلا حسب طبيعتها مناطق سكنية، تجارية، صناعية، زراعية، لضرورات تدعوها المصلحة العامة وصيانة النظام العام وحماية للمجتمع(3) تحقيقاً للسكينة العامة. وأخيراً يمكننا القول بان القانون يكاد يتفق مع أنصار هذاالرأي الذين يركزون على الضرر المحدث للآخرين عند الحكم، دون الإلتفات إلى تأثير ذلك الحكم على الفريق المتصرف لان معظم التصرفات المخلة بالسكينة تضر بالأفراد .ومن ذلك يتبين منعاً واضحاً لإنشاء مثل هذه الصناعات التي تصدر عنها مضايقات تقلق راحة السكان وتخل بسكينتهم، وحتى أصوات الحيوانات وان كانت أليفة ومستأنسه كالكلاب والقطط يكاد يتقارب رأي أصحاب هذا المذهب مع القضاء بتجريمها ودفع التعويض للمتضرر منها إذا ما وقعت. ولعل ابرز قضاء يؤيد هذا الأمر هو القضاء لفرنسي(4) حيث إن كلا من القانون والقضاء يكمل احدهما الآخر في حماية السكينة العامة إذ إن النصوص التشريعية لا قيمة لها ما لم تقترن بجزاءات توقع على من يخالفها(5).
ثالثاً – رأي الشافعية:
يذهب أنصار المذهب الشافعي شأنهم في ذلك شأن المذاهبين سابقي الذكر على تجريم ومنع معظم التصرفات سواء كانت أقوال أم أفعال مخلة بالسكينة العامة، حتى إنهم اعتبروا من يستأجر داراً لغرض السكن ثم يخالف شروط العقد ويستخدمه كمصنع لصناعة تصدر ضجيج يقلق راحة المواطنين، يعّد مرتكباً لجريمة من الجرائم الماسة بالسكينة العامة.
رابعاً –رأي الحنبلية:
يتفق أنصار المذهب الحنبلي مع بقية المذاهب حول منع كل ما من شأنه إقلاق راحة الناس لاسيما الضوضاء الصادرة من الجيران(6). وفي هدى ما تقدم تكاد تتفق معظم المذاهب الإسلامية على أمر في غاية الأهمية يدور حول منع أو تجريم كل ما من شأنه إقلاق راحة السكان أو إزعاجهم لاسيما في أوقات الليل سواء بمخالفة التقسيم الإداري للوحدة الإدارية (المدينة) أم بإركاض الحيوانات في المناطق الأهلة بالسكان أم بالأصوات الصادرة من الحيوانات الأليفة وغيرها التي يتم إيوائها في البيوت والمنازل.. الخ من الأمور المقلقة للراحة والمخلة بالسكينة.
_______________
[1]- الإمام كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيوسي المعروف بابن الهمام، شرح فتح القدير، الطبعة الأولى ، المطبعة الكبرى الاميرية، مصر ، 1316هـ، ص506.
2- نص المادة (495/سادساً) على انه ((يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على شهر أو بغرامة لا تزيد على عشرين ديناراً.
سادساً- من ركض في الجهات المسكونة خيلاً أو دواباً أو تركها تركض فيها)).
3- نصت المادة(43/ ب) (تقسيم المدينة إلى قطاعات سكنية تتوافر فيها مناطق عمرانية وصناعية وتجارية) من قانون إدارة البلديات اعلاه.
-4 Michel despax:Driot de l’enrironnement،Litec،1980،p.448.
5- نوار دهام، الحماية الجنائية للبيئة ضد أخطار التلوث، رسالة دكتوراه، كلية القانون، جامعة بغداد،1996، ص17.
6- احمد بن حنبل، المرجع السابق، ص327.
المؤلف : ندى صالح هادي الجبوري
الكتاب أو المصدر : الجرائم الماسة بالسكينة العامة
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً