إعادة نشر بواسطة محاماة نت
أثار القرار الصادر عن وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة تصريف الأعمال في سورية برفع أسعار المحروقات جدلاً قانونياً ودستورياً حول مشروعية هذا التصرف؛ فهل تملك الحكومة أو الوزير صلاحية اتخاذ مثل هذه القرارات في هذه المرحلة من حياة الحكومة السياسية والدستورية؟! للإجابة عن ذلك لابد من تحديد المقصود بحكومة تصريف الأعمال؟
في ضوء قلة الآراء الفقهية التي تناولت مفهوم حكومة تصريف الأعمال، وقلة الاجتهادات الدستورية في هذا المجال، نجد أن الدكتور سام دلة يعرّف حكومة تصريف الأعمال بأنها: “حكومة متحولة من حكومة عادية بكامل الصلاحية إلى حكومة محدودة الصلاحيات في حدود تأمين استمرارية العمل الحكومي في حدوده الإدارية، وذلك بسبب ممارسةَ دستورية طبيعية ناجمة عن واقع سياسي جديد”. وهذه الممارسة تتمثل إما باستقالة الحكومة أو باعتبارها بحكم المستقيلة نتيجة واقع دستوري جديد (انتخاب برلمان جديد ـ انتخاب رئيس دولة جديد ـ استقالة نسبة من أعضائها)؛ فهي بالنسبة للدكتور دلة حكومة عادية بكامل الصلاحيات تحولت إلى حكومة ذات صلاحيات محدودة لمدة مؤقتة وانتقالية.
وهذا ما دفع الفقه إلى الاختلاف حول صلاحيات حكومة تصريف الأعمال؛ فثمة فريق من الفقهاء يرى أن حكومة تصريف الأعمال شأنها شان الحكومة العادية التي لا تزال في السلطة ومتقلدة لسلطتها من الناحية الشرعية تملك اختصاصات كاملة، إذ لا يمكن تقييدها في ميدان تصريف العاجل من الأمور، وأن هذا الاصطلاح استخدم كوسيلة من قبل بعض الحكومات المستقيلة للتهرب من اتخاذ بعض القرارات ذات الطبيعة المحرجة، سواء من النواحي السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. لكنّ الرأي الغالب في الفقه يرى أن نظرية حكومة تصريف الأعمال موجودة فعلاً وأخذت مجالها في التطبيق العملي، وأن القضاء الدستوري ساهم هو الآخر في اجلاء بعض جوانب الموضوع، وحدّد حالات تطبيقها.. وثمة تطبيق آخر لهذه النظرية يتحقق عند حل البرلمان إذ تشترك كل الحالتين “استقالة الحكومة وحل البرلمان” في عامل مشترك واحد هو فقدان الرقابة البرلمانية على عمل الحكومة، أو على الأقل، جعل هذه الرقابة غير منتجة لآثارها القانونية.. وبالتالي فإن هذه النظرية تهدف الى حصر اختصاص حكومة تصريف الأعمال في نطاق معين، ألا وهو تصريف العاجل من الأمور بحيث تضمن دائماً عدم خروجها عن النطاق المحدد لها حفاظاً على سيادة مبدأ المشروعية.
الأساس القانوني لمفهوم حكومة تصريف الأعمال:
يعود أساس وجود “حكومة تصريف الأعمال” إلى سببين قانونيين أساسيين؛ الأول، من طبيعة إدارية / تنظيمية تتعلق بضرورة استمرار عمل المرافق العامة؛ والثاني، ذو طبيعة دستورية / سياسية تتعلق بانعدام المسؤولية السياسية للحكومة، أي فقدانها ثقة البرلمان؛ فالأصل في النظام البرلماني أن الحكومة لاتكون مختصة بمباشرة صلاحياتها إلا عندما تتمتع بثقة البرلمان وتكون مسؤولة أمامه وتخضع لرقابته. ولكن على الحكومة ـ بغض النظر عن وضعها القانوني ومدى استقرار علاقتها بالبرلمان ـ تأمين استمرار المرافق العامة بأداء وظائفها بانتظام واضطراد وبشكل غير قابل للانقطاع.
إن التوفيق بين هذين المبدأين المتعارضين خلق نظرية تصريف الأعمال؛ إذ ثمة مبدأ دستوري عرفي وفقهي يقول باستمرارية المرفق العام حيث منح مجلس الدولة الفرنسي مبدأ استمرارية المرفق العام قيمة المبادئ القانونية، وأسبغ المجلس الدستوري الفرنسي بدوره على مبدأ استمرارية المرفق العام القيمة الدستورية باعتبار أن المرافق العامة أهم الأدوات التي تملكها الإدارة التي تشكل أهم الأوجه الوظيفية للحكومة. وذهب البعض إلى ربط مبدأ استمرارية المرفق العام بوجود أو استمرارية الدولة.
وانطلاقاً من هذين السببين فإن أساس وجود حكومة تصريف الأعمال قائم على التوفيق بين مبدأين: مبدأ استمرارية الدولة بهدف استمرار الحياة العامة، وهو ما يعرف وفقاً للفقه والاجتهاد الإداري بمبدأ استمرارية المرافق العامة، ومنها المرافق الدستورية.. ومبدأ المساءلة البرلمانية للحكومة عن سياستها العامة. لذلك إن هذا التحول ليس مجرد تحول في التسمية، وإنما هو تحول أو تغيير في نطاق الصلاحيات أيضاً؛ حيث تصبح صلاحيات “حكومة تصريف الأعمال” محددة بتصريف الأعمال العادية أو الجارية، التي عرفها مجلس الدولة الفرنسي في قرار له عام 1966 أنها:
“تلك الأعمال التي لا تعرض مسؤولية الوزارة مجتمعة أو الوزير المعني إلى نتائج سياسية لأن الحكومة أو الوزارة تحكم بثقة الشعب الممثل بالبرلمان والحكومة المستقيلة تكون فاقدة لثقة البرلمان مما يجعلها غير قادرة وغير ذات صلاحية دستورية لتتخذ قرارات سياسية”.
وكان مجلس الشورى اللبناني اعتبر أن الأعمال التي تقوم بها الحكومة المستقيلة، تعتبر دائماً أعمال عادية عندما لا ترتبط بسياسة الدولة العليا ولا تقيّد حرية الحكومة اللاحقة.
وإذا كان مفهوم تصريف الأعمال يُحصر مبدئياً بالأعمال الجارية العادية اليومية في الظروف العادية، إلا أنه وفي الوقت ذاته، يمتد ويتوسع أكثر عندما تتوافر شروط أو ظروف استثنائية توجب حماية الدولة، أو صون حقوقها أو التزاماتها الدولية. وهذا ما يجعل مفهوم تصريف الأعمال يوصف “بالنسبي”، نتيجة الظروف والحاجات التي يتصف بها تحديد الأعمال العادية الداخلة في اختصاصات وصلاحيات حكومة مستقيلة.. وخصوصاً عندما تمتد فترة عمل حكومة تصريف الأعمال لمدة زمنية طويلة، وفي ظل عدم وجود ـ بل استحالة ـ إيجاد نص يحدد مفهوم الظروف الاستثنائية. وباعتبار أنه ليس من اليسير وضع معيار أو تعريف دقيق للظرف الاستثنائي لأن الواقعة لا تعد ظرفاً استثنائياً إلا في ضوء ما يحيط بها من ظروف زمانية ومكانية، لذلك فإن الاجتهاد والفقه الإداريين يُجمعان على اعتبار بعض الإجراءات التي تعتبر غير مشروعة في الظروف العادية، مشروعة في ظروف أخرى إذا كانت ضرورية لحماية النظام العام أو لاستمرارية سير المرافق العامة.
فالظروف الاستثنائية تسمح للحكومة المستقيلة وفي نطاق حقها بتصريف الأعمال بالمعنى الضيق وفقاً لما نص عليه الدستور، باتخاذ كافة التدابير والأعمال ـ سواء أكانت أعمال تصريفية أو عادية ـ وذلك للمحافظة على النظام العام وتأمين المصلحة العامة؛ ففي الظروف الاستثنائية تحل محل الشرعية العادية شرعية خاصة استثنائية تدوم بدوام هذه الظروف وتزول بزوالها. وهذه الشرعية الخاصة الاستثنائية تعلو على الشرعية العادية؛ فالضرورات تبيح المحظورات، وتأمين استمرارية المرفق العام هنا ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها.
ختاماً، نعتقد أن المشرّع السوري يذهب في هذا الاتجاه حيث ينص في المادة 125 فقرة 2 من الدستور على أن: “تستمر الوزارة بتسيير الأعمال ريثما يصدر مرسوم بتسمية الوزارة الجديدة”.
وبحسب هذا النص تكون “حكومة تصريف الأعمال” حكومة عادية؛ فعبارة النص جاءت مطلقة وغير مقيدة بقيد أو شرط. ولو أراد المشرّع خلاف ذلك لنصّ عليه صراحة. ولكن تبقى صلاحيات الحكومة المستقيلة ـ في جميع الأحوال في تسيير الأعمال ـ محددة بالأعمال اليومية العادية، وإن كان ثمة حاجة لضمان عدم تجاوز هذه الحكومة نطاق اختصاصها المحدود ومباشرتها لأعمال لا تثير مسؤوليتها السياسية أمام البرلمان لو قامت بها في الظروف العادية، أو تقيّد الحكومة اللاحقة بإنشاء مراكز قانونية تصبح حقاً مكتسباً للغير.
ولتحقيق ذلك لابد من وجود رقابة على أعمال الحكومة في هذه المرحلة، وهذه الرقابة يمكن أن تمارس عن طريق الرقابة القضائية، حيث يتولى القضاء الإداري مهمة النظر بالقرارات الصادرة عن تلك الحكومة للتأكد من عدم تجاوزها لنطاق صلاحياتها في تسيير الأعمال؛ فالقضاء عندما يراقب القرارات الصادرة عن الحكومة المستقيلة لا يخالف مبدأ فصل السلطات؛
فالقاضي يقوم بهذه المهمة استناداً لمبدأ تجاوز السلطة حيث تخضع جميع القرارات الإدارية للرقابة القضائية، إلا ما تعلق منها بالسيادة، حيث يتولى القضاء الاداري التحقق من مدى التزام الحكومة بنطاق اختصاصاتها الذي تمارسه في ظل ظروف واقعية أو مادية معينة؛ بمعنى أن القضاء يتحقق من توافر شروط ممارسة هذه الاختصاصات بالكامل؛ فهو لا يقتصر إذن على التحقق من الوجود المادي للوقائع، وإنما يتأكد أيضاً من طبيعة الدافع الذي يبرر اتخاذ هذا القرار أو ذاك ومشروعيته.
وفي جميع الأحوال، فإن نطاق عمل حكومة تصريف الأعمال في الظروف العادية أو الاستثنائية يبقى عرضة للتجاذبات والممارسة السياسية في الأنظمة السياسية المختلفة، ويقوم القضاء الإداري بتأطيره تبعاً للطعون المقدمة أمامه بقرارات حكومة تصريف الأعمال.
اترك تعليقاً