ملاءمة العقاب مع شخصيّة الجاني
الاستاذة لبنى بن خليفة
لأنّ المجتمع ليس سوى اشتراك عدد من النّاس في معيشة واحدة، تجمعهم علاقات متباينة تتراوح بين التّوافق والتّعارض نظرا لاختلاف الرّغبات والمصالح، كان من الضّروري أن يتدخّل القانون لسنّ قواعد ملزمة لتنظيم هذه العلاقات في إطار نظام متكامل يحكم نواميس سيرها وتعامل أفرادها فيما بينهم، ليتمكّن المجتمع من الحفاظ على كيانه ونمائه وذلك بمنع السّلوكيّات التي يمكن أن تهدّده أو تعرّض أمنه إلى الخطر، لتتجسّد الطّموحات من خلال وضع عقوبات لكلّ من تخوّل له نفسه الخروج عن النّظام الاجتماعي، خاصّة أنّ الجريمة ليست ظاهرة إنسانيّة عامّة فحسب، وإنّما هي أساسا ظاهرة طبيعيّة لأنّها تتلازم مع الحياة حيث وجدت،
فالجريمة في أبسط مفهوم لها عدوان. واهتمام المجتمعات بأمرها وبأمر مرتكبها قديم يرتدّ إلى التّاريخ الذي وجدت فيه هذه المجتمعات([1]) عبر البحث المتداول عن العقوبات المناسبة القادرة على الحد من ظاهرة الإجرام لتتدرج من عقوبات قاسية ومنافية للإنسانيّة ومهينة للكرامة إلى عقوبات ذات طابع إنساني وإصلاحي والهدف من تطوّر مفهوم العقوبة هو السّعي للحدّ من ظاهرة العود.
والعقوبة لغة هي الجزاء، إذ جاء على لسان العرب المحيط لابن منظور: “اعتقب الرّجل خيرا أو شرّا بما صنع، كافأه به، والعقاب والمعاقب أن نجزي الرّجل بما فعل سواء، والاسم العقوبة وعاقبه بذنبه معاقبة وعقابا أخذه به، وتعقب الرّجل إذا أخذته بذنب كان منه”([2]) وفي الاصطلاح القانوني هي : “ما يحكم به على كلّ من يخالف الأحكام القانونيّة([3])”. ومن الجزاء الذي يوقع على مرتكب الجريمة لمصلحة الهيئة الاجتماعيّة([4]) ويجمع الفقه الجنائي على تعريف العقوبة بأنّها : “جزاء يقرّره القانون ويوقعه القاضي على من تثبت مسؤوليّته عن فعل يعتبر جريمة في القانون ليصيب به المتهمّ في شخصه أو ماله أو شرفه، في حين يعرفها الأستاذ عوض محمد في كتابه “مبادئ علم الإجرام والعقاب” بأنّها قدر مقصود من الألم يقرّره المجتمع ممثّلا في مشرّعه ليوقع كرها على من يرتكب جريمة في القانون بمقتضى حكم يصدره القضاء([5]).
قامت في الأوّل على الانتقام الشّخصي المتميّز بانعدام النّظام وانتشار الجهل والفوضى وسيطرة حقّ القصاص لتحقيق العدالة، ثمّ لعب العامل الدّيني دورا هامّا لترتبط الجريمة والعقوبة بمفاهيم دينيّة، إذ أصبح ارتكاب الجرائم بمثابة خروج عن قانون السّماء، ممّا أدّى إلى توقيع عقوبات صارمة تصل إلى حدّ مرحلة استئصال الجاني والقضاء عليه.
ومع ظهور الدّيانات السّماويّة شهدت العقوبة نوعا من الاعتدال والرّحمة بالرّغم من الإبقاء على فكرة القصاص وتوقيع العقوبات على قدر درجة الاعتداء، فالمتأمّل في أحكام العقوبة في التّشريع الإسلامي على سبيل المثال، نجد أنّ أساسه الدّين([6])، فتنوّعت العقوبات في التّشريع الإسلامي بحسب الجرائم، جرائم حدود وجرائم قصاص وعقوبات التّعازير وعقوبات الكفارات، كما عرّف التّشريع الكنسي بدوره مبادئ الاعتدال، فاقتصرت العقوبات في إطاره على السّجن المؤبّد أو المؤقّت في الدّين مع استبعاد العمل بعقوبة الإعدام.
أمّا الطّور الأخير من تطوّر العقوبة، فقد برز مع أواخر القرن الثّامن عشر ميلادي وانطبع بدراسة علميّة لموضوع الجريمة والمجرم وعرف فيه الجزاء بمفهومه الحديث تطوّرا ملحوظا خاصّة بعد صدور عدّة مؤلّفات وكتب تتناول دراسة المجرم والجريمة من أجل إيجاد العلاج اللاّزم لكلّ حالة في النّطاق الفردي أو الجماعي([7])، فاتّجه جلّ شرّاح القانون الجزائي نحو ضرورة تفريد العقوبة والأخذ بشخصيّة الجاني أن ثبتت عليه الجريمة ورفعت عنه قرينة البراءة.
هذا وساهمت الثّورة الفرنسيّة لسنة 1789 والإعلان العالمي لحقوق الإنسان تحت ملامح علم الإجرام والعقاب إلى أن تراجعت مع أواخر القرن الثّامن عشر العقوبات البدنيّة لصالح عقوبة السّجن فكان من الواجب مراعاة شخصيّة المجرم عند تقدير العقوبة والظّروف التي حفت بالواقعة الإجراميّة.
فاعتمدت جلّ القوانين الجزائيّة الحديثة بمبدأ الملائمة على المستوى التّشريعي والقضائي ويقصد به تحقيق التفريد هو اسم مشتقّ من الفعل individualise فرد وindividuel فردي أي تحديد شخص أو شيء في فرديّته استنادا إلى علامات مميّزة وأساليب تحديد هويّته مثال ذلك تفريد كلّ شخص بصفاته والقاضي يحدّد قراره في حقّ الشّخصيّة والوضع الخاصّ لفرد ما([8]).
والخوض في معنى العقوبة يحيلنا للبحث عن الهدف الذي سنّت من أجله([9]) في إطار التطوّر المتسارع في اتّجاه أنسنة نظام العقوبات والبحث المتواصل لملائمة العقوبة مع شخصيّة الجاني، سعيا للحد من هذه الظاهرة وتفاديا لانعكاساتها على الفرد والمجتمع ككل وهو ما مهّد لظهور مجموعة من المدارس الفقهيّة جسّدت التطوّر المتواصل لمفهوم العقوبة وأغراضها، فتحديد أغراض العقوبة ليس من خلق الفكر الجنائي الحديث بل أنّ هذا الموضوع قد استرعى اهتمام رجال الفكر والفلسفة قبل فقهاء القانون منذ أقدم العصور وكان النّظام القانوني يحدّد العقوبات وأغراض التي تهدف إلى تحقيقها، وتتحدّد على ضوئها أساليب التّنفيذ العقابي.
إذا فالعقوبة تطوّرت بتطوّر النّظم وتنامي الحضارات عبر التّاريخ، وتدرجت أغراضها من الآلام والزّجر المسلّط على الجاني الخارج عن القوانين إلى الإصلاح والتّهذيب. وهذا التّطوّر كان نتاجا لتنوّع المدارس الفقهيّة التي أعطت مفاهيم مغايرة لأغراض العقوبة وقد أثّرت هذه المدارس على النّظم العقابيّة المعاصرة.
ونبتدئ بـ”المدرسة التّقليدية الأولى” والتي نشأت في عصر ساد فيه نظام جنائي يتّسم بقسوة العقوبة وانتفاء العدل والاستقرار، حيث كانت سلطات القضاء مطلقة فتأصّل التّميّز بين المتقاضين وانتفت المساواة لتقوم العقوبة على درجة تحقيق الإيلام وتسليطه على الجاني لردعه وحتّى إقصائه وليس إصلاحه.
وقد أثار هذا الوضع عديد الانتقادات من عديد الفقهاء على رأسهم الفقيه “دي بكاريا” الذي يعيب عليها إهمالها وإغفالها لشخصيّة الجاني وما أحيط به من ظروف وحصر اهتمامها بالفعل الإجرامي وما يترتّب عنه من ضرر، ومهّد ذلك لظهور مدرسة أخرى وهي “المدرسة التّقليدية الحديثة” التي يعتبر سالاي Saleilles مؤسّسها الفعلي.
وتدعو هذه المدرسة إلى الأخذ بمصلحة المجرم([10]) ومصلحة المجتمع معا وتوقيع العقوبة بحسب ظروف ارتكاب الجريمة وحماية مصالح المجتمع وبذلك لم تفصل شخصيّة المجرم واعتمدت أيضا على مبدأ التّقرير العقابي الذي يعني تقرير الجزاء المناسب على كلّ من يرتكب الجريمة ومراعاة الأسباب المؤدّية إليها. وقد استندت آراؤها على بعض أفكار الفلسفة المثاليّة الألمانيّة وخاصّة آراء “كانط” الذي يرى أنّ العدالة المطلقة([11]) هي هدف الدّولة من توقيع العقوبة، وفي تحقيقها تحقيق الغرض الذي تهدف إليه العقوبة، وتحقيق العدالة المطلقة أمر ضروري ولو لم يترتّب عليها فائدة للمجتمع.
وسار “هيقل” في نفس الاتجاه، فالجريمة عنده تنطوي على نفي للعدالة، وفي توقيع العقاب على مرتكبها نفي وإقصاء، بمعنى أنّها تعود بنا إلى العدالة التي كانت سائدة قبل حدوثها، ولم يقتصر أنصار هذه المدرسة على العدالة كأساس للعقوبة، إذ لا يمكن أن تصبح بمفردها أساسا وغرضا للعقوبة، وإنّما أضافوا فكرة المنفعة الاجتماعيّة التي استمدّت منها فكرة الرّدع العامّ، وخلصوا من ذلك إلى أنّ العقوبة يجب أن تستند إلى العدالة والمنفعة الاجتماعيّة، بمعنى أن ترد العقوبة كما هو عادل. ومن جانب آخر لا تتجاوز العقوبة ما هو ضروري.
لكن وقع تجاوز هذه المدرسة لبروز أفكار رياديّة جاءت بها “المدرسة الوضعيّة” والتي ظهرت في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر فقد هاجمت أفكار المدارس التّقليديّة واعتمدت تطبيق المنهج العلمي التّجريبي على الظّاهرة الإجراميّة وتأسّست على أفكار أقطابها الثّلاثة : “لومبروزو” و”فيري” و”قارو فالو” ولقد كان لأفكارهم عظيم الأثر في تحوّل منهج الدّراسات الجنائيّة وتطورّها([12])، ويقوم الأساس الفكري لهذه المدرسة الوضعيّة أنّ الإنسان ليس حرّا في تصرّفاته أو سلوكه ولكنّه مسيّر شأنه شأن الإنسانيّة بأسرها وأنّ الجريمة نتاج عوامل داخليّة وخارجيّة ليس للإنسان يد فيها ولا يملك لها دافعا.
فقد أكد “لومبروزو” في دراساته أن بعض الأفراد يدفعهم إلى ارتكاب الجريمة، شذوذ تشريعي بيولوجي ونفسي مصدره عيب وراثي مجهول، ومن هنا لا يعدّ الجاني مخطئا ولا محلّ مساءلة على أساس أخلاقي، إذ أنّه منقاد إلى الجريمة ومقدّرة عليه وليس لإرادته أي دور في ارتكابها.
إذا تستند هذه المدرسة إلى مدى خطورته الإجراميّة، ويدعو إلى تجريد الرّد الاجتماعي الذي يتّخذ ضدّ الجاني من الصّفة الجزائيّة، ليصبح مجرّد وسيلة تهدف إلى توخّي الخطورة الإجراميّة، فيهدف التّدبير إلى الوقاية والعلاج ولا يهدف إلى تحقيق الزّجر والإيلام.
وقد أقرّت هذه المدرسة مبدأ تفريد العقوبة والأخذ بخصائص شخصيّة الجاني والظّروف الحاثّة له، ذلك أنّه من خلال الدّراسات التّجريبيّة التي قاموا بها توصّلوا إلى أنّ مناط توقيع العقوبة يستند إلى درجة الخطورة التي تنطوي عليها شخصيّة المجرم ولا تتعلّق بمادّيات الجريمة.
وما يعاب على هذه المدرسة هو أنّها لم تعتبر بالتّوازن الذي يجب أن يكون موجودا، كما أنّها ركّزت على الفاعل المجرم وأهملت الفعل الإجرامي، وهو أمر يتّسم بعدم الواقعيّة فضلا عن مغالاتها في التّسليم بوجود مميّزات جسديّة تميّز المجرمين عن غيرهم.
وأمام اختلاف المدرستين التّقليديّة والوضعيّة في تفسير الظّاهرة الإجراميّة ظهرت “المدارس التّوفيقيّة” أو الوسيطة بغية الجمع بين مزايا كلّ من المدرستين والتّوفيق بينهما وتلافي أوجه القصور، فقد تجسّمت أفكارها في فكرتين أساسيّتين :
الأولى : إقامة المسؤوليّة الجنائيّة على أساس الخطورة الإجراميّة للجاني، بمعنى الأخذ بنظريّة حتميّة الظّاهرة الإجراميّة دون إعمال إرادة الجاني في ارتكاب الجريمة أي “الخطأ” في الجريمة.
والثّانية : إنّما جمعت بين العقوبات والتّدابير الاحترازيّة في نظام عقابي واحد، فتطبيق العقوبات على المجرمين كاملي الأهلية. أمّا التّدابير فتكون مقصورة على ناقصي الأهليّة.
لكنّ التّطوّر لم يقف عند هذا الحدّ ففي أعقاب الحرب العالميّة الثّانية ظهر اتّجاه جديد في السّياسة الجنائيّة المعاصرة أطلق عليها اسم “حركة الدّفاع الاجتماعي” ومن رائدها “قراماتيكا” Filippo Gramatica و”مارك أنسال” Marc Ancel وتتخلص أفكارهما في ما يلي :
بالنّسبة لقراماتيكا فقد أنكر أفكار القانون الجنائي في الجريمة والمجرم والمسؤوليّة والجزاء الجنائي بمعانيه، وذهب إلى أنّ المجتمع هو المسؤول عن سلوك الجاني استنادا إلى أنّ الظّروف الاجتماعيّة التي دفعت الجاني إلى الانحراف عن السّلوك القويم واستخدم تعبيرات مختلفة في تعريف المجرم والجريمة، فعرّف المجرم بأنّه الشّخص المناهض للمجتمع، وعرّف الجريمة بأنّها الفعل المناهض للمجتمع، أمّا بالنّسبة للعقوبة فقد أخذ بتدابير الدّفاع الاجتماعي التي تستهدف علاج الجاني تربويّا وواقعيّا وتتناسب مع شخصيّته دون إيلامه أو إلحاق الأذى به”([13]).
أمّا “مارك أنسال” فقد تأسّست نظريّته على مبدأ الإنسان واعتبرت أنّ المجرم إنسان قبل كلّ شيء، يليق به الاحترام والرّعاية ولا تمثّل الجريمة في نظره أكثر من مجرّد ظاهرة إنسانيّة أو مرض اجتماعي يستلزم علاجا كسائر الأمراض، وفي نفس الوقت يقرّ حقّ الهيئة الاجتماعيّة في حماية نفسها تجاه كل من يحاول أن يضرّ كيانها، ولكنّها تنادي بأنّ ذلك الحقّ لا يجب أن ينعكس سلبا على المجرم فيلحق به الضّرر والإيلام.
بل وجب السّعي لمعالجة الجاني وإصلاحه بطرق ترتكز على دراسة شخصيّته لأنّها الكفيلة باختيار الوسيلة التي تجعل المجرم عضوا صالحا، والعقوبة أداة لتحقيق الحماية الاجتماعيّة وهي تمثّل نظرة استشرافيّة للمستقبل لإصلاح الجاني وتأهيله لتقويم شخصيّته التي ألمّ بها الخلل.
نجحت هذه المدرسة في التّنبيه إلى أنّ الجناة قد يرتكبون جرائمهم تحت تأثيرات نفسيّة وبيولوجيّة واجتماعيّة متنوّعة تؤثّر في الجانب الشّخصي للمسؤوليّة الجنائيّة، وبالتّالي سلوكهم الإجرامي وقد برهنت إحدى نظريّات علم النّفس على أنّه لا يمكن إدراك صورة ما وفهمها بشكل كامل دون النّظر إليها كاملة، وليس النّظر إلى كلّ عنصر من عناصرها بمفرده لأنّ كلّ عنصر في حالته المفردة يعطي معنى أو دورا يختلف عمّا هو عليه عند النّظر إلى الشّكل الكلّي للصّورة في آن واحد.
وقد يأتي من يقول أنّه يمكن النّظر إلى كلّ عنصر في الصّورة منفردا ومن ثمّ تجميع تكل العناصر لتشكّل صورة أو كلاّ متكاملا وهي معضلة السّلوك الإنساني بشكل عامّ([14])، ممّا دفع الباحثين للاهتمام بدراسة تأثير هذه العوامل، ففي سنة 1833 نشر الفقيه الفرنسي Cury بحثا تناول فيه الأسباب الفرديّة المتعلّقة بشخص المجرم كالجنس والسنّ والأسباب الاجتماعيّة المتعلّقة بالبيئة التي تحيط به كالمهنة وتقلّبات الجوّ والتّعليم وقد اعتمد “جري” في دراسة على الإحصائيّات الجنائيّة([15]) إلى جانب اعتماد علم النّفس الجنائي الذي يعنى بدراسة العوامل النّفسيّة المؤدّية إلى ارتكاب الجريمة ومنها الإختلالات النّفسيّة التي ينشأ عنها السّلوك الإجرامي هذه الإختلالات يرجعها الطبّ النّفسي إلى أربعة عوامل :
-إختلالات غريزيّة.
-عواطف منحرفة.
-عقدة النّقص.
-أمراض نفسيّة([16]).
إذا استند العلماء في تفسير السّلوك الإجرامي بعوامل اجتماعيّة واقتصاديّة ونفسيّة وأكّدوا على دورها الهامّ في تحديد سلوك الفرد الذي يتطلّب تضافر عوامل ينتج عن تفاعلها التحوّل من حالة السّكون إلى حالة الحركة ليعبّر عن نفسه في صورة جريمة يرتكبها الشّخص، لذلك تختلف الاستعدادات الإجراميّة في قوّتها وحدّتها لاختلاف المجرمين وطبيعة استعداداتهم ومدى قابليّتهم للإصلاح([17]).
وتدعّم هذا التوجه وتأكد علميا نظرا للاقتناع بوجاهة اعتماده وإيجابيّة انعكاساته على المجتمع بحيث يحقّق أهدافا لم تتوصّل لها سياسة الرّدع والإيلام، هذه الحركيّة النّشيطة والدّيناميكيّة طوّرت السّياسة العقابيّة نحو اعتناق هذا النّمط القائم على النّظر إلى شخصيّة الجاني واعتبارها مبدأ أساسيّا تقوم عليه السّياسة الجزائيّة الحديثة، وقد تبلور هذا المنهج بشكل واضح على مستوى التّشريع الجزائي التّونسي الذي سار على هذا المنوال عبر تبنّي أحدث النّظريّات العلميّة والفقهيّة في التّعامل مع الجريمة ومعاملة المجرمين.
فالغاية اليوم تهدف إلى إصلاح المجرم وإعادة تأهيله لتقويم شخصيّته ليعود إلى المجتمع كفرد صالح، وهو ما يتوافق مع ما جاءت به المعاهدات والمواثيق الدّوليّة التي صادقت عليها بلادنا في مجال حقوق الإنسان، فالسّياسة العقابيّة الحديثة تقوم على أسنة العقوبات بمخاطبة الجاني كإنسان واعي وجب احترام كرامته وحثّه على تغيير ما بطبعه لا عن طريق الإذلال والإيلام، والتاريخ أثبت فشل هذه السّياسة في تحقيق المطامح المنتظرة ولتحقيق هذه الأهداف استند المشرّع إلى جملة من الآليّات وكرّس مجموعة من القواعد والمبادئ التي من شأنها حماية شخص الجاني قبل كلّ شيء وتحقيق المصلحة العامّة المنشودة وتجاوز عدم توازن ضمن السّياسة العقابية الحديثة بما تغلب حماية وإصلاح الجاني عن حقّ المجتمع في التّعويض عن الضّرر الذي لحقه، وتتمثل هذه المبادئ في :
1- مبدأ شرعيّة العقوبة :
يعني ذلك أنه لا عقوبة بدون نصّ سابق الوضع، فالمشرع لا يمكنه أن يخلق جرائم ولا أن يعيّن عقوبات إلاّ إذا تدخّل بنصّ قانوني ضمن حقوق الأفراد والمجتمع، إذ يجب حصر الجرائم والعقوبات في نصوص قانونيّة حتى يكون الشّخص على علم بما سيقدم عليه من سلوك وما يترقّبه من عقاب “إذا فالعقوبة شخصيّة ولا تكون إلا بمقتضى نصّ قانوني سابق الوضع”.
2- مبدأ شخصيّة العقوبّة :
المقصود به أن لا تسلّط العقوبة إلاّ على الجاني سواء كان فاعلا أصليّا أو شريكا، ولا يمكن أن تمتدّ إلى ورثته أو أفراد أسرته، وقد وقع تكريس هذا المبدأ خلال الثّورة الفرنسيّة وكذلك في الشّريعة الإسلاميّة الذي اعتبر مبدأ الشّخصيّة من القواعد الأوّليّة فلا يسأل المجرم إلاّ على فعله.
3-مبدأ قضائية العقوبة
المقصود بذلك أنه لا يمكن الحديث عن عقوبة إلى إذا كانت صادرة عن سلطة قضائية مختصة قانونيا في توقيع العقوبات مع وجوبية احترام الإجراءات القانونية.
4- مبدأ المساواة في العقوبة :
يعتبر هذا المبدأ حديثا ويقصد به المساواة أمام القانون، فلا اختلاف بين شخص وآخر بسبب الأصل أو الوضعيّات الاجتماعيّة أو الطّبيعيّة، كما لا تميّز أمام القانون بين المتّهمين إلاّ في الصّور الاستثنائيّة التي وضعها المشرّع.
تعكس جملة هذه المبادئ سعي المشرّع إلى جعل العقوبة متلائمة مع شخصيّة الجاني وبالتّالي قادرة على تحقيق أهداف السّياسة العقابيّة الحديثة في إصلاح وتأهيل المحكوم عليه عبر تفريد العقوبة وهو أحدث مبدأ ظهر واعتمد في ميدان العقاب والمقصود أنّ تحقيق هذا المبدأ يرتكز على عدم ثبات العقوبة بالرّغم من أنّها معروفة.
فالمتأمّل في أحكام القانون الجزائي يلاحظ أنّها تواكب تطوّر السّياسة الجنائيّة الحديثة شيئا فشيئا. فقد أقرّ المشرّع التّونسي مؤسّسة تأجيل التّنفيذ منذ 1922 في الفصل 53 فقرة 12 م ج. كما أخذ بظروف التّخفيف وظروف التّشديد والسّراح الشّرطي ثمّ صدر القانون عدد 52 لسنة 1992 المؤرخ في 18/05/1992 المتعلق بالمخدّرات وتدرّج المشرّع في الأخذ بمبدأ التّفريد استنادا إلى شخصيّة الجاني بصدور القانون عدد 92 لسنة 1995 المؤرخ في 09/11/1995 المتعلق بإصدار مجلة حماية الطّفل التي تضمّنت عديد صور الأخذ بشخصيّة هذه الشّريحة العمريّة وعلّلت اتّجاهها نحو تخفيف الحكم عليها بالاستناد إلى طبيعة شخصيّة هذه الفئة،
لكن نظرا لأنّ القاعدة القانونيّة تتّسم بالعموميّة والتّجريد لتحقّق المساواة، مما قد يؤدّي إلى نتائج سلبيّة، يترك المجال لبعض المرونة عند تطبيقها ليتمكّن القاضي بالنّزول بها من عموميتها إلى خصوصية الحالة التي ينظر فيها([18])، وعلى الرغم من أن دور القاضي في مكافحة الجريمة عن طريق اختيار الجزاء لا يعدو أن يكون ضمن عديد الحالات مجرّد امتداد لدور المشرّع، إلاّ أنّه يدعّم بسلطته التّقديريّة الهامّة التي تمكّنه من تفريد العقوبة.
والملاحظ أنّ التّمشّي الإصلاحي الذي اعتمد في السّياسة العقابيّة الحديثة يعكس إرادة راسخة بتطوير أغراض العقوبات سواء من حيث ضمان بلوغ أهدافها أو ضمان الحقوق الأساسيّة للمحكوم عليه، وقد برز هذا التّمشّي الإصلاحي بأكثر وضوح من خلال تكريس نظام التّدابير الاحترازيّة والعلاجيّة التي اعتبرها أنصار المدرسة الوضعيّة قادرة لوحدها على معالجة الأشخاص من ذوي المسؤوليّة المخفّفة وإزالة خطورتهم الإجراميّة.
وتطوّرت صور مراعاة شخصيّة الجاني واعتمادها من مرحلة الحكم لتشمل مرحلة التّنفيذ وتقدير مدى ملاءمة العقاب المحدّد لشخصيّة الجاني مع محاولة تعديله ليتماشى وتطوّر شخصيّة الجاني فتدعمت مؤسّسة قاضي تنفيذ العقوبات وتنوعت صلاحيّاته لحساسيّة موقعه وقربه من الجناة ليتمكّن من ملاحظة واستنتاج مدى ملائمة العقاب لشخصيّة الجاني ودرجة احتماله وآثارها عليه إلى جانب إصلاح المنظومة السّجنيّة وإلحاق إدارة السّجون ومراكز الإصلاح بوزارة العدل وحقوق الإنسان إيمانا من المشرّع من قدرة القضاء على تحقيق العدالة والتّوصّل إلى حسن تطبيق العقوبات بما يتماشى وأهداف السّياسة العقابيّة المعاصرة.
إذا تكتسي دراسة موضوع ملاءمة العقاب مع شخصية الجاني في المادّة الجزائيّة أهميّة نظريّة تتمثّل في اتّجاه المشرّع التّونسي نحو تكريس نظام عقابي حديث، يهدف للتّخلّص من المظاهر التّقليديّة للسّياسة الجنائيّة التي كبّلت لمدّة طويلة أيدي المشرّعين والقضاة وحالت دون تفريد العقاب عبر الأخذ شخصيّة الجاني عند تحديد الجزاء وتنفيذه، ولقد اتّجه المشرّع إلى حدّ بعيد من خلال إلغاء عقوبة الأشغال الشّاقّة وتبنّيه التّدابير الاحترازيّة من جهة، وتكريسه للهدف الإصلاحي والتّأهيلي للمؤسّسات العقابيّة من جهة أخرى، فيه تأكيد على ضرورة تفريد العقوبات الجزائيّة وتحقيقا لأنسنة العقوبات وضمانا لاحترام مبادئ حقوق الإنسان.
أمّا الأهميّة التّطبيقيّة أو العمليّة للموضوع فتبرز من خلال تدعيم الصّلاحيّات التي يضطلع بها القضاء تحقيقا لتفريد العقوبة وتطبيقا للبرامج الإصلاحيّة وفق المعايير والنّصوص التّشريعيّة. ومحاولة تجاوز الإشكالات الواقعيّة والتي يفرزها التّطبيق، كذلك مساهمة من القضاء في تحقيق أهداف السّياسة العقابيّة الحديثة.
ممّا يدفعنا للتّساؤل كيف تجسّد العمل بمبدأ ملائمة العقاب مع شخصيّة الجاني تشريعا وتطبيقا عند المحاكمة وأثناء فترة التّنفيذ ؟
فطور المحاكمة يعكس حقيقة التّشريع المعتمد ومدى استناد القاضي لشخصيّة الجاني في تحديد العقوبة وتقيّده بما أقرّ المشرّع (الجزء الأول) وتحقيق هذا المبدأ امتد ليكرّس وسائل الملاءمة ضمن مرحلة التّنفيذ (الجزء الثّاني) ليقع إصلاح الجاني ومراقبة ملاءمة العقوبة لمقتضيات شخصيّته وتطورها.
الجزء الأوّل : ملاءمة العقاب مع شخصية الجاني عند المحاكمة
تهدف السّياسة العقابيّة الحديثة عبر الاستناد إلى دراسة شخصيّة الجاني لتحقيق التّفريد بتوقيع العقوبة المناسبة لجسامة الفعل ولشخصيّة مرتكبها، فالأهداف الحديثة تتّجه الآن لمكافحة الجريمة والقضاء على العوامل الدّافعة لها والتّقليص من هيمنة فكرة الرّدع العامّ على التّشريعات الجزائيّة عبر إعطاء الأولويّة لإصلاح الجاني وتهذيبه وجعله عنصرا إيجابيّا في المجتمع.
تحقيق أهداف السّياسة الجزائيّة الحديثة يقوم على تكريس مبدأ تفريد العقوبة في التّشريع الجزائي (الفصل الأول)، حيث يبدأ اعتماد مبدأ الملاءمة بين العقوبة وشخصيّة الجاني من خلال النّصوص القانونيّة التي توقع على مرتكبها، وتعتبر هذه المرحلة من أبسط صور التّفريد إذ يحدّد المشرّع العقوبة المناسبة للجريمة وهو ما يعدّ أساسيّا،ولا يقتصر على الاهتمام بجسامة الجريمة بل يراعي المشرّع أيضا شخصيّة الجاني وأحواله الخاصّة، فيفرد أحكاما خاصّة ببعض طوائف الجانحين([1]).
كما يتجسّد الأخذ بشخصيّة الجاني في مرحلة ثانية عند تقديم المتّهم للمحاكمة، حيث يلتزم القضاء بتوقيع عقوبة تتناسب مع جسامة فعله ودرجة مسؤوليّته (الفصل الثّاني)، لذا يعتبر التّفريد القضائي أدقّ مراحل تفريد العقاب وأكثرها فاعليّة، ففي خضمها تحدّد شخصيّة الجاني والوسيلة الأنجع لإصلاحه ويتدعّم بممارسة القضاء لسلطته التّقديريّة في تقدير العقوبة المناسبة للجريمة ومرتكبها.
الفصل الأوّل : مظاهر الملاءمة على مستوى التّشريع
إنّ عدم التّنظيم التّشريعي الذي اتّسمت به السّنوات الأخيرة والمنتقد في طريقته يبرز ترجمة لحركة تفريد القانون الجزائي([2]) الهادفة إلى الملاءمة بين تحقيق الرّدع تفعيلا لدور العدالة في المحافظة على النّظام العامّ وكذلك إصلاح الجاني وتأهيله وإعادة إدماجه([3]) وقد تدعّم هذا المنهج بوضع وسائل وآليّات قانونيّة (المبحث الأوّل) تساعد على دراسة شخصيّة الجاني وأسباب انسياقه نحو الإجرام، كما تحقّق الملاءمة بين العقاب ومتطلّبات إصلاح مرتكبي الجريمة بإخراج النصّ من الجمود والعموميّة.
لم يقتصر المشرّع على الاستناد لهذه الوسائل، وإنّما حاول مجاراة تطوّر مفهوم العقوبة عبر تنويعها (المبحث الثّاني) لتجاوز الجزاءات الماسّة بكرامة الجاني والحاطّة من إنسانيّته، وبالتّالي الحدّ من المفهوم الرّدعي والزّجري مقابل تدعيم المنهج الإصلاحي والتّقويمي.
المبحث الأوّل : وسائل تحقيق الملاءمة التّشريعيّة
نصّ المشرّع على اعتماد ملفّ الشّخصيّة كوسيلة من شأنها تجاوز التّجريد والعموميّة التي تتّسم بها القاعدة القانونيّة، لمواكبة تطوّر مفهوم العقاب والإجرام، حيث أصبح يُنظر إلى المجرم كإنسان يجب إصلاحه لا ردعه وإقصائه، وهي وسيلة عمليّة تساعد على دراسة شخصيّة الجاني (الفقرة الأولى) وإقرار العمل بها تدعيما لمبدأ التّفريد ووعي بضرورة دراسة العوامل الدّافعة له للسّقوط في هوّة الانحراف والإجرام، وفي هذا الإطار يقول R. Charles أنّ « العدالة الجنائيّة لا يمكن أن تحقّق يوم النّجاعة المطلوبة منه بدون معرفة شخصيّة الجاني ومحيطه الاجتماعي »([4])، إلى جانب وضع جملة من الآليّات القانونيّة للعمل بها وتطبيقها عند توفر شروطها (الفقرة الثّانية) لما لها من انعكاسات على تحديد طبيعة المجرم وخطورته ومدى تأثير تصرّفاته على المجتمع وبالتّالي الحدّ من ظاهرة الإجرام.
الفقرة الأولى : ملف الشّخصيّة أساس تحقيق الملاءمة
أثبتت الدّراسات الفقهيّة أن ملف شخصيّة المتّهم لم يكن وليد حادثة معيّنة أو مرتبط بحقبة زمنيّة محدّدة، بل مرّ بعدّة مراحل وتفاعلت عدّة معطيات تاريخيّة وقانونية كانت سببا في ظهوره([5])، فاعتماد هذا الملف يترجم عن المنهج الذي توخّته السّياسة العقابيّة الحديثة عبر الاستناد إلى شخصيّة الجاني لتفسير الفعل الإجرامي، كمحاولة للتّوصّل إلى مواطن الخلل التي ألـمّت بشخصيّة هذا الأخير، والبحث عن السّبل الكفيلة لإصلاحه وتقويمه. إذا أصبح الجاني يمثّل هدفا في ظلّ السّياسة الجنائيّة الحديثة، يقع الوصول له باعتماد ملفّ الشّخصيّة كوسيلة تشريعيّة هامّة تتجسّد قيمتها من خلال أبعادها (أ)، فالمشرّع أقرّ أهمّيتها وشرّع اعتماد هذا الملفّ في أكثر من مناسبة سواء للرشّد أو للأطفال ممّا دعّم مكانة هذا البحث وأصل اعتماده(ب).
أ- أبعاد ملفّ الشّخصيّة
أصبح لشخص الجاني مكانة في تحديد العقوبة، إذ لم يعد يمثّل المجرم الخطير الذي يجب عزله عن المجتمع، ولم تعد العقوبة تمثّل زجرا له وردعا لغيره([6])، إنّما تطوّرت السّياسة الجزائيّة وتأثّرت بمبادئ المدرسة الوضعيّة التي كرّست فكرة الدّراسة العلميّة لأسباب الجريمة، أي إعطاء نتائج علميّة دقيقة تحدّد المؤثّرات التّابعة من شخصيّة الجاني أو المؤثّرة عليه التي مثّلت دافعا لارتكاب مثل هذه الأفعال المجرّمة، لتيسير عمليّة انتقاء العقوبة الملائمة التي من شأنها تحقيق الغرض المعاصر لها، ألا وهو إصلاح المجرم وتأهيله للخروج كفرد صالح في المجتمع.
تدعيم موقع الجاني في القضيّة الجزائيّة والإقرار بارتباط الفعل الإجرامي بصورة وثيقة بالفاعل أثناء كافّة أطوار الدّعوى الجزائية، يدعّم أهميّة التّعرّف على شخصيّة الجاني في جلّ تفاصيلها عبر دراسات وأبحاث علميّة مع مراعاة خصوصيّة كلّ فرد. ويؤكد “أنسال” في هذا الصّدد أنّ التفريد على أساس شخصيّة الجاني أصبح اليوم التزاما تفرضه مقتضيات السّياسة الجزائيّة الحديثة، على عكس ما كان عليه الأمر في القرن التّاسع عشر، إذ كان التّفريد مجرّد رخصة متروك أمرها حسب ظروف الواقعة([7]).
ونظرا أنّ التّشريع أقرّ أهمية ملفّ الشّخصيّة في أكثر من مناسبة، وذلك بالنّسبة للرشّد الفصل 54 م ا ج وكذلك بالنّسبة للأطفال الفصل 87 مجلة حماية الطّفل وقع تحديد محتواه الذي يتمثل في :
* البحث الاجتماعي :
و”يقصد به البحث عن شخصيّة المضنون فيه وعن حالته المادّيّة والعائليّة والاجتماعيّة”([8])، إذا يمسّ هذا البحث خصائص محدّدة يتميّز بها الجاني في تجربة تاريخيّة معيّنة وإطار اجتماعي محدّد تفاعل معها وأثّرت فيه.
ممّا يدعو أوّلا تحديد ملامح شخصيّة الجاني بالسّؤال عن سلوكه والتحقّق من علاقته بغيره من النّاس أو المقرّبين منه، للتوصّل إلى دراسة خصائصه ومدى اندماجه في المجتمع عبر ملاحظة ردود أفعاله وتصرّفاته، إلى جانب تفحّص كتاباته وخطاباته للكشف عن نفسيّة الجاني وما يختلج بها من أفكار ودوافع مكبوتة تفصح عن خفايا شخصيّته، كما يحتوي البحث الاجتماعي عن سوابق الجاني ويقصد بها ما سبق ارتكابه من جرائم ويقع التثبّت منها بواسطة العرض على القيس([9])، وبعد الإطّلاع على الجرائم السّابقة يتسنّى الكشف عن الخطورة الإجراميّة أي الاستعدادات المتواجدة لدى الشّخص بمقتضاها يكون من المحتمل إقدامه في أي وقت على ارتكاب جرائم أخرى([10]). من خلال هذه الأبحاث تتكوّن صورة عن شخصيّة الجاني التي تختلف من فرد لآخر ومن بيئة لأخرى.
كما لا يجب أن ينحصر البحث في دراسة خصائص واستعدادات الجاني، بل يجب الإلمام بالعوامل الخارجيّة المؤثّرة فيه فالجريمة تمثّل محصلة لتفاعل عوامل وتشابكها واندماجها وتأثير بعضها في بعض([11]).
كالبحث في تماسك النّسيج العائلي الذي يمثّل مهد الشّخصيّة، حيث ترعرع في ظلها ليحدّد تكوينه بتقبّل أساليب تربيتهم. ونظرا لأهميّة دور الأسرة في انحراف الكهل، فإنّ الأبحاث تدور حول الكشف عن طبيعة العلاقة بينه وبين أوليائه، « فغياب أحد الوالدين أو غيابهما أو حتّى إهمالهم للطّفل يخلق اضطرابا وعدم توازن في شخصيّته لغياب التّوجيه الصّحيح والإرشاد ».
أمّا العوامل الاقتصاديّة القائمة على تطوّر المجتمع وارتفاع نسق العيش، قد تخلق صراعا في نفس الفرد لمجاراة غلاء المعيشة وتطوّر متطلّبات الحياة وهذه الوضعيّة قد تسفر عن تطوّر الإجرام وخلق نوازع إجراميّة ونقمة تجاه المجتمع من رداءة العيش وعدم القدرة على تغطية أهمّ الحاجيات.
أمّا الفحص الثّاني الذي يمهّد لتحديد شخصيّة الجاني، فيتمثل في :
– فحص طبّي بيولوجي وفحص طبّي نفسي يهتمّ بدراسة المكوّنات الجسديّة والذّهنيّة المتغيّرة من شخص لآخر.
فالفحص الطبّي البيولوجي يمكّن من التثبّت من سلامة المتّهم من بعض الأمراض الوراثيّة أو أيّ إعاقة أخرى من شأنها أن تقف في طريق تنفيذ برنامج التّأهيل، كما يمكّن هذا الكشف من التّثبّت من وجود ظروف صحّيّة لدى الجاني قد تقتضى في صورة ثبوت إدانته مدّة بمعاملة خاصّة، كإرساله إلى مؤسّسة استشفائيّة أو إعفائه من العمل داخل المؤسّسات العقابيّة أو توجيهه إلى نوع خاصّ منه([12]) ويشتمل الفحص البيولوجي على الفحص المجهري والفحص بالأشعة والفحص الفيزولوجي.
أمّا الفحص الطبّي النّفسي، يقع من خلاله دراسة حالة المتّهم النّفسيّة التي تعدّ من قبيل الاختبارات([13]) أي توضّح خصائص الشّخصيّة عن طريق معرفة أسباب ارتكاب الجريمة ودوافع الفعل الواعية واللاّواعية لدى الجاني، كما يختبر ذكائه وقوّة ذاكرته ويتمّ التّدقيق في طبيعته ومزاجه ودرجة تأثّرها، ليقع التنبّؤ بتصرّفات الجاني في المستقبل وردود أفعاله وتتمّ هذه الفحوص بواسطة : اختبار الذّكاء واختبار الطّبع واختبار التوجّه.
وبعد استجلاء مكوّنات ملف الشّخصيّة، يمكن الجزم أنّ قيمة هذا البحث تتعدّى مجرّد دراسة شخصيّة الجاني للوصول إلى الأسباب الواقعيّة التي دفعت هذا الأخير لارتكاب فعل مجرّم.
فالاستناد لهذه الوسيلة يحقّق أهداف السّياسة الجنائيّة الحديثة القائمة على إصلاح وتأهيل الجاني، لذلك لا يجب الاكتفاء بالتّنصيص على اعتماد هذه الوسيلة وهجرها بل يجب العمل بها وتأصيل اعتمادها في جميع مراحل إجراءات النّظر في الدّعوى الجزائيّة لتسلسلها.
ففي مرحلة الحكم، يمثّل ملفّ الشّخصيّة دعامة يستند لها القاضي لخلق صورة صحيحة عن الجاني الماثل أمامه، فيأخذ بعين الاعتبار خصائص شخصيّته ودوافعه الحقيقيّة لانقياده نحو الإجرام بالموازاة مع عناصر إدانته لخلق صورة متكاملة تمكّن القاضي من تحديد العقوبة الملائمة لشخصيّة الجاني والقادرة على ردعه وإصلاحه.
أمّا في طور التّنفيذ داخل المؤسّسات العقابيّة، فاتجاه المشرّع يهدف إلى التخلّص من المظاهر التّقليديّة للسّياسة الجزائيّة التي كبّلت لمدة طويلة أيدي المشرّعين وقضاه لمتابعة ومراقبة تطوّر شخصيّة الجاني داخل المؤسسات العقابيّة لتفادي الخطأ في التّشخيص الذي يعيق المعاملة العقابيّة([14])، لذلك كان محور اهتمام عديد المؤتمرات الدّوليّة التي أقرّت أهميّة تأصيل اعتماده([15]) وتقدير مدى ملائمة العقوبة لهذا الأخير ومراعاة شخصيّته واستعداداته لتقبّل الإصلاح ورغبته نحو التّغيّر.
إذ يتعيّن لتطوير مكانة اعتماد هذه الوسيلة على مستوى التّطبيق لتجاوز السّلبيّات التي تمخّضت عن عدم إقرار العمل به وتجاهل قيمته العمليّة.
ب- مكانة ملفّ الشّخصيّة
يلعب ملف الشّخصيّة دورا أساسيّا في تكريس تفريد النّزاع الجزائي في جميع مراحله، فتحديد شخصيّة المنحرف يعطي توجّها جديدا للتّحقيق، فرغم ضعف تأثير الملفّ في هذه المرحلة إلاّ أنّ خلاصة الأبحاث التي ستنقل برمّتها إلى الهيئة الحكميّة ستعطي للدّعوى الجزائيّة بعدا آخر الغاية منه تسليط عقاب ملائم لشخصيّة الجاني اصطلح الفقهاء على اعتباره أكثر إنسانيّة وحدّدت أهدافه بمعالجة الخطورة الإجراميّة للمنحرف والتنبّؤ بقابليّته للإصلاح.
بما أنّ اعتماد ملفّ الشّخصيّة لم يكن وليد حادثة معيّنة، وإنّما نتاجا لتمخّضات عديدة امتدّت على فترات زمنيّة هامّة وجب التّعرّض إلى هذه المرحلة لاستنتاج تطوّر مكانة هذه الوسيلة وأهميّة اعتمادها.
لقد ظهر ملفّ الشّخصيّة لأوّل مرّة في القانون التّونسي صلب أمر 02/06/1955 المتعلّق بقانون الطّفولة الجانحة، فأباح لقاضي الأحداث تكوين ملفّ عن شخصيّة الطّفل الجانح، ممّا يمسّ بقاعدة الفصل بين مرحلة التّحقيق ومرحلة الحكم لاضطلاع هذا القاضي بدور التّحقيق والحكم في نفس الوقت في قضيّة واحدة. وقد أدرجت أحكام أمر 519 بمجلة الإجراءات الجزائيّة الصّادرة في 27/07/1968 وأصبحت أحكامها تحتضن قانون الأحداث ابتداء من الفصل 234 التي وقع إلغاؤها مع وضع مجلّة حماية الطّفل الصّادرة بالقانون عدد 92 لسنة 1995 المؤرّخ في 09 نوفمبر 1995 أكّد على دور قاضي الأطفال في تكوين ملفّ عن شخصيّة الطّفل ضمن الفصل 87 م ح ط([16]).
كما نصّ على إمكانيّة الاستعانة بأحد “الأشخاص المؤهلين” لدقّة هذا البحث وأهميّة الإسناد إلى أهل الاختصاص كالمصالح الاجتماعيّة([17]) المختصّة لحسن تمكّنهم من مثل هذه الأبحاث، فالمشرّع على يقين من عدم قدرة القاضي رغم تكوينه المستمرّ من الاضطلاع بهذه المهمّة.
وقد تدعّم التّوجّه التّشريعي نحو التّخصيص وألاء المهمّة إلى المختصّين لتعزيز منهج الأخذ بشخصيّة الجاني عبر بعث مراكز مختصّة :
* مركز الملاحظة :
بعث لأوّل مرّة إسنادا إلى قانون عدد 94 لسنة 1992 المؤرّخ في 26 أكتوبر 1992 المتعلّق بأحداث مركز نموذجي لملاحظة الأحداث بمنوبة([18]) يقوم هذا المركز “بإخضاع الأحداث الموضوعين به لدراسة شخصيّتهم من طرف أهل الاختصاص في العلوم الاجتماعيّة والنّفسية والتّربية والطبّ”. وتنتهي فترة الملاحظة بإعداد تقرير شامل على الحالة النّفسيّة والاجتماعيّة للطّفل تعتبر وسيلة ناجعة لحسن تحديد التّدبير الملائم له والقادة على إصلاحه([19]).
* مركز الدّفاع والإدماج الاجتماعي([20]) :
تنحصر مهام هذا النّوع من المراكز في إعانة القضاء للتّوصّل إلى فهم شخصيّة الطّفل المنحرف وتدارك الخلل الذي أصابه سعيا نحو إصلاحه ووقايته من أخطار الانحراف لحساسيّة هذه الشّريحة العمريّة عبر معاينتهم وإجراء الفحوصات اللاّزمة للتوغّل في أعماق الطّفل وتقدير مدى تأصّل النّزعة الإجراميّة فيه. وقد امتدّ هذا التّوجيه ليشمل الرّشد من خلال ما نصّ عليه الفصل 54 الذي أدمج بمجلّة الإجراءات الجزائية الصّادرة في 27/02/1968 ونصّ أنّه “لحاكم التّحقيق أن يجري بنفسه أو بواسطة مأمور الضّابطة العدليّة بحثا عن شخصيّة المضنون فيهم وعن حالتهم المادّية والعائليّة والاجتماعيّة، كما يمكن له أن يأذن بإجراء فحص طبّي نفساني على المتّهم”.
أسند المشرّع لحاكم التّحقيق مهمّة القيام بهذه الأبحاث الدّقيقة، ومنحه حريّة القيام بها من عدمه على عكس ما هو معمول به في قانون الطّفولة الجانحة، والقانون الفرنسي حيث نصّ الفصل 81 م ا ج ف على أنّ هذا الإجراء يكون اختياريّا في الجنح وإجباريّا بالجنايات، كما أكّد على وجوبيّة التّعليل في حالة رفض القيام بالأبحاث المقدّمة بطلب من المضنون فيه أو محاميه، كما مكّن المشرّع مأموري الضّابطة العدليّة([21]) بالقيام بمثل هذه الأبحاث بإنابة من حاكم التّحقيق وتحت إشرافه وذلك نظرا لكثرة القضايا.
ليتّضح ممّا سبق بسطه أنّ المشرّع لم يولي ملفّ الشّخصيّة المكانة التي يستحقّها فترك مهمّة القيام بها موكولة للسّلطة التّقديريّة لحاكم التّحقيق، وهذا الرّبط يقلّص من التمتّع بهذه الأبحاث بالنّسبة للجناة، فمن المعلوم أنّ أغلب القضايا الجناحيّة تتمّ فيها الإحالة مباشرة على المحكمة، ممّا يحرم النّصيب الأوفر من المجرمين وخاصّة المبتدئين من بحث حول شخصيّاتهم ممّا يكبّل المحكمة في انتهاج أفضل السّبل لإصلاحهم.
ولتجاوز سلبيّات وجمود هذا النّصّ أقرّ المشرّع إضافة فقرة جديدة للفصل 54 م ا ج كرّس فيها إجباريّة قيام حاكم تحقيق بإجراء فحص طبّي نفسي وذلك بمقتضى قانون عدد 93 لسنة 2005 المؤرّخ في 03 أكتوبر 2005، لكن إقرار إجباريّة القيام بهذا الفحص ارتبطت بشروط تضمّنتها الفقرة الأخيرة من نفس الفصل “يكون العرض على الفحص الطّبّي النّفساني وجوبيّا إذا ارتكب المتّهم الجريمة قبل أن تمضي عشرة أعوام على قضاء العقاب الأوّل أو على إسقاطه أو سقوطه بمرور الزّمن وكانت الجريمتين تستوجبان العقاب بالسّجن مدّة عشرة أعوام”.
ارتبطت إجباريّة إجراء هذا الفحص بصورة محدّدة تعرب على خطر هذا الجاني وتلزم بدراسة شخصيّته([22]). لكن هذا التّنقيح لم يحدث تغييرا جذريّا ليبقى الاستناد إلى ملفّ الشّخصيّة معتمدا بصفة محتشمة. تفسّر بالخوف من تعثّر سير العدالة لفقدان الإطار المتخصص والاعتمادات المالية اللازمة([23])
لكن وقوف المشرّع مكتوف اليدين ومتردّدا ينعكس سلبا على تطوّر السياسة الجزائيّة ومجارات الرّكب العالمي ومعاينة النّسق التّحديثي الذي اعتمدته بلادنا خاصّة أنّ الأوضاع تغيّرت وتحسّنت مقارنة مع ما كان عليه الحال زمن إصدار مجلّة الإجراءات الجزائيّة سواء على مستوى تطوّر هيكلة وكفاءة القضاء أو تطوّر العلوم وتواجد الكفاءات وحتى على مستوى تطوّر الاعتمادات المخصّصة، وعليه أصبح على المشرّع أن يتّخذ خطوة ثابتة ومدروسة في اتّجاه حسن تكريس ملفّ الشّخصيّة بالنّسبة للجناة الرّاشدين والتّصريح ببطلان الإجراءات التي لا تحترم أهميّة الاسنتاد إليه([24]).
بعد التّعرّض لدور ملفّ الشّخصيّة في تحديد معالم شخصيّة الجاني وأهميّة اعتماده من قبل المحاكم كوسيلة لتفريد العقوبة، وجب التّعرّض إلى آليّات التّفريد الجزائي وهي الآليّات التي وضعها المشرّع لإتمام وتعميم وسائل التّفريد وحسن تقدير العقاب المناسب.
الفقرة الثّانية : تنوّع آليات تحقيق الملاءمة
استندت جلّ القوانين الجنائيّة الحديثة ومن بينها القانون الجزائي التّونسي على اعتماد مبدأ التّفريد كمبدأ أساسي، ويقتضي هذا المبدأ إدراج المشرّع لجملة من الآليّات التي تضبط تقدير العقوبة وفقا لمعايير موضوعيّة تراعى فيها خصوصيّة شخصيّة الجاني والجريمة المرتكبة.
وقد استندت هذه الآليّات على أعذار قانونيّة تبقى معها الجريمة قائمة لكنّها تؤثّر في العقوبة المقرّرة([25])، وهي آليّات هامّة حدّد نطاقها وصورها قانونيّا، كما ألزم القاضي بتطبيقها متى توفّرت شروطها وهذه الأعذار تكون إما معفية من العقاب (أ) أو مخفّفة منه (ب) كما يمكن أن تكون مشدّدة للعقاب (ج) أي أنّها تتناسب وحقيقة شخصيّة الجاني ونوازعه لتتراوح بين اللّين والشدّة.
أ- الأعذار المعفية من العقوبة
يقوم الإعفاء من العقوبة على توفّر أسباب نصّ عليها القانون باعتبارها مانعة من العقاب، فهذا الإعفاء قرّره المشرّع في بعض الجرائم([26]) الهدف منه حثّ المجرم على مراجعة نفسه بنفسه واسترداده إلى ذاته للاعتراف بأخطائه وتجاوزها والتّشجيع على إصلاح الضّرر النّاتج عن الجريمة([27]). فجاءت الأعذار الخاصّة منحصر في أسباب محدّدة تعكس اعتراف الجاني بجرمه ووعيه بخطورة فعله خاصّة أن المشرّع حصر انطباق هذه الأعذار على جرائم مخصوصة، لدقّتها وخطورة وقعها على الأمن العامّ، فشجّع الجاني على كشف المجرمين وإرشاد السّلطات إلى القائمين بالعمل الإجرامي أو المساهمين فيه ويكون ذلك عبر الإخبار:
يقصد بالأخبار تبليغ السّلطة العامّة عن وقوع الجريمة والإشارة إلى مرتكبها بغية تتبّعهم والقبض عليهم لمحاكمتهم ممّا يكشف عن ضآلة الخطورة الإجراميّة لدى الجاني ومدى قابليّة نفسيّته للإصلاح والرّجوع إلى الجادّة.
وقد حدّدت الجرائم التي يعفى من عقوبتها الجاني بموجب الأخبار على وجه الحصر([28]) وهي جرائم نصّت عليها المجلة الجزائيّة وأخرى وردت في قوانين خاصّة([29]) تتمحور حول الأخبار عن جرائم الاعتداء على أمن الدّولة هو موضوع الفصل 80 م ج “يعفى من العقوبات المستوجبة لمرتكبي الاعتداءات على أمن الدّولة…”.
كذلك شمل جرائم الاعتداء على الأموال من خلال الفصل 143 م ج الذي نصّ على خصوصيّة تكوين شركات للإجرام والاحتيال والفصل 192 م ج الذي اهتمّ بجرائم التّدليس والتزوير.
أمّا الفصل 93 م ج فقد اهتمّ بجرائم الارتشاء وأهميّة إثبات المرتشي لهذه الجريمة لإعفائه من العقاب وأخيرا الفصل 234 م ج فقرة ثانية ويتعلّق بالإخبار عن جريمة إسقاط جنين والتي تمثّل جنحة لا يعاقب الطّبيب على إفشاءها، كما تعرّض القانون عدد 75 لسنة 2003 المتعلّق بالجرائم الإرهابيّة إلى الإخبار كعذر يستوجب الإعفاء نصّ عليه ضمن الفصل 26 والذي جاء فيه “يعفى من العقوبات المستوجبة من بادر من المنتمين لوفاق أو لتنظيم أو من كان له مشروع فردي يهدف إلى ارتكاب إحدى الجرائم الإرهابيّة بإبلاغ السّلط ذات النّظر بالإرشادات أو معلومات مكّنت من اكتشاف الجريمة وتفادي تنفيذها…” فالإخبار والإرشاد يمكّنان الجاني من التّكفير عن خطئه ممّا يبرز إنصلاحه من تلقاء نفسه واضمحلال الخطورة التي يمثّلها على المجتمع فكافأه المشرّع بإعفائه من العقوبة ولا تنحصر الأعذار المعفيّة في الإخبار بل تتجاوزها إلى :
الرجوع عن شهادة الزّور هو موضوع كلّ من الفصلين 242 و243 م ج ففي هذا الرّجوع إثبات عن ندم واعتراف بالخطأ المرتكب وبالتالي صحوة لشخصية الجاني.
والمشرع حدّد شروط للتّمتّع بهذه الآليّة وهي أن يكون الإخبار أو الرّجوع في الشّهادة تلقائيّا قائما على وعي من المجرم بخطئه وإقرارا به، كما يجب أن يستفيق الجاني ويصلح خطأه قبل وقوعه أو قبل قيام التتبّعات، إلاّ فيما يتعلق بجريمة تزوير العملة في جريمة مستمرّة.
وقد رأي المشرّع أنّ إعفاء الجاني من العقوبة لا يعني انتفاء للجريمة التي تبقى قائمة وتسجّل بسجلّه العدلي لمحاسبة المجرم على أفعاله في حالة إقدامه على ارتكاب جرائم مستقبليّة، يعتدّ بها القانون في تقدير العقوبة والشّكل الذي تكون عليه([30]).
يستفاد ممّا سبق بسطه أنّ المشرّع استند إلى تطوّر شخصيّة الجاني وإفصاحه عن جرمه لإعفائه من العقوبة في صور محدّدة، وقد تدعّم هذا المنهج في فرنسا حيث يسند الإعفاء من العقاب للمحكمة في مادّتي المخالفات والجنح متى ثبت لديها أنّ الجاني قابل للإصلاح، وأنّ الضّرر الحاصل من الجريمة قد وقع جبره، وهو إجراء فاعل حبّذ لو يقع تبنّيه من مشرّعنا.
وامتدّت هذه الأعذار لتطبّق على الطّفل عبر تكريس نزعة التّجريم في الجرائم التي ارتكبها([31]) واقتناع المشرّع بضرورة تفريد العقوبة جعله يضع أكثر من آليّة لتحقيق الملاءمة ومراعاة شخصيّة الجاني خاصّة إذا كان لا يمثّل خطرا على المجتمع بإقرار اعتماد آليّة التّخفيف إذا ما توفّرت شروطها وأعذارها القانونيّة والتي حدد منها صورا مخصوصة.
ب- الأعذار المخفّفة من العقوبة
أسباب التّخفيف هي الأسباب التي تلطّف من العقوبة إذ ينص القانون أحيانا على أعذار معيّنة توجب تخفيض العقوبة لملاءمة شخصيّة المجرم الذي قام بالفعل، تتمثّل في :
-صغر السنّ كعذر مخفّف :
عذر صغر السنّ هو عذر قانوني يفسّر بحداثة سنّ الطفل وعدم قدرته على تحمّل العقوبات المحدّدة للرّشد، ممّا يلزم تلطيف الجزاء المقرّر له حتى يكون متناسبا مع سنّه([32]).
فوضع المشرع عقوبات مخفّفة تراعي سنّ المجرم([33]) لميّز الطّفل كغيره من التّشاريع الأخرى بأحكام خاصّة من حيث المسؤوليّة والعقاب لما تستوجب شخصيّته من وقاية وإصلاح فهو شخص زلّت به القدم في عالم الانحراف نتيجة لوضع اجتماعي أو نفسي يعيشه.
وقد اعتمد المعيار البيولوجي لتحديد المسؤوليّة فتطوّر نموّه العقلي والجسدي والنّفسي يحدّد مدى قدرة الطّفل على التّمييز والإدراك لنتعرّض إلى 3 مراحل :
* مرحلة انعدام التمييز :
تتميز هذه المرحلة بانعدام التميز تماما مما بنفي عنه المسؤولية وتطبق عليه التدابير التربويّة وحددت هذه المرحلة من الولادة إلى حين بلوغ سن السابعة.
* مرحلة نقص التّمييز :
حدّدها أغلب الفقهاء من السّابعة حتّى سنّ الخامسة عشر عاما، وهي مرحلة اكتمال التّغيّرات البيولوجيّة، كما يقرّ بعضهم أنّها تمتدّ إلى الثّامنة عشر ويبرّر المختصّون أنّ الإنسان في سنّ الثّامنة عشر عاما وهو السنّ القانونيّة التي تنتهي فيها مرحلة الطّفولة قد يكتمل نضجه الفيزيولوجي والبسيكولوجي والاجتماعي([34]).
* مرحلة اكتمال التّمييز :
تبدأ من سنّ البلوغ وفي هذه المرحلة يبرز فيها الطّفل كإنسان راشد بالمظهر والتّصرّفات([35]) يتحمّل مسؤوليّة كاملة عن كلّ الجرائم التي ترتكب لتمتّعه بالقدرة على التّمييز وإدراك أفعاله.
شاءت إرادة المشرّع تجنيب الأطفال المنحرفين في مثل تلك السّنّ صرامة العقوبات الجزائيّة وتخفيفا على أبدانهم من وقعها، حدّد سنّا أدنى للمسؤوليّة وسنّا قصوى يفقد على إثرهما المجرم صفة الحدث، إذ يمكن القول أن الطّفل هو علّة العذر لخصوصيّة شخصيّته وعدم تأصّل النّوازع الإجراميّة فيه وإنّما هي نتاج لعوامل خارجيّة أثرت فيه بطريقة أو بأخرى. تتجاوز الأعذار المخفّفة من العقاب عذر صغر السّنّ الذي يعتبر عذرا هامّا ينسحب على جميع الجرائم التي يكون المجرم فيما حدثا، لتشمل أعذارا خاصّة تهمّ جرائم محدّدة.
* الأعذار الخاصّة الموجبة للتّخفيف :
قام المشرّع بالتّنصيص على جملة من الأعذار الخاصّة المخفّفة من العقاب والتي ينحصر تطبيقها على جرائم معيّنة أي أنّها محدّدة سلفا، وقد وردت على سبيل الحصر سواء بالمجلّة الجزائيّة أو في القانون المتعلّق بمكافحة الإرهاب ومن خصائص هذه الأعذار أنّها تسند طابعا تخفيفيّ وجوبيّ على العقوبات الأصليّة، كما أنّها أعذار تراعي شخصيّة القائم بها ونفسيّته ومدى قدرته على الإنصلاح والحدّ من النّوازع الإجراميّة الكامنة فيه وتتمّثل هذه الأعذار في :
إقرار المشرّع تخفيف العقوبات على من يأخذ عملة مزيفة عن حسن نيّة ثمّ يكتشف عيوبها بنفسه أو بواسطة ويدفعها للتّداول عن سوء نيّة على أساس أنّها صحيحة وهو موضوع الفصل 191 م ج والأخذ بهذا العذر مردّه محدوديّة الخطورة الإجراميّة مقارنة بغيره من مروّجي العملة فحدّد المشرّع العقوبة بالخطيّة دون السّجن والتي تساوي ستّة مرات قيمة القطع التي أرجعها للتّداول.
كما نصّ الفصلين 211 و214 م ج المتعلّقين بجريمة قتل الأمّ لمولودها وإسقاطها لحملها ويفسّر إسناد ظرف التّخفيف مراعاة لحالتها النّفسيّة في تلك الآونة وعدم توازنها سواء أمام الفضيحة أو السّبب القاهر الذي دفعها لارتكاب مثل هذا الفعل.
فخصّ الأمّ التي تسقط حملها بعقوبة لمدّة عامين فقط في حين أقرّ عقابا لغيرها يصل إلى السّجن مدّة خمسة أعوام، أمّا الأمّ القاتلة لمولودها خصّها بعقوبة سجنيّة مدّتها عشرة أعوام عوضا عن الإعدام أو السّجن المؤبّد.
فالإقدام على ارتكاب مثل هذا الفعل يبرّز الخلل النّفسي الذي ألمّ بالأمّ والمشرّع أمن بوضعيّتها وبحالتها النّفسيّة واعتبره تبريرا لتخفيف الحكم عليها.
كما أقر قانون 10 ديسمبر 2003 في فصليه 27 و28 اعتماد التّخفيف من العقوبة إذا توفرت الأعذار التي نصّ عليها الفصلين والمتمثلة في الاعتراف والإفصاح عن معلومات من شأنها وضع حد لأعمال إرهابيّة أو ثبوت المشاركة في الجرائم الإرهابيّة.
برز أنّ المشرّع سعى في ظلّ السّياسة الحديثة ونسجا على منوال القوانين المقارنة للنّظر إلى المجرم في المرتبة الأولى، آخذا بتطور شخصيّته وتراجع نوازعه الإجراميّة لمكافئته بآليّة الإعفاء أو التّخفيف من العقوبة لكنّ هذا لا ينفي أهميّة ردع المجرم الذي تأصّلت فيه النّوازع الإجراميّة والذي وجب تشديد العقوبة عليه لردعه وإصلاحه ليعود فردا صالحا غير مضر بالمجتمع ككلّ.
ج- الأعذار المشدّدة للعقوبة
نصّ المشرع على هذه الظّروف ضمن الكتاب الثاني المجلّة الجزائيّة في مواضيع متفرّقة دون أن يدرج تعريفا دقيقا لها، وهذه الظّروف تعرب عن سوء سلوكه وخطورتها، ممّا يستوجب تسليط عقوبات مشدّدة.
ويمكن تعريف ظروف التّشديد بأنّها الحالات والأفعال الموضوعة والشّخصيّة التي تشدّد العقوبة المسلّطة على الجريمة المرتكبة على إثره نتعرض إلى :
1- ظروف التّشديد الشّخصيّة
يقصد بالظّروف الشّخصيّة تلك التي ترتبط بشخصيّة المجرم والتي تكتسي طابعا خاصّا بحيث لا تنصرف أثارها إلاّ على من تتوفّر فيه هذه الظّروف.
وتتعلق بصفات معيّنة قد تقيم الدّليل على خطورة الجاني وقدرته الإجراميّة عند ارتكابه للفعل المجرم.
وتتمثّل هذه الظروف في :
* الظّروف الخاصّة : ولها طابع خاصّ من شأنه أن يؤثّر على طبيعة الجريمة فيخرجها من صنف الجنح إلى صنف الجنايات.
كما أنّ هذه الظّروف عادة ما تكون مرتبطة بالمادّيات والملابسات المحيطة بالفعل الإجرامي المعاقب عليه فهي لا تنطبق إلاّ في حالات محدّدة :
صفة الجاني : أو موقعه بالنّسبة للمجني عليه وقد تكون صفة القرابة أخطر من غيرها لأنّ القريب يحظى بثقة عمياء من قبل المجني عليه، لأهميّة الصّلة الدّمويّة التي من شأنها أن تلغي كلّ الحواجز، ممّا يفسّر تشديد العقاب فهذا النّوع من الجرائم يعكس خطورة الجاني وانعدام أدميته.
وقد نصّ عليها المشرّع ضمن الفصل 212 فقرة ثانية والفصل 213 من المجلة الجزائيّة تعلّق الاهتمام بإهمال طفل من طرف وليّه، حيث شدّد العقاب استنادا إلى جسامة الضّرر الذي لحق هذا الطفل جرّاء إخلال الولي بالواجب المحمول عليه([36]) كما يعرب هذا التّصرّف على قسوة وخلل في شخصيّة الوليّ المقدم على مثل هذا التّصرّف.
وشدّد العقاب في صورة قيام مواقعة واغتصاب أو مفاحشة من ذكر أو أنثى إذا كان الجاني من أصول المجني عليه وهو موضوع الفصل 229 م ج “يكون العقاب ضعف المقدار المستوجب إذا كان الفاعلون للجرائم المشار إليها بالفصل 227 مكرر و228 و288 مكرر من أصول المجني عليه من أيّ طبقة كانت لهم الصّلة عليه…”.
كما تعرّض المشرع ضمن الفصل 232 م ج إلى جريمة التمعّش في الخناء من قبل أحد أسلاف الضحيّة زوجا أو وليّا واستغلال الثّقة والسّلطة لدفع المجني عليه لارتكاب أفعال مشينة كتعاطي الخناء أو التمعّش في هذا النّشاط.
وتناول بالاهتمام صورة استغلال المجني عليه والاحتيال عليه لتحقيق الجاني لمصلحة الفضلى فقد نصّ الفصل 301 م ج “يعاقب بالسّجن مدّة ثلاثة أعوام وبخطيّة قدرها مائة دينار كلّ من استغلّ قلّة تجربة أو طيش أو حاجة شخص ليس له حقّ التّصرّف في أمواله وحمله على الإمضاء على التزام مالي أو غيره من العقود المقيّدة للملكيّة…”.
ويرفع إلى خمسة أعوام وبخطيّة قدرها مائتا دينار إذا كان المعتدّى عليه موضوعا تحت رقابة المعتدّي أو سلطته.
ونصّ المشرّع على جريمة الاعتداء بالعنف الشّديد الذي ينجر عنه قطع لعضو أو تشويه بالوجه أو سقوط بدرجة هامّة فرفع العقاب من خمسة أعوام إلى اثني عشرة عاما إذا كان المعتدّى عليه خلفا للمعتدّي وهو ما نصّ عليه الفصل 219 م ج الفقرة الثّالثة.
الصّور عديدة ومحدّدة لكنّها تعرب في مجملها على خطورة شخصيّة الجاني وقدرته على تجاوز القانون دون اعتبار لأهميّة القرابة أو الصّلة التي تجمعه بالمجني عليه، ممّا يؤكّد إمكانيّة ارتكاب أي نوع من الجرائم إذا كانت ستحقّق أغراضه ومصالحه.
أمّا الصّورة الأخرى التي نصّ عليها المشرّع ضمن المجلّة الجزائيّة فتهتمّ :
بموقع الجاني أو وظيفته : التي تلزمه بخصال معيّنة تتراوح بين الثّقة والشّرف، وقد نصّ الفصل 263 في فقرته الثّانية أنّ السرقة الواقعة من أصحاب :
-النّزل وغيرها من المحلاّت المتعاطية لهذا النّشاط وأصحاب المقاهي أو المحلاّت المفتوحة للعموم.
-من مستخدم أو خادم لمخدومه أو لشخص موجود بدار مخدومه.
-ممّن يخدم عادة بالمسكن الذي ارتكب به السّرقة.
أمّا بخصوص الموظّف العمومي أو من شابهه والذي وجب عليه أن تتحلى شخصيّته بالأمانة والصّدق وارتكابه لجرم يعرب عن عدم استحقاقه للثّقة التي أولتها له الدّولة وتتجسّد هذه الجرائم في :
جرائم التّدليس التي نصّت عليها الفصول 172 و173 و174 م ج أي تغيير الحقيقة بإحدى الوسائل المنصوص عليها قانونا وعن سوء نيّة ممّا يحدث ضررا عامّا أو خاصّا للغير([37]).
أو جريمة الرّشوة موضوع الفصل 83 م ج “كلّ شخص انسحبت عليه صفة الموظّف العمومي أو شبهه وفقا لأحكام هذا القانون يقبل لنفسه أو لغيره بدون حقّ سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة عطايا، يعاقب بالسّجن لمدة عشرة أعوام وبخطيّة قدرها ضعف قيمة الأشياء التي قبلها أو مانع الوعد به على أن تقلّ الخطيّة عن عشرة آلاف دينار”.
والمشرّع شدّد في العقوبة لردع الجاني الذي تملي له نفسه ارتكاب مثل هذه الأفعال حتى وإن لم يكن الأمر الذي يقوم به المرتشي ممكنا ضرورة، فالغاية هي ما يحصل في ذهن الرّاشد بإمكانيّة إعانته أي مدى ضعف شخصيّته وانقيادها بسرعة نحو ارتكاب الجرائم.
وصور التّشديد المستندة إلى موقع الجاني ووظيفته عديدة وخاصّة، لكن كلّها تعكس رغبة المشرّع في ردع شخصيّة هذه الفئة التي مكّنها من السّلطة والنّفوذ لكي لا تنقاد خلف مصالحا وتراجع نفسها قبل الإقدام على مثل هذه الأفعال المضرّة بمصالح (خاصّة وعامّة).
يمكن القول أنّ المشرّع حدّد صورا معيّنة تعرب عن خطورة الجاني وقد تعرض كذلك إلى طبيعة شخصيّة الجاني ومعالمها ومدى وعيها بأفعالها وكيفيّة الإقدام عليها.
الظّرف النّفسي : الذي اتّسمت به شخصيّة الجاني عند إقدامه على فعلته المجرمة والذي يعكس طبيعة الجاني ويعرب عن مدى خطورته الإجراميّة، فالمعطيات النّفسيّة أصبحت معيارا لضبط العقاب حيث وقع التّركيز على إرادة المجرم لجعلها عنصرا هامّا في التّجريم وتنويع الجزاءات وما يؤكّد بأنّ قصد الجاني معطى جوهري أخذ به المشرّع، ويعبّر عنه بالإضمار كصورة من صور القصد الجنائي الخاصّة والمميّزة له السّابقة لمباشرة تنفيذ الأفعال الماديّة بغاية تحقيق النّتيجة الإجراميّة([38]).
إذا يمثّل الإضمار عزم الجاني عزما مبنيّا على التّفكير النّاضج والملحّ على الاعتداء على ذات الغير بوسائل اختارها بكلّ عناية لنجاح مشروعه([39]) والإقدام عليها هادئ البال وقد خصّها المشرّع بنصوص محدّدة 127 و218 م ج، كالقتل العمد حسب الفصل 201 م ج أو القتل أثناء ارتكاب جريمة أخرى حسب الفصل 204 م ج، وقد وضع لها عقوبات مشدّدة تتمثّل في الإعدام لفداحة الفعل الذي أقدم عليه الجاني بقناعة وتروي، كما أقرّ عقوبة السّجن مدّة عشرين سنة بالنّسبة لاعتماد العنف الشّديد عن قصد والذي ينتج عنه إزهاق روح بشريّة.
تحيل هذه الظّروف إلى الخطورة الكامنة في ذات الجاني، ممّا يتطلّب معه تشديد العقوبة بغرض إصلاحه وردعه عن العود والذي يمثّل ظرفا عامّا كان محلّ اهتمام ودراسات لما له من انعكاسات سلبيّة على المجتمع من جرّاء تطوّر نسبة الإجرام وتنوّعها… ولا يقتصر الظّرف العام على جريمة معينة وإنما يسرى حكمها على كافة الجرائم أو الجانب الأكبر([40]).
2- العود كظرف عام يستوجب التّشديد :
عرّف رجال القانون العود أنّه حالة الشّخص الذي يقترف جريمة جديدة بعد أن سبقت إدانته بحكم باتّ من أجل جريمة أولى كلّما توفّرت فيه الشّروط الأخرى المحدّدة قانونا([41]).
إذا يمثّل العود تكررا لتجاوز القانون ولئن العود لا يعتبر أحيانا بظاهرة إجراميّة بل بمعطيات نفسانيّة وهذه المعطيات يجب أن تكون حاضرة في ذهن القاضي([42]) فهي تعكس تدهورا أخلاقيّا وسوء سلوك الجاني الذي لم يرتدع رغم العقاب الذي سلّط عليه قبلا.
يعتبر عائدا “كل من يرتكب جريمة بعد عقابه بموجب أخرى قبل أن تمضي خمسة أعوام على قضاء العقاب الأوّل أو على إسقاطه أو سقوطه بمرور الزّمن القانوني”([43]).
أي أنّ المشرّع حدّد شروط العود والتي تؤكّد خطورة الجاني فالإقرار بأن تكون الجريمة الجديدة ارتكبت بعد جريمة سابقة سلّط عليها حكما باتّا واقترف جريمة ثانية مستقلّة تماما عن الأولى([44])، حدّد المشرّع فترة هامّة قدّرت بخمسة أعوام الغرض منها هو ملاحظة سلوك الجاني في هذه الفترة الطّويلة وتقدير مدى ارتداعه من العقوبة التي سلّطت عليه ومدى تفاعله معها وانصلاحه.
وقد حدّدت العقوبات على العائد استنادا إلى ما نصّ عليه المشرّع ضمن كلّ من الفصل 50 م ج “في صورة العود لا يمكن أن يكون العقاب دون الأقصى المنصوص عليه بالفصل المنطبق على الجريمة الجديدة ولا أكثر من ضعف ذلك المقدار لكن بدون أن يمنع ذلك من اعتماد الفصل 53 عند الاقتضاء” وهي تعدّ من الظّروف العامّة المنسجة على جلّ الجرائم التي ترتكب، إمّا فيما يتعلّق بالآثار الخاصّة فتتجسّد في :
-صورة العائد المكرّر الذي عوقب مرتين بالسّجن أكثر من عام، حيث تخضع عقوبة السّجن في المرّة الثّالثة إلى أقصى العقوبات.
-كذلك بالنّسبة للعود في جريمة السّكر الواضح وهو ما نصّ عليه الفصل 317 م ج فارتكاب هذه المخالفة مرّة ثانية ينجر عنه الحكم بأقصى العقوبات المقرّرة بالفصل 317 م ج أي 15 يوم سجن وتكرار ارتكاب السّكر يرفع العقوبة إلى 6 أشهر وهو ما أكّد عليه الفصل 52 م ج.
الغرض من تشديد العقوبة على العائد ردعه ومجابهة العود باعتباره من أهمّ الظّواهر الإجراميّة الدالّة على حالة الخطر الذي يمثّله الجاني، لكن لا تقتصر عوامل التّشديد على العوامل الشّخصيّة وإنّما تشمل عوامل موضوعيّة تتّصل بذات الجريمة لا بشخص الفاعل أو بعض الفاعلين فيها([45]). لكن رغم ارتباط هذه الأفعال المادّية بالجريمة إلاّ أنّها تعدّ وسيلة استغلّها الجاني لتسهيل جريمته والوصول لغايته، فيكون إمّا :
-استعمال وسيلة معيّنة: تعدّ الأنجع لتحقيق مآربه أي النّتيجة الإجراميّة المنتظرة ومن أمثلتها في جريمة السّرقة ظرف التّسوّر أو الكسر أو الخلع بالاستناد إليها تتغيّر صفتها القانونيّة لتتحوّل من سرقة مجردة إلى سرقة موصوفة فيها تعبير عن وعي وإصرار الجاني على فعلته وإعداد لها عن اقتناع رغم علمه بنتائج فعلته.
واعتبر حمل السّلاح ظرف تشديد لخطورة هذه الوسيلة ونتائج استعمالها لذلك أقرّ المشرّع إمكانيّة تشديد العقوبة على مجرّد حمل السّلاح دون استعماله، وهو ما نصّ عليه الفصل 171 م ج الفقرة الثانية([46]).
كذلك شدّد العقاب في الصّورة التي نصّ عليها الفصل 233 م ج لحامل السّلاح بصورة ظاهرة أو خفيّة…
إذا أكّد المشرّع في أكثر من مناسبة على فكرة استعمال العنف الذي لم يحظى بتعريف تشريعي واضح، لذلك يمكن أن يتجسّم في عدّة صور كالضّرب والجرح وهو ما نصّت عليه الفصول 218-219-220-319 م ج.
فقد أكّد الفصل 218 على تسليط عقاب بالسّجن مدّة ثلاثة أعوام وخطيّة قدرها ثلاثة آلاف دينار في صورة تقدّم إضمار الفعل.
أمّا فيما يتعلق بالفصل 219 الذي أقر التّرفيع في العقوبة بحسب خطورة العنف وما تسبّب فيه من تشويه أو سقوط أو عجز… فحدّد العقاب بالسّجن لمدّة خمسة أعوام إذا لم تتجاوز درجة السّقوط أو العجز بنسبة 20% ويرتفع العقاب بالسّجن إلى 6 سنوات إذ تجاوزت درجة السّقوط أو العجز 20%.
إنّ تعداد هذه الجرائم كان على وجه الذّكر لتعدّد الأسباب والوسائل الموازية لخطورتها وللأقلّ منها خطورة، كاستعمال اسما مدلّسا أو وهميّا للتّمويه والمغالطة أو انتحال صفة لتحويل وجهة موضوع الفصل 237 م ج، والذي رصد لها عقوبة السّجن بقية العمر. والأمثلة متعدّدة، لكن إلى جانب الوسيلة المعتمدة أضاف المشرّع ظرف المكان والزّمان كعنصر معتبر في تشديد العقوبة. فشدّد العقاب على كلّ من يعتدي على محلّ مسكون أو معدّ للسكنى إلى جانب بعض الأماكن مثل قاعة جلسة أو الأماكن العامّة، إلى جانب استناد المشرّع إلى ظرف المكان ومدى تأثيره على نوعيّة الجرم وبالتّالي العقاب المسلّط، اعتمد ظرف الزّمان كسب هامّ لترفيع العقاب نذكر على سبيل المثال ظرف السّرقة في اللّيل فقد نصّ الفصل 260 م ج فقرة ثالثة الذي أكّد على وقوعها ليلا، ممّا يرفع العقوبة السّجنيّة إلى بقيّة العمر لكن أقرّ اقتران هذه الفعلة بعوامل أخرى من بينها زمان ارتكاب السّرقة “ليلا”.
كلّ هذه العوامل وإن لم تكن آخذة بشكل واضح بشخصيّة الجاني وإنّما تحيل بصورة هامّة إلى عناصر تمسّ الجاني وتحدّد خصاله، برز سعي المشرّع بشكل أو بآخر نحو تطبيق المفاهيم الحديثة واستغلالها ضمن تشريعنا الحالي كمبدأ تفريد العقوبة وحماية كرامة الإنسان ومراعاة شخصيّته والظروف التي دفعته لذلك.
وتتجسّد من خلال تعديل العقوبات والتدرّج بها نحو الحدّ من الصّبغة الزّجريّة والرّدعيّة لإحلال الطّابع الإصلاحي والتّقويمي سعيا لتجاوز سلبيّات وطأة العقوبات التّقليديّة.
المبحث الثّاني : التّدرّج بالعقوبات نحو الأخذ بشخصيّة الجاني
تعتبر العقوبات من أقدم الوسائل اعتمادا، وقد أولاها المشرّع وظيفة الرّدع والزّجر للجاني تأثّرا بالمدرسة التّقليديّة، فبرزت العقوبات قاسية ومهينة تستند إلى جسامة الفعل المرتكب، وقد سار التّشريع على هذه الوتيرة فترة هامّة من التّاريخ سرعان ما تأثّر بالأفكار الحديثة التي تدعو للنّظر إلى الجاني كإنسان دفعته عوامل باطنيّة أو خارجيّة لارتكاب مثل هذا الفعل، واقتنع المشرّع بهذا التوجّه فسار على خطاه نظرا لفشل سياسة الرّدع والجزر في تحقيق الأهداف المنشودة، فقد تطوّر الإجرام ليتبيّن أنّ ردع الجاني الذي يهدف إليه القانون يمكن أن يتحقّق بوسائل أخرى بديلة لها نفس الجدوى([47])، طالما أنّها تتناسب والخطورة الإجراميّة الكامنة في شخصيّة الجاني والقادرة على إصلاحه ومعالجة الخلل الكامن فيه وقد برز هذا التّوجّه بشكل واضح على الجزاءات المسلّطة على الطّفل (فقرة أولى) بينما تدرّج المشرّع نحو وضع عقوبات تراعي شخصيّة الرّشّد (فقرة ثانية) بخطى ثابتة ورصينة.
الفقرة الأولى : وضع عقوبات تراعى شخصيّة الطّفل الجانح
لئن أصبح الجنوح بصفة عامّة هاجسا بحكم ما تشير إليه التقديرات من تنامي وارتفاع الإجرام بنسبة 5% سنويّا([48]). قامت فلسفة المشرع على فكرة تغليب حقّ الطّفل في الإصلاح والوقاية وإعادة الإدماج على حقّ المجتمع في الرّدع والعقاب والزّجر، فهذه الشّريحة العمريّة التي عرفها الفصل 3 من مجلّة حماية الطّفل([49]) تتميّز بقلّة وعيها وإدراكها وتأثّرها بكلّ ما يحيط بها دون قدرة على التّمييز الصّحيح، ممّا دفع المشرّع لوضع جزاءات تتلاءم وخصائص شخصيّة هذه الفئة، والتّمعّن في هذه الجزاءات يبرز تغلّب الطّرق البيداغوجيّة والتّربويّة على الوسائل الرّدعيّة أو الزّجرية([50])، لذلك انقسمت العقوبات المسلّطة على الطّفل إلى جزاءات غير زجريّة(أ) تراعي خصائص الطّفل وتحاول قدر الإمكان إصلاحه ورقابته، فالمشرّع دعّم مكانة هذه التّدابير وأقرّ نجاعتها وملاءمتها لشخصيّة هذه الفئة لكنّه لم يقصي الجزاءات الزّجريّة(ب) بل اعتمدها بصفة استثنائيّة في الحالات التي تتطلّب فيها شخصيّة الطّفل ردعه لخطورة أفعاله.
أ- أولويّة الجزاءات غير الزّجريّة
أكّد علماء الاجتماع والنّفس أنّ جنوح الأطفال يجب أن يناقش خارج الإطار العقابي للقانون الجزائي، وعوض أن تعالج ظاهرة الجنوح ضمن أهداف العقوبة يجب أن تدرس من جانب علمي اجتماعي([51]) واجتنابا للجزاء الجنائي وتوجّها نحو التّدابير الأمنيّة القائمة على فكرة تقويم الفرد([52])، كرّس المشرّع بمجلة حماية الطّفل جملة من التّدابير يخضع لها الطّفل وهي تختلف حسب متطلّبات شخصيّة كلّ طفل، لذلك دعا الفصل 13 م ح ط إعطاء الأولويّة لمثل هذه الجزاءات التي نصّت عليهما مجلّة حماية الطّفل بالفصلين 93 و99 والتي حدّدها المشرّع وترك تحديد الجزاء المناسب لقاضي الأطفال أو محكمة الأطفال حسب ما تقتضيه شخصيّة الطفل المنحرف وتتجلّى هذه الجزاءات في :
-التّوبيخ :
يتمثّل في لوم الطّفل عن فعل ارتكبه وينطوي على تحذير من مغبة الانزلاق في هوّة الانحراف والجريمة والإنذار بتوقيع جزاء أشدّ إذا تكرّر الفعل([53])، وقد حصر نطاق اعتماد هذا التّدبير في المخالفات لبساطة نتائجها ولتربية الطّفل ووقايته من الوقوع في جرائم أخرى، فالتّوبيخ جزاء يتّجه إلى شخصيّة الطّفل لردعه معنويّا نظرا لسرعة تقبلّه وتأثّره بما يسلّط عليه.
-تسليم الطّفل إلى أبويه أو المقدّم عليه أو الحاضن له أو شخص من أهل الثّقة :
والهدف هو التوصّل لحسن اختيار المكان والأشخاص القادرين على حسن تربية الطّفل الجانح عبر مراقبته وإرشاده وتوفير بيئة سليمة لتجاوز الخلل الذي ألمّ به ودفعه لارتكاب أفعال مجرّمة، وهذه الخطوة نحو إصلاحه ووقايته تتطلّب وضعه في البيئة المناسبة وضمان حسن تكيّفه معها لتقويم شخصيّته وتأهيلها. وهناك إجماع على أهميّة الأسرة لتحقيق هذه الغاية فهي الخليّة الأساسيّة في المجتمع بصلاحها يصلح الأمم([54]) وتسليم الطفل المنحرف إلى أبويه يحمل تعبيرا واضحا لتحميلهم المسؤوليّة للسّهر على حسن تربية أبنائهم([55]) ومراجعة لأسلوبهم التّربوي لتحديد نقائصه التي دفعت بابنهم للانحراف لمحاولة تجاوزها.
أمّا إذا لم يكن الأبوين أهلا لتسلّم الطّفل فإنّه يمكن تسليم الطّفل إلى مقدّمه أو إلى حاضنه أو إلى شخص يوثق به، وعنى المشرّع بذلك تسليم الطّفل إلى عائلة بديلة تحتضنه وتعوضه عن عائلته الأصليّة التي لم تتوفّر فيها ظروف التّربية السّليمة. وفي هذا الإطار صدر القانون عدد 47 لسنة 1967 المؤرخ في 21 نوفمبر 1967 المتعلق بوضع الأطفال لدى العائلات([56]) وقد اقتضى الفصل الأوّل منه أنّ الأطفال المعنيّين بهذا الإجراء هم : “الأطفال الفاقدين للأسرة والمهملين أو الذين لا تسمح وضعيّة عائلتهم بصفة مؤقّتة أو بصفة نهائيّة القيام بتربيتهم ورعايتهم”. كما ألزم المشرّع هذه العائلات بواجبات معيّنة طيلة مدّة الرّعاية والتّربية التي يتلقّاها الطّفل ومكّنها المشرّع من أن تحوّل هذا الوضع إلى كفالة سعيا منه لإدماج الطّفل في هذه العائلة وتنمية شخصيّته وخلق التّوازن النّفسي والفكري لوقايته من الانحراف.
-إحالته على قاضي الأسرة :
للتمعّن في حقيقة وضعية الطّفل الذي اتّهم بارتكاب جريمة ولمعالجة الوضعيّات الماثلة أمامه عبر البحث عن الموقع الحقيقي للطّفل في القضيّة، إذ من الممكن أن يتّضح أنّ الطّفل مهدّد وخاضع لسلطة خارجيّة، ممّا يستوجب معه الاستناد إلى آليّات تدخّل وقائي لحمايته ومحاولة إخراجه من الوضع الصّعب الذي يهدّد حياته ويدفعه إلى الإجرام والذي يختصّ به قاضي الأسرة والمشرّع مكّنه من صلاحيّات للوصول إلى حقيقة وضعيّة الطّفل.
-تسليم الطّفل إلى مؤسسة أو منظّمة تعنى بالتّربية أو التّكوين المهني وهو تدبير غير مستحدث وجد منذ 1955 جسّده الفصل 17 من القانون الأساسي للقاصرين، كما نصّ عليه الفصل 241 م ا ج لكن تقتصر على الأطفال الغير مزاولين لتعليمهم أو الذين وقع طردهم لتكوينهم وتأهيلهم، كما أن هذه المؤسّسات لم تجد طريقها للظّهور([57]).
-أمّا التّدابير التي تعنى بصحّة الطّفل النّفسيّة والجسديّة فأقرّها الفصل 99 م ح ط الذي نصّ على وضع الطّفل بمركز طبي أو طبّي تربوي وذلك لبروز حالات مرضية عقلية أو نفسيّة لدى الطّفل، كما نصّ الفصل 38 م ج ليقع وضعه في مستشفى للأمراض العقليّة لحدّ بلوغه 18 عاما أو وضعه بمركز صحّي لعلاجه من الإدمان في حالة ثبوت تعاطيه للمخدّرات استنادا إلى قانون عدد 54 لسنة 1992 المؤرّخ في 28 ماي 1992 المتعلّق بالمخدّرات.
استنادا لما عرض، يمكن القول أنّ تعدّد التّدابير الوقائيّة والتّربويّة والعلاجيّة تدعّم مبدأ التّلاؤم لاختلاف الوضعيّات والذي يتطلّب آليّات مختلفة لتحقيق الإصلاح والوقاية وتجاوز الخلل الذي ألمّ بالطّفل المنحرف نتيجة عوامل بيئيّة أو اجتماعيّة أو نفسيّة ألحقت به الضّرر ودفعته للإجرام، وأمام تنوّع الشّخصيّات واختلافها من شخص لآخر لم يقتصر المشرّع على اعتماد هذه الجزاءات غير الجزائيّة، وإنّما أقرّ كذلك الاستناد إلى الجزاءات الجزائيّة بصفة استثنائيّة لردع الطّفل الذي تأصّلت فيه النّوازع الإجراميّة واعتماد على تجاوز القانون.
ب- استثنائيّة اعتماد الجزاءات الزّجريّة
اتّخذ المشرّع موقفا واضحا وصريحا من العقوبات المسلّطة على الحريّة التي من الممكن تطبيقها على الأطفال المرتكبين لأفعال مجرّمة، وأوصى بتجنّبها لما لها من انعكاسات سلبيّة على شخصيّة الطّفل، وقد وردت التّوصية نحو استثنائيّة العمل بالعقوبات السّالبة للحريّة ضمن العنوان التّمهيدي للمجلّة تحديدا في الفصل 13 الذي أقرّ مبدأ عامّا يقضى تغليب الجانب الوقائي في معالجة ظاهرة الانحراف على الجانب الزجري، وتنقسم الجزاءات الزّجريّة إلى صنفين من العقوبات الماسّة بالحريّة وأخرى عقوبات ماليّة :
-العقوبات الماسّة بالحريّة : تنقسم بطبعها إلى صنفين عقوبات سالبة للحريّة، أين يقع حبس الطّفل داخل فضاءات مغلقة لقضاء عقوبته فيها تتضمّن حرمان المحكوم عليه من حقّه في التّنقّل والحركة طوال المدّة المحكوم بها عليه([58]) واستنادا إلى خصوصيّة شخصيّة الطّفل وسرعة تأثّره بما يحيط به تقبله دون تميّز، سعى المشرّع لإحداث فضاءات مغلقة خاصّة بهذه الشّريحة أطلق عليها اسم مراكز إصلاح الأطفال المنحرفين، وقد ضبط الأمر عدد 2423 لسنة 1995 المؤرخ 11 ديسمبر 1995 النّظام الدّاخلي الخاصّ بهذه المراكز وهي مراكز ذات صفة إصلاحيّة توفّر للأطفال ظروف إحاطة ورعاية صحيّة ونفسيّة واجتماعيّة وتربويّة تحت إشراف مجلس تربوي([59]).
تتعدّد مراكز الإصلاح في تونس([60])، وقد حرص المشرّع على تفعيل دورها صلب الفصلين 15 و16 م ح ط “حقّ الطّفل المسلّم لأحد المؤسّسات الإصلاحيّة في التّمتّع بمختلف أصناف الحماية ورعاية مع مراعاة سنّه وجنسه وقدراته”، كما دعا المشرّع لتجنّب اعتماد العقوبات السّالبة للحريّة قصيرة المدّة لانعكاساتها السلبيّة على شخصيّة الطّفل، ممّا قد يولّد لديه نقمة على المجتمع لسلبه لحريّته.
أمّا بالنّسبة لإيداع الطّفل المنحرف بالسّجن، يعدّ حلاّ استثنائيّا للطفل الذي بلغ 15 سنة استنادا لخطورة فعلته، ممّا يقتضي تسليط عقاب مشدّد لردعه، فالتّدابير لن تجدي نفعا، ممّا يوجب إيداعه بالسّجن لكن في جناح مخصّص للأطفال لاجتناب سلبيّات الاختلاط بالرشّد وتأثيرهم السيّئ عليه بسبب ماضيهم الإجرامي أو فساد أخلاقهم أو استغلالهم له لقلّة حيلته([61]).
أمّا الصّنف الثّاني من الجزاءات فهي العقوبات المقيّدة للحريّة والمتمثّلة في الحريّة المحروسة لم يعرّفها المشرّع وعرّفها السيّد جلال بوكتيف قاضي الأطفال بالمحكمة الابتدائيّة بتونس سابقا أنّها “أسلوب علاجي يبقى الحدث بمقتضاه في بيئته الطبيعيّة متمتّعا بحريّته تحت رعاية وملاحظة شخص مكلف بهذه المهمّة”([62]) وعادة ما تقرّر الحريّة المحروسة كتدبير نهائي تربوي بعد إعلان الإدانة والتّصريح بالحكم وبوصفها تدبير تكميلي سواء كان للتدبير التّربوي أو للعقاب الجزائي([63]). وتهدف بالأساس وقبل كلّ شيء إلى حماية الطّفل وإعادة تربيته حيث يتولّى مندوب الحريّة المحروسة القارّون أو المتطوّعون تحرير تقرير إلى القاضي المتعهد وذلك إذا ما ساء سلوك الطفل أو لحق به خطر أدبي أو إذا ما وقع تعطيل المندوب عن قيامه بمهامه([64])، والهدف منها هو توجيه الطّفل في إطار تعايشه في المجتمع عبر نصحه وإرشاده لاجتناب العوامل البيئيّة والاجتماعيّة السّلبيّة التي من شأنها تعريضه للمخاطر وإيقاعه في الخطأ ودفع شخصيّته نحو الإجرام.
وتجاوز المشرّع الجزاءات الماسّة بالحرية لينصّ على الجزاءات الماليّة ما يعبر عنه بالخطيّة، تمثّل الخطيّة عقوبة أصليّة في قضايا الأطفال تسلّط عليه في حالة ارتكب فعله من نوع المخالفة فقد نصّ الفصل 73 م ح ط في فقرته الثّانية أنّه : “…إذا تثبت المخالفة جاز لقاضي الأطفال أن يوجّه للطّفل مجرّد توبيخ أو يحكم عليه بخطيّة إذا كان له مال…”. لكن الإشكال الذي يطرح في هذه الصّورة هو عندما يكون الطّفل غير قادر على دفع الخطيّة وبالتّالي فإنّه يكون غير معرّض لأي جزاء فامتناع الطّفل ليس له أثر قانوني([65]) خصوصا وأنّ أحكام الجبر بالسّجن لا تنطبق على الأطفال المنحرفين فقد اقتضى الفصل 345 مجلة الإجراءات الجزائية أنّه : « لا يسوع إجراء الجبر بالسجن ضدّ (…) المحكوم عليهم الذين سنهم دون ثمانية عشرة عاما كاملة وارتكابهم لأفعال التي استلزمت التتبّع ».
ومن هنا نتساءل عن مدى جدوى الحكم بخطيّة خصوصا وأنّ الغاية منها الرّدع والإصلاح إضافة إلى أنّ المشرّع جعل كشرط الحكم بالخطيّة أن يكون للطّفل مال، ولكن كيف يمكن إثبات أنّ للطّفل مال وكيف يمكن التصرّف فيه بمفرده ؟([66]).
الفقرة الثّانية : وضع عقوبات تلائم شخصيّة الرّشّد
منذ بداية التّجمّعات البشريّة ظهرت نظريّة الجزاء التي وإن تأسّست في البداية على فكرة الانتقام الشّخصي وردّ الفعل([67]) فإنّها تطوّرت منذ أن أصبحت دراسة الظّاهرة الإجراميّة ووظائف العقوبة محلّ نظر وتغيّرت النّظرة للمجرم وتوجّهت إلى دراسة أسباب انحرافه والظّروف المحيطة به، ممّا أدى إلى بروز اتّجاهات علميّة من أبرز مظاهرها نظام تفريد العقوبات.
وقد احتضنت هذه الأفكار من قبل جلّ التّشريعات ولا تزال تحاول تحقيق هذه الأهداف شيئا فشيئا عبر البحث عن أنجع الجزاءات القادرة على تحقيق الأغراض المستحدثة للعقوبة، ومشرعنا في بحث متواصل عن أنجع السّبل معتمدا في ذلك عمليّة المراجعة الدّائمة، فتشريعنا في كلّ المجالات وليس في المجال الجزائي فقط يخضع إلى تقييم مستمرّ وهذا التّقييم هو تقييم للواقع هل تغيّر التّشريع أو لا ؟ وإلى أيّ مدى تغيّر الواقع بالتّشريع ؟([68]).
واستنادا لهذا المنهج الإستردادي وقع تعديل قانون العقوبات عبر إلغاء عديد الجزاءات كالأشغال الشاقّة والسّجن المضيق بموجب قانون عدد 23 لسنة 1989 المؤرّخ في 7 فيفري 1989 وتعويضها بعقاب السّجن ثم إلغاء التّشغيل الإصلاحي بموجب القانون عدد 9 لسنة 1995 المؤرّخ في 23 جانفي 1995.
وهذه التّنقحات الغرض منها اعتماد عقوبات تراعي كرامة وشخصيّة الجاني كما أقرّ العهد الدّولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة ضمن الفصل العاشر.
ولا يزال تشريعنا يسعى جاهدا نحو استحداث جزاءات تلاءم شخصيّة الجاني وتحقّق إصلاحه وتقويم شخصيّته.
من خلال قراءة للفصل 5 م ا ج نلاحظ أنّ المشرّع وضع عقوبات متنوّعة يمكن تقسيمها إلى عقوبات تقليديّة رادعة للجاني(أ) إلى جانب استحداث عقوبات تهدف لإصلاحه(ب). فتحقيق العدالة يكون بتناسب العقاب مع الجريمة وحماية المجتمع في حدّ ذاته وإصلاح المجرم إذا كان قابلا للإصلاح([69]).
أ- اعتماد العقوبات التّقليديّة لردع الجاني
المقصود بالعقوبات التّقليديّة الجزاءات التي أقرّها الفصل 5 م ا ج في صياغته الأولى على وجه الخصوص وإطلاق نعت تقليديّة عليها ناجم عن كونها تقوم على حلول معروفة مثل العقوبات البدنيّة أو السّالبة للحريّة([70])، وهذه العقوبات الغرض منها ردع الجاني وزجره عن العود للإجرام، رغم تجاوز هذه الفكرة إلاّ أنّ مشرّعنا لا يزال يعتمدها، فالعقوبة اليوم تتراوح بين الرّدع والزّجر وللإصلاح والتّأهيل.
عقوبة الإعدام والتي نصّ عليها الفصل 5 م ا ج في أوّل فقرة له، نظرا لكونها تعدّ من أخطر العقوبات التي يمكن تسليطها، فهي تقصي حياة الجاني إذا ما تبيّن استحالة إصلاحه ولا ردعه وتفاقم خطورته على المجتمع رغم امتداد النّقاش الفقهي بين العلماء والفلاسفة في تقرير بقاء العقوبة أو إلغائها، فإنّهم يتّفقون على مدى قسوتها على الجاني وعلى المجتمع بأسره، وأمّا على مستوى التّطبيق نلاحظ أنّ عقوبة الإعدام المنصوص عليها نادرة التّطبيق رغم وجود النّصّ فالرّغبة في الرّدع ليست متوفّرة([71])، لكن الإبقاء عليها قد يخلق الخوف لجسامة آثارها ممّا يجعل الجاني أكثر حرصا على تصرّفاته ومراجعا لها.
أمّا العقوبة الثّانية فهي عقوبة السّجن وتسلّط على حريّة الجاني، فتكون إمّا بقيّة العمر أي بقائه طيلة عمره داخل السّجن، وهذه العقوبة تبعث الخوف والحذر في ذهنه وتدفعه لمراجعة أفعاله، فعلى رأي “جورج فيدال” «… إنّ أربعا وعشرين ساعة تقضى بالسّجن ولو تمّت بغرفة منفردة عندما تصيب شخصا له شعور بالشّرف تفقده الشّجاعة وتحطّم آدميّته وتصيّره ذليلا وتحقره في أعين النّاس ذلك بأنّ تسريح السّجين يبقى مشبوها فيه »([72])، كما يمكن أن تكون العقوبة بالسّجن لمدّة محدّدة بحسب صنف الجرم المرتكب (مخالفة، جنحة، جناية) وتهدف هذه العقوبات إلى ردع وإصلاح الجاني، أمّا الخطيّة وتعرف بـ”التزام بأداء مبلغ مالي تسلّطه محكمة زجريّة أو منتصبة بصفتها تلك على مقترف فعل يعتبره المشرّع جريمة بمقتضى نصّ سابق الوضع”([73])، وقد أقرّها المشرّع كعقوبة أصليّة مستقلّة كما نصّت الفقرة 7 من الفصل 53 م ج “إذا كان السّجن المستوجب خمسة أعوام فما دون فإنّه يمكن النّزول بالعقاب إلى يوم واحد بل يسوغ أيضا تعويضه بخطيّة لا يتيسّر أن يتجاوز مقدارها ضعف أقصى المعيّن للجريمة”.
أو يمكن أن تضاف إلى عقوبة السّجن كما نصّ عليه في الفصول 67 و199 من المجلة الجزائية و73 من مجلة حماية الطّفل، وتهدف عقوبة الخطيّة لردع الجاني عبر المسّ بذمّته الماليّة أو الجمع بين السّجن لردعه والخطيّة.
أمّا بالنّسبة للعقوبات التّكميليّة فقد بقيت مكمّلة للعقوبات الرّئيسيّة، فمشرّعنا حافظ على التّقسيم الكلاسيكي، وهنا لم يجاري التّشريعات الأخرى كالتّشريع الفرنسي الذي مكّن القاضي من اعتماد العقوبة التّكميليّة بصفة مستقلّة عن العقوبات الرّئيسيّة لذلك من أجل تحقيق التّطابق بين العقاب والجريمة وترسخ مبدأ تفريد العقاب عبر تسليط جزاء يتلاءم مع جسامة الجرم المقترف وشخصيّة الجاني، لتكون العقوبة التّكميليّة قادرة على زجر الجاني وإصلاحه دون الالتجاء إلى العقوبة الرّئيسيّة، فهي تسلّط على الجاني حسب الجرم المقترف والنّيّة الكامنة فيه لردعه عن التّفكير في القيام بمثل ذلك الفعل المجرّم ويمكن تقسيمها إلى :
1- بدائل ذات طابع مالي أو عيني
تمثّل هذه البدائل في المصادرة والحجز وهما عقوبتين تمسّان مال المحكوم عليه كما تعدّ عقوبات عينيّة لا تمسّ مباشرة الشّخص في حرّيته أو حقوقه، وإنّما تتسلّط على ثروته ولها انعكاسات على الجاني.
المصادرة :
تعني نزع ملكيّة مال من صاحبه جبرا عنه وإضافته إلى ملكيّة الدّولة دون مقابل جزاء له عن جرم اقترفه.
وتردّ كعقوبة تكميليّة للعقوبة الأصليّة وقد وقع التّنصيص على تطبيقها في جرائم شديدة الجسامة لافتراض خطورة مرتكبها واحتمال عودته لارتكاب الجريمة كجرائم الاعتداء على أمن الدّولة أين يلعب العنصر المالي دورا أساسيّا في ارتكاب الفعل الإجرامي وبنزع ملكيّته عن جميع الأموال يقصى الأرضيّة أو القاعدة التي يمكن أن تسهّل عليه الإجرام.
الحجز الخاصّ :
لقد عرّف القانون الجزائي التّونسي الحجز الخاصّ ضمن الفصل 28 م ج أنّه “يؤخذ لخزينة الدّولة ما حصل من الجريمة أو الآلات التي استعملت أو يمكن استعمالها في الجريمة”.
والمشرّع أقرّ الحجز بالآليّة للأشياء التي منع القانون صنعها أو استعمالها أو حيازتها نظرا لخطورتها على المجتمع كالأسلحة والمتفجّرات…”.
كما خوّل للقاضي النّطق بحجز الأشياء التي لها صلة وثيقة مع الجريمة كمبلغ الرّشوة (الفصل 96 م ج) أو الوثيقة المزيّفة (الفصل 200 م ج)…
والجدير بالملاحظة أنّ أغلب صور الحجز يعدّ تدبيرا وقائيّا الهدف منه منع تداول أشياء خطيرة محرّمة قانونيّا أو عندما تكون أداة للجريمة أو مثبتة لها.
غلق المحل :
يعدّ غلق المحلّ عقوبة تكميليّة الغرض منها منع صاحبه من مباشرة عمله في المحلّ الذي اقترفت فيه الجريمة أو يكون المحلّ ذاته عنصرا مكوّنا لها.
وقد تبنّى المشرّع التّونسي هذا الجزاء في العديد من النّصوص الزّجريّة الخاصّة، وإذا وقعت الجريمة بالمحلّ وكان عاملا مساهما في ارتكابها، فالخطورة تكون موضوعيّة في هذه الصّورة باعتبارها سلّطت على المحلّ ذاته لا شخص الجاني.
وقد أكّدت جلّ التّشاريع على أنّ غلق المحل كجزاء يعود إمّا لكونه يشكّل وكرا لتجمّع بعض المجرمين، أو كجزاء أو كمخالفة تحجير مهني…
وفي أغلب الصّور فإنّ الغرض من غلق المحلّ إزالة نشاط يشكّل خطرا على المجتمع، فغلق المحل هو تدبير اختياري للقاضي لوجود أفعال تكوّن جريمة أو أفعال مخلّة بالآداب فإنّه يتوجّب منع المحكوم عليه من أن يزاول فيه العمل([74]).
إذا يعتبر إغلاق المحلّ وسيلة تعجيز للمحكوم عليه عن طريق تجريده من الوسيلة المادّيّة للعود لاقتراف مثل هذه الجرائم.
2- بدائل متضمّنة للحرمان من بعض الحقوق
-الحرمان من مباشرة الحقوق والامتيازات كالوظائف العموميّة أو بعض المهن مثل المحاماة أو مأمور عمومي أو طبيب…
-حمل السّلاح وكلّ الأوسمة الشّرفيّة الرّسميّة.
-حقّ الاقتراع : وهي بدائل أو عقوبات تكميليّة تتسلّط على الجانب المعنوي للجاني للوقاية من خطر العود للجريمة، والمشرّع ترك للقاضي إبقاء هذا الحرمان من عدمه وله أيضا تحديد مدّة الحرمان باعتباره لم ينصّ على أيّ مدّة موحّدة ولا حدّ أدنى ولا أقصى ويعتبر السيّد “الطيّب اللّومي” بأنّ هذه الجزاءات ليست بعقوبات بل هي بمثابة تدابير غايتها إمّا وقاية المتّهم نفسه من التوغّل في الانحراف أو حماية الهيئة الاجتماعيّة من الانحراف بوجه عام([75]).
عقوبة الحرمان من الوظائف أو المهن يمكن أن تكون بديلا عن العقوبة السّالبة للحرّيّة لشدّة صرامتها، فشعور المحكوم عليه بألمها والضّرر الذي يتعرض له عادة ما يكون كبيرا تفوق الأثر الذي تتركه الخطيّة لانعكاسها على وجوده وعلى عيشه ككلّ.
إذا مثل هذه العقوبات التّكميليّة تمسّ الجانب المعنوي للجاني وتؤثّر في شخصيّته.
3- بدائل سالبة للحرّية أو مقيّدة لها
لم يترك المشرّع للسّلطة القضائيّة تحديد الحالات التي يكون فيها العائد صعب الإصلاح قابلا للخضوع لعقوبة الإقصاء، بل حدّد تلك الحالات على سبيل الحصر لتفادي التعسّف وترك الحريّة للقاضي في النّطق بالإقصاء من عدمه عند توفّر هذه الشّروط، ويعدّ ذلك التزاما مطلقا من قبل المشرّع بمبدأ شرعيّة العقاب الجزائي، ويفسّر هذا التّشدّد بالأخذ بالخطورة التي يكون عليها المجرم، فهي ترتبط بعدد وجسامة الأحكام المنطوق بها ضدّه والفصل 5 م ج نصّ على صور الحكم بالإقصاء نظرا لشدّة قسوة وخطورة هذا العقاب وإجباريّة تطبيقها على مجرمين معيّنين يتميّزون بعدم القابليّة أو صعوبة إصلاحهم وردعهم.
واستثنى الفصل 5 من قانون 1973 النّساء والأشخاص الذين تجاوز سنّ الستّين عاما أو لم يبلغوا سنّ العشرين، ولكن لماذا وقع إعفاء النّساء من عقوبة الإقصاء ؟ قد يعود ذلك إلى خصائص المجتمع التّونسي، حيث أنّ النّساء لا يشكّلن خطورة كبيرة على المجتمع ولا يتصوّر إمكانيّة إصرارهنّ على الجريمة.
– منع الإقامة : يتمثّل هذا التّدبير في التّحجير على المحكوم عليه أن يوجد في أماكن أو جهات معيّنة مبيّنة في الحكم وفي الصّور المنصوص عليها قانونا دون أن تتجاوز مدّة الإبعاد عشرين عاما وذلك بعد الإفراج عنه أي بعد انتهاء العقوبة أو لأيّ سبب آخر (الفصل 22 م ج)، ونلاحظ أنّ ما يبرّر إخضاع المحكوم عليه عند انتهاء العقوبة إلى منع الإقامة أو الإبعاد هي الخطورة الإجراميّة لأنّ الهدف من هذا التّدبير هو حماية المجتمع من الخطورة التي يشكّلها المفرج عنه واستئصاله من المحيط الاجتماعي والمكان الذي دفعه إلى ارتكاب الجريمة لمنعه من العود من جهة أخرى، إذ أنّ ارتياد هذه الأماكن من شأنها أن تقوّي نزعة الإجرام لديه وتعمّق حالة الخطورة عنده.
-المراقة الإداريّة : يتجسّم هذا التّدبير في منح الإدارة حقّ تعيين إقامة المحكوم عليهم عند انقضاء مدّة عقابهم، والحقّ في تغييرها إن رأت مصلحة في ذلك، ولا يسوغ المحكوم عليه مبارحة المكان الذي حدّدت إقامته به بدون رخصة (الفصل 23 و24 م ج) وتتولّى الشّرطة المراقبة والإشراف على النّحو الذي يحول دون ارتكاب الجريمة وذلك بفرض مجموعة من القيود على حرّيته.
4- بدائل ذات طابع أدبي
تتمثل هذه العقوبات في :
–التّوبيخ القضائي :
يعدّ هذا العقاب جزاء معنويا أشدّ جسامة من مجرّد النّصح والإنذار، ولكنّه من أخفّ الجزاءات التي يمكن أن ترد في قائمة البدائل، والتوبيخ هو نوع من اللّوم في صورة مشدّدة ويتمثّل في استهجان السّلوك وتوجيه كلام شديد إلى الشّخص مع إفهامه بأنّه سيتعرّض لجزاء أشدّ إذا تكرّرت مخالفته، وقد يتمّ ذلك علنا في الجلسة أو غير علني في مكتب القاضي الخاصّ وقد يكون مجرّدا أو موصوفا أي مقترنا بشرط أو أكثر.
وهكذا فإنّ التّوبيخ يمكن أن ينضمّ إلى قائمة البدائل أساسا بالنّسبة للأحداث واستثناء بالنّسبة لبعض البالغين ممّن يرى فيهم القاضي الصّلاح لعدم خطورة الفعلة أو لكون المنحرف لا يزال مبتدئا في عالم الإجرام.
–العقوبة الماسّة بالاعتبار :
تتمثّل في نشر أو تعليق مضامين الأحكام ولقد أقرّها الفصل الخامس كعقوبة تكميليّة.
وتتجسّد آثارها بما يلحق الجاني من سوء السّمعة ومساس بشرفه واعتباره وما يلحقه من تأثير على وضعه المادّي نتيجة لهذا التّشهير، حيث يمنع هذا الجزاء من كان ينوي خرق أحكام القانون الجزائي من العود لأنّ مجرد تصوّر المساس باعتبار الشّخص وشرفه من شأنه إحباطه عن اقتراف أيّ جريمة.
والمشرّع بلجوئه لهذا الجزاء إنّما قصد تعجيز الجاني من معاودة ارتكاب الجريمة عن طريق تجريده من قرينة الثّقة والأمانة وحسن النيّة المرتبط بكلّ شخص من حيث الأصل.
5- البدائل العلاجيّة
تتجلّى عناية المشرّع بالتّدابير العلاجيّة للمجرمين خاصّة في الأحكام التي أقرها بالقانون عدد 52 لسنة 1992 المؤرّخ في 18 ماي 1992 المتعلّق بالمخدّرات، فحسب هذا القانون يشكّل استهلاك المخدّرات جريمة يعاقب عليها القانون غير أن وعي المشرّع بضرورة انتشال المستهلكين المدمنين ممّن وقعوا فريسة الإدمان وتجنّبهم تسليط عقاب عليهم وذلك بتشجيعهم على التّخلّص من السّموم التي علقت بأبدانهم وعقولهم وهو ما كان وراء إفراد باب خاصّ بالقانون الجديد عنوانه “وقاية وعلاج المدمنين على تعاطي المخدّرات”([76]).
حيث تأذن المحكمة تكليف طبيب لفحص المتّهم الذي يكون محالا عليها في جلّ جرائم الفصل 4 من قانون المخدّرات، لتتأكّد من إدمانه وبالتّأكد من ذلك فإنّه على الطّبيب تحديد مدّة العلاج البدني مع مراعاة شخصيّة الجاني والسّعي لإصلاحها وتجاوز الضّرر الذي ألحقه الجاني بنفسه، فالقول بأنّ العلاج في هذه الصّورة بأخذ شكل عقوبة تكميليّة له ما يدعّمه سواء من حيث أنّ العلاج هو من توابع الحكم بالإدانة مثل العقوبات التّكميليّة الأخرى، وقد يصدر عن المحكمة بمناسبة نضرها في قضيّة جزائيّة وبعد تصريحها بحكم الإدانة([77]).
يفسح هذا التوجّه إفصاح عن خيار تشريعي رام المشرّع تكريسه يقوم على ملائمة العقاب مع خصائص شخصيّة الجاني، لذلك لم يتوقّف المشرّع ولم يكتفي بهذا القدر من الجزاءات وإنّما وضع عقوبات مستحدثة تراعي شخصيّة الجناة، ولا يزال بحثه متواصلا لتطوّر المجتمعات وتطور الجرائم وتنوّعها.
ب- استحداث عقوبات تراعي شخصيّة الجاني
السّعي نحو تطوير السّياسة العقابيّة وتفريد العقوبة أفرز وضع عقوبات تلائم تنوّع واختلاف المجرمين وخصائصهم والقدرة على إصلاح وتقويم الاعوجاج الذي أصابهم، فالانتقادات التي وجّهت منذ أواخر القرن التّاسع عشر للعقوبات السّالبة للحريّة لاسيما قصيرة المدّة نفعها وتلافيا للعقوبات السّالبة للحريّة وتداعياتها السّلبيّة بدأ التّفكير منذ أواخر القرن 19 وأوائل القرن 20 إلى استنباط عقوبات جديدة، وهذا التّفكير ما زال متواصلا إلى الآن ولن يتوقّف ما دام تاريخ تطوّر العقوبة هو تاريخ تطوّر العقل البشري([78]).
1- تدعيم دور عقوبة العمل لفائدة المصلحة العامّة
تمّ بموجب القانون عدد 89 لسنة 1999 المؤرّخ في 02 أوت 1999 إقرار عقوبة العمل لفائدة المصلحة العامّة وأدرجت ضمن العقوبات الأصليّة بالفصل 5 من المجلة الجزائيّة وقد استوجب إدخالها إضافة فصول جديدة بالمجلّة إلى جانب وضع أحكام جديدة خاصّة بتنفيذ هذه العقوبة شملت الفصول من 343 إلى 346 مكرر و348 م ج.
وحدّد مجال هذه العقوبة البديلة للسّجن بمجال يخص جميع المخالفات وبعض الجنح التي لا تشكل خطورة على المجتمع ولا تبرز نزعة إجراميّة متأصّلة لدى مرتكبها، حيث سخّرت هذه العقوبة لتجاوز الانعكاسات السّلبيّة التي يمكن أن تلحق الجاني المبتدئ الذي لم يتأصّل فيه الإجرام.
هذه العقوبة الجديدة أحدثت ثورة في مفهوم العقوبة وفلسفتها وقد حقّقت درجات مختلفة من النّجاح حسب الأنظمة القانونيّة المعتمدة([79]) لأنّها تقرّ بأهميّة تفريد العقوبة وملاءمتها مع شخصيّة مرتكبها إلى جانب كونها تدعّم صفة الإنسانيّة لدى الجاني عبر المحافظة على كرامته وحقوقه، إضافة إلى المعطى المشار إليه فإنّ الحكم بهذه العقوبة تخرج القاضي من دائرة الثّالوث المفروضة (إعدام، سجن أو خطيّة).
وقد وقع الاعتماد على هذه العقوبة بصفة هامّة حدّدت بنسبة 55,2% أي ما يعادل 509 حكم بالعمل لفائدة المصلحة العامّة خلال سنة 2009([80]). والإقرار على مستوى التّشريع أو التّطبيق بأهميّة هذه العقوبة المستحدثة وقع تطويرها وتعديلها([81]) بما يتماشى وشخصيّة الجاني وضمان كرامته ودفعه نحو التّكيّف مع هذه العقوبة وذلك من خلال التّرفيع في مدّة السّجن المحكوم بها والقابلة للاستبدال بعقوبة العمل لفائدة المصلحة العامّة من ستة أشهر إلى سنة واحدة مع إضافة بعض الجرائم التي يمكن فيها اعتماد هذه العقوبة لتوسيع نطاق تطبيقها إلى جانب حذف العوائق القانونيّة التي حالت دون تطبيقها عبر التّخلّي عن الشّرط المتعلّق بإعراب المتّهم عن ندمه والاكتفاء بضرورة إعلام المتّهم بحقه في رفض عقوبة العمل لفائدة المصلحة العامة وتدوّنها، وهذا الحذف إنّما جاء لمراعاة طبيعة شخصيّة الجاني وتفاديا للحرج وعن معرفة بما يختلج بذهنه من أفكار كأن يقول « عندما أعترف سأعاقب »، والمتّهم عادة لا يريد الاعتراف والإعراب عن ندمه.
كما سحب النّظام القانوني للتّعويض عن الأضرار النّاتجة عن حوادث الشّغل والأمراض المهنية([82]) على المحكوم عليهم بعقوبة العمل لفائدة المصلحة العامّة، وهذه الإضافة جاءت لتتجاوز العوائق التي حالت دون إقبال المؤسّسات على تشغيل المحكوم عليهم وخاصّة تحمّل الأعباء الاجتماعيّة بالنّسبة لحوادث الشّغل([83]).
رغم نجاعة هذه العقوبة في درء خطر السّجن وآثاره السّلبيّة على الجاني وقدرتها على تدعيم التّوجّه السّياسي الحديث([84]) نحو الأخذ بشخصيّة الجاني وتفريد العقوبة، ظلّ المشرّع يبحث عن عقوبات أخرى قادرة على مزيد تعميق هذا التّوجّه وتأصيل العمل به على أرض الواقع ليقرّر عقوبة جديدة وهي :
2- إرساء عقوبة التّعويض الجزائي
إنّ إدراج عقوبة التّعويض الجزائي ضمن المنظومة الجزائيّة التّونسية يعد من بين الإجراءات الرّائدة التي تهدف إلى تكريس حقوق الإنسان بتكييف قواعد القانون الجزائي مع الظّاهرة الإجراميّة والأشخاص الذين ارتكبوها([85]) عبر تطوير منظومة القضاء الجزائي في اتّجاه تغليب فلسفة الوقاية والإصلاح، والتّقليص من العقوبات بالسّجن قصيرة المدّة خاصّة بالنّسبة لمن زلّت بهم القدم لأوّل مرّة ومنحهم فرصة للتّدارك، حيث تأخذ المحكمة بظروف المتّهم الشّخصيّة والاجتماعيّة([86]) وضمانا للجدوى من الأحكام الجزائيّة التي تقتضي تفريد العقوبة والأخذ بعين الاعتبار شخصيّة المتّهم وجسامة الضّرر النّاتج عن الجريمة([87]).
ونظرا أنّ الطّبيعة القانونيّة لمؤسّسة التّعويض الجزائي تطرح بجديّة خاصّة أنّها مؤسّسة قانونيّة غير مألوفة من حيث استخدامها كتقنية عقابيّة وكذلك من حيث تسميتها، وهي مؤسّسة تبدو مقحمة ومركّبة قد تؤدّي إلى صعوبات ذات صبغة تقنية بل التّشكيك في معنى وجدوى العقاب([88])، كما تتشابه مع جملة من المؤسّسات القانونيّة القريبة منها خاصّة مؤسّسة الخطيّة والغرامة.
– التّعويض الجزائي والخطيّة : يتشابه التّعويض الجزائي مع الخطيّة في كون كلا منهما تحكم به المحكمة الجزائيّة في شكل مبلغ من المال وعلى أساس عقاب جزائي، ويتشابه كذلك في كونه عقوبة جزائيّة منصوص عليها ضمن الفصل 5 م ج الخاصّ بضبط قائمة العقوبات الجزائيّة ويختلف التّعويض الجزائي مع الخطيّة في خاصّيتين وهما : أنّ الخطيّة كعقوبة محدّدة لكلّ جريمة على حدة منصوص عليها في العديد من النّصوص القانونيّة الخاصّة بكلّ جريمة، في حين أنّ التّعويض الجزائي مذكور في فصل قانوني واحد، إلى جانب أنّ الخطيّة كعقوبة ماليّة تستخلص لفائدة خزينة الدّولة، في حين أنّ التّعويض الجزائي يستخلص لفائدة المتضرّر.
– التّعويض الجزائي والغرامة : كما هو الحال بالنّسبة للتّعويض الجزائي والخطيّة، فإنّ التّعويض الجزائي يتشابه مع الغرامة في كونهما مبالغ ماليّة تحكم بها المحكمة لفائدة المتضرّر وتختلف الغرامة والتّعويض في كون التّعويض هو العقوبة بمعنى ردع للمجرم وإصلاح لأفعاله المرتكبة في حين أنّ الغرامة هي جبر للضّرر الحاصل للمتضرّر، وبالتّالي فإنّ للأولى طابع جزائي في حين أنّ للثّانية طابع مدني، وقد أقرّت العمل به عديد الدّول لأهميّة اعتماد عقوبة الغرامات([89]).
إذ يبقى التّساؤل قائما عن طبيعة هذه العقوبة التي أدرجها المشرّع ضمن قانون عدد 68 لسنة 2009، هل أنّها تمثّل عقوبة أم لا ؟
في الحقيقة لا يوجد أدنى خلاف في خصوص كون التّعويض الجزائي عقوبة وذلك باعتبارها مدرجة في القانون الخاصّ بالعقوبات البديلة للسّجن، ولكن هذا لا يعني أنّ التّعويض الجزائي هو عقوبة بالمعنى الكلاسيكي للكلمة ضرورة أنّه لا يمكن إدراجه في إطار العقوبات الأصليّة ولا العقوبات التّكميليّة، كما لا يحكم بها رأسا في غياب حكم بالسّجن، كما أنّها لا يحكم بها تكميليّا لعقوبة السّجن بل تكون استبدالا لهذه العقوبة، ممّا يجعلنا ننعتها بعقوبة استبداليّة وليست عقوبة أصليّة ولا تكميليّة([90]).
وتبنّى المشرّع التّونسي لهذه العقوبة البديلة عبر إضافة فقرة 6 للفصل 5 م ج، أعرب عن سعيه لمجارات التّطوّر التّشريعي بما فيه من إيجابيّات على المجتمع والأفراد على حدّ السّواء ويتّضح ذلك من شروط هذه العقوبة.
فهي عقوبة تشمل مادّتي المخالفات والجنح التي يترتّب عنها ضرر شخصي ومباشر للمتضرّر تستوجب تسليط عقوبات بالسّجن قصيرة المدّة لا تتجاوز ستة أشهر([91])، أي تعوض هذه العقوبة بعقاب سجني قصير المدّة لتعذّر تنفيذ برامج الإصلاح والتّأهيل المناسب للمحكوم عليه، بما يعرقل الأهداف الإصلاحيّة ويعيق مناهج المعاملة العقابيّة السّاعية لتطوير الشّخصيّة، كما أنّه سيحول دون دخول الجاني السّجن ويجنّبه المساوئ النّاتجة عن الاختلاط مع مجريمي الصّدفة والمجرمين المبتدئين مع معتادي الإجرام([92]).
وقع استثناء بعض الجرائم التي يمكن الحكم فيها بأقلّ من ستّة أشهر لاعتبار خطورتها مثل جرائم الارتشاء أو لصفة المجني عليه مثل الجرائم المرتكبة ضدّ القصّر وكذلك الجرائم التي خصّها المشرّع بأنظمة قانونيّة متميّزة كالقتل والجرح إثر حادث مرور أو جرائم الشّيك بدون رصيد ذلك لخطورة مرتكبي مثل هذه الجرائم.
كما أقرّ المشرّع ضمن الفصل 15 رابعا م ج عديد الشّروط الأخرى منها الخاصّة بالجاني لنقاوة سوابقه أي أنّه لم يسبق الحكم عليه بالسّجن أو بعقوبة التّعويض الجزائي.
لم يستعمل المشرّع عبارة عائدا كما استعملها في الفصل 15 ثالثا فقرة أولى جديدة الخاصّة باستبدال عقوبة السّجن بعقوبة العمل للمصلحة العامّة فقد تعمّد ذلك وأراد أن يحرم المحكوم عليه بالسّجن أو بعقوبة التّعويض الجزائي مرّة سابقة دون أن يحرم كلّ المتّهمين العائدين لأنّ ليس عائدا كلّ من سبق وأن حكم عليه بالسّجن أو بعقوبة التّعويض الجزائي باعتبار أنّه من الجائز أن يرتكب المتّهم فعلا إجراميّا أوّل يحكم عليه بالخطيّة ثمّ يرتكب بعد ذلك فعلا إجراميّا ثانيا عندها يحرم من الحقّ في استبدال السّجن بعقوبة العمل لفائدة المصلحة العامّة، ولا يحرم باستبدال السّجن بعقوبة التّعويض الجزائي، أمّا إذا كانت عقوبته الأولى السّجن أو التّعويض الجزائيّ فإنّه في صورة ارتكاب جريمة وباعتبار أنّه سبق وأن حكم عليه بالسّجن أو بعقوبة التّعويض لا يتمتّع بإمكانيّة الاستبدال المنصوص عليه بالفصل 15 رابعا([93]).
* إجراءات اعتماد عقوبة التّعويض الجزائي :
يتمّ تنفيذ عقوبة التّعويض الجزائي بسعي من النّيابة العموميّة خلال أجل لا يتجاوز ثلاثة أشهر من تاريخ انقضاء آجال ممارسة حق الطّعن بالاستئناف في الحكم الابتدائي أو من تاريخ صدور الحكم النّهائي الدّرجة وتمديد حقّ التّمتّع بهذه العقوبة يحقق مصلحة الجاني عبر التّمتّع بهذا الحقّ طيلة هذه الفترة الهامّة، كما يمكّن المتضرّر من التّحصل على التّعويض في زمن وجيز.
ويتمّ الإدلاء سواء من المتّهم أو نائبه أو أصوله أو فروعه أو قرينة لدى ممثّل النّيابة العموميّة بالمحكمة التي أصدرت الحكم القاضي بعقوبة التّعويض الجزائي بكتب ثابت التّاريخ يثبت تنفيذ العقوبة أو تأمين المبلغ المحكوم به.
أمّا إذا كان المحكوم عليه موقوفا فينقضي مفعول بطاقة الإيداع بمجرّد الإدلاء بما يفيد عدم حصول الطّعن بالاستئناف وتنفيذ مقتضيات الحكم بالتّعويض وتأمين المبلغ في الآجال المحدّدة وتتوّلى النّيابة العموميّة إعلام السّجين بالإذن بالإقرار على المحكوم عليه.
أمّا إذا امتنع المحكوم عليه عن تنفيذ عقوبة التّعويض الجزائي في أجل لا يتجاوز ثلاثة أشهر من تاريخ انقضاء آجال الطّعن بالاستئناف في الحكم الابتدائي أو من تاريخ صدور حكم نهائي الدرجة([94]) فتتولّى النّيابة العموميّة مباشرة إجراءات تنفيذ العقوبة السّجنيّة المحكوم بها أصالة.
* آثار عقوبة التّعويض الجزائي :
إن آثار هذه العقوبة يعكس سعي المشرّع نحو احترام وتأطير شخصيّة الجاني ليتكيّف مع وضعيّته وحسن اندماجه في مجتمعه بعد انقضاء عقوبته وإدراج الأحكام الصّادرة بعقوبة التّعويض الجزائي ببطاقة السّوابق العدليّة (بطاقة عدد 3) باعتبار أنّ هذه البطاقة يطلب الاستظهار بها سواء في مطلب العمل وغيرها… لأنّ الاندماج في النّسيج الاجتماعي يستوجب في نظر الأفراد نقاوة سوابق الشّخص وحسن سيرته.
سعى المشرّع نحو تطوير القاعدة القانونيّة والأخذ بمبدأ تفريد العقوبة وبشخصيّة الجاني للوصول إلى تطوير السّياسة الجزائيّة وإثبات التّوجّه التّشريعي نحو مراعاة شخصيّة الجاني في خضم التّطوّر الدّيناميكي للعوامل الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسية التي تنعكس بصفة أو بأخرى على تطوّر الإجرام وعلى تنوّعه من حقبة إلى أخرى، لكن رغم تطوّر التّشريع تبقى القاعدة الجزائيّة بوصفها قاعدة قانونيّة تتّسم بالعموميّة والتّجريد، وهو ما من شأنه أن يحقّق المساواة أمام النّظام لكنه قد يؤدّي إلى نتائج سلبيّة، إذ لم يترك المجال لبعض المرونة عند تطبيقها حتّى يتمكّن القاضي أن ينزل بها من عموميّتها إلى خصوصيّة الحالة التي ينظر فيها([95]).
ومقارنة بالقوانين المقارنة يبرز أنّ المشرّع يتقدّم بخطى ثابتة ومتأنّية ممّا خلق مسافة هامّة بين ما هو معمول به من عقوبات في بلادنا وما استحدثت من عقوبات بدول أخرى كفرنسا.
الفصل الثّاني : مظاهر الملاءمة على مستوى التّطبيق
تهدف السّياسة الجزائيّة الحديثة إلى ضمان حماية الفرد من الوقوع في الإجرام ووقاية المجتمع منه.
وقد ساهم القاضي الجزائي في تطوير السّياسة الجزائيّة في مختلف أبعادها، وهذه الأهداف لا تقوم على التّطوير التّشريعي فحسب بل تتأكّد وتكتمل بضمان أداء السّلطة القضائيّة التي تحقّق بطريقة ملموسة الاختيارات التّشريعيّة وتضفي عليها طابعا خاصّا، حيث تخرج القاعدة القانونيّة من العموميّة والتّجريد لتصنع منها علاجا يتلاءم مع وضعيّة كلّ جان يمثل أمامه.
ويقول مارك أنسل : أنّ مهمّة القاضي ليست الفصل في مشكلة ميتافزيقيّة عن الخير والشّرّ وإنّما تتعلّق بمشكلة سلوك الفرد، فالقاضي لا يبحث عن مقدار الجزاء الذي يتعادل مع الخطأ وإنّما يبحث عن التّحديد الفعّال لمقدار الجزاء الذي يسمح بتأهيل المجرم بالإضافة إلى حماية المجتمع([96]).
والمتأمّل في النّصوص القانونيّة يلاحظ انصراف إرادة المشرّع إلى توسيع مجال التّدخّل القضائي في تقدير العقوبة لإيمانه بضرورة تمديد سلطة القضاء حتى يستطيع أن يلاءم بين العقاب وشخصيّة الجاني لإصلاحه والحدّ من تفاقم ظاهرة الإجرام (المبحث الأول).
ولما كانت هذه السّلطة الممنوحة للقاضي الجزائي في تقدير العقوبة واسعة، فمن باب أولى وأحرى أن تكون هذه السّلطة أكثر رحابة في قضاء الأطفال (المبحث الثاني) نظرا لخصوصيّة هذه الفئة وحساسيّة شخصيّتهم، فملاءمة العقاب مع شخصيّة الجاني أو بالأحرى التّفريد يقوم على التّسليم بالظّروف الفرديّة المميّزة لكلّ الأشخاص سواء كانت ظروفا جسميّة أو نفسيّة أو اجتماعيّة التي عاش المتّهم في وسطها، ممّا يقتضي التّعرّف عليها قبل الحكم بإدانة المتّهم وتوقيع العقاب الجزائي عليه([97])، كما حاول المشرّع تجاوز خشيته من إمكانيّة تعسّف القضاء في استخدام السّلطات الممنوحة لهم ليمكّنهم من صلاحيّة مشروطة في أغلب الأحيان.
المبحث الأوّل : دور القضاء في مكافحة السّلوك الإجرامي
لم يعد القضاء متمثلا بتلك الصّورة الرّمزيّة التي اعتادت المجتمعات رؤيتها في امرأة معصوبة العينين تحمل الميزان لإحقاق الحقّ دون الالتفات إلى شخص المتقاضين، لقد سقط ذلك الحجاب عن عين العدالة الجزائيّة فأصبحت تنظر بتمعّن وتفهّم إلى المتقاضين لتستبين أوضاعهم الشّخصيّة والاجتماعيّة والنّفسيّة حتى يأتي عملها مفيدا لهم وللمجتمع ككلّ([98]) وهو ما يعني أنّ القضاء بصفة عامّة أقرب لتحقيق مبدأ ملاءمة العقاب مع شخصيّة الجاني، حيث يستند القاضي لوجدانه وتحكيم تفكيره وإمعان النّظر وعدم الاستعجال في إصدار الحكم واستغلال السّلطة التّقديريّة المخوّلة له لحسن تحديد نوع العقوبة (الفقرة الأولى) القادرة على إصلاح الجاني، وهذا العمل ينصب ضمير القاضي كميزان سام يقوم بوزن الوقائع ودراسة شخصيّة الجاني، ممّا يتطلب توفّر عناصر خارجيّة تساعد على تقدير العقاب الأنجع ومنها الاستناد إلى ملف الشّخصيّة والذي أقرّه المشرّع في أكثر من فصل([99]).
وبناء على ذلك لا بدّ من أن تأخذه المحكمة باعتبارها([100]) وهو ما يمثّل مواكبة للتّوجّهات العالميّة الحديثة، التي أصبحت تمنح حيّزا أكبر لشخصيّة الجناة عند تحديد العقوبة، ومن ذلك ما دعى إليه المؤتمر الدّولي الثّاني للدفاع الاجتماعي المنعقد في “لياج” في أكتوبر 1949 جاء فيه “أنّ أحكام القضاء يجب أن تصدر وتنفذ مع مراعاة شخصيّة المجرم بصفة خاصة”([101]) إذا فلا سبيل إلى تحقيق التّفريد القضائي للعقوبة إلاّ إذا استعان القاضي بزاده المعرفي حول الجريمة والمجرمين واستغلّها لحسن تطبيق السّلطة الممنوحة له، وقد تدعّم دور القضاء في تحقيق الملاءمة عبر اجتهاداته (الفقرة الثّانية) ممّا يبرز أهميّة التّفريد القضائي لقربه من الواقع ومجاراته للتطوّرات والتّغييرات الحاصلة.
الفقرة الأولى : سلطات القاضي عند تحديد العقوبة
ضمانا لنجاح السّياسة الجزائيّة الحديثة وتدعيما لمبدأ تفريد العقوبة استنادا إلى شخصيّة الجاني تدعم دور القاضي، فلم يعد أمرها (تقدير العقوبة) موكولا للقانون بل أصبح مفروضا على القاضي، وهو التزام محمول عليه بحكم مهنته([102])، فالتّنازل التّدريجي للمشرّع عن سلطته للقاضي لم يكن بصفة اعتباطيّة بل عن دراسة وتجربة رجّحت قدرة القاضي على مكافحة الإجرام عبر إيجاد العلاج الملائم لوضعية كلّ جان والتّوصّل إلى مقتضيات إصلاحه وتقويم شخصيّته، لكن هذه السّلطة ليست مطلقة وإنّما مقنّنة ومحدّدة لتفادي التّجاوزات.
فأمام الهاجسين وهما حماية الحياة العامّة ومراعاة شخصيّة الجاني، يضلّ التّوفيق بينهما صعبا بالنّسبة للقاضي، لأنّ مراعاة جانب المحكوم عليه وتفريد العقوبة قد يدفع بالقاضي أحيانا إلى تجاوز عنصر الرّدع، كما أنّ الاعتماد على الزّجر مع تجاهل شخصيّة الجاني قد يؤدّي إلى إصدار عقوبات آليّة تتعارض مع نجاعة هذا الزّجر وجدواه وهو ما يفرض على القاضي تحقيق معادلة بين مسألتين.
ولقد وضع المشرّع على ذمّة القاضي مجموعة من القواعد تمكّنه من حسن اختيار العقاب الملائم لشخصيّة الجاني والقادر على إصلاحه، فمكنه من التّدرّج بين حد أدنى وحد أقصى في تحدد العقوبة(أ) إلى جانب تمكنه من وسائل متنوعة لتحقيق الملائمة(ب).
أ- سلطة التدرّج بالعقوبة بين حدّين أدنى وأقصى
لقد مكّن المشرّع القاضي من سلطة هامّة في اختيار العقوبة المناسبة سواء عند تحديد مقدارها أو نوعها، والهدف من ذلك جعل العقوبة أكثر ملائمة لظروف الجاني التي قام القاضي بدراستها وطبيعة الجرم المرتكب والأضرار الحاصلة.
فبالنّسبة للتّدرّج الكمّي :
لقد تأثّر تشريعنا بمختلف النّظريات الفقهيّة التي تدعو إلى التّخلّي عن عديد المبادئ الزّجريّة الكلاسيكيّة كالعقوبات المحدّدة ومنح القاضي سلطة في تقدير العقاب اعتمادا على دراسة شخصيّة الجاني واختيار المقدار المناسب للعقوبة والتّدرّج بها بين حدّيها الأقصى والأدنى سواء بالنّسبة للعقوبات الأصليّة أو العقوبات التّكميليّة.
ففي تحديد مقدار العقوبة الأصليّة نص الفصل 6 م ج “أنّ هذا القانون يضبط لكلّ جريمة أقصى عقابها المستوجب”، أمّا أقلّ العقاب وقع ضبطه بالفصول 11-12- 14-16 من نفس المجلة وقد وقع إلغاء الفصلين 11 و12 لتعلّقهما بعقوبتي الأشغال الشّاقّة والنّفي اللّتان أزيلتا من المنظومة الجزائيّة نظرا لتطوّر مفهوم العقوبة وأهدافها التي لم تعد تسعى لإيلام الجاني وإقصاءه وإنّما لإصلاحه.
والملاحظ أن المشرّع يقتصر على تثبت الحدّ الأقصى لكلّ جريمة منصوص عليها ليجعل من الحدّ الأدنى عامّا على كلّ الجرائم باختلاف أنواعها مثلما نصّت عليه الفصول 6، 14، 16 م ج على خلاف القانون الجنائي الفرنسي والمغربي، حيث يقع العمل بنظام العقوبات ذات الحدّين الأدنى والأقصى الخاصّين بكل جريمة، فنصّ الفصل 141 من القانون المغربي أنّ “للقاضي سلطة تقديريّة في تحديد العقوبة وتقديرها في نطاق الحدّين الأدنى والأقصى المقرّرين في القانون المعاقب على الجريمة مراعيا في ذلك خطورة الجريمة المرتكبة من ناحية وشخصيّة المجرم من ناحية أخرى”([103]).
يجد القاضي مجالا للتّدرّج بالعقوبة والوصول بها إلى القدر الملائم لتقريب الجزاء حسب المعطيات التي تتوفر لديه، ممّا يعكس ضمانا لعدالة العقوبة، حيث تتقرّر وفقا لشخصيّة الجاني واعتمادا على ظروف الجريمة.
وبالرّجوع إلى المجلّة الجزائيّة نلاحظ أنّ جل العقوبات المقرّرة تتدرّج بين حدّين لا يجوز للقاضي تجاوزه وهو الحدّ الأقصى المقرّر والحدّ الأدنى الذي يمكن للقاضي أن يخرقه، غير أنّه في بعض الجرائم وحماية لبعض المصالح يورد المشرّع استثناءا لهذا المبدأ فينصّ على حدّ أدنى خاصّ أرفع من الحدّ الأدنى العامّ لا يسمح للقاضي بتجاوزه إلاّ في صورة تطبيق ظروف التّخفيف لما تعكسه هذه الجرائم من خطورة إجرامية ونتائج وخيمة على المجتمع ككلّ كجرائم الاعتداء على الأخلاق وذلك بالفصول 231-232-233 م ج وكذلك جرائم التّدليس واستعمال المدلّس (الفصول 194، 195 و199م ج).
فقد نظّمت هاته الفصول عقوبات ذات حدّ أدنى خاصّ أرفع من الحدّ الأدنى العامّ المنصوص عليه بالفصل 14 م ج([104]).
وأكّد عديد الفقهاء على ضرورة تحديد الحدّ الأدنى للعقوبة لما في ذلك من ضمان للعدل والمساواة بين جميع الخاضعين للنّظام العقابي الواحد([105])، لكن اعتبر أن اعتماد هذا الحدّ الأدنى يتضارب مع أهداف السّياسة الحديثة، ممّا يحتّم إلغاء العمل به لتمكين القاضي من سلطة أكبر في تفريد العقاب.
أمّا بالنّسبة لتقدير مدّة العقوبة التّكميليّة، اعتمد المشرّع في خصوص العقوبات التّكميليّة نظاما تدريجيّا واكتفى بتثبّت حدّها الأقصى الخاصّ ولازم الصّمت بالنّسبة لتلك العقوبات وترك المجال مفتوحا للقاضي ليتدرّج بالعقوبة التّكميليّة ويحدّد القدر المناسب وبذلك مكّن القاضي من سلطة واسعة في تفريد العقوبة التّكميليّة المضافة للعقوبة الأصليّة فلا تحدّ من سلطته سوى الحدّ الأقصى الخاصّ المحدّد من المشرّع ويستند القاضي في تقدير العقوبة إلى عناصر مادّيّة تؤثّر على تحدد اتجاهه ألا وهي شخصيّة الجاني.
* التّدرّج النّوعي للعقوبة :
يعتبر الاختيار النّوعي للعقوبة مظهر من مظاهر التّفريد القضائي، حيث يسمح للقاضي باختبار عقوبة من بين بعض عقوبات لكلّ منها طبيعتها الخاصّة، بما يتضمّن الملاءمة الفردية للعقوبة مع شخصيّة الجاني.
فنظام العقوبات التّخيري يحتوي على نظامين داخلين نظام العقوبات التّخيريّة الحرّ، حيث يتمتّع القاضي فيه بحريّة مطلقة في الحكم بالعقوبة التي يرتئيها والقانون لا يلزمه بالتقيّد بإحداها.
أمّا نظام العقوبات التّخيريّة المقيّد فالقاضي يلتزم بشروط يحدّدها المشرّع سلفا بتوفّرها يكون القاضي ملزما بتطبيق نوع العقوبة المحدّدة وتشريعنا اعتمد نظام العقوبات التّخيريّة الحرّ ليتمكّن القاضي من تطبيق سلطته وحسن توظيفها في اختيار العقوبة الأنجع والقادرة على إصلاح المجرم لكن نطاق اعتماد هذا النّظام محدود لم يتجاوز بعض الفصول 31-68-70-83-142 م ج.
والمؤكّد أنّ هذا النّظام يعدّ من أنجع وسائل التّفريد القضائي نظرا لتدعيم سلطة القاضي وحريّة اختياره للعقوبة المقرّرة لجريمة معيّنة وإلمامه بحقيقة شخصيّة الجاني وقربه من الواقع والأسباب الحقيقيّة للإقدام على الفعل الإجرامي.
ممّا يوجب مراجعة الفصول الإيجابيّة في المجلّة الجزائيّة التي تقرّر مثل هذا النّظام وتعميم ذلك على بقيّة فصولها لتمكين القاضي من حريّة أكبر في ملائمة العقوبة مع ظروف المجرم وطبيعة شخصيّته ومتطلّبات إصلاحها.
استنادا إلى العقوبات الأصليّة أو باعتماد العقوبات البديلة التي تشمل حلولا إضافيّة لتحقيق التّفريد عبر مراعاة شخصيّة الجاني والتي ارتبطت بقائمة حصريّة وبشروط تحدّد نطاق اعتمادها، ويمكن تبرير الحدّ من سلطة القاضي بخشية المشرّع من المغالات والإفراط في مجال التّغيير، ممّا قد يحير أو يربك القاضي ويحمله على تهوين العقوبة بدون سبب أو إلى الإفراط في الصّرامة من غير موجب، إذا هذا التّقليص الذي وضعه المشرّع قد أفقد تقنية التّدرّج النّوعي نجاعتها في القانون التّونسي وجعل القاضي مجبرا في كثير من الأحيان على القضاء بعقوبة واحدة وبالتّالي حدّ من اعتماد مبدأ التّفريد وكبّل القاضي في سعيه نحو خلق الملائمة عند تحديده للعقوبة مع طبيعة شخصيّة الجاني ومتطلبات إصلاحه وردعه عن العود والسّقوط في الإجرام مرّة أخرى.
ب- سلطة الاستناد إلى آليّات تحقيق الملاءمة
أصبح من واجب القاضي أن يسأل المجرم : من أنت ؟ بدلا من أن يكتفي بسؤاله، ماذا فعلت([106]) ؟ ليتمكّن من دراسة معالم شخصيّة الإنسان الماثل أمامه وبالتّالي مراعاة أدقّ خصائصه وتسليط الجزاء الملائم والقادر على إصلاحه ووضعه على الطّريق الذي يجدر به سلوكه فأقرّ المشرّع في إطار مزيد تفعيل دور القضاء حتى يتسنّى له تحقيق ملاءمة العقوبة لشخص مرتكبها جملة من الآليّات منها نظام الإسعاف بتأجيل التّنفيذ، كما منح من جهة ثانية للقاضي سلطة في ضمّ العقوبات أو في اعتبار مدّة الإيقاف لما تعكسه هذه الآليّات من أخذ بخصوصيّة شخصيّة كلّ جان ليخلق باعثا فيه للتّغيير من سلوكه.
1- تحقيق الملائمة عبر الإسعاف بتأجيل التّنفيذ
إنّ الغرض الأساسي من اعتماد تأجيل التّنفيذ هو تجنّب العقوبات السّالبة للحريّة ذات المدّة القصيرة لما تنطوي عليه من سلبيّات على المجرم خاصّة إن لم يكن حاملا لنوازع إجراميّة كبيرة وكان مبتدئا أو مجرما بالصّدفة، ممّا يقتضي التّميّز بين عقاب الشّخص الماثل لأوّل مرّة أمام القضاء بسبب جريمة تورّط في ارتكابها عرضا وبين عقاب مجرم معتاد اقترف الجريمة نفسها فبالنّسبة للأوّل لا يكفي أن يكون العقاب خفيفا فحسب، وهو ما تضمّن تحقيقه قوانينا الحاليّة وإنّما يجب أن يكون له مجرّد صفة تهديديّة فالإدراك المنطوي على شعور سليم بشرف الخلاص من السّجن مع الخوف من العقوبة يمكن أن ينتج آثار أكثر جدّية وفاعليّة ممّا تنتجه العقوبة ذاتها، وقد يحقّق ذلك نفسه فائدة أكبر ممّا تحدّده العقوبة بغضّ النّظر عن الآثار السّيّئة النّاتجة عن دخول السّجن وكم من يأس وكم من تمرّد ضدّ المجتمع كان نتيجة عقاب عقيم([107]).
إذا يهدف هذا النّظام لإصلاح المجرم المبتدأ عبر تهديده بحكم صادر بالعقوبة وتكبيله بفترة زمنيّة تعدّ بمثابة فترة من التّجربة يمضيها دون ارتكاب الجاني لجريمة أخرى تلغى تماما وتمحى آثارها.
فالقاضي يكون في هذه المرحلة قد تمكن من دراسة معالم شخصيّة الجاني وتوصّل إلى معرفة سبل إصلاحه وتقويم الخلل الكامن فيه، وقد يلجأ إلى تأجيل التّنفيذ في بعض الحالات لكونها تمثّل وسيلة لدفع الجاني عن سوء السّبيل إذا تبيّن أنّ هذا الأخير لا يمثّل مجرما خطيرا وأنّه لا يحمل نوازع إجراميّة خطيرة، حيث جاء في قرار استئنافي عدد 14284 صادر في 6 أفريل 2010 أنّ « محكمة هذه الدّرجة ترى وجاهة إعمال قاعدة مراعاة العقوبة المسلّطة لشخصيّة الجاني لذا وبالنّظر إلى ظروف المحكوم عليه الاجتماعيّة والإنسانيّة فإنّها تعتبر أنّ الحطّ من الحكم الابتدائي إلى عامين وتأجيل تنفيذ العقاب البدني للمحكوم عليه كاف لردعه وذلك تطبيقا لمقتضيات الفصل 53 م ج وتماشيا مع سياسة المشرّع لتأهيل وإعادة إدماج المجرمين »([108]).
إذ يمكن القول إنّ معالجة المجرم وإصلاحه لا تكمن في تحديد نوع العقوبة وضبط المدّة الكفيلة بتغير سلوكيّات هذا الأخير، وإنّما يمكن أن تتحقّق هذه الأغراض دون تنفيذ للعقوبة وإنّما عبر تأجيل تنفيذها، فهذه الآليّة تخاطب المجرم وتؤدّبه معنويا، فتحديد العقوبة وعلم المجرم بما يخلق في نفسه باعثا لمراجعة نفسه، ممّا يحتّم أن يمدّه القاضي بفرصة لتدارك أخطاءه ويحدّدها زمنيّا لكي يلاحظ مدى تفاعل المجرم مع هذه الآليّة وتأثّره بها.
فمنح مثل هذه المكافأة لا يصدر عن تعاطف من قبل القاضي وإنّما وفق ضوابط ومبادئ مستمدّة من الوظيفة العقابيّة المتمثّلة في تقدير مدى احتمال إصلاح وتأهيل الجاني دون حاجة إلى تنفيذ العقوبة عليه، لذلك يعتمد القاضي على فحص ودراسة شخصيّة المجرم الماثل أمامه.
فتأجيل التّنفيذ يعدّ وسيلة استثنائيّة لا تمنح لكلّ مجرم مبتدئ وإنّما تخضع للسّلطة التّقديريّة للقاضي التي تتيح له رفض منحه على الرّغم من توفّر جميع الشّروط التي يحدّدها القانون، وهذا التّفريد لا يخرق مبدأ المساواة أمام القانون وإنّما يعبّر عن رفض للمساواة المجرّدة وحث للبحث عن المعاملة الملائمة لظروف كلّ متّهم ومقتضيات إصلاحه، وقد أسند تأجيل التّنفيذ ضمن مطلق اجتهاد القاضي سواء كان الفعل المرتكب جنحة أو جناية بشرط أن لا تتجاوز مدّة السّجن المحكوم بها مع تطبيق ظروف التّخفيف العامّين([109]).
والجدير بالملاحظة أن هذه التّقنية تعالج بعض الآثار السّلبية والسّيّئة التي يمكن أن تلحق الجاني من جرّاء إقرار الحكم بالسّجن لفترة قصيرة، ممّا يتعارض والأهداف المستحدثة للعقاب أي إصلاح الجاني وبالتّالي مكافحة الإجرام خاصّة وأنّ نطاق التّأجيل يهمّ حسب محكمة التّعقيب الجنايات والجنح التي تراعي فيها المحكمة ظروف المتّهم وبقيّة شروط الفصل 53 م ج([110]).
إنّ هذه السّلطة المخوّلة للقاضي لم تشمل المخالفات المرتكبة وهو ما أكّدته محكمة التّعقيب “إنّ منح المعقّب تأجيل تنفيذ العقاب البدني من أجل مخالفة يجعل الحكم المطعون فيه مخالفا لأحكام الفقرة 12 من الفصل 53 م ج”([111])، كما يمنح للقاضي تأجيل التّنفيذ في عقوبة الخطيّة اعتبارا لآثارها السّلبيّة، فأحيانا تكون منهكة للمحكوم عليه خاصّة إذا كان غير قادر على أداء معلومها.
إذا تقوم فلسفة تأجيل التّنفيذ على منح الجاني فرصة جديدة لتقويم شخصيّته وإصلاح الخلل الذي يعتري سلوكه عبر إيقاف تنفيذ العقوبة المحدّدة للجاني وقد حظي القاضي بسلطة واسعة في تطبيق هذه الآليّة وتفريد العقوبة بما يلائم شخصيّة الجاني الماثل أمامه خاصّة أنّه الأقرب من حقيقة شخصيّه ودوافع ارتكابه لمثل هذا الفعل سواء من خلال معاينة ملف الجاني أو عن طريق حوار معمّق منشئ لعلاقة بين الطّرفين بمفهوم علم الاجتماع العلاجي “Au sens socio-thérapeutique”.
فتقدير العقوبة الملائمة لشخصيّة الجاني من قبل القاضي يظهر كالتزام إنساني وعمل اجتماعي يمارسه في مواجهة فعل معيّن مجرّم قانونا ومحلّ رفض من المجتمع أحيانا وغضب أحيانا أخرى، لكنه لا يهدف أبدا إلى إقصاء الجاني([112]) بل يبحث عن سبل إصلاحه عبر دراسة حقيقة شخصيّته وأسلوب علاجها، فالجرم المرتكب لا يعكس حتما خطورة الجاني.
لذلك يعود للقاضي الاستناد إلى ملف شخصيّة الجاني للتّعرّف على خصائص شخصيّة الماثل أمامه، كما يعتمد بطاقة سوابقه ليتبيّن للمحكمة نقاوة السّوابق العدليّة للجاني خاصّة أنّ تأجيل التّنفيذ يعدّ امتيازا مقرّرا لإصلاح طائفة من المجرمين المبتدئين لتجنّبهم مضارّ العقوبة ومساوئها.
وخلاصة القول أنّ للقاضي مطلق الاجتهاد في اعتماد هذه الآليّة ومنحها إذا ما تبيّن له قدرة هذه الآليّة على تغيّر سلوك الجاني وملاءمتها له كما لا يتقيّد القاضي في هذا المجال إلاّ بالشّروط القانونيّة التي وضعها المشرّع فتقيمه اعتمادا على ملفّ القضيّة وظروف ارتكاب الفعل الإجرامي يجعله قادرا على إستعاب حقيقة المجرم وتحديد طرق إصلاحه.
لكن هذه السّلطة الإضافيّة التي أسندت للقاضي لم تتوقّف على تأجيل التّنفيذ وإنّما امتدّت إلى خلق حلول إضافيّة لتفريد العقوبة حسب شخصيّة الجاني فمكّنه المشرّع من سلطة ضمّ العقوبات إلى جانب اعتبار مدّة الإيقاف من عدمه.
2- تحقيق الملاءمة عبر ضمّ العقوبة
يقصد بضمّ العقوبة الحكم بعقوبة واحدة عند تعدّد العقوبات التي يستوجبها تعدّد الجرائم المنسوبة للجاني، فهذه العمليّة تمثّل جوهر وظيفة القاضي الجزائي الذي يتعهّد بالأفعال أي الأفعال المادّيّة المكوّنة للجريمة، وليس مقيّدا بالوصف القانوني الذي تعطيه النّيابة العموميّة في فصل الإحالة أو في قرار ختم البحث الصّادر عن قاضي التّحقيق أو دائرة الاتّهام([113]).
فالقاعدة هي أن يعاقب الجاني من أجل كلّ جريمة على حدة لكن يمكن للقاضي أن يقرّر تنفيذ العقوبة الأكبر وحدها بأن يدمج العقوبات الصّغرى ضمن العقوبة الأشدّ.
وهذا يعود إلى اجتهاد القاضي ومدى اقتناعه بفائدة اعتماد هذه الوسيلة وملاءمتها لحالة الجاني الماثل أمامه وقدرتها لوحدها على تحقيق ردع وإصلاح الجاني ليبقى قرار ضمّ العقوبات خاضعا للاجتهاد المطلق لمحكمة الموضوع ولا تلزم لتعليله([114]).
والجدير بالملاحظة أن الضمّ وهو موضوع الفصل 56 م ج([115]) لا يمنع القاضي من تطبيق ظروف التّخفيف بالنّسبة للعقوبة الأشدّ ما يؤكّد السّعي نحو توسيع سلطات القاضي عبر ضمّ العقوبة في مرحلة أولى ثم تخفيفها في مرحلة ثانية إذا اقتنع القاضي بوجاهة اعتماد هذه الوسائل، « بالنّظر لسنّ المتّهمين وحالتهم الاجتماعيّة »([116]) وبأنّ تقليص الحكم يلائم طبيعة الجاني ويحقّق الأهداف المنشودة.
هذه الآليّة منحت للقضاء صلاحيّات كبيرة جدّا لتقدير العقوبة لكنّها بقدر ما وسّعت من صلاحيّات القضاء، بقدر ما ضيّق نطاق تطبيقها على ضرورة أن تكون جملة القضايا محل تتبّع واحد أي منشورة بجلسة واحدة ولقد تكرّس هذا التّوجه فقه القضاء([117]) منذ صدور قرار الدّوائر المجتمعة عدد 7541 بتاريخ 7 ماي 1973 والذي سارت على منهجه أغلب المحاكم.
إذا نستنتج أن الضمّ اختياري([118]) بالنّسبة للقاضي وهي آليّة لتفريد العقوبة خوّلت لإعادة تقدير العقاب بالنّظر إلى شخصيّة الجاني في إطار شامل([119])، إلاّ أن هذه الآليّة لم تسند إلى سلطة القاضي بصفة مطلقة وإنّما حدّدها المشرّع وقلّص من مجال اعتمادها من قبل القاضي، فقد نصّت الفصول 57 و58 م ج أنّ « العقوبات الماليّة لا يمكن أن تضمّ إلى بعضها وكذلك هو الشّأن للعقوبات التّكميليّة لمنع الإقامة والمراقبة الإداريّة وغيرها من الحدود التي أقرّها المشرّع »([120]). ونفسّر هذه القيود بحرص المشرّع على تحقيق الرّدع العامّ للعقوبة، فالمراوحة بين الرّدع والإصلاح يفقد نجاعة الآليّات السّاعية لتحقيق التّفريد ويحدّ من تطوّر هذا المبدأ وتأصّله على مستوى تطبيق سلطة القاضي في اعتبار مدّة الإيقاف.
3- الملاءمة عبر اعتبار مدّة الإيقاف
جاء بالفصل 15 من المجلّة الجزائية أنّ “كلّ عقاب بالسّجن يبتدئ من اليوم الذي صار فيه المحكوم عليه محبوسا بموجب حكم بات لكن إذا سبق إيقاف الجاني بالسّجن فمدّة الإيقاف بتمامها تطرح من المدّة المحكوم بها عليه إلاّ إذا نصّ الحكم على طرح بعضها فقط”. ومن خلال هذه الآليّة تتبيّن سلطة ضمنيّة تمنح للقاضي في احتساب مدّة الإيقاف من عدمها وهي تمثّل آليّة أخرى لتحقيق التّفريد للعقوبة.
ممّا يعكس حرص المشرّع على تدعيم مبدأ الملاءمة والأخذ بشخصيّة الجاني عبر توسيع نطاق السّلطة التّقديريّة للقاضي ليتمكّن هذا الأخير من حسن اختيار العقاب المناسب لشخص الجاني، لكن هذه السّلطة المخوّلة للقاضي نظرا لموقعه في القضيّة تكباها بعض القيود التّشريعيّة التي وضعها المشرّع تمثّل حدّا يحول دون تحقيق النّجاعة المنتظرة من العمل القضائي.
الفقرة الثّانية : اجتهادات القاضي لمراعاة شخصيّة الجاني
لأنّ التّفريد القضائي يعدّ من أكثر طرق التّفريد فاعليّة نظرا لحساسيّة موقع القاضي وإلمامه بخصوصيّات كلّ جان يمثّل أمامه.
التجأ المشرّع إلى منح القاضي سلطة تقديريّة موسّعة وأتاح له الاجتهاد في إطار تحقيق الملائمة بين العقاب وشخصيّة الجاني، ممّا يساعد على مكافحة الجريمة وكفّ الجاني عن العود عبر خلق إرادة التّغيير لديه لإحساسه بعدالة العقاب المسلّط عليه، فالقاضي يعتمد عند تحديد الجزاء على مدى جسامتها (الجريمة) مادّيا ومعنويّا لا يغيب عن باله أنّه يحاكم إنسانا قبل كلّ شيء، ويتعيّن أن يدرك كذلك أن هذه الجريمة قد تكون نتيجة لجملة عوامل أو أسباب خاصّة بشخص من شأنها أن تضعف من سيطرته على قدراته ممّا يبرز تخفيف الجزاء([121]).
وتعكس ظروف التّخفيف القضائيّة سلطة القاضي واجتهاده لتحقيق الملائمة عبر النّزول بالعقوبة إلى ما دون حدّها الأدنى المقرّر لها بالنّصّ القانوني، وتكمن أهميّة اجتهاد القاضي في اعتماده لمادّيّات الجريمة دون تجاهل الأحوال المتعلّقة بشخصيّة الجاني ممّا يبرز اجتهاد فقه القضاء لاعتبار الحالة الشّخصيّة للمتّهم كظرف من ظروف التّخفيف رغم عدم تنصيص الفصل 53 م ج للتّوصّل إلى فهم سلطات القاضي، وجب التّعرّض إلى نطاق اجتهاد القضاء للأخذ بشخصيّة الجاني(أ) وصور اعتمادها من قبل المحاكم وتبرزاتها(ب).
أ- أسس اجتهادات القضاء
إنّ توجّه فقه القضاء في تأويل الفصل 53 م ج متلائم مع الأفكار الحديثة الدّاعية لضرورة الأخذ بعين الاعتبار بشخصيّة المجرم عند محاكمته لتحديد العقاب، فالتّخفيف هو تقنية شخصيّة مرتبطة أساسا بالجاني كإنسان وبإدانته ولا علاقة لها أصلا بالجريمة، وقد تدعّم هذا التّوجّه بقاعدة إطلاق سلطة القاضي الجزائي في تحديد ظروف التّخفيف، فالمشرّع نسج على منوال القوانين المقارنة الآخذة بنظام ظروف التّخفيف من ذلك الفصل 17 من قانون العقوبات المصري والفصل 29 من قانون العقوبات اللّيبي والمواد 243 و246 من القانون السّوري والفصل 79 من قانون العقوبات البلجيكي([122]).
وتتميّز هذه السّلطة بطابع اجتهادي عبر منح حريّة للقاضي الجزائي في اعتماد كلّ الظّروف الحافّة بالواقعة الإجراميّة فالفصل 53 لم يحدّد المعايير أو العناصر التي يجب التّقيّد بها، “إذا اقتضى أحوال الفصل الواقع لأجله التتبّع ظهور ما يحمل على تخفيف العقاب”، وهذه السّلطة التّقديريّة الموسّعة تبرز مرونة على مستوى التّطبيق للتمكّن من مسايرة جميع التّحوّلات الطّارئة على الآراء المواكبة للعقاب وكلّ التّطوّرات اللاّحقة بمذهب التّفريد ولاختلاف سبل إصلاح الجناة لتنوّع الشّخصيّات واختلافها وهو ما دأب القضاء على اعتماده، يقول Emile Garçon : “من بين الأسباب الغالبة المخففة التي يمكن ذكرها الماضي الحسن للمجرم، التّربية الرّديئة التي تعرّض لها، عمره، ندمه، البواعث الشّريفة التي دفعته إلى ارتكاب الجريمة، المشاعر التي تسلّطت عليه، شوائبه البدنيّة أو العقليّة وخاصّة حالته السّيكوباتيّة، تأثّره بالبيئة، خضوعه لسطوة شريك، بؤسه الشّديد، جهله للقانون، حالة الضّرر الحاصل أو إصلاحه، موقف المجني عليه، عدم التروّي”([123]).
وقد سار فقه القضاء في تونس على منوالها فاعتمدوا هذه الظّروف واعتبروها من الأسباب الدّاعية للتّخفيف إن توفّرت فهي تخضع للاجتهاد المطلق للقاضي وتمكّنه من اعتمادها أو الامتناع على ذلك من دون تسليط رقابة عليها([124]) بل يستوجب منها التّعليل في صورة الأخذ بظروف التّخفيف وهو ما أكّدته محكمة التّعقيب بقولها “حيث يتبيّن من المطعن المتمسّك به أنّه يرمي إلى مجادلة محكمة الموضوع في سلطتها التّقديريّة في تسليط العقاب المناسب وهو دفع يخرج عن رقابة محكمة القانون طالما أنّ محكمة القرار المنتقد قد علّلت قرارها تعليلا سليما ومتسامحا دون خرق لأحكام الفصل 53 م ج بما يتعيّن معه ردّ هذا المطعن لخلوّه من المستند الصّحيح”([125]).
يبرز نظام التّحديد القضائي متلائما مع مبدأ تفريد العقوبة إذ يتّسم بمنح الثّقة الكاملة للقاضي ليتوصّل إلى تحديد ظروف التّخفيف من خلال الاجتهاد والإلمام بكافّة الظّروف التي تدور حول الجريمة والتي من العسير التنبّؤ بها مقدّما ويتّفق ذلك مع الدّور الاجتماعي لظروف التّخفيف لكونه وسيلة لتحقيق التّفريد القضائي من ناحية وأداة لخلق التّجانس والتّوافق بين النّصوص التّشريعيّة وتطوّر المجتمع من ناحية أخرى، وبالتّالي جعل فقه القضاء من شخصيّة الجاني ظرفا هامّا لتخفيف العقاب، إذا ما تيقّن أنّ هذا الأسلوب يفضي إلى إصلاح هذا الأخير وردعه، فالطّابع الاختياري لهذه الظّروف يسند للقاضي سلطة موسّعة في تقدير العقوبة النّاجعة الملائمة للحالة الماثلة أمامه، ولكي تتّسم قراراته بالدّقّة والوجاهة وجب على القاضي أن يكون من ذوي الكفاءات والتّكوين السّليم وسعة المعرفة والإلمام بتطوّرات العلوم الجنائيّة مع الاستعانة بأهل الخبرة سواء في الطبّ النّفسي أو علم الاجتماع حتّى يتسنى له تقدير ظروف التّخفيف التي تتلاءم ووضعيّة الجاني النّفسية والاجتماعيّة.
لكن سلطة القاضي واجتهاداته قد تصطدم بحدود تكبّل السّعي نحو تحقيق الملاءمة وحسن اختيار العقاب المناسب لشخصيّة الجاني، وتتمثّل هذه القيود في نصوص قانونيّة مانعه لتطبيق التّخفيف القضائي كصورة الفصل 12 من قانون عدد 52 لسنة 1992 المؤرّخ في 18 ماي 1992 وعلّة هذا المنع هو خطورة هذا النّوع من الجرائم المتعلّقة بجرائم المخدّرات والحال أنّه من المهمّ تدخّل القاضي لتحديد العقاب وملاءمته مع شخصيّة الجاني خاصّة إن كان مبتدئا وارتكب جريمة من جرائم الاستهلاك أو المسك، فقد يرى القاضي ضرورة إسعافه بظروف التّخفيف لكي لا نخلق في داخله نقمة ونحثّه على استهواء الإجرام.
كذلك صورة الفصل 411 رابعا من المجلة التّجاريّة التي جاء فيها “لا يمكن تطبيق الفصل 53 من المجلّة الجنائيّة على من تعمّد تزييف أو تزوير شيك…”.
كما نصّت مجلة الغابات بموجب القانون عدد 60 المؤرخ في 4 جويلية 1960 في الفصل 189 عدم إمكانيّة تطبيق الفصول 53 و54 و55 م ج وذلك بالنّسبة للجرائم المنصوص على عقوباتها في هذه المجلّة([126])، وكلّ هذه الجرائم تعاقب عليها مجلّة الغابات بعقوبة الخطيّة والسّجن معا وبالعقوبة الأولى فقط([127]).
والفصول القانونيّة عديدة ومتنوّعة المصادر، لكن الرّابط بينها هو الحدّ من سلطة القاضي في تفريد العقوبة، وهو ما يتعارض مع الأهداف المنشودة في ظلّ السّياسة الجزائيّة الحديثة والتي تسعى المحاكم لتطبيقها على أرض الواقع.
ب- صور اعتمادها من قبل المحاكم وتبريراتها
إنّ توجّه فقه القضاء للأخذ بعين الاعتبار شخصيّة المجرم عند المحاكمة لتحديد العقاب تتجسد بصفة هامّة على مستوى التّطبيق في المحاكم وعديدة هي القرارات التّعقيبيّة([128]) التي “أكّدت على ضرورة احترام شخصيّة الجاني، إذا كان لا يوجد ما يمنع من استعمال ظروف التّخفيف بتطبيق أحكام الفصل 53 م ج والنّزول بالعقاب الأدنى الذي ترى المحكمة أنّه يتطابق مع شخصيّة الجاني والأفعال الصّادرة عنه، إذ أنّ المقصود من تطبيق أحكام الفصل 53 م ج هو منح المحكمة حقّ تقدير العقاب لجعله ملائما مع شخصيّة الجاني وظروف الواقعة”، ممّا يحيل أنّ اعتماد شخصيّة الجاني تمثّل دعامة تقدير العقاب، وبرزت من خلال الأخذ.
1- خصائص شخصيّة الجاني
من المحاكم والتي تتمثّل في اعتماد سنّ الجاني وحالته العقليّة والنّفسيّة إلى جانب ظروفه الاجتماعيّة كظروف داعية للتّخفيف.
* أخذت المحكمة في عديد المناسبات :
عامل السنّ كظرف للتّخفيف الأكثر شيوعا عند تقدير العقوبة حيث يؤخذ بعين الاعتبار حداثة سنّ الجاني ونقص تجربته في الحياة وبالتّالي مدى وعيه بأفعاله، وهو ما دأبت المحاكم على الاستناد إليه ونقضت الأحكام التي “لم يراعى بما فيه الكفاية نقاوة سوابق المتّهم وصغر سنّه وظروفه الاجتماعيّة…”([129]).
* الأخذ بالحالة العقليّة والنّفسيّة للجاني :
فانعدام الإدراك تماما وقت ارتكاب الجريمة تنتفي به المسؤوليّة الجزائيّة وأمّا مجرّد النّقص الجزئي في الشّعور فهو مدعاة لتخففها فقط([130]).
إذن فقدان العقل أو انعدامه يضعف من درجة إدراك الجاني وقد أبرز علم النّفس عدّة حالات مرضيّة يبقى للمصاب بها محتفظا بجزء من إدراكه وتمييزه فلا تنعدم مسؤوليّته عن فعلته الإجراميّة إلا جزئيّا([131]).
لذلك لم يعتمد هذا الظّرف بصفة آليّة فـ”الجاني الذي لم يثبت طبّيا أنّه مصاب في مداركه ولو نسبيّا لا يوجب على المحكمة الأخذ بحالته العصبيّة والنّفسيّة ولا رقابة عليها في ذلك من طرف محكمة التّعقيب وبذلك فالحكم القاضي عليه بالعقاب الأصلي دون تخفيف لا مطعن فيه”([132]).
* حالة الاضطراب النّفسي والانهيار العصبي :
المحكمة تأخذ بعين الاعتبار في بعض الحالات وقوع الجاني تحت تأثير حالة نفسيّة أو الانهيار أثناء ارتكاب الجريمة، كحالة الغضب التي تفقد التّوازن وتأثّر على المدارك العقليّة وعلى قدرة السّيطرة ليعتبر كظرف معف من المسؤوليّة([133])، وتتجاوز الظّروف صفات الجاني لتشمل.
– الظّروف الاجتماعيّة :
لقد درج فقه القضاء على الأخذ بالظّروف المعيشيّة والاجتماعيّة للمتّهم وكلّ ما يحمل على الرّأفة، ففي إحدى القرارات التي عرضت على محكمة الاستئناف والتي تتمثّل وقائعه أنّ المتّهم احتسى كمية من الخمر وقام بالاعتداء على والدة صديقه وقد ضبط متلبسا واعترف بجرمه، وقضت محكمة البداية بسجنه مدّة عشرة أعوام وتمّ استئناف الحكم من قبل الجاني والنّيابة العموميّة التي طلبت التّرفيع في العقاب وجاء بالحيثيّات “وحيث تأسيسا على ما تقدم فإنّ الحكم الابتدائي كان على غاية من الوجاهة واقعا وقانونا ممّا يتعيّن إقراره من حيث مبدأ الإدانة فقط باعتبار أنّ العقاب المقضى به لم يراع بما فيه الكفاية نقاوة سوابق المتّهم وصغر سنّه وظروفه الاجتماعيّة، الأمر الذي يتّجه معه تعديل نصّ الحكم الابتدائي بالتّخفيف في مدّة العقاب”([134]).
كذلك جاء في قرار استئنافي تمثّلت وقائعه أنّ المتّهم اعترض سبيل المتضرّرة وهدّدها بواسطة سكّين وسلبها حقيبتها، بالنّظر إلى هذه الوقائع وإلى ظروف المتّهم الاجتماعيّة وصغر سنّه وأخذا باعترافاته التّلقائيّة التي نستنتج منها حالة النّدم ترى المحكمة الحطّ من العقاب([135]).
2- محدوديّة الخطورة الإجراميّة
يعتمد القاضي لتبيّن نوعيّة شخصيّة الجاني واستعداداته الكامنة فيه على :
* نقاوة ماضي الجاني :
التي تحيل على ضالة نزعته الإجراميّة وعدم تأصّل الإجرام فيه وهو ما أقرّته محكمة الاستئناف بتونس في قرارها عدد 25287 المؤرّخ في 12/07/1997 عبر إسعاف المتّهم بظروف التّخفيف نظرا لنقاوة سوابقه.
* الباعث على الجريمة :
المتمثّل في إحساس الجاني وميولاته العدائيّة التي دفعته دون تفكير إلى ارتكاب الجريمة، وقد وقع الأخذ بها في تقدير العقوبة في عديد القرارات رغم فداحة الفعلة، كما أصدرت محكمة الاستئناف بتونس حكما قاضيا بعقوبة السّجن لمدّة عشرة سنوات على امرأة قتلت زوجها واعتبرت “أنّ فعلتها تلك ليس بدافع الانتقام وإنّما بدافع الحبّ”([136]).
يمكن القول أنّ الأخذ بالعوامل الشّخصيّة لتخفيف العقاب يعدّ سبيلا لتحقيق التّفريد العقابي إن وجد القاضي في ذلك وسيلة لإصلاحه ودفعه عن سوء السّلوك، على أن يكون رأيه معلّلا ومستساغا مبنيّا على ملابسات الواقعة واستنادا إلى شخصيّة الجاني لكي لا يقع خرق للقانون، حيث جاء بإحدى القرارات التي تمثّلت وقائعها في أنّ الجاني اعتدى بالفاحشة على طفل في عدّة مناسبات دون رضاه ورغم فضاعة هذا الفعل خفّف القاضي من العقاب وعلّل رأيه بمراعاة شخصيّة الجاني وهو ما لا يستقيم وملابسات الواقعة وحقيقة شخصيّة هذا الأخير([137]) لكن ما يجب الإشارة إليه أن ظروف التّخفيف الشّخصيّة لا تنحصر في هذه الصّور فحسب وإنّما تشمل ظروف أخرى تستنمّ من تصرّفات الجاني بعد ارتكابه للجرم كسلوكه تجاه الجاني أو ندمه وإصلاحه للضّرر الحاصل… وكلّها تعكس خصائص شخصيّة الجاني وتفسح المجال أمام القاضي لحسن اختيار العقوبة الملائمة له.
إذا نظرا لأهميّة التّخفيف من العقاب الذي أصبحت يمثّل المبدأ والتّشديد بات الاستثناء، فالواجب يقتضي على حدّ رأي السيّد فرحات الرّاجحي أنّ رفض القاضي تمتيع الجاني بالتّخفيف هو الذي يجب تبريره لإجراء ما يلزم من الرّقابة عليه من المحاكم العليا، ممّا يدعو إلى تنقيح الفصل 53 م ا ج.
المبحث الثّـاني : تدعيم دور قضاء الأطفال لتحقيق الملاءمة
يولد الطّفل صفحة بيضاء يخطّ عليها المجتمع ما يشاء فهو المسؤول عن تكوينه، فتبدأ معالم شخصيّته في البروز من خلال ما يتعلّمه من عائلته التي تمثّل عالمه الأوّل ومن ثمّ يخرج إلى المجتمع الكبير ليصطدم بمجموعة من المفارقات تنحت فيه خصائص شخصيّته وتحدّد له طريقه التي سوف يسلكها في حياته، ونظرا لأنّ تطوّر المجتمع وازدهاره يبدأ بالتّنشئة الصّحيحة للأجيال التي تمثّل عماد المستقبل وجّهت الأنظار نحو تأطير الأطفال وحمايتهم وضمان حسن تنشئتهم، ومع النّظرة الجديدة للإجرام الذي اقتدى بها مشرّعنا على أنّه نتيجة مؤثرات اجتماعيّة ونفسانيّة وتربويّة وحتى عضوية، توجب العناية بالطّفل منذ نشأته سواء في محيطه العائلي أو المدرسي وهو ما دعّمته مجلة حماية الطّفل الصّادرة بمقتضى القانون عدد 92 سنة 1995 المؤرّخ في 9 نوفمبر 1995 والتي نصّت ضمن فصلها الأول “أنّ حماية الطّفل تقتضي أن تهدف هذه المجلة :
-الارتقاء بالطّفولة بما لها من خصوصيّات ذاتيّة تميّز إمكانيّاتها الجسميّة وميولاته الوجدانيّة وقدراتها الفكريّة ومهاراتها العمليّة إلى مستوى ما توجبه من رعاية تهيّئ أجيال المستقبل بتأكيد العناية بأطفال الحاضر”.
فأوكلت مجلّة حماية الطّفل للجهاز القضائي مهمّة معالجة هذه المسألة واستئصال عوامل الخطورة التي تقبّلها منذ نشأته، لهذا الغرض طرحت مسألة تخصّص قاضي الأطفال وأثارت اهتماما كبيرا في الأوساط القضائيّة فمن خلالها يمكن تفريد معاملة هذه الفئة التي تتميّز بقلة وعيها وعدم قدرتها على التّحكّم في سلوكها ويقصد بالتّخصص التّفرّغ لمثل هذه المهام إلى جانب الإلمام بمعرفة علميّة بالعلوم الإنسانيّة والجنائيّة، ومتابعة تطوّر العلوم الجنائيّة وتطبيق المعطيات الحديثة.
وقد ركّزت بعض الدّراسات والمؤتمرات الإقليميّة والدّوليّة على هذه النّقطة بالذّات داعية بصورة عامّة إلى الأخذ بعين الاعتبار ضرورة تخصّص قاضي الأطفال، ومشرّعنا انتهج هذا المسار ودعّمه بوضع مجموعة من الوسائل التي تمكّن القاضي من تحقيق مبدأ التّفريد عبر الأخذ بشخصيّة الطّفل وخصائصها بصورة هامّة (الفقرة الأولى)، كما دعّم آليّات تحقيق هذه الملائمة بوضع نظم تراعي انعدام تأصّل النّوازع الإجراميّة في شخصيّة الطفل وبالتّالي فقد فعل دور القضاء بصورة هامّة (الفقرة الثانية) للتمكّن من حماية هذه الشّريحة.
الفقرة الأولى : نجاعة اعتماد عناصر الملاءمة
أوكلت مجلة حماية الطّفل للجهاز القضائي مهمّة معالجة جنوح الأطفال، واستئصال عوامل الخطورة التي تقبّلها منذ نشأته من دون وعي ولا إدراك بخطورتها بقصد إصلاحه وجعله فردا صالحا في المجتمع، وقد استند القاضي لتحقيق هذه الأهداف إلى عديد الوسائل التّشريعيّة التي وضعها المشرّع لهذا الغرض برز اعتمادها بصورة عامّة على مستوى التّطبيق(أ) والذي يمكن معاينته من خلال صور تطبيقاته في المحاكم(ب).
أ- دعائم نجاعة الملاءمة
ترتكز السّياسة الجديدة لفضاء الأطفال الجانحين على تطوير روح المسؤوليّة فيهم وإصلاح الخلل الذي ألمّ بشخصيّة هذا الطّفل فاستبدال لفظة حدث بلفظة طفل تعكس إيمان المشرّع بضرورة الاطّلاع على نفسيّة الطّفل واستجلاء خصائصها حتّى ترفع كلّ الحواجز التي تحول دون ما يمكن اعتباره تواصلا بين القاضي والطّفل، ضرورة أنّ نجاعة التّدبير الذي سيتّخذ لفائدة الطّفل يختلف حسب درجة هذا التّواصل والالتقاء والتّفاهم بين الطّفل والقاضي، ولا يمكن في ذات الوقت اعتباره ناجعا إلاّ إذا قبله الطّفل واقتنع به واعتبره عادلا([138])، لذلك اعتبر Pradel أنّ قضاء الأطفال قضاء خاصّ أكثر منه استثنائي([139]).
يلعب قاضي الأطفال دورا هامّا في هذا المجال، فهو الباحث في القضايا التي يتورّط فيها الأطفال وهو القاضي إذا كانت الأفعال المنسوبة من قبيل المخالفة أو الجنحة وهو المشرف على تنفيذ التّدابير الوقائيّة الصّادرة عنه أو عن محكمة الأطفال وعليه فهو مطالب للقيام بكلّ هذه الأدوار أن يتقمّص دور الأخصّائي الاجتماعي والأخصّائي النّفسي([140])، إلاّ أنّ ذلك يفترض فيه دراية في كيفيّة معالجة قضايا الأطفال، أي نوع من التخصّص La spécialisation في هذا المجال، هذا بالاستعانة برأي أهل الاختصاص.
يجمع قاضي الأطفال بين التخصّص الوظيفي والهيكلي في نفس الوقت، ضرورة أنّ المشرّع بإحداثه خطّة قاضي الأطفال كرّس نوع من التّداخل بين الوظيفة الموكولة لهذا الجهاز وبين الهيكلة الخارجيّة له. ويظهر التخصّص الوظيفي في سعي المشرّع إلى تمكين قاضي الأطفال من جملة من الآليّات عند التدخّل وأعطاه سلطة تحقيق ليس فقط التّحقيق في ظروف الواقعة المنشورة أمامه بل وكذلك التّحقيق حول شخصيّة الطّفل من جميع جوانبها. وهذا يفترض أن تكون لقاضي الأطفال دراية ومعرفة بعلم الاجتماع وعلم النّفس وقد دعا البعض إلى تكوين القضاة في هذا المجال حتّى يتسنّى لهم التّعامل مع أهل الاختصاص بكلّ سهولة، كما تمّ إعداد برنامج يتعلّق برسكلة القضاة بالمعهد الأعلى للقضاء الذي أدرج في برامجه دورات تكوينيّة في مختلف الاختصاصات من بينها الاختصاص في شؤون الطّفولة.
وبناء على ما ذكر نتبيّن أنّ التخصّص والاستعانة بأهل الخبرة يجسّدان مدى تطوّر الهياكل القضائيّة المكلّفة بجنوح الأطفال، وهو ما من شأنه ضمان مصلحة الطّفل الفضلى، ولا يقف التطوّر الهيكلي للجهاز القضائي على قاضي الأطفال بل يتعدّاه ليصل إلى إقرار هيكلة قضائيّة حديثة متعدّدة الأطراف يطغى عليها هي الأخرى شبه تخصّص.
* محكمة الأطفال :
أحدثت مجلّة حماية الطّفل هيأة قضائيّة جديدة مختصّة بقضايا الأطفال تعوّض محكمة الاستئناف التي كانت تنظر بطريق الاستئناف الأحكام الصّادرة عن قاضي الأحداث وتعوّض في نفس الوقت الدّائرة الجنائيّة التي تنظر في القضايا الجنائيّة التي تحيلها عليها دائرة الاتّهام.
ويندرج هذا التّنظيم في إطار توحيد الأجهزة القضائيّة التي تعنى بوضعيّة الطّفل سواء كان مقترفا لجنحة أو جناية، وتختلف تركيبة محكمة الأطفال بحسب وصف الجريمة التي تعرض عليها للبتّ فيها :
-ففي أوّل الأمر كانت محكمة الأطفال تتعهّد بالنّظر في جنحة بموجب استئناف طعنا في حكم صادر عن قاضي الأطفال وتتألّف محكمة الأطفال في هذه الصّورة من قاضي له رتبة رئيس دائرة وعضوين مستشارين من بين الأخصّائيّين في شؤون الطّفولة، أمّا إذا تعلّق الأمر بجناية تتركّب محكمة الأطفال من خمسة أعضاء، رئيس برتبة رئيس دائرة بمحكمة الاستئناف وقاضيان مستشاران ومستشاران اثنان يقع اختيارهما من بين الأخصّائيّين في شؤون الطّفولة.
-وبمقتضى القانون عدد 53 لسنة 2000 المؤرّخ في 22 ماي 2000 المتعلّق بتنقيح وإتمام بعض الفصول من مجلّة حماية الطّفل، أصبحت محكمة الأطفال مختصّة بالنّظر في الأحكام الجناحيّة المستأنفة الصّادرة ابتدائيّا في الأصل عن قاضي الأطفال وذلك بوصفها محكمة استئناف، كما تنظر محكمة الأطفال لدى محكمة الاستئناف في الأحكام الجنائيّة المستأنفة الصّادرة عن محكمة الأطفال لدى المحكمة الابتدائيّة، وكذلك في الأحكام الصّادرة عن قاضي الأطفال وتبتّ في القضيّة حسب القواعد المنصوص عليها بمجلّة حماية الطّفل.
وقد تدعّم دور المستشارين المختصّين في شؤون الطّفولة ويتمّ تحديدهما بناء على قائمة تساهم في إعدادها كلّ من وزرة العدل والشّباب والطّفولة والشّؤون الاجتماعيّة، وتراعى في ذلك أساسا الشّهادات العلميّة في الاختصاصات المتّصلة بالطّفولة والتّجربة والمهنة.
إنّ الغرض من ذلك توجيه أهل الاختصاص في أعمالهم وحثّهم على الاهتمام بشخصيّة الطّفل وتسليط الأضواء عليها بصرف النّظر عن خطورة الفعل المقترفة ويكون ذلك شرطا لسلامة الرّأي علما وأنّ هذا التوجّه تكرّسه أحدث النّظريّات العلميّة في هذا المجال.
إلاّ أنّه يبقى رأي هؤلاء الأعضاء من غير القضاة رأيا استشاريّا بحتا بمعنى أنّ رأيهم غير ملزم بالنّسبة للقاضي، ونتساءل تبعا لذلك عن دورهم في هذا المجال ؟ هذا إلى جانب أنّهم لا يقومون بتلك المهام على الوجه الأكمل نظرا لعدّة أسباب، من بينها أنّ تحسين القرار المشترك ليس دائما متوفّرا علاوة على أنّ هؤلاء المستشارين يشغلون في الأصل مهاما إداريّة داخل إدارتهم الأصليّة من شأنها أن تعيقهم على الحضور بالجلسات وغالبا ما يكون رأيهما انطباعيّا انطلاقا من هيئة الطّفل الماثل أمام المحكمة وانتمائه الأسري ليس إلاّ([141]).
كما نلاحظ على مستوى التّطبيق عدم وجود مستشارين مختصّين لرعاية الطّفولة على مستوى الاستئناف ومردّه نقص هذا الإطار، وهو ما أدّى ببعض القضاة إلى المناداة بحذف محكمة الأطفال خاصّة في مادّة الجنايات وبإسناد اختصاص النّظر في هذه الجريمة إلى قاضي الأطفال باعتباره أدرى بها النّوع من القضايا واعتبارا للتخصّص الذي يتمتّع به في هذا المجال فيصبح اختصاص قاضي الأطفال اختصاص دون 18 عاما مهما كانت طبيعة الفعلة المرتكبة ودرجة خطورتها.
لكن يبدو أنّ تحقيق الملاءمة أمر صعب لوجود تعارض ذو طبيعة فلسفيّة بين الشّيء ونقيضه، فهناك تعارض بين مساعدة الطّفل وبين قمعه وعقابه([142]).
لتحقيق التّناسب يمثل مطلبا أمميّا وإعمال هذا المبدأ على مستوى التّطبيق يرتبط بحسن استغلال الآليّات والوسائل القانونيّة ليكون العقاب الموقع على الطّفل محدّدا بشكل لا يكون أكثر ممّا تقتضيه العدالة ولا أكثر ممّا تقتضيه الضّرورة.
والملاءمة ومراعاة شخصيّة الطّفل في التّشريع تبرز من خلال الاستغناء عن المنهج الزّجري أو التّخفيف منه أو استبداله بوسيلة أخفّ، وهذا النّوع من التّفريد التّشريعي مثّل النهج الذي سوف يسير على منواله القاضي لتحقيق الأغراض المستحدثة للعقوبة عبر استغلال سلطاته واختيار التّدبير الملائم لشخصيّة الطّفل، ممّا يقتضي تخفيف وطأة العقوبة عليه، أمّا في حالة الحكم بعقوبة صارمة وجب التّعليل.
إنّ الإيمان بخصوصيّة الطّفل وأهميّة حمايته جعلت المشرّع يسعى لوضع قواني وآليّات قادرة على حماية هذه الشّريحة في المرتبة الأولى، ومكّنت القاضي من سلطات هامّة تقرّب بينه وبين الطّفل للتّوصّل إلى تحديد التّدابير أو العقوبة القادرة على إصلاحه، ونظريّا توفّر هذه الدّعائم قد يحقّ الأهداف المنتظرة لوقاية الطّفل من الوقوع في الإجرام مجدّدا، وهو ما يبرز على مستوى التّطبيق.
ب- تطبيق هامّ على مستوى المحاكم
أكّد علماء الاجتماع والنّفس أنّ جنوح الأطفال يجب أن يناقش خارج الإطار العقابي للقانون الجنائي فعوض أن تعالج ظاهرة الجنوح ضمن أهداف العقوبة يجب أن ندرس من جانب علمي اجتماعي([143]).
فعلى مستوى التّطبيق يسعى قاضي الأطفال أو محكمة الأطفال اختيار التّدبير الأنجع الكفيل بإصلاح الطّفل، ولهذا الغرض يستند القاضي إلى البحث الاجتماعي والنّفسي للتوصّل لدراسة شخصيّة الطّفل الماثل أمامه غير أن كثرة القضايا التي بعهدة قاضي الأطفال وانشغالها ببقيّة أطوار التّحقيق دفع المشرّع لإحالة هذه المهمّة إلى مختصّين للقيام بأبحاث عن شخصيّة الطّفل، وقد أكّد قضاة الأطفال بالمحكمة الابتدائيّة بتونس أنّهم لم يقوموا بأنفسهم ولو مرّة واحدة بهذا البحث.
ويبقى البحث الاجتماعي وجوبيّا وضروريا في كلّ الحالات لأنّه يرمي لإعادة تصوّر للظّروف التي وقعت فيها الفعلة الإجراميّة، كما يقع دراسة الظّروف النّفسيّة قصد اختيار الوسيلة الملائمة لإعادة إدماجه من جديد في المجتمع.
وقد كرّس فقه القضاء هذا التوجّه في القرار الابتدائي الصّادر عن دائرة الأحداث عن دائرة المحكمة الابتدائيّة بتونس في قضيّة عدد 5542 بتاريخ 9 مـارس 1994، جاءت بهــا مـا يلـي : « حيث أثبت تقرير البحث الاجتماعي المأذون به عملا بالفصل 237 م ا ج أنّ الحدث يتّسم بالحدّة والاندفاع وأنّه على علاقة بالشّباب المنحرفين ونظرا لطبيعة الجرم وسنّ الحدث وظروفه النّفسيّة والشّخصيّة والاجتماعيّة ».
كما يستند القاضي إلى الفحص الطبّي النّفسي الذي يكشف عن العاهات التي تصيب الطّفل أو الأمراض الوراثيّة التي يعاني منها هذا الأخير، وقد أكّد بعض الفقهاء على العلاقة الوطيدة بين البحث الاجتماعي والفحص الطبّي، فالأوّل يهيأ للثّاني ويفسّره([144])، وعلى خلاف البحث الاجتماعي الذي يعدّ إجباريّا يبقى طلب إجراء الفحص الطبّي النّفسي مجرّد إمكانيّة خاضعة إلى إرادة القاضي([145])، وإيمانا بنجاعة هذا الفحص، فإنّ قضاة الأطفال يطالبون بإجرائه على كلّ الأطفال الماثلين أمامهم رغم أنّ المشرّع خيّرهم في ذلك.
إثر الاستعانة بهذه الوسائل وتدعّم العمل بها للتوصّل لدراسة خصائص شخصيّة الطّفل والدّوافع التي كانت سببا لارتكابه لمثل هذا الفعل الإجرامي، ينتقل قاضي الأطفال أو محكمة الأطفال إلى مرحلة تحديد التّدبير أو تحديد العقوبة الملائمة، والتي حدّدها المشرّع وترك للقاضي حريّة اختبار أنجعها، فهي تتراوح في شدّتها وصرامتها حسب شخصيّة كلّ طفل، لنتبيّن أنّ أكثر التّدابير مراعاة لشخصيّة الطّفل وهي تسليمه إلى عائلته أو إلى عائلة بديلة عند الاقتضاء، فعدّد المشرّع الأشخاص الذين يمكنهم تسلّم الطّفل ورتّبهم حسب الأولويّة بحيث لا يجوز التّسليم لأحدهم إلاّ عند عدم صلاحيّة المتقدّمين عليه في الترتيب، ويعبر أبوا الطّفل أفضل من يسلّم إليهما باعتبار رجوعه إلى مكانه الطّبيعي داخل الأسرة، خاصّة إذا اعترف الأبوان بخطأ ابنهما وأبديا استعدادهما لتوجيهه والإشراف على تربيته ووقايته من العود، فأهميّة الأسرة في معالجة جنوح الأطفال باعتبار أنّها مؤسّسة للإصلاح الأولى وتعب دورا أساسيّا في ترسيخ القيم الأخلاقيّة السّامية وهو ما أقرّت به المحكمة الابتدائيّة بتونس، حيث نصّت « أنّ العائلة تبقى المحيط الطّبيعي لنموّ الطّفل واستقراره النّفسي والاجتماعي وهي الهيكل الذي يوفّر له إحساسا بالأمن والاطمئنان لتحقيق التّوازن النّفسي وتدعيم إحساسه بالثّقة في نفسه والمجتمع عامّة »([146])، إذا فمصلحة الطّفل الفضلى تقتضي مراعاة شخصيّته ومتطلّبات إصلاحه، وبالتّالي نقض أيّ حكم من شأنه أن يخلق فيه نقمة أو يضرّ بمصلحته([147]).
واستناد إلى إحصائيّات لأصناف من القرارات والتّدابير التي اتّخذها قضاة الأطفال بالنّسبة للجنح المرتكبة من 1998 إلى 2001 يتّضح أنّ أعلى نسبة من التّدبير تعلّقت بتسليم الأطفال إلى والديهم([148]). فغالبا ما يكون هذا التّدبير ناجعا إذا كان المحيط الأسري سليما قادرا على النّهوض بمسؤوليّة إرجاع الطّفل إلى الصّواب([149]).
والأسباب كثيرة تبرز لجوء قاضي الأطفال إلى إقرار مثل هذا التّدبير فقد يكون الطّفل مبتدئ أو محاطا بمؤثّرات خارجيّة دفعته لارتكاب مثل هذا الفعل وكلّ هذه المعطيات يأخذها قاضي الأطفال بعين الاعتبار، كما برز في قرار محكمة الاستئناف، حيث تمّت إدانة الطّفل من أجل ارتكاب جريمة السّرقة الموصوفة في محلّ مسكون باستعمال النّشور والخلع طبق أحكام الفصلين 260 و260 مكرر من المجلّة الجنائيّة فقضت المحكمة ما يلي : « نظرا لصغر سنّ الحدث إسعافه بأقصى ظروف التّخفيف والاكتفاء بتسليمه لوالدته لتسهر على تربيته ».
لكن هذا التّدبير رغم أهميّته يثير بعض التحفّظات في إمكانيّة إصلاح شخصيّة الطّفل إذا كان هذا التّسليم واقع لنفس الأولياء الذين قصّروا سابقا في تربية الطّفل ورعايته ودفعوه إلى الانحراف مجدّدا([150])، فإذا لم يرتدع الطّفل من المرّة الأولى يصبح هذا التّدبير غير ملائم لإصلاحه بل مشجّعا له على إعادة الكرّة بعد محاكمته باعتبار أنّه يعلم مسبّقا أنّه سيقع تسليمه مجدّدا إلى والديه تفاديا لذلك وسّع المشرّع مجال إجراء التّسليم إلى عائلة بديلة، إلاّ أنّ المحاكم قليلة ما تلجأ إلى هذا الحلّ نظرا لعدم استطاعتها العثور على هذه الأسر البديلة.
أمّا التّدبير الثاني فهو الحريّة المحروسة، وتهدف بالأساس إلى حماية الطّفل وإعادة إصلاحه ومن التّطبيقات القضائيّة التي يمكن أن نسوقها في هذا المجال الحكم الصّادر عن قاضي الأطفال بالمحكمة الابتدائيّة بتونس قضيّة عدد 51393 بتاريخ 29 جانفي 1997، حيث أحيل الطّفل على محكمة الأطفال من أجل ارتكاب فعلة الاعتداء بالعنف الشّديد النّاتج عنه تشويه بالوجه طبق الفصلين 218 و219 من م ج، وقـد قضـت المحكمة المذكورة « إدانة الطّفل وبتخطئته بـ300 د مع وضعه تحت نظام الحريّة المحروسة ».
بما أنّ نظام الحريّة المحروسة لا يقوم بذاته بل يرتكز على وسيلة أخرى([151])، يعتبر التّسليم للعائلة أفضل إجراء يتعايش معه، فالطّفل يسلّم لعائلته لتحتضنه من جديد تحت رقابة مندوب الحريّة المحروسة، وأكّد الفقهاء أنّه في التّطبيق العملي نجد أغلب قرارات الحريّة المحروسة تتّخذ بشأن الطّفل الذي يسلّم إلى عائلته، فهو يمثّل نظاما تربويّا وسطا بين مجرّد تسليم الطّفل لعائلته وبين إيداعه بإحدى المؤسّسات التّربويّة([152]).
لكن هذا لا يجعلها تخلو من نقائص، نظرا لقلّة عدد مندوبي الحريّة المحروسة وعدم توفّر التّكوين السّليم لهم بما يتناسب ومهمّتهم، فإذا ما تبيّن للقاضي تأصّل النّزعة الإجراميّة وتطوّرها لدى بعض الأطفال وإبقائهم في حالة سراح لا يتلاءم مع خصائص شخصيّتهم، يلتجئ إلى اتّخاذ أقصى التّدابير عبر إيداعه بمؤسّسة إصلاحيّة عموميّة أو خاصّة معدّة للتّربية والتّكوين، وهذا في الحالة التي يكون فيها الطّفل صعب الميراس إلى جانب استحالة معالجته داخل بيئته الطّبيعيّة، وعادة ما يلجأ القاضي إلى اعتماد هذا التّدبير في صورة العود، وهو ما أقرّته المحكمة الابتدائيّة للأطفال، حيث تمّ إدانة طفلين من أجل ارتكابهما لجريمة السّرقة المنصوص عليها بالفصل 264 م ج، فاعتبرت المحكمة أنّ « إصلاح الحدثين يقتضي إيداعهما بمركز تربوي قصد تقويم سلوكهما خاصّة وقد ثبت من تقرير الشّرطة بالملف أنّ الحدثين اقترفا جريمة الحال إثر فرارهما من المركز التّربوي بقمرت في قضيّة أخرى »([153]).
إذا فالهدف من تحديد هذا الجزاء هو مراعاة شخصيّة الطّفل وتناسب العقاب المحدّد له مع مقتضيات علاجه، ويتدعّم هذا الاتّجاه في حالة علاج إدمان الطّفل فللمحكمة أن تكتفي بإخضاع الطّفل في جرائم الاستهلاك والمسك لغاية الاستهلاك لعلاج طبّي الذي يخلّصه من الرّجوع إلى ميدان المخدّرات، أو العلاج الطبّي الاجتماعي أو إلى التّدابير المنصوص عليها بالفصل 59 من مجلّة حماية الطّفل([154]).
إلاّ أنّه إذا ما تبيّن لقاضي الأطفال أو محكمة الأطفال أنّ شروط إيداع الطّفل إلى المراكز المذكور غير متوفّر أو أنّ التّدبير غير كاف ولا متناسب مع الخطورة الإجراميّة الكامنة فيه يلجأ إلى إيداعه بمركز إصلاح وهو يعتبر من أكثر التّدابير الوقائيّة صرامة، أمّا على مستوى التّطبيق، نلاحظ أنّ بعض قضاة الأطفال يجبرون في أحيان كثيرة في الدّفع بالأطفال إلى مراكز الإصلاح نظرا إلى عدم وجود أيّ عائلة أو مؤسّسة لاحتضانهم.
كما أنّ تخصيص الأطفال بتشريع خاصّ لا يمنع من تطبيق القانون الجزائي إلاّ أنّه لا يطبّق على جميع الأطفال بل الذين تجاوزوا 15 سنة وذلك لقربهم من سنّ الرّشد وإمكانيّة تأصّل النّوازع الإجراميّة فيهم، فيمكن إخضاعهم إلى عقوبات جزائيّة يقرّرها قاضي الأطفال بناء على خطورتهم الإجراميّة وهو قرار اختياري يؤسّس على تقدير الإجراء الأكثر ملاءمة لوضعيّة الطّفل وشخصيّته. إنّ تحديد الجزاء الملائم لشخصيّة الطّفل يتطلّب تأطيرا له ودراسة لشخصيّته للتّمكّن من إصلاحه ودفعه عن سوء الطريق والعودة للإجرام.
وقد دأب القضاة على تجنّب التّدابير والعقوبات قدر الإمكان والاستناد إلى الآليّات الكفيلة بالتخلّي عن تطبيق أيّ جزاء على الطّفل الذي يتّضح بعد دراسة ملفّ الواقعة والشّخصيّة أنّه قابل للإصلاح وأنّه لا يمثّل خطورة لا على نفسه ولا على المجتمع ككلّ.
الفقرة الثّانية : تفعيل دور القضاء لتحقيق الملاءمة
إيمانا بخصوصيّة شخصيّة الطّفل تدعّم اعتماد البدائل غير القضائيّة والتي تجد جذورها النّظريّة في المدرسة الجديدة للدّفاع الاجتماعي، ووفق هذه المدرسة يمثّل الهدف من أيّ سياسة جزائيّة هو الدّفاع عن المتّهم ولاسيما إذا كان طفلا بإبدال التّنميط الجزائي الذي يخضع له بوسائل أخرى ترمي إلى إعادة إدماجه.
ويستند القاضي في تحديد العقوبة الملائمة بآليات أساسية تضمنتها مجلة حماية الطفل وتوسيع سلطته لتتاح له فرصا أكثر لمراعاة شخصيّة الطّفل الذي نزعت عنه صفة التّجريم ولو بصفة مبدئيّة وتتمثّل هذه السّلط في سلطة القاضي في التّجنيح(أ) إلى جانب تدخّله في الوساطة(ب).
أ- سلطة القاضي في التّجنيح
أمام تطوّر السّلوك الإجرامي وسعي القاضي للتوصّل لفهم دوافع الجاني والعوامل التي حثّته لاقتراف هذه الأفعال، لم يعد هذا الأخير مجرّد آلة لتوزيع العقوبات بل أصبح له دورا هامّا في البحث عن أنجع الطّرق القانونيّة التي من شأنها تحقيق مصلحة الجاني. وقد مثّلت هذه الإحداثيّة الجديدة التي أقرّتها مجلّة حماية الطّفل المرتكب لجريمة ما، آليّة تراعي الطّبيعة الخاصّة للطّفل الجانح وخصوصيّة قيام شخصيّته. فبرزت هذه الآليّة كوسيلة لتخفيف من وطأة الحكم وشدّته عبر تحويل الجناية إلى جنحة بغضّ النّظر عن الظّروف المشدّدة التي ارتكبت فيها الجريمة أو الوصف القانوني لها، إذا فهي تعبير عن ردّ فعل القاضي تجاه صرامة القانون.
إلاّ أنّه رغم أهميّة هذه الآليّة لا نجد تعريفا قانونيّا دقيقا لكلمة “تجنيح” فهي « جنح المخالفة والجناية عدها جنحة »([155]).
وقد عرفت هذه التّقنية تطوّرا مطّردا، حيث كان التّجنيح قبل صدور مجلّة حماية الطّفل مجرّد جريان عمل قضائي نابع من اجتهاد قضاة التّحقيق وتعميم للوقائع، وهو اجتهاد لا تجاريه في بعض الأحيان دوائر الاتّهام رغم أنّ الاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله حسبما تنصّ عليه المبادئ الأصوليّة للقانون([156])، وتفاديا لهذه الإشكاليّة فقد فضّل المشرّع أن ينصّ صراحة على إمكانيّة التّجنيح مع مراعاة نوع الجريمة وخطورتها والمصلحة الواقع المسّ بها وشخصيّة الطّفل وظروف الواقعة بهذا التّنصيص يكون المشرّع قد فنّد جريان العمل وفسح المجال لتطبيقه وفق ما تمليه المقاييس القانونيّة، والمحاكم لا تتوانى في العمل بها كلّما ظهرت لها مبرّرات وأسباب تؤسّس قضاءها.
وقد اختلفت صور التّجنيح وطبيعته، فإلى جانب التّجنيح القانوني الذي حدّد للقاضي مجال تدخّله بالفصل 69 مجلّة حماية الطّفل واستثنى منها « جرائم القتل حيث يراعى في ذلك نوع الجريمة وخطورتها والمصلحة الواقع المسّ منها، وشخصيّة الطّفل وظروف الواقعة ».
فالملاحظ من خلال هذا الفصل أنّ المشرّع لم يجعل من التّجنيح أمرا وجوبيّا بل جوازيّا بالنّسبة للمحكمة، كما أقرّ لها حدود حين استثنى جرائم القتل من إمكانيّة التّجنيح ويردّ هذا الاستثناء إلى خطورة هذه الأفعال وما تنطوي عليها من نوازع إجراميّة لدى الطّفل، فإتيانه لمثل هذا الفعل يعرب عن مدى خطورته وقدرته على تجاوز القانون ممّا يلزم ردعه، كما أقرّ المشرّع جملة من المعايير التي يجب على القاضي الاستناد إليها لإقرار التّجنيح من عدمه، والتي تنقسم إلى معايير موضوعيّة متّصلة بنوع الجريمة وخطورتها والمصلحة الواقع المسّ بها إلى جانب معايير شخصيّة حدّدت حسب الفصل 69 بشخصيّة الطّفل ويقصد بها النّظر إلى توازنه النفسي والاجتماعي ولتحقيق هذا الهدف وجب على القاضي دراسة شخصيّة الطّفل والعوامل المؤثّرة فيه بمساعدة الأخصّائيّين وتقوم هذه الأبحاث على أساس علمي وتتّسم بالدقّة([157]).
ما من شكّ أنّ الاستناد إلى آليّة التّجنيح فيه رغـبة في تفريد العقوبة عبر النّظر إلى شخصيّة الجاني، وتحقيق نجاعة السّياسة الزّجريّة وتجاوز التّقسيم الثّلاثي للجرائم التي جاء بها الفصل 14 م ج المتّسم بالتّجريد والعموميّة سعيا لتقليص الهوّة الحاصلة بين القانون الجنائي والواقع([158]) الذي يتّسم بالديناميكيّة والتطوّر المطّرد، لذلك وجب على القانون الجزائي مجاراة هذا التطوّر ليكون قادرا على مواجهة الإجرام ومكافحته، وهنا يكمن الدّور الفعّال للقاضي في تحقيق الملاءمة استنادا إلى تطوّر مفهوم العقوبة نحو إصلاح الجاني.
والتّجنيح هو أن يضفي قاضي التّحقيق على الفعل المرتكب من الطّفل وصف الجنحة عوضا عن الجناية، وأهميّة تغيير الوصف تعني تغيير درجة العقاب، فإذا ما جنّح القاضي الجناية يصبح من الممكن للمحكمة أن تقضي بأدنى ما يحكم به في الجنح إلاّ إذا لم يتسنّى لها تطبيق ظروف التّخفيف طبقا للفصل 53 م ج.
وأسلوب التّجنيح يختلف بالاستناد إلى الوصف القانوني المدرج للفعلة، فإمّا أن يكون الوصف قانوني واحد، كالسرقة الموصوفة أو الخيانة الموصوفة ولهما صبغة الجناية لا تقوم إلاّ بتضافر بعض الظّروف التي تشدّد العقاب، فيقع غضّ النّظر عن تلك الظّروف المشدّدة حتّى يقوم الوصف الجنائي للفعل الإجرامي آخذ بشخصيّة الجاني، ممّا يجعل القاضي يقرّ بأهميّة التخلّي عن هذه الظّروف.
أمّا في الحالة التي يقبل فيها الفعل الإجرامي أكثر من وصف قانوني فإنّ التّجنيح يقوم على الفصلين 54 و55 م ج([159])، حيث يسلّط علي الجاني العقاب الأشدّ من العقوبات المحدّدة له، ليبرز التّجنيح كآليّة تعكس السّعي نحو مراعاة شخصيّة الجاني لحسن اختيار العقوبة الأنجع القادرة على إصلاحه وردعه.
وتتعزّز مثل هذه الآليّات بآليّة الوساطة التي تحمي الطّفل من التعرّض إلى جزاءات قد تنعكس سلبا على شخصيّته فتدعّم الإجرام فيه وتخلق نقمة تجاه المجتمع عامّة.
ب- نجاعة التدخّل كوسيط للصّلح
الوساطة عمل إجرائي تسوية عن طريق تدخّل وسيط يزوّد بسلطات واسعة فيجمع المعلومات الكاملة حول النّزاع ويقترح حلاّ في شكل توصية معلّلة([160]).
وهي آليّة قانونيّة جديدة نصّت عليها مجلّة حماية الطّفل([161]) ترمي إلى إبرام صلح بين الطّفل أو من يمثّله قانونا وبين المتضرّر ومن ينوبه أو يرثه، وتهدف إلى إيقاف مفهوم التتبّعات الجزائيّة أو المحاكمة أو التّنفيذ، ويمكن إجراء الوساطة في كلّ وقت ابتداء من تاريخ اقتراف الفعلة، وقد دار النّقاش حول طبيعة الوساطة كآليّة لتعويض المتضرّر وحماية الطّفل الذي تعلّقت به تهمة، تنازع التيّارات الفقهيّة حول طبيعة هذه الآليّة، فالبعض يراها إجراء أو تدبيرا شكليّا يخضع إلى رقابة القاضي وسلطته، وشقّ آخر يعتبرها مثالا تعاقديّا حديثا اقتحم المادّة الجزائيّة يتمثّل في اتّفاق طرفي النّزاع.
وتكمن أهميّة الاستناد إلى الوساطة من قبل القاضي في توفير الوقاية للطّفل لخصوصيّة شخصيّته وتجنيبه المثول أمام المحاكم أو الاستهداف لأيّ عقاب أو تدبير وقائيّ، فتقوم الوساطة على :
– توفّر شروط موضوعيّة :
تتمثّل هذه الشّروط في تحديد أطراف الوساطة وتعدادهم ضمن الفصل 113 م ح ط “الوساطة آليّة ترمي إلى إبرام صلح بين الطّفل الجانح ومن يمثّله قانونا من جهة والمتضرّر أو من ينوبه أو ورثته من جهة أخرى، إلاّ أنّ الوساطة لا تجرى إلاّ عن طريق وسيط وهو مندوب حماية الطّفولة”.
نصّ هذا الفصل على أهميّة تشريك الطّفل ضمن هذه السّياسة الحمائيّة بتمكينه من إبرام الصّلح مع المتضّرر، فالسّياسة الحديثة تقرّ بأهميّة مراعاة شخصيّة الطّفل وخصائصها لدفعها نحو سلوك الطّريق السّوي والتخلّي عن المبادئ الخاطئة التي انطبعت فيه من دون وعي وتشريكه في الحياة الاجتماعيّة لإثبات شخصيّته وإصلاح نفسه وهو ما نصّ عليه كذلك الفصل 10 م ح ط. ونظرا إلى أنّ الصّلح يمثّل عقد مدني على معنى الفصل 1458 م ا ع الذي يقتضي شرط أهميّة التّعاقد في أطرافه ممّا يجعل حضور الوليّ إلى جانب الطّفل وجوبيّا باعتباره فاقدا للأهليّة أو للتّمييز إذا لم يبلغ الثّالثة عشر([162]).
ويمكن للمتضرّر أو نائبه أو ورثته طلب الصّلح وتعدّد الأطراف التي منح لها الحقّ في طلب الصّلح تبرز السّعي نحو جعله مبدأ لا استثناء لتجنيب الطّفل المحاكمة والعقاب([163]) عبر إيجاد ضمانات لتمكين مؤسّسة محايدة من إجراء الصّلح لتفادي كلّ إجحاف لمصلحة الطّفل، إذ أنّه عرضة للمساومة مقابل إسقاط إلى جانب تحميل الطّفل مسؤوليّة مواجهة خطئه المرتكب، كما لمندوب حماية الطّفولة أن يكون وسيطا في إبرام الصّلح فهو مدعوّ دائما لبذل جهده وخبرته وما تلقّاه من تكوين في تجسيم تقنيّات المصالحة.
– توفّر شروط إجرائيّة :
ورد بالفصل 116 م ح ط « يرفع مطلب الوساطة من قبل… إلى مندوب حماية الطّفولة الذي يسعى إلى إبرام الصّلح بين الأطراف المعنيّة يدوّنه في كتب ممضى ويرفعه إلى الجهة القضائيّة المختصّة التي تعتمده وتكسيه الصّبغة التّنفيذيّة ما لم يمكن مخلاّ بالنّظام العام أو الأخلاق الحميدة ».
ويجوز لقاضي الأطفال مراجعة كتب الصّلح مراعاة لمصلحة الطّفل الفضلى، إذا فالوساطة تمثّل وسيلة لإقصاء القضاء الزّجري وتدعيم الرّقابة عليه، ومدى ملاءمته لمصلحة الطّفل وطبيعته وبتوفّر كلّ الشّروط قيام القاضي بإبرام الصّلح وإنقاذ الطّفل من دخول السّجن.
تنتج عديد الآثار الهامّة المتمثّلة حسب الفصل 3 م ح ط « إيقاف مفعول التتبّعات الجزائيّة أو المحاكمة أو التّنفيذ » فيبدو أنّ أبرز أثر هو إيقاف التتبّع ومحو آثاره ليصبح الطّفل المضنون فيه غير مدان، أمّا إذا أجريت الوساطة بعد إدانة الطّفل وقبل إصدار حكم ينصّ على العقاب فإنّها توقف المحاكمة، وفي التّطبيق يظرف مندوب حماية الطّفولة العاقد لملف القضيّة، ثمّ تعيّن جلسة ليقع اتّخاذ حكم بإيقاف المحاكمة بموجب الوساطة وفي صورة إصدار الحكم بمعاقبة الطّفل أو إخضاعه لإحدى التّدابير الوقائيّة وتعمل الوساطة على إيقاف تنفيذ الجزاء ومحو أثر الحكم الصّادر ضدّه.
رغم أهميّة هذه الآليّة فقد انخفض العمل بها، حيث سجّلت سنة 1997 – 179 حالة وساطة وانخفضت إلى 141 خلال سنة 1998([164]) ويرجع هذا التراجع إلى عدّة صعوبات تتمثّل أساسا في كون الوساطة تبقى في متناول الأطفال ميسوري الحال وقادرين على دفع التّعويضات للمتضرّرين الذي لحقت بهم الأضرار ولم يشترط المشرّع في المجلّة أن يكون التّعويض كاملا أو جزئيّا ولا أن يكون الاتفاق بعوض أو بدون عوض.
بروز البدائل غير القضائيّة مثّل خطوة نحو مراعاة شخصيّة الطّفل والبحث عن الوسائل القادرة على حماية شعوره وإبقائه بعيدا عن العقد النّفسيّة التي قد تنتج عن محاكمته، لكن تعرّضت هذه البدائل إلى انتقادات منذ أواسط الثّمانينات، فالملاحظ على مستوى التّطبيق عدم تحقيقها النّتائج المرجوّة التي بعثت من أجلها، ذلك لأنّ نظام التّحويل إلى خارج النّظام القضائي لا يفرّق بين الطّفل الجانح العادي والطّفل الجاني الخطير، ما يدفع هذا الأخير للعود، كما أنّ نظام البدائل يخرق مبدأ التّناسب بين الجريمة وردّ الفعل الاجتماعي أي أنّ اعتماده قد لا يكون ملائما لحقيقة شخصيّة الطّفل، ممّا ينمّي النّوازع الإجراميّة فيه لعدم ردعه عن الجرم الذي اقترفه([165]).
خلاصة الجزء الأوّل
ساير التّشريع التّونسي على غرار بقيّة التّشريعات المقارنة السّياسيّة الجنائيّة للمدرسة الوضعيّة والمبادئ التي جاءت بها حركة الدّفاع الاجتماعي التي تعتمد لمكافحة الجريمة، تحقيق الملاءمة بين العقاب وخصائص شخصيّة الجاني سعيا لإصلاحه عبر تأثير العقاب المقرّر له على سلوكه.
لكن لم يكن كافيا الاستناد إلى القوانين الوضعيّة المواكبة لهذا المبدأ والمدعّمة لتطبيقه فالقاعدة القانونيّة تبقى مجرّدة وعامّة، ممّا يوجب حسن تطبيقها على المستوى العملي حتى تأتى ثمارها.
ولكي يتمكّن القضاء الجزائي من القيام بالمهمّة الموكّلة إليهم لا يكفي أن يمدّهم المشرّع بسلطة تقديريّة تبرز موسّعة لكنّها مكبّلة بقيود تشريعيّة، بل يجب كذلك أن يتمتّع القضاة بتكوين وتأهيل مهني خاصّ يرتكز على النّواحي الإنسانيّة والاجتماعيّة للجريمة، إلى جانب تشريك أهل الاختصاص لرفع الغموض عن الحالات الماثلة أمامهم نظرا لحساسيّة ودقّة المهامّ الموكولة للقضاة والتي تستلزم البحث في خصائص شخصيّة الجاني وأسباب وقوعه في الإجرام للتّمكّن من اختيار العقاب المناسب للحالة المشخّصة أمامهم وعلاجهم زمن التّنفيذ عبر معاينة قدرة هذا العقاب على إصلاحهم ومدى تأثيره فيهم.
الجزء الثّاني : ملاءمة العقاب مع شخصيّة الجاني عند التّنفيذ
لقد استقرّت في التّشريعات الحديثة فكرة تفريد العقوبة الجزائيّة استنادا إلى خصائص شخصيّة الجاني، وامتدّ هذا المبدأ من المرحلة القضائيّة إلى مرحلة التّنفيذ، فإذا كان تطبيق العقوبة يقوم على إنزال حكم القانون على واقعة محدّدة بحيث يحيد بالقاعدة القانونيّة عن العموميّة والتّجريد ليدخل بها دائرة التّعديد والتّفريد القضائي([1]) فإنّ التّنفيذ هو نشاط الدّولة الذي يهدف إلى إعمال القرار القضائي وإبرازه على أرض الواقع، لذلك لا تخلو مرحلة التّنفيذ من عناصر التّفريد والأخذ بشخصيّة الجاني، والملاحظ أنّ التّنظيم المعتمد ببلادنا قد تأثّر بما جاء بالقواعد النّموذجيّة الدّنيا لمعاملة السّجناء.
فالغرض المعلن من تنفيذ العقوبة هو الإصلاح والتّأهيل عبر تحقيق معادلة بين مراعاة تلاؤم تطوّر شخصيّة المحكوم عليه وأسلوب المعاملة الذي سخّر له، ويعتمد لتحقيق هذا الغرض وضع وسائل وآليّات تفريديّة غير عامّة قادرة على تحديد خصائص كلّ واحد وإبراز مواطن الخلل فيه سعيا نحو إصلاحه وتقويم شخصيّته وإعادته للمجتمع سالما من شوائب الإجرام وذلك بتمكينه من البحث شخصيّا عن الوسائل التي يستطيع بواسطتها التّمكّن من مقاومة الشّرّ والوصول شيئا فشيئا إلى خلق إرادة تفضي به إلى التغلّب عن النّفس الأمّارة بالسّوء([2]).
ولأهميّة هذه المرحلة ودقّتها، كان من الواجب أن لا يترك الأمر مفرطا للإدارة العقابيّة فمن شأنه أن لا يؤتى الهدف المنشود ممّا دعّم أهميّة الحضور القضائي في مرحلة التّنفيذ العقابي الذي مثّل ضمانا أساسيّا لاحترام كيان الجاني وتكريسا لحقوقه.
وهو ما جاءت به توصيات المؤتمر الدّولي العاشر لقانون العقوبات المنعقدة في روما سنة 1969، إنّ اختصاصات القاضي يجب أن تشمل تنفيذ العقوبات أو التّدابير وإنّ أساليب تنفيذ العقوبة الذي يمسّ قرار القاضي يجب أن يكون بمعرفة هذا القاضي أو أيّة سلطة قضائيّة أخرى تكون مكلفة بالسهر على تنفيذ الجزاء([3]).
وهو ما أقرّه مشرّعنا كذلك بأنّ دعم دور القضاء في مرحلة التّنفيذ وخصّها بمهامّ وسلطات لتحقيق التّفريد التّنفيذي وملائمة العقوبة لفرط اتّصالها الوثيق بحسن أداء رسالة العقاب في تقويم أصحاب النّفوس المنحرفة عن طريق تغيير المعاملة المناسبة لكلّ منهم([4])، وبما أنّ التّفريد القضائي يعنى بالحكم بتدبير أو عقوبة تحدد نوعها ومدّتها، أسند لمرحلة التّنفيذ متابعة ملاءمة ذلك التّدبير من عدمه نوعا ومدّة حسب الخطورة الإجراميّة الكامنة لدى المحكوم عليه، فإنّه لا يمكن إلاّ لمؤسّسة قضائيّة تطبيق ذلك التّدبير والتّصرّف فيه.
فلم يعد التّنفيذ العقابي ينصب على الجانب الموضوعي للجريمة وإنّما أصبح ينصب بصورة خاصّة على مصير المجرم من ناحية وحماية المجتمع من ناحية أخرى([5]).
ونظرا لارتباط المرحلة القضائيّة والتّنفيذيّة في تحقيق هدف واحد وهو إصلاح وتقويم الجاني، فقد أقرّ المشرّع جملة من الآليات والوسائل القادرة على تحقيق التّفريد (الفصل الأول) عبر دراسة شخصيّة السّجين لوضع سبل تقويمه وتعديل العقوبة بما يلائم هذا التّغيير إلى جانب تفعيل دور الهياكل والمؤسّسات التي أسند لها دور هامّ في هذه المرحلة (الفصل الثاني) بفرض تهيئة الإطار الملائم ومراقبة حسن تسيير هذه المرحلة ونجاعتها.
الفصل الأوّل : امتداد عناصر الملاءمة في مرحلة التّنفيذ
أقرّ المشرّع بأهميّة مرحلة التّنفيذ العقابي وخصوصيّتها ممّا يحتم وضع وسائل مادّية وآليّات قادرة على تحقيق الأهداف المنشودة.
فهذه المرحلة تتطلّب دراسة شخصيّة الجاني ومعرفة خصائصها بغرض وضع المعاملة العقابيّة التي تناسبه والقادرة على إصلاح الخلل الذي يميّزه، فالاختلاف القائم بين أنواع الجناة يستوجب تصنيفهم والبحث عن أنجع الوسائل القادرة على دفعهم نحو تغيير طباعهم. ونظرا لأنّ شخصيّة الجاني تمثّل جملة من الصّفات والأنماط السّلوكيّة النّاتجة عن الاستجابة لدوافع اجتماعيّة ونفسيّة وعن طريق التّعلّم والخبرات المكتسبة([6]).
فإنّ تطويرها والحدّ من النّوازع الإجراميّة يتحقّق بتهيئة الإطار المادّي لذلك وتحديد معاملة عقابيّة تلائم تكوينه البسيكولوجي استنادا إلى طرق علميّة مدروسة.
ولمزيد حثّ الجاني على تقبّل المنهج الذي حدّد له والتّكيّف معه، وضع المشرّع آليّات ووسائل ماديّة مخصّصة لتحقيق الملاءمة (المبحث الأول) مثّلت مكافأة أو تشجيع للجاني للتّخلّي عن نوازعه ومراجعة نفسه والوعي بأخطائه لتطوير سلوكه وأفعاله للابتعاد عن الإجرام (المبحث الثاني).
المبحث الأول : وسائل تحقيق الملاءمة
تكمن أهميّة الفحص والتّصنيف في أنّها تستمدّ من مبدأ التّفريد العقابي أي ملاءمة طريقة التّقويم مع شخصيّة المحكوم عليه لعلاجه عبر أساليب علميّة وتحديد كيفيّة مواجهة هذه العوامل للقضاء عليها، وعلى هذا الأساس فإنّ التّفريد لا يستقيم بدون فحص دقيق للشّخصيّة وإلمام بأسباب الإجرام والسّبل الكفيلة بتقويمها([7]) وتكون العلاقة بين الفحص والتّصنيف متكاملة، حيث يمهّد الفحص لعمليّة التّصنيف لكونه يمثّل عمليّة فنيّة تقوم على دراسة الشّخصيّة من طرف مختصّين على إثرها يقع التوّصل إلى خصائصهم وقدرتهم الإجراميّة واستعداداتهم ليقع فصلهم وتصنيفهم استنادا إلى هذه المعايير.
تساهم هذه الوسائل في خلق إطار مادّي ناجع قادر على تحقيق الأغراض المنتظرة لقيامه على دراسة علميّة ومناهج مدروسة وغير عشوائيّة، ممّا يضمن نسبة فاعليّة أكبر نحو تحقيق التّقويم والإصلاح للجاني بفحصه طبّيّا ونفسيّا (الفقرة الأولى) ومن ثمّ تصنيفهم حسب خصائصهم (الفقرة الثّانية).
الفقرة الأولى : اعتماد الفحص اللاّحق
تنطلق الرّعاية المقرّرة للسّجين من وقت إيداعه بالمؤسّسة العقابيّة لتمتدّ على كامل مدّة العقوبة، ويتجلى ذلك من خلال التّنصيص القانوني على إجراء أوّلي أساسي يتّخذ حال إيداع الجاني بالسّجن وهو إجراء توجّه به المشرّع إلى شخصيّة هذا الأخير، فمن خلاله يقع احتضانه عبر عرضه على الفحص اللاّحق الذي يساهم في إعداد السّجين على تقبّل برامج السّجن ونظمه والتّفاعل معها، لذلك فهو يعدّ عملا إنسانيّا يعيد للسّجين ثقته بنفسه وبالمجتمع.
والمتأمّل في قانون ماي 2001 يستنتج بكلّ يسر التّوجّه التّشريعي نحو تفريد العقوبة في مرحلة التّنفيذ ووضع نظام عقابي يلائم شخصيّة كل جاني، والفحص اللاّحق خير سبيل لتحقيق هذا الهدف من خلال أهميّة عناصره (أ) التي تمكّن من حسن التّعرّف على شخصيّة الجاني ودراسة معالمها وكشف الخلل الذي ألمّ بها، ممّا يوجب البحث عن أبعاد الاستناد لمثل هذه الوسيلة على مستوى الواقع (ب).
أ- عناصر الفحص اللاّحق
يعدّ الفحص اللاّحق عملا فنيّا يتولاّه مجموعة من الأخصّائيّين في مجالات مختلفة بهدف دراسة شخصيّة المحكوم عليهم دراسة متكاملة([8]) لبيان مدى خطورتهم تمهيدا لاختبار نوع المعاملة العقابيّة اللاّزمة لتحقيق الغرض من العقاب الجزائي([9]) ويطلق عليه الفحص العقابي، حيث يتولّى القيام به عدد من المختصّين في المؤسّسة العقابيّة ويكون مسترسلا كامل مدّة تنفيذ العقوبة وهو امتداد للفحص السّابق على الحكم الذي يساعد القاضي في تقرير العقوبة الملائمة لشخصيّة الجاني، ممّا يتطلّب نقل ملف شخصيّة المحكوم عليه السّابق إعداده أثناء المحاكمة إلى المختصّ بإجراء هذا الفحص([10]).
وينقسم الفحص العقابي إلى فحص طبّي (1) يعالج فيه السّجين صحّيّا ونفسيّا وفحص إداري (2) يقوم على مبدأ الملاحظة داخل المؤسّسة العقابيّة.
1- الفحص الطبّي اللاّحق
تكمن أهميّة الفحص في أنّها تستمدّ من تقويم شخصيّة الجاني خلال تطبيق هذه الوسيلة، يقرّ التّشريع التّونسي باستناده إلى مبدأ تفريد العقوبة ومجاراته للرّكب الحديث.
ويفترض هذا النّظام أنّ الوقوع في الإجرام يفسّر بعوامل يجب الكشف عنها علميّا لتحديد الأساليب الكفيلة بعلاجها والقضاء عليها.
والتّفريد يقوم على فحص دقيق للشّخصيّة وإلمام بالدّوافع وتحديد السّبل الكفيلة للحدّ منها، كما لا يستقيم إلاّ إذا استكمل بتوجيه السّجين إلى برنامج التّأهيل الملائم لشخصيّته حسب ما كشف عنه الفحص([11]).
وقد أجمعت جلّ النّظم الحديثة على ضرورة فحص السّجين من طرف طبيب السّجن بمجرّد إيداعه وتكوين ملف صحّي تدوّن به جميع المعلومات المتعلّقة به عند كلّ فحص يخضع له([12]).
ويستأنس طبيب السّجن بنتائج الفحص السّابق ليبرز أنّ الفحص العقابي يمثّل امتدادا للأوّل ووسيلة لمعاينة التّطوّر الذي لحق شخصيّة الجاني.
تشتمل الفحوص التي تجرى على المحكوم عليه :
الفحص البيولوجي : حيث يخضع إلى فحوص طبيّة لاكتشاف إن كانت هناك علل بدنيّة من شأنها أن تقف عقبة في طريق التّأهيل.
كما يخضع السّجين إلى فحص عقلي للوقوف على الحالة العقليّة والعصبيّة للمحكوم عليه سعيا نحو إيجاد تناسق بينه وبين المعاملة العقابيّة التي ستسلّط عليه، وهذا النّوع من الفحوص يحدّد مدى مسؤوليّة السّجين عن أفعاله، وفي صورة الكشف عن مرض عقلي يكون مكانه غير السّجن وإنّما مستشفى للأمراض العقليّة([13]).
يدعّم الفحص النّفسي بجملة من الاختبارات تمكّن من تحديد درجة الذّكاء والذّاكرة والمستوى الذّهني وما وراء الشّعور لحسن اختيار المعاملة العقابيّة الملائمة.
ولا تزال هذه الاختبارات محدودة النّجاعة في التّوصّل إلى التّركيبة الصّحيحة للشّخصيّة ومعالم قيامها رغم تعدّد الاختبارات وتنوّعها، إلاّ أنّ السّؤال الذي يبقى مطروحا دائما، هل لها فهم المنحرف ؟ وهل يجب الوثوق بها كطريقة للبحث عن الحقائق ؟ لأنّنا لسنا متأكّدين من نجاعتها في قيس الشّخصيّة([14]) وهذه المرحلة تتطلّب وجود طاقم طبّي هامّ ومتخصّص قادر على تأطير كلّ هذه النّواحي.
عمليّا تتمّ هذه الفحوصات بعزل المحكوم عليه بغرفة انفراديّة وذلك قصد إبعاده عن تأثير الاختلاط وتوفير ظروف ملائمة للفحص، لكن قصر مدّة البقاء في هذه الوضعيّة أي عزل الوافد الجديد على السّجن تعكس حقيقة الاستناد إلى الفحص اللاّحق فعموما مدّة الإقامة لا تتجاوز اليوم الواحد (إلا نادرا)، كما لا تقتصر هذه المدّة على مجرد عرض السّجين على الفحص بل يمرّ بعدّة مراحل منها حلاقة الشّعر وأخذ البيانات منهم والكشف الطبّي([15])، فهل أنّ يوما واحدا قادرا على أن يجعل من هذا الفحص اللاّحق شاملا ودقيقا بصورة يحدّد معها خصائص كيان قائم الذّات ؟
كما لا يمكن تجاهل عدد الوافدين الجدد في نفس اليوم على السّجن والحال أنّه خصّص طبيب واحد للقيام بهذه الفحوص، ممّا يجعلنا نقرّ أنّ الاستناد للفحص الطّبّي اللاّحق غير دقيق بل أنّه يطبّق بصفة محتشمة جدّا، فلسوء الحظّ معظم المؤسّسات لا تحقّق هذا الغرض ودخول السّجن يعتبر حدثا مؤلما، حيث يدخل السّجين لأوّل مرّة فيفتش تفتيشا دقيقا خشية أن يحمل أو يخفي في جسمه أو ملابسه بعض الأشياء الممنوعة ثمّ تأخذ بصماته ثم تؤخذ له صورة فوتوغرافية ثم يعطى رقما معيّنا بدلا من اسمه يطلب منه أن يملأ عدّة استمارات ثم يرتدي ملابس المؤسّسة وقد يربت حارس السّجن على ظهره وهو يعطيه بعض الإرشادات والنّصائح إزاء حياته.
2- المراقبة الإداريّة
وهو ما يطلق عليه الفحص الإداري أو الفحص التّجريبي : تقوم به الإدارة في المؤسّسة العقابيّة والحرّاس عبر ملاحظة سلوك المحكوم عليه داخل المؤسّسة من حيث تعامله مع الإدارة وزملائه ومدى تجاوبه وتعاونه بشأن برنامج إعادة التّأهيل([16]).
وتتمّ هذه المرحلة بجمع المحكوم عليهم وملاحظة سلوكهم واستخلاص النّتائج على إثرها تأتي مرحلة تأصيل نتائج الفحص والتي تتجسّد في تحديد أنجع معاملة عقابيّة تتناسب وشخصيّة الجاني.
ولإبراز أهميّة هذه المرحلة على المستوى العملي، وجب التّطرّق إلى أبعاد اعتمادها أي الأهداف المنشودة من الإسناد إلى الفحص اللاّحق.
ب- أبعاد الفحص اللاّحق
إنّ الأهداف المنشودة من الإسناد إلى الفحص اللاّحق متنوّعة وتتمحور كلّها حول السّجين وتفادي السّلبيّات التي من الممكن أن تسلّط على المجتمع ككلّ، وقد حدّدت هذه الأهداف بالكشف عن([17]) :
ــ نوع ودرجة خطورة المحكوم عليه على المجتمع.
ــ عناصر عدم التّوازن في شخصيّته.
ــ مدى إمكانيّة إعادة تأهيله.
إنّ الفحص اللاّحق يتّجه إلى معرفة الجاني وتحديد تركيبة شخصيّته بغرض إصلاحه وتأهيله حتى يعود إلى المجتمع عضوا صالحا لا يفكر البتّة في ارتكاب جريمة أخرى وهو هدف لا يتحقّق إلاّ بدراسة الشّخصيّة من جميع جوانبها ثمّ تحديد العوامل الدّافعة للسّقوط في الإجرام ويلي ذلك اختبار وسائل الإصلاح الملائمة.
ــ وتحديد الخطورة الإجراميّة وانعكاسها على المجتمع تكون بفهم خصائص الاستعداد الإجرامي الذي قد يكون متأصّلا في المجرم أو مكتسبا وهو يمثّل مجموعة الظّروف النّفسيّة التي يكون معها من المحتمل ارتكاب جرائم مستقبليّة([18]).
والخطورة الإجراميّة درجات متفاوتة من حيث الجسامة :
* فيمكن أن تحدّد الجسامة بخطورة المصلحة المهدّدة أي أهميّة الحقّ، كما تحدّد الخطورة بنزعة الجاني فإمّا أن تكون عامّة أي قدرة الشّخص على ارتكاب جريمة أيّا كانت، أمّا الخطورة الخاصّة فهي نزعة الجاني الإجراميّة نحو جرائم معيّنة.
* كما يمكن أن تحدّد الخطورة استنادا إلى درجة احتمال وقوع جريمة مستقبليّة فكلّما كان الاحتمال كبيرا كلّما تأكدت الخطورة الإجراميّة([19]).
وكلّما تأصّلت هذه النّزعة الإجرامية وتدعّمت الخطورة الإجراميّة المتمثلة في الاستعداد المستقبلي لارتكاب الجرائم كلّما زاد الخطر على المجتمع، ممّا يستوجب ردع هذا الأخير وإصلاحه بكلّ الطّرق والتي لا تتحقّق إلاّ بالتّوصّل إلى :
-دوافع عدم التّوازن في شخصيّة الجاني وعلاج الانحرافات النّفسانيّة الموقظة للتّكوين الإجرامي في الجاني.
ليختلف العلاج حسب شخصيّة كلّ سجين، فعلاج المجرمين بالصّدفة يتطلّب ترسيخ الثّقة في نفوسهم وتوجيههم نحو مقاومة نوازع السّوء وإنماء قدراتهم وتعزيز ملكة الإرادة لديهم وإبعادهم عن محيطهم السّابق الذي أضرّ بهم.
أمّا المجرمين بالتّكوين فيتطلّب علاجهم فحصا دقيقا لبنيتهم وتكوينهم ولعلّ أهمّ وسيلة لعلاجهم هو التّصعيد النّفساني عبر إيجاد نوع من العمل تتبخّر فيه شحنة الغريزة الإجراميّة الكامنة فيهم، ويتحقّق ذلك تشغيلهم مع تعديل سلوكهم الإنحرافي وتهذيبهم أخلاقيّا ودينيّا، وبالتّالي إزالة العادات السّيّئة لذلك وجب تزويد المؤسّسات العقابيّة بأخصائيّين نفسانيّين قارّين يشخّصون المرضى ويصفّون العلاج، كما يتعيّن أن يكون الفحص النّفسي معمّما على جميع السّجناء دون استثناء، فكلّ محكوم عليه يدخل السّجن يتعرّض إلى صدمة نفسيّة تؤثر عليه وقد تخلق لديه عدوانيّة ونقمة على المجتمع فتستفحل خطورته وتخلق منه مجرما خطيرا، أمّا الأطفال فتجرى عليهم الاختبارات النّفسيّة اللاّزمة لتقدير حالتهم ورسم طرق العلاج، لأنّ قابليّة التّقويم لديهم أكبر مقارنة بالرّشد لحداثة سنّهم وقلّة وعيهم.
كما تعمل المؤسّسات على عقد اجتماعات إرشاديّة جماعيّة لعلاج الأحداث وتحوّل الحالات التي تحتاج إلى خدمات متخصّصة إلى المصحّات النّفسيّة الخارجيّة، ويبقى الطّبيب النّفسي على اتّصال مع الإدارة من أجل مراقبة الحدث وتوجيه المربّين إلى الأساليب الواجب اعتمادها في تربيته([20]).
وتتجاوز أهداف الفحص اللاّحق دراسة الخطورة الإجراميّة وعلاج المجرمين لتشمل وضع المعاملة العقابيّة الملائمة لكلّ فرد والقادرة على إصلاحه وردعه.
لكن قد تصطدم باختلاف الواقع عمّا دعا له الفقهاء ونصّت عليه القوانين ويعود ذلك لعديد الأسباب.
فالفحص الطّبّي اللاّحق يتطلّب توفّر مراكز مختصّة لمثل هذه الفحوص، كما يستدعى تواجد أطبّاء مختصّين ومساعدين لهم وآلات ومعدات وهو ما سمّي بمركز الاستقبال المخصّص لتغطية هذه المرحلة وللأسف فالمؤسسات التي تحتوي هذا المركز قليلة جدّا، بل إنّ تواجدها اقتصر على دول دون أخرى على غرار المركز الوطني للتّوجيه “بفرنسا” المعروف بمركز Fresnes أين يوجّه المحكوم عليهم للخضوع للملاحظة الطّبيّة والاجتماعيّة والنّفسيّة لفترة تدوم ثلاثة أشهر([21]).
وفي إيطاليا نجد معهد الملاحظة العلميّة للمحكوم عليهم ومقرّه “روما” ويتولّى هذا المعهد تقرير المعاملة المفردة الأكثر ملاءمة بالنّسبة للمحكوم عليه.
أمّا مصر فقد نظّمت اللاّئحة الدّاخليّة للسّجون بعض قواعد فحص المحكوم عليهم، وقد وقع بعث “مركز طردة” وهي تجربة باءت بالفشل نظرا لقلّة الإمكانيّات والاختصاصات.
يجب الإقرار بأهميّة هذه المراكز وما تحمله من إيجابيّات على مستوى تطوير شخصيّة السّجين أو حسن تحديد المعاملة العقابيّة الملائمة بأكثر نجاعة وبسبل علميّة.
لذا فقد دعا الأستاذ إسماعيل بن صالح العياري إلى إنشاء مركز استقبال بتونس شبّه (بالمركز الوطني للتّوجيه) بفرنسا([22])، لكن لم يشجّع على بعثه لقلّة الإمكانيّات المادّيّة مقارنة بما يجب أن ترصد.
وبناء على ما عرض نتبيّن أهميّة الفحص اللاّحق في تحقيق التّفريد العقابي وهو لا يمثّل الوسيلة الوحيدة بل نستند إلى العزل والتّصنيف كأداة هامّة لحماية الفرد وشخصيّته من التأثّر بالمحيطين به، لكي لا يلحق به الأذى ويهدر آدميّته، لتعدّد الضّمانات والوسائل الحافظة لكرامة السّجين ومحقّقة لإصلاحه.
الفقرة الثّانية : اعتماد التّصنيف كأداة لحماية شخصيّة السّجين
يراد بالتّصنيف توزيع المحكوم عليهم على المؤسّسات العقابيّة ثمّ تقسيمهم داخل المؤسّسة الواحدة إلى فئات بما تقتضيه ظروف كلّ فئة من اختلاف في أسلوب المعاملة، إذ يمثّل التّصنيف أسلوب في الاستقصاء والبحث والمعاملة([23])، والهدف من تكريسه مراعاة شخصيّة كلّ سجين والبحث عن الوسائل القادرة على جعل الفئات متقاربة من ناحية القدرة الإجراميّة والنّوازع الكامنة فيهم لكي لا يقع الاختلاط بينهم ممّا يؤثر سلبا على شخصيّة المحكوم عليهم لتتحوّل المؤسّسة العقابيّة إلى مدرسة لتعليم الإجرام عوضا عن مؤسّسة لإصلاح وتأهيل الجاني عبر تحديد نوع المعاملة التي تتماشى واستعداداته النّفسيّة والجسديّة([24]).
لقد بدأ الاهتمام بفكرة التّصنيف مع المدرسة الوضعيّة وتركيزها على دراسة شخصيّة المجرم، إذ اجتهد العلماء منذ ذلك الحين إلى تقسيم المجرمين إلى فئات، ورغم أنّ تلك التّقسيمات كانت غير علميّة بل في بعض الحالات غير دقيقة، إلاّ أنّها ذات أهميّة فهي تسهّل تقييم العوامل الدّافعة إلى الإجرام وتساعد على استخلاص سبل الإصلاح والعلاج الأكثر فاعليّة استنادا إلى حالة كل مجرم، وللتّصنيف أهميّة أساسيّة في تجسيد ملامح النّظام العقابي الحديث، حيث يمثّل الوسيلة الوحيدة القادرة على توفير هذا الهدف ما دام يفترض خلق ملاءمة بين الشّخصيّة الإجراميّة والمعاملة العقابيّة عبر وضع برنامج معاملة مستمدّة من عناصر الشّخصيّة([25]).
من هذا المنطلق تقرّر مبدأ تفريد المعاملة العقابية عبر مراعاة شخصيّة المحكوم عليه وخصائصها وحسن تصنيفهم داخل المؤسّسة السّجنية (أ) أو داخل المؤسّسة الإصلاحيّة الخاصّة بالأطفال (ب) على حدّ السّواء، فالهدف واحد من استحداث آليّات وطرق لتنفيذ العقوبة الملائمة بالشّكل الذي يتناسب مع شخصيّة الجاني سواء كان كهلا أو طفلا.
أ- مراعاة مبدأ الملاءمة داخل المؤسّسة السّجنيّة
يقصد بالتّصنيف توزيع المحكوم عليهم على المؤسّسات العقابيّة استنادا إلى أصنافهم ومدى فداحة الفعل الذي ارتكبوه وهذا التّصنيف المبدئي يعتمد الخطورة الإجراميّة التي يعكسها الفعل المرتكب، عبر فصل كلّ صنف عن الآخر لكي لا يقع الاحتكاك بينهم والتّأثير على المجرمين الأقلّ خطورة. وقد تطور التّقسيم عمّا كان معمول به في ظلّ أمر 1988 حيث تعتمد مدّة الحبس كمعيار للتقسيم تجاوزت في ظلّ قانون 2001 حاول فيه المشرّع الأخذ بشخصيّة السّجين بالقدر الذي يسمح به الإمكانيّات المتاحة لينقسم إلى :
-سجون الإيقاف تأوي الأشخاص الموقوفين تحفّظيّا والذين لم تثبت إدانتهم بعد.
-سجون التّنفيذ تأوي أشخاص محكوم عليهم بعقوبات سالبة للحرية أو بعقوبة أشد.
-السّجون شبه المفتوحة تأوي الأشخاص المحكوم عليهم من أجل جنح والمؤهّلين في العمل الفلاحي.
ولتدعيم هذا التّصنيف وإضفاء النّجاعة عليه يقع تقسيمهم داخل المؤسّسة العقابيّة الواحدة إلى فئات تتشابه ظروف أفرادها بهدف إخضاع كلّ فئة للمعاملة العقابيّة الملائمة لها([26]). والغرض من ذلك فصل المساجين لتفادي تأثيرهم سيّء على زملائهم بسبب ماضيهم الإجرامي أو فساد أخلاقهم تقوم عملية التّصنيف على :
-دراسة المعطيات الشّخصيّة :
للتّصنيف أهميّة أساسيّة في النّظام العقابي الحديث، فهو يفرض تحقيق الملاءمة بين الشّخصيّة الإجراميّة والمعاملة العقابيّة وقد دأبت جلّ التّشريعات على اعتماد تصنيف يتماشى وأساليب التّنفيذ المعتمدة والفلسفة العامّة للعقاب، لذلك دعت النّدوة العربيّة الإفريقيّة حول العدالة الجنائيّة والإصلاحات السّجنيّة أن تحدث في كلّ إدارة سجون بكلّ دولة لجنة للتّصنيف الفنّي للنّزلاء مزوّدة بالعدد الكافي من المتخصّصين تضع الخطوط العريضة لبرامج المعاملة الخاصّة بكلّ سجن، فبعث مثل هذه اللّجنة من شأنه أن يساهم بدور فعّال في تفريد المعاملة الجنائيّة.
في هذا الإطار نشير أن تكريس آليّة التّصنيف تقوم على دراسة المعطيات الشّخصيّة لكلّ محكوم عليه بصفة علميّة فخصّص لهذا الغرض :
* عيادة تصنيف :
حيث أحدث بكلّ مؤسّسة عقابيّة مكتب يضمّ عددا من الأخصّائيّين ويعنى هذا المكتب بدراسة دقيقة وتحاليل فرديّة تتناول عناصر شخصيّة المحكوم عليه للوقوف على جوانبها الإجراميّة التي دفعته إلى عالم الجريمة والانحراف يتقدم على إثرها بتوصيات بشأن العلاج واختيار أسلوب المعاملة الملائم لخاصّيات كلّ نزيل وتبقى مهمّة هذا المكتب استشاريّة لا تلزم بها الإدارة العقابيّة.
غير أنّ فاعليّة التّصنيف على أساس المعطيات الشّخصيّة يبقى رهين المؤهّلات الفنّيّة المتوفّرة، ففحص شخصيّة السّجين يعدّ عملا علميّا يستلزم إطارات علميّة متخصّصة ووسائل متطوّرة وهو ما يحدّ من نجاعة هذا التّوجّه على مستوى التّكريس.
* تكريس معايير التّصنيف :
جاء قانون عدد 52 لسنة 2001 المتعلق بنظام السّجون ليعكس التّوجّهات العامّة للسّياسة العقابيّة التي دعّمت قاعدة الأخذ بشخصيّة الجاني عند تنفيذ العقوبة والذي يعدّ امتدادا للتّفريد القضائي ويتجسد من خلال إعطاء وجود قانوني وفعلي للتّنفيذ الجزائي داخل المؤسّسة العقابيّة.
فبعد أن وقع تخصيص السّجون وجب تأطير الإقامة داخلها مع ما يتماشى وأحدث النّظم العقابيّة لتدارك نقائص التّصنيف القديم([27]) ومجارات الرّكب الحديث، وبرز هذا التّمشّي باختيار معايير تصنيف تتمحور حول مراعاة المعطيات التي قد تؤثّر في الشّخصيّة. فنصّ الفصل السّادس من قانون 14 ماي 2001 “يقع تصنيف المساجين بمجرّد إيداعهم على أساس الجنس ونوع الجريمة والحالة الجزائيّة بحسب ما إذا كانوا مبتدئين أو عائدين”. كما روعي في تكريس المبدأ الفصل بين الرّجال والنّساء، إذ أكّد الفصل 7 من نفس القانون ضرورة أن “يتمّ إيداع السّجينات إمّا بسجن النّسوة أو بأجنحة منعزلة ببقيّة السّجون”.
والتّصنيف حسب ما تقتضيه قواعد التّفريد العقابي سيحول دون اختلاط المساجين لتجنّب انعكاساته السّلبيّة من تأثّر فئة بأخرى وإضعاف قابليّتها للإصلاح، فلا يحقّق الغرض من الجزاء الجنائي([28]). لكن بدا المشرّع الفرنسي أكثر دقّة ووضوح بأن أضاف معايير مراعاة شخصيّة المحكوم عليه في عمليّة التّصنيف وهو ما نصّ عليه الفصل 718 م ا ج ف.
Art 718 C.PP.Fr : « La répartition des condamnées dabs les prisons étables pour peines s’effectue compte tenu de leur catégorie pénale de leur âge de leur état et santé et de leur personnalités ».
ممّا يضيف إلى معيار التّصنيف طابعا إنسانيّا وتفريديّا وتنزع عنه طابع العموميّة والتّجريد.
أمام تطوّر التّشريع الفرنسي ووضوحه فهو يقرّ بأهميّة دراسة الشّخصيّة للتوصّل إلى معرفة مواطن الخلل فيها، وبالتالي وضع البرنامج العقابي الملائم والقادر على إصلاح المحكوم عليه ممّا يوجب على المشرّع التّونسي أن يتدخّل لإضافة عامل شخصيّة السّجين ضمن معايير التّصنيف وذلك تحقيقا للانسجام بين مختلف النّصوص القانونيّة فالتّوجّه التّشريعي اليوم يأخذ بمفهوم تفريد العقاب عند التّنفيذ عبر دراسة شخصيّة السّجين وتدعّم ذلك من خلال تدعيم موقع ومهامّ قاضي تنفيذ العقوبات، والملاحظ أنّ مشرّعنا متردّدا في تعميم هذا المبدأ نظرا لقلّة الإمكانيّات والإطارات المتخصّصة، لكنّه يحاول قدر الإمكان الفصل بين الفئات لتفادي مضارّ الاختلاط ويراعي في ذلك شخصيّتهم خاصّة بالنّسبة للأطفال.
ب ـ مراعاة مبدأ الملاءمة داخل المؤسّسة الإصلاحيّة
أقرّ المشرّع التّونسي ضرورة الفصل بين الأطفال الجانحين والمجرمين البالغين([29]) والسبب يعود إلى اختلاف الخطورة الإجراميّة. ولتفادي سلبيّات الاختلاط بينهما تأثير عليهم خاصّة أنّ علم النّفس أثبت أنّ هذه الفئة تميل إلى التّقليد والإقتداء بمن هم أكبر منهم سنّا.
لهذا الغرض بعثت مراكز الإصلاح لإيواء الأطفال المنحرفين والمودعين لديها من طرف السّلطة القضائيّة ذات النّظر، ومن المعلوم أنّ برامج المعاملة العقابيّة تكتسي خصوصيّة تفردها عن غيرها مردّها دقّة شخصيّة النّزلاء فيها أي الأطفال، فهم في مرحلة حرجة تتميّز بعدم الاكتمال وقلّة الإدراك، ما يعبّر عنه بعامل المراهقة وتعني لغة “الاقتراب من الشّيء أي الاقتراب من الاحتلام وهي فترة تمتدّ من بلوغ الحلم إلى سن الرّشد”، أمّا في علم النّفس فهي تعني “الاقتراب من النّضج الجسمي والعقلي والنّفسي والاجتماعي”، ولكنّه ليس النضج نفسه لأنّ الفرد في هذه المرحلة يبدأ بالنّضج العقلي والجسمي والنّفسي ولكنه لا يصل إلى اكتمال النّضج إلاّ بعد سنوات عديدة([30])، وأمام خصوصيّة شخصيّة الطّفل فمن الممكن اعتباره ضحيّة تضافر عدّة عوامل عائليّة واجتماعيّة مثّلت دافعا نحو انحرافه، وجب أخذه يعين الاعتبار في تحديد المعاملة العقابيّة الملائمة لشخصيّته والقادرة على إصلاحه وتقويمه.
وقد برز هذا النّهج بصدور مجلّة حماية الطّفل بمقتضى القانون عدد 92 لسنة 1995 المؤرّخ في 9 نوفمبر 1995، تدعّمت أحكامها بمقتضى الأمر عدد 2423 لسنة 1995 المؤرّخ في 11 ديسمبر والمتعلّق بالنّظام الدّاخلي الخاصّ بمراكز الأحداث، وتميّز هذا النّظام بالاستناد إلى دراسة ومراقبة تطوّر شخصيّة الطّفل أثناء تواجده بالمركز الإصلاحي والتدرّج به بعدّة مراحل تختلف فيها المعاملة فتكون قابلة للتّعديل مع تطوّر استعدادات وميولات شخصيّة الحدث.
1- اعتماد النّظام التّدريجي
تعتمد مراكز إصلاح الأطفال الجانحين النّظام التّدريجي باعتبار الخدمات المقدّمة لكلّ صنف وعلى أساس التّطوّر الحاصل لدى الطّفل المنحرف([31])، ويعد هذا النّظام الأنسب لتحقيق الأهداف أي لإصلاح وتقويم هذه الشّريحة.
ويستند نجاح هذا النّظام إلى حسن مراقبة وملاحظة التّطوّرات الحاصلة في شخصيّة الطّفل، لذلك اتّسم هذا النّظام بالدّيناميكيّة والتّطوّر إذ يمكن تعديل المعاملة العقابيّة بمرور الزّمن وتطوّر شخصيّة الطّفل حتى يتسنّى تأطيره وخلق التّوازن مع التّطوّرات الحاصلة على شخصيّته للتّوصّل إلى إصلاحه وإبعاده عن عالم الإجرام.
ويبرز هذا التّدرّج من خلال ما نصّ عليه الفصل 3 من الأمر المتعلق بالنّظام الخاص بمراكز إصلاح الأحداث المنحرفين “يتمّ بالتّعاون مع قاضي الأحداث بتوجيه الأحداث إلى مختلف هذه الأنظمة بالتّدرّج إثر قضاء فترة ملاحظة تشفع بدراسة حالة الحدث لتقييم تطوّره السّلوكي والنّفساني والمهني”. إنّ الإلمام بخصائص شخصيّة الحدث تقضى توفّر إطارات وأخصائيّين في مجالات عديدة يناط كلّ منهم مهمّة تحليل وتفسير شخصيّة الحدث والأسباب المؤثّرة فيه وتحديد الصّنف الذي ينتمي إليه هذا الطّفل في المعاملة الملائمة له التي تكون قـادرة على استيعاب خصوصيّاتـه وتطوّر استعداداته وحثّه نحو الإصلاح وتتمثّل هذه الأنظمة في :
* نظام الرّعاية المركّزة :
يشمل هذا النّظام الأطفال الجانحين الذين تأصّلت فيهم النّزعة الإجراميّة فأصبحوا صعاب المراس، ممّا يوجب إخضاعهم إلى رعاية ومراقبة مكثّفة قادرة على تأطيرهم وردعهم.
كما يوجّه إليه الأطفال الجانحون الذين لم تتحدّد ملامح شخصيّتهم بعد وكذلك أولئك المدانون بجرائم خطيرة([32]) أو العائدين أو الذين اتّخذ بشأنهم إجراء تأديبي.
ويسند للمدير العامّ للسّجون والإصلاح توجيه الطّفل إلى هذا النّظام بمقتضى مقرّر لإيمانه بوجود خلل كبير في شخصيّته يتطلّب رعاية ومراقبة بالغة لردعه وإصلاحه.
* النّظام شبه المفتوح :
يتمتّع بمثل هذا النّظام الأطفال الذين وقع دراسة وضعيّاتهم من قبل الأخصّائيّين الاجتماعيّين والنّفسانيّين أو الذين برز على شخصيّتهم تطوّر هامّ انعكس على سلوكهم يؤكّد تفاعلهم مع نظام الرّعاية المركّزة واستعدادهم لتغيّر برامج الإصلاح والتّأهيل([33])، ويمثل هذا النّظام مكافأة للطّفل الذي أبدى استعدادا نفسيّا وذهنيّا للتّأقلم مع البرامج التّأهيليّة والذي أثبت أنّه قادر على تحسين شخصيّته لأنّ النّوازع الإجراميّة غير متأصّلة فيه وإنّما مكتسبة لقلّة إدراكه وتقبّله بمعطيات خارجيّة أثّرت فيه بصفة سلبيّة.
* النّظام المفتوح :
حدّد الفصل السّادس من أمر 11 ديسمبر 1995 المتعلق بالنّظام الدّاخلي الخاصّ بمراكز إصلاح الأحداث المنحرفين، خصائص الأطفال المتمتّعين بهذا النّظام وهم “ذوي السّيرة والسّلوك الحسن والمؤهّلين للمغادرة ويمكنهم من مواصلة التّعليم والتّكوين ومن الشّغل خارج المركز مع ضمان العودة والإقامة به وقت الفراغ”.
هذا النّظام يمسّ شخصيّة الطّفل الذي يبدي رغبة أكيدة في إصلاح نفسه، فبمنحه هذا النّظام جوّ من الثّقة بينه وبين المؤسّسة الإصلاحيّة التي ترمي على كاهل الطّفل الإحساس بالمسؤوليّة ويوقظ فيه فكرة الواجب الذي يمكنه من تطوير شخصيّته ليكون فردا ناجعا ومرحّبا به في المجتمع.
باستناد الفعل والتّصنيف لمعيار شخصيّة المجرم وتقارب الاستعدادات الكامنة فيهم، حاول المشرّع تحديد النّظام العقابي القادر على تحقيق الأبعاد الحديثة للتّنفيذ العقابي ألا وهي الإصلاح والتّأهيل لخلق إنسان سوى ناجع في المجتمع.
المبحث الثّـاني : آليّات الملاءمة عند التّنفيذ
وضع المشرّع جملة من الآليّات التي تتلاءم وشخصيّة الجاني والتي من خلالها يمكن تعديل العقوبة حسب التّطوّر الذي شمل شخصيّة هذا الأخير طيلة التّنفيذ وحتّى بعد خروجه وإتمام عقوبته.
فالجاني لم يعد يمثّل عدوّ المجتمع المعرّض في كلّ آن وحين إلى المعاملة القاسية بل أصبح له حقوق وكيان([34])، ويجب حمايتهما والأخذ بالاعتبار تكيف الجاني مع المعاملة العقابيّة التي سلّطت عليه وتقييم مدى نجاعتها عبر ملاحظة تصرّفات وأفعال المحكوم عليه داخل السّجن ومكافأته على تحسين ما بذاته وتجاوز نوازعه الإجراميّة من خلال إسناد آليّات قانونيّة، إما للحطّ من العقوبة (فقرة أولى) أي أنّها آليّة تسند إلى الجاني الذي قضّى فترة هامّة في تنفيذ العقوبة وتوضّح إنصلاحه وحسن سلوكه عبر الملاحظة داخل الفضاء العقابي أو أن تكون الآليّة ملغية للعقوبة (فقرة ثانية) بصفة نهائية أو وقتيّة وذلك استنادا إلى وضعيّة الجاني أو مدى وعيه بخطئه بنفسه وإقدامه على إصلاحه.
الفقرة الأولى : آليّات الحطّ من العقوبة
تسند هذه الآليّات إثر قضاء الجاني لفترة هامّة من عقوبته وتكيفه مع المعاملة العقابيّة التي سخّرت له، وتعتبر هذه الآليّة بمثابة المكافئة التي سنّها المشرّع لتحفيز الجاني على الإنصلاح ومراعاة المجهود الذي بذله هذا الأخير لتقويم شخصيّته وإقصاء النّوازع الإجراميّة الكامنة فيه.
فنصّت مجلة الإجراءات الجزائيّة على إجراءين هامّين يأخذان بتطوّر شخصيّة السّجين ويعكسان التوجّه الحديث نحو الأخذ بشخصيّة الجاني.
وهما منح السراح الشّرطي (أ) وإسناد العفو الخاص (ب).
أ- منح السّراح الشّرطي
يعتبر السّراح الشّرطي من أهمّ الوسائل الآخذة بشخصيّة الجاني في فترة تنفيذ العقوبة، ويقصد به “تعليق تنفيذ الجزاء الجنائي قبل انقضاء المدّة المحكوم بها متى تحقّقت بعض الشّروط والتزم المحكوم عليه باحترام ما يفرض عليه من إجراءات خلال المدّة المتبقّية من ذلك الجزاء”([35])، إذا هو وسيلة إجرائيّة تمكّن من إيقاف التّنفيذ إذا اكتملت في المحكوم عليه بعض الشّروط وقد أورده المشرّع بالفصول 353 إلى 360 م ا ج([36]) والتمتّع بالسّراح الشّرطي يمثّل امتيازا أو مكافأة للسّجين كجزاء لحسن سيرته داخل السّجن وتشجيعا لحمله على حسن السّلوك.
فوضع مثل هذه الآليّة من المشرّع وعلم السّجين بها من شأنه أن يمثّل حافزا لتغيّر شخصيّته وتدارك مواطن الخلل فيه من خلال حسن سلوكه وتصرّفه في المؤسّسات العقابيّة، فمن المجدي في هذه الحالة أن يقع تعديل العقوبة عند التّنفيذ تبعا لهذا التّغيّر الذي ألمّ بشخصيّة السّجين، لكن التّمتّع بهذا النّظام القانوني الانتقائي يتطلّب توفّر شروط :
* شروط تتعلّق بالمحكوم عليه :
تتمثل في إثبات حسن سيرته داخل السّجن والتّحكّم في تصرّفاته ويبرز ذلك إذا لم يسبق إحالة السّجين على مجلس التّأديب ولم تلحق به أيّة عقوبة على معنى القانون عدد 20 لسنة 2001 المؤرخ في 14 ماي 2001 المتعلق بالسّجون([37]) وبمعاينة تصرّفاته فترة قضائه للعقوبة يلاحظ أنّ سراحه أفضل لصالح المجتمع وللهياكل المختصّة بالنّظر في مطلب السّراح تقدير هذا الشّرط.
* الشّروط المتعلّقة بالمدّة المقضاة :
من غير الجائز تمتيع المحكوم عليه بالسّراح الشّرطي إلاّ بعد أن يقضّي داخل المؤسّسة السّجنيّة مدّة من العقوبة كفيلة بتحقيق الرّدع والإصلاح، وهو ما جعل التّشريعات الجزائيّة تحدّد مدّة من العقوبة السّالبة للحرّيّة يتعيّن على المحكوم عليه أن يقضيها داخل المؤسّسة السّجنيّة قبل منحه السّراح الشرطي ولقد ذهبت جلّ التّشريعات إلى تحديدها بثلثي العقوبة المحكوم بها، مثال ذلك ما نصّ عليه الفصل 57 من قانون العقوبات الألماني والفصل 38 من قانون العقوبات السّويسري والفصل 15 من قانون العقوبات الهولندي([38]).
بينما ذهبت بعض التّشريعات الأخرى إلى تحديد تلك المدّة بثلاثة أرباع المدّة المحكوم بها مثال ما نصّ عليه الفصل 52 من قانون تنظيم السّجون المصري، وهناك من التّشريعات من استندت إلى شخصيّة الجاني وخصائصها وأقامت تفرقة في تحديد تلك المدّة بين المحكوم عليهم المترشّحين للسّراح الشّرطي بحسب ما إذا كانوا مبتدئين أو عائدين وقد تبنّى هذا الاتجاه بالخصوص المشرّعان الفرنسي والتّونسي، فقد نصّ الفصل 729 م ا ج ف في فقرته الثّانية أنّه مع مراعاة أحكام الفصل 132/23 من المجلّة الجنائيّة يمكن منح السّراح الشّرطي إذا كانت مدّة العقوبة المقضاة من قبل المحكوم عليه مساوية على الأقلّ للمدّة المتبقيّة من العقاب على أنّ المحكوم عليه في حالة العود على معنى الفصل 132/8 و132/9 من المجلّة الجنائيّة الفرنسيّة لا يمكن لهم التمتّع بالسّراح الشّرطي إلاّ إذا كانت مدّة العقوبة المقضات مساوية على الأقلّ لضعف المدّة المتبقيّة من العقاب.
وقد ضبط الفصل 354 م ا ج هاته الآجال فإذا كان المحكوم عليه يعاقب لأوّل مرّة تكون المدّة نصف مدّة العقاب أو العقوبات على أن لا تقلّ مدّة العقاب التي قضّاها عن ثلاثة أشهر، أمّا إذا كان المنتفع من ذوي السّوابق العدليّة فالمدّة تحدّد بثلثي مدّة العقاب أو العقوبات على أن لا تقلّ مدّة العقاب التي قضّاها المحكوم عليه عن ستّة أشهر أو تكون مدّة الاختبار خمسة عشر سنة بالنّسبة للمحكوم عليهم بالسّجن بقيّة العمر، ويعزو الفقهاء وجوب تنفيذ السّجين لجزء محدّد من العقوبة أنّ ذلك الإجراء يساهم في ضمان بقاء السّجين داخل السّجن فترة من الزّمن تكفي لإصلاح الخلل الذي أصاب شخصيّته عبر دراسة تصرّفاته وتقييمها للتوصّل إلى وضع معاملة عقابيّة تلائم شخصيّته([39]).
وتدعّم مبدأ الأخذ بشخصيّة السّجين من قبل المشرّع من خلال الفصل 355 م ا ج أين استثنى بعض الحالات من ضرورة توفير الشّرط المتعلّق بحسن سيرة المحكوم عليه وشرط المدّة وذلك في ثلاث حالات بالنّسبة للمحكوم عليه البالغ الستّين عاما في تاريخ سراحه نظرا لضعف خطورته الإجراميّة مقارنة بعمره ودوافع شخصيّته، كذلك المحكوم عليه إذا لم يبلغ العشرين سنة كاملة ويفسّر ذلك بسعي المشرّع للأخذ بشخصيّة الطّفل الذي لم يبلغ سنّ الرشد والذي تبقى شخصيته غير قادرة على استيعاب القوانين بسبب صغر سنّه([40])، لذلك لا يجب أن يتعرّض لعقوبات قاسية لأنّ مسؤوليّته مخفقة وشخصيّته قابلة للإصلاح بسرعة لضعف النّوازع الإجراميّة المكتسبة وغير المتأصّلة فيه، ممّا يجعلنا نسلم بأنّ السّياسة التّشريعيّة الحديثة في مجال جنوح الأطفال أصبحت ترتكز على فكرة الإصلاح وتستبعد إبقاء العقاب الذي تجعله ثانويّا([41]).
وأخيرا يمنح السّراح الشّرطي بصفة استثنائيّة إذا كان المحكوم عليه مصابا بسقوط خطير أو مرض عضال لما لهذه الأمراض من انعكاسات سلبيّة على شخصيّة السّجين وحالته النّفسيّة وبقاؤه في السّجن قد يخلق لديه شعورا بالنّقمة تجاه المجتمع، ممّا يجعل ردود أفعاله متهوّرة وإذا كانت حالة المرض والجنون لا تمثّل صورا في الإشكال التّنفيذي فإنّه يمكن من خلال إجراءات السّراح الشّرطي إيجاد الحلّ بالنّسبة إلى هذه الحالات وذلك بتمتيع المحكوم عليه بالسّراح الشّرطي أو وضعه بمؤسّسات خاصّة([42]).
* إجراءات منح السّراح الشّرطي :
استنادا إلى الفصل 356 م ا ج فقرة أولى يمنح السّراح الشّرطي بقرار من وزير العدل بناء على موافقة لجنة السّراح الشّرطي، كما يمنحه قاضي تنفيذ العقوبات في حالات خاصّة في القانون([43])، وتتّسم إجراءات منح السّراح الشّرطي بالبساطة والأخذ بشخصيّة الجاني من خلال مكونّات ملفّ طلب السّراح الشّرطي والذي يتضمّن مجموعة إرشادات ووثائق وتقارير تمكّن من تقدير الخطورة الإجراميّة الكامنة في شخصيّة المحكوم عليه وتوضح مدى تفاعله مع المعاملة العقابيّة التي سلّطت عليه أو بالأحرى مدى تطوّر شخصيّته وآثار تمتّعه بالسّراح الشّرطي سواء على تصرّفاته أو على المجتمع ككلّ، كما وسّع نطاق الأطراف الذين خوّل لهم حقّ طلب التّمتّع بالسّراح الشّرطي فلم يقتصر على صاحب الحقّ أي الجاني وإنّما مكّن أصول أو فروع السّجين أو قرينته أو ولّيه الشّرعي بناءا على اقتراح من مدير السجن([44])، لتنظر في الطّلب اللّجنة وتحقّق من توفّر الشّروط ثمّ تحيله إلى الوزير المكلف بالعدل بعد موافقتها، ليتّخذ في ذلك القرار المناسب الذي يصدر إمّا مجرّدا دون قيد أو شرط، كما يمكن أن يفرض القرار على الشّخص المتمتّع بالسّراح الشّرطي الإقامة المحروسة إذا لم يكن محكوما عليه بتحجير الإقامة أو المراقبة الإداريّة أو وضعه وجوبا بمصلحة عموميّة أو مؤسّسة خاصّة([45]).
-أبعاد إسناد السّراح الشّرطي :
إنّ الهدف من اعتماد هذه الآليّة هو حماية شخصيّة السّجين الذي ارتدع وأصلح ما بنفسه من أخطاء والتي تبرز من خلال تصرّفاته أثناء قضاء العقوبة بالسّجن، فالتمتّع بالسّراح الشّرطي يوقف تنفيذ باقي العقوبة السّالبة للحريّة من دون التّأثير على العقوبات التّكميليّة، لكن بما أنّ السّراح الشّرطي يمثّل إليه لتحقيق الملاءمة بين تطوّر شخصيّة السّجين وأعراض العقوبة التي أصبحت تطبّق لإصلاح وتأهيل الجاني، فإنّ المشرّع أقرّ أهميّة إيقاف تنفيذ العقوبة والإفراج عن السّجين لتحقّق الغرض المنشود ويبقى السّراح الشّرطي قرارا غير نهائي وإنّما مشروط يمكن الرّجوع فيه إذا ثبت سوء سلوك المنتفع به واقترافه لجرم([46])، وعملا بمبدأ توازي الصّيغ والإجراءات فإنّ إلغاء السّراح الشّرطي يتمّ من طرف وزير العدل بعد أخذ رأي لجنة السّراح الشّرطي، وإذا تمّ إلغاء قرار السّراح الشّرطي فإنّ المحكوم عليه يستأنف تنفيذ العقاب السّالب للحريّة أملا للتوصّل لإصلاحه واستفاقة ضميره بعد انقضاء العقوبة كاملة.
ب- إسناد العفو الخاصّ
تعرف هذه الآليّة بأنّها إسقاط للعقاب أو الحطّ من مدّته أو إبداله بعقاب آخر أرفق نصّ عليه القانون([47]).
نظّم المشرّع التّونسي العفو الخاصّ بالفصول 371، 372، 373، 374 و375 من مجلة الإجراءات الجزائيّة، في حين لم يعطي له تعريفا وقد عرّفه الفقهاء على أنّه “إجراء شخصي يمنح لشخص واحـد أو أكـثـر لنوع معيّن من الجرائم”([48]). أمّا استنادا إلى الفصل 371 م ا ج فهو يمثّل إسقاط العقاب المحكوم به أو الحطّ من مدّته أو إبداله بعقاب آخر أخفّ منه نصّ عليه القانون، إذا هو يمثّل إجراء يسعى من خلاله المشرّع خلق ملاءمة بين تطوّر شخصيّة الجاني وطبيعة العقوبة المسلّطة عليه، ليقع تدارك الأخطاء القضائيّة وثانيا للتّخفيف من صرامة العقوبة وتحقيق توازن بين العدل والرّحمة وأخيرا لتشجيع المحكوم عليه على إصلاح حاله([49])، ونظرا لأنّ العفو الخاصّ يعدّ إجراء شخصيّا ينال شخصا ثبتت جدارته واستحقاقه لتطوّر شخصيّته نحو الأفضل نتيجة لحسن اختيار العقوبة الملائمة، سعى المشرّع لتنظيم ووضع شروط للتمتّع بهذه الآليّة خاصّة أنّ العفو الخاصّ كان محلّ انتقادات عديدة من قبل الفقهاء باعتبار أنّه يدخل شيء من الشّكّ والضّبابيّة فيما يخصّ حتميّة تسليط الجزاء واستكمال تطبيقه إلى انتهاء المدّة المحكوم بها.
-شروط منح العفو الخاصّ :
اقتضى الفصل 372 م ا ج أنّ حقّ العفو الخاصّ يمارسه رئيس الجمهوريّة استناد إلى تقرير من كاتب الدّولة للعدل بعد أخذ رأي لجنة العفو، لا يشمل العفو الخاصّ إلاّ المحاكمات الباتّة بمعنى يمنح في الأحكام التي استنفذت الطّرق العاديّة وغير العاديّة للطّعن، إذا ينسحب على كلّ العقوبات سواء كانت بالإعدام أو بالسّجن أو بالخطيّة إلاّ إذا تمّ خلاصهما فلا ترجع حسب صريح الفصل 374 م ا ج.
إذا يمنح العفو الخاصّ على من سلّط عليه الجزاء لوضعه في مواجهة مع العقوبة التي حدّدت له، كما يبرّر إسعاف المحكوم عليه بإجراء العفو بجملة من الأسباب، منها حسن سلوك الجاني فقد جرى العمل على اعتماده من قبل لجنة العفو التي تتعهّد بمقتضى طلب من المحكوم عليه أو نائبه أو كل من له مصلحة في العفو خلال المناسبات الوطنيّة أو بدعوة من رئيس الدّولة، وتدرس الملفّات ويحرّر تقريرا يحيله وزير العدل على رئيس الدّولة الذي يصدر أمرا في العفو عند الموافقة([50]). كما يمكن واقعا أن تقترح الإدارة العقابية من تلقاء نفسها تمتيع المحكوم عليه بالعفو الخاصّ في إطار المكافآت التي تقرّرها إدارة السّجن لفائدة المساجين ذوي السيرة الحسنة عبر مساندة ملفّ المسجون المتعلّق بالعفو أو بالسّراح الشّرطي الذي حدّده الفصل 21 من القانون المتعلّق بنظام السّجون ماي 2001.
إذا يتفق شرط الأخذ بسلوك الجاني طيلة فترة تنفيذ العقوبة مع السّياسة الجنائيّة الحديثة القائمة على فكرة الإصلاح والتّأهيل، وتتجلّى أهداف الإسناد إلى العفو الخاصّ من خلال :
-أثار تطبيق العفو الخاص :
يبرز سعي المشرّع نحو معاينة تطوّر شخصيّة المحكوم عليه وتمتيعه بالعفو في حالة تقبّل شخصيّته([51]). فهذا الإجراء ينصرف إلى العقوبة دون الجريمة فتسقطها أو تحطّ منها أو تعدّلها، إذا هو يشمل العقوبات الأصليّة دون التّكميليّة التي توجّه للفعل المرتكب من الجاني لكي يرتدع عن القيام به مرّة أخرى.
كما أنّ المشرّع وضع في الاعتبار كلّ الحالات القائمة فمنح العفو الخاصّ كمكافأة بالنّسبة للمحكوم عليه يوقف من خلاله العقوبة ويفرج عنه نظرا لانصلاحه، لكن المحاكمات التي شملها العفو الخاصّ تبقى معتبرة من السّوابق العدليّة لكي يقع الأخذ بها في حال أجازت له نفسه اقتراف جريمة أخرى.
كما أن المشرّع يجيز منح العفو الخاصّ بشرط أن يصبح المتمتّع به ملتزما، وفي صورة ثبوت جديّة المنتفع به التزامه بالسّلوك السيّئ وعدم إصلاح تصرّفاته وتعديل سلوكه بما يتّفق والمبادئ العامّة في المجتمع للاندماج من جديد فيه، يفرض إلغاء أمر العفو الخاصّ بطلب من وزير العدل يقدّم إلى رئيس الجمهوريّة تطبيقا لمبدأ توازي الإجراءات، نلاحظ أنّ المشرّع تبنّى عديد الآليات، إمّا للحطّ من العقوبة وتمكين المحكوم عليه من العودة إلى المجتمع بعد ما وضع في مواجهة حادّة مع العقوبة المسلّطة عليه لتفادي وإصلاح مواطن الخلل التي دفعته لارتكاب أفعال يجرّمها القانون أو عبر اعتماد آليّات لإلغاء العقوبة والتي يستند فيها المشرّع كذلك لمدى استحقاق الجاني للتمتّع بهذه الآليّة في حالات محدّدة.
الفقرة الثّانية : صور أخرى لتحقيق الملاءمة
لم يقتصر المشرّع على آليّة معيّنة لتحقيق الملاءمة، وإنّما أخذ بالاعتبار تنوّع الحالات واختلافها وعدّد الآليّات القادرة على ضمان تحقيق إصلاح الجاني وردعه، فتعدّدت صورها ووسائلها منها المتعلّقة بالحكم أي إيقاف التّنفيذ لوجود أسباب تمنع ذلك وللتحقّق من ارتداع الجاني وإصلاحه (أ) كما يمكن إلغاء العقوبة في صور معيّنة الغرض منها حماية شخصيّة الجاني ومساعدته على حسن التكيّف من جديد مع المجتمع (ب).
أ- آليّة إيقاف تنفيذ العقوبة
أخذا بشخصيّة الجاني الذي ثبت الجرم عليه منذ صدور الحكم ضدّه، سعى المشرّع لحماية الجاني وملاءمة العقوبة المسلّطة عليه مع حقيقة حالته النّفسية ونوعيّة شخصيّته.
ونظرا لأنّ فقدان العقل لا ينتج أثره في الإعفاء من العقوبة إلاّ إذا كان معاصرا لارتكاب الجريمة، فكيف تتجسّد وضعيّة الجاني الذي فقد عقله بعد دخوله المؤسّسة العقابيّة لقضاء عقوبته ونيل الجزاء الذي يلائم فعلته ؟
إنّ الحديث عن وضعيّة الجاني عند تنفيذ العقوبة يؤكّد أنّ الحكم المسلّط عليه باتّ غير قابل للطّعن قاضيا بأحد العقوبات السّالبة للحريّة المنصوص عليها بالفصل 5 م ا ج بحيث إذا أصيب المحكوم عليه بعاهة عقليّة نتيجة اضطرابات عصبيّة ونفسيّة يكون من اللاّزم مراعاة حالة شخصيّة الجاني والبحث عن السّبل الكفيلة بعلاجه لتجاوز الحالة التي هو عليها.
فالقانون اللّبناني والسّوري([52]) وضع المحكوم عليه الذي فقد مداركه العقليّة أثناء تنفيذ العقوبة في مأوى احترازي للعناية به على أن لا تتجاوز مدّة الإيواء المدّة الباقية من العقوبة، وفي صورة ما رأت المحكمة أنّه يمثل خطرا على نفسه وعلى سلامته العامّة يمكن تمديد بقائه في المأوى الاحترازي حتّى بعد تجاوز مدّة عقوبته وهو نفس ما تبنّاه المشرّع الفرنسي([53]).
أمّا المشرّع التّونسي فقد دعّم هذا التّمشّي من خلال إرساء مؤسّسة قاضي تنفيذ العقوبات بمقتضى قانون عدد 77 لسنة 2000 المؤرخ في 31 جويلية 2000 ودعّم صلاحيّاته بمقتضى قانون عدد 92 لسنة 2002 المؤرخ في 29 أكتوبر 2002، حيث يقع زيارة ومراقبة الجاني من خلاله، فإذا ما اتّضح إصابته بعاهة صحّيّة أو نفسيّة يقوم بعرضه على الفحص الطّبّي([54]).
ويعدّ اختلال المدارك العقليّة في المادّة الجزائيّة سببا من أسباب تعليق العقوبة([55])، ويقصد بها رفع العقوبة عن الفاعل الذي ثبت إصابته بعاهة عقليّة رغم ثبوت ارتكابه للجريمة قضائيّا لكن بصفة مؤقّتة إلى أن يثبت طبّيّا تحسّن حالته العقليّة وقدرته على تقبّل المعاملة العقابيّة المحدّدة له بغرض إصلاحه وتأهيله من جديد، وهو ما يتناغم مع فلسفة العقوبة التي لا يتحقّق بتسليطها على شخص لا يفقه معناها.
كما أقرّ المشرّع إلغاء العقوبة في صورة زواج الجاني من المجني عليها لما فيه من إعراب عن وعي بالجرم الذي ارتكبه في تحمّل مسؤوليّة هذا الذّنب يجسّد من خلال زواجه من المجني عليها([56])، ممّا يوقف التتبّعات أو آثار المحاكمة أي أنّه لا يجوز التّنفيذ حتى أن أصبح الحكم نهائيّا أو بدأ تنفيذه.
وهو يعدّ إلغاء مشروط يقف على مدى اقتناع شخصيّة الجاني بإصلاح ما اقترفه من جرم ومدى ارتداعه، ويتجلّى من خلال حسن معاملته لزوجته والابتعاد عن الإجرام، وفي صورة اعتماده العنف معها أو التّعدّي عليها أو طلب الطّلاق([57]) تستأنف آثار المحاكمة وذلك قبل مضيّ عامين من تاريخ الدّخول بالمجني عليها، ممّا يفصح عن عدم انصلاح شخصيّة الجاني وتفسير زواجه بالمجني عليها إلى رغبته في التفصّي من العقاب فحسب.
ب- آليّة إلغاء العقوبة
إنّ صور إلغاء العقوبة تتمثّل في :
موت المتّهم : تزول بوفاة المحكوم عليه جميع العقوبات الأصليّة والتّكميليّة باستثناء الحجز والمغادرة وغلق المحل وهو ما أقرّه الفصل 352 م ا ج. فلا تطال العقوبة إلاّ شخص الجاني فلا تزول “وازرة وزر أخرى”([58]).
وبزوال الجاني والتحقّق من وفاته انتفاء لأغراض العقوبة المعاصر والذي يهدف إلى إصلاحه وتقويمه والقضاء على النّوازع الكامنة في ذاته وبانتفاء هذا الكيان تلغى العقوبة.
إنّ الإلغاء لا يسلّط على تنفيذ العقوبة فحسب بل يشمل إلغاء أثارها.
يعدّ نظام استرداد الحقوق خارجا عن تقدير العقوبة وكذلك عن تنفيذها باعتبار أنّه لا يمنح إلاّ بعد انقضاء التّنفيذ، ويقصد به أن تختم أعمال التّنفيذ بصفة قضائيّة أي بقضاء مدّة السّجن الفعليّة أو بدفع مقدار الخطيّة أو بالعمل لفائدة المصلحة العامّة أو بالإعدام على ما تقدّم من أحكام([59]). وقد أخذ المشرّع على عاتقه مهمّة تطوير هذا النّظام وتنظيمه.
فتدخّل في عدة مناسبات منذ سنة 1968 لتعديل النّظام المتعلّق باسترداد الحقوق فبعد تنقيح سنة 1973 بموجب قانون عدد 69 لسنة 1973 المؤرخ في 19 نوفمبر 1973 وتنقيح 1993 بموجب القانون عدد 114 لسنة 1993 المؤرخ في 22 نوفمبر 1993 تدخّل أخيرا بموجب القانون عدد 75 لسنة 2008 المؤرخ في 11 ديسمبر 2008 للنّزول خاصّة بالمدّة اللاّزمة لمنح الاسترداد سواء بموجب القانون أو بقرار لجنة العفو، ويعود هذا الاهتمام البالغ بتأطير هذا النّظام إلى انعكاساته الايجابيّة على المحكوم عليه الذي أتمّ عقوبته حيث تسهّل عمليّة احتكاكه بالمجتمع من جديد وتجنّبه ردود أفعال المجتمع تجاهه لاعتباره مجرما وجب تفادي التّعامل معه، ممّا ينمي الثّقة في النّفس لدى المحكوم عليه ويخلق فيه توازنا نفسيّا ينسيه ماضيه ويدفعه نحو المضيّ قدما في حياة جديدة مختلفة عن الأولى تتّسم بشخصيّة سويّة عاقلة بعيدة عن النّوازع الإجراميّة وعن الإجرام ككلّ.
إذا يعرف استرداد الحقوق بأنّه الإجراء الذي يهدف إلى محو آثار الأحكام مستقبلا إذا توفرّت شروطه القانونيّة، ولدراسة أهميّة نظام استرداد الحقوق وانعكاساته على شخصيّة الجاني من حيث قدرتها على التّأثير عليه وتطوير شخصيّته بالتّالي تحقيق الغرض من العقوبة وهو إصلاحه وتقويم الاعوجاج الذي دفعه لارتكاب الجريمة والوقوع في الأخطاء فنتعرّض إلى استرداد الحقوق العادي واسترداد الحقوق الآلي باعتبارهما يهدفان إلى رفع الآثار الشّائنة التي تكون قد لحقت المحكوم عليه نتيجة تجريحه حتّى يستعيد مكانته في المجتمع فيمارس حقوقه كأيّ فرد عادي فتزول آثار الحكم في الحال كأنّه لم يدان.
* استرداد الحقوق العادي :
يمكن منح استرداد الحقوق من طرف لجنة العفو لكلّ محكوم عليه بعقاب جنائي أو جناحي بعد القيام بالأبحاث والتّحقيقات الضّروريّة، وقد حدّدت الأطراف التي لها حق تقديم المطلب وهم المحكوم عليه أو ممثّله الشّرعي إذا كان محجورا عليه وفي صورة وفاة المحكوم عليه يمكن أن يقدّم المطلب من زوجته أو من أصوله وفروعه قبل عام من تاريخ الوفاة([60]).
أمّا في حالة رفض لجنة العفو منح استرداد الحقوق أقرّ الفصل 369 م ا ج أنّه لا يقبل الطّلب الجديد إلاّ بعد مضيّ عام كامل على تقديم الطّلب الأوّل على أنّ تمكين المحكوم عليه الذي أتمّ عقوبته بنظام السّراح الشّرطي من قبل لجنة العفو يقوم على ثلاث شروط تتمثّل في :
-أن تمضي من تاريخ قضاء العقاب أو سقوطه بمرور الزّمن أو صدور عفو بشأنه عامان إذا كان العقاب المحكوم به جنائيّا أو ستّة أشهر إذا كان ذلك العقاب جناحيّا، وإذا كان المحكوم عليه في حالة عود قانوني أو سبق أن تمتّع باسترداد الحقوق فإنّ الأجل يرفع إلى ضعفه.
نستخلص ارتباط منح استرداد الحقوق بشخصيّة الجاني ومدى حمله لنوازع إجراميّة متأصّلة فيه أو عائدا لم يرتدع من العقوبة التي سلّطت عليه.
-أن يتمّ تنفيذ التّعويضات المدنيّة التي صدر بها الحكم أو يشملها الإسقاط أو تنقضي بمرور الزّمن أو يثبت المحكوم عليه عجزه عن الوفاء بها.
-أمّا الشّرط الثّالث فهو الأهمّ حيث يرمي إلى تشجيع المحكوم عليه على ضرورة الارتداع والاندماج في المجتمع بعد قضاء العقوبة وأن يمتثل للقوانين، لذلك جاءت الفقرة الثّالثة من الفصل 367 من مجلّة الإجراءات الجزائية([61]) لتشترط أن يثبت من دفاتر محلّ الإيقاف ومن البحث المجرى في شأن المحكوم عليه بعد سراحه أنّه ارتدع فعلا وحسن سلوكه، إذا لابدّ من اقتناع لجنة العفو بجديّة المطلب حتى تقرّر منحه من عدمه وهذا يتوقّف على ثبوت الارتداع الفعلي للمحكوم عليه ومدى انسجامه في البيئة الاجتماعيّة واستجابته لمقتضيات أهداف العقوبة التي نفّذت عليه.
* استرداد الحقوق الآلي :
ويقصد به استرداد الحقوق بصبغة قانونيّة دون تقديم مطلب أو انتظار قرار لجنة العفو وقد أضيف هذا النّظام بمقتضى القانون عدد 114 لسنة 1993 المؤرّخ في 22 نوفمبر 1993 ويقضي بأنّه تعاد حقوق المحكوم عليه بحكم القانون إذا انقضت المهلة المحدّدة بالنّصّ ولم تقع محاكمته من أجل جناية أو جنحة فكلّ حكم لاحق يقطع مجرى المدّة.
وفي ذلك توجّه رشيد نحو حثّ المحكوم عليه على إتّباع سيرة حسنة بعد قضاء العقوبة وعلى مراجعة شخصيّته وتجاوز الخلل الذي اعتراها، إذا يقع الاسترداد بقوّة القانون وهو حقّ آلي للمحكوم عليه يتمتّع به إذا توفّرت فيه شروط وهي عدم محاكمته من جديد من أجل جنحة أو جناية خلال الآجال التّالية :
-إذا كان العقاب هو خطيّة تسترد الحقوق بموجب القانون بمضيّ عام واحد من تاريخ دفعها أو انقضاء مدّة الجبر بالسّجن أو سقوطها بمرور الزّمن.
-إذا كان العقاب هو السّجن تسترد الحقوق بموجب القانون بالنّسبة إلى الجنحة بعد عامين وبالنّسبة إلى الجناية بعد مضي خمسة أعوام من تاريخ قضائه أو سقوطه بمرور الزّمن وهذا ما نصّ عليه الفصل 369 مكرر م ا ج([62]).
إنّ أهمّية نظام استرداد الحقوق سواء الآلي أو العادي تبرز من خلال آثاره التي تتمثّل في محو نتائج الأحكام وما ينجرّ عنها من التّحاجير بالنّسبة إلى المستقبل وينصّ على ذلك بالسّجل العدلي ويجب أن لا تذكر تلك العقوبات بالمضامين المسلّمة لطالبها استنادا لما نصّ عليه الفصل 370 م ا ج ومعنى ذلك أنّ هذا النّظام يمحو مستقبلا العقوبات الأصليّة والتّكميليّة فلا يشار إلى هذه العقوبات([63]). إذا هذا النّظام قادر على دفع المحكوم عليه إلى التّجاوب مع العقاب وإصلاح شخصيّته وتحقيق التّوازن في نفسه سعيا للتّمتّع بهذه المكافأة التي ستمكّنه من العيش في المجتمع كفرد سويّ صالح وتجنّبه الإحساس بالرّفض والإقصاء من المجتمع ممّا يولد فيه العدوانيّة تجاههم فيدفعه نحو براثم الجريمة عوضا عن إصلاحه.
الفصل الثّاني : دور الهياكل والمؤسّسات في تحقيق الملاءمة
تتحدّد غايات التّنفيذ العقابي على ضوء الأهداف والأغراض التي تتوخّاها العقوبة الجزائيّة([64])، وقد انعكس ذلك على نظام المعاملة داخل المؤسّسات العقابيّة وأيضا على كيفيّة تنفيذ العقوبة الجزائيّة، فجلّ التّشريعات الجنائيّة الحديثة كرّست فكرة تفريد العقوبة استنادا إلى شخصيّة المحكوم عليه والتي تجاوزت مرحلة المحاكمة لتتأصّل على صعيد التّنفيذ. فتطور التّنفيذ العقابي من مجرّد واقعة مادّيّة تستهدف الانتقام من المحكوم عليه إلى عمليّة قانونيّة تنشأ بموجبها علاقة قانونيّة من الأشخاص القانونيّين الدّولة والمحكوم عليه([65])، لتدعم مكانة هذا الأخير نظرا لكونه يمثّل طرفا تراعى شخصيّته وينصب التّركيز على إصلاحه وتأهيله للعودة إلى حضيرة المجتمع كفرد صالح، ولتحقيق هذا الغرض وجب تفريد المعاملة العقابيّة بما يلائم شخصيّة كلّ محكوم عليه، وتنظيم الإطار المادّي الذي يحتضنه استحداث الطّرق العقابيّة المناسبة.
وبناء على ذلك أصبحت ضمانات التّنفيذ العقابي رهينة مدى فاعليّة المؤسّسة العقابيّة المشرفة عليه ومدى قدرتها على تحقيق الموازنة بين أغراض العقوبة الجزائيّة حسب التّصوّر الحديث للسّياسة الجزائيّة وشخصيّة المحكوم عليه، إذ لم يعد دور المؤسّسة العقابيّة مقتصرا على قبول إيواء المحكوم عليهم وحفظ الأمن بل تجاوز ذلك نحو تأهيل المحكوم عليه وتأطير معالم شخصيّته محاولة لتحقيق تلاؤم بين المعاملة العقابيّة وتطوّر شخصيّة المحكوم عليه وهو ما يسعى المشرفون على تحقيقه عبر دراسة الوضعيّة الواقعيّة والقانونيّة للمحكوم عليه واختيار برنامج التّنفيذ العقابي الملائم لها([66]). لذلك وجب استحداث طرق كفيلة لتنفيذ العقوبة بالشّكل الذي يتناسب مع شخصيّة المحكوم عليه سواء كهلا أو طفلا ليصبح من السّهل تحقيق الأبعاد المنتظرة ووضع الاستراتيجيّات النّاجعة للحدّ من الإجرام وتعميق التّفكير في الوسائل الفعّالة لمكافحة الجريمة([67]).
وقد دعّمت المنظومة السّجنيّة دور القضاء في مرحلة تنفيذ العقاب وأوكلت له مراقبة ظروف التّنفيذ متّعته بصلاحيّاته، فالقاضي يعدّ الأقرب لتحقيق هذا الهدف سواء لمكانته أو لمؤهّلاته، يمكن القول أنّ الأجهزة الإداريّة تبذل مجهودا نحو ضمان تطبيق العقوبة الملائمة وتحقيق أغراضها ضمن نظام قانوني محدّد (المبحث الأوّل) تزامن مع تدعّم دور الهياكل القضائيّة المشرفة والسّاعية لإرساء ممارسة فعليّة للحقوق وحسن تطبيق العقوبة الملائمة لنوعيّة كلّ سجين ومدى تأثيرها على تطوير شخصيّتهم نحو الأفضل (المبحث الثّاني) وقد تعزّزت مكانة المراقبة القضائيّة من خلال إحالة المؤسّسة العقابيّة وإدارتها من وزارة الدّاخلية إلى وزارة العدل وهو ما يؤكّد السّعي إلى تطوير آليّات الحماية القضائيّة.
المبحث الأوّل : إرساء نظام قانوني لتقويم شخصيّة السّجين
يرتكز اهتمام السّياسة الجزائيّة الحديثة على تطوير أساليب التّنفيذ وطرق معاقبة المجرمين وتأطير معاملتهم العقابيّة، كما سعت إلى إحاطة تنفيذ العقوبة الجزائيّة السّالبة للحرّيّة بعدّة ضمانات تكفل تنفيذها على الصّورة التي قرّرها الحكم الجزائي والكيفيّة التي تتماشى مع الحقوق الأساسيّة للمحكوم عليه ومع مصالحه المشروعة([68]).
ويتمثل الهدف من هذه الإحاطة تطوّر شخصيّة المحكوم عليه وتقويمها، فاستحدثت أساليب ذات أبعاد إصلاحيّة وتأهيليّة من شأنها قمع النّوازع الإجراميّة الكامنة في شخصيّة المحكوم عليه لخلق إنسان سويّ مع الحرص على تدعيم القدرات والمهارات وصقلها.
وقد تأصّلت هذه الأهداف وتبلورت من خلال الصّكوك الدّوليّة التي وقع الأخذ بها([69])، فقد نصّت المادّة العاشرة من العهد الدّولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة المؤرّخ في 16 ديسمبر 1966 “يعامل جميع المجرمين من حريّتهم معاملة إنسانيّة تحترم الكرامة الأصيلة في شخص الإنسان”، كما أقرّ في فقرته الثّالثة من نفس الفصل “يجب أن يراعى نظام السّجون معاملة المسجونين معاملة يكون هدفها الأساسي إصلاحهم وإعادة تأهيلهم الاجتماعي”.
إذا تتمحور أبعاد التّنفيذ العقابي في إصلاح وتأهيل المحكوم عليه إذ لم يعد يمثّل عدوّ المجتمع المعرّض في كلّ آن وحين إلى المعاملة القاسية بل أصبح له حقوق وكيان ولم يعد السّجن مكانا للعقاب فقط بل فضاء للإصلاح والتّأهيل([70])، لنتعرّض إلى كيفيّة تكريس هذه الأبعاد على مستوى التّطبيق باعتبار العقوبة كأداة لإصلاح الشّخصيّة (الفقرة الأولى) والتي تحدّ من النّوازع الإجراميّة الكامنة فيه إلى جانب أنّها تساعد على تأهيل هذا الأخير وصقل قدراته للخروج كفرد فاعل في المجتمع (الفقرة الثّانية).
الفقرة الأولى : إصلاح السّجين عبر القضاء على نوازعه الإجراميّة
يهدف التّنفيذ العقابي بصورة رئيسيّة إلى إصلاح السّجين وتقويم شخصيّته بهدف وقاية المجتمع من مخاطر الجرائم ومنع المحكوم عليه من العود وتأصل الإجرام فيه، فبرز مبدأ فرديّة العقوبة المتجانس مع شخصيّة الجاني خير سبيل لتحقيق هذه الأهداف، ذلك لتوجّهه نحو معالم شخصيّة السّجين وخصائصها سعيا نحو تعديل سلوكه الإنحرافي.
ويتحقّق هذا الهدف المنشود من خلال توفير ضمانات داخل المؤسّسات العقابية تراعى فيها الحاجيات الأساسيّة للسّجين بغرض تكيّفه مع وضعيّته ودفعه نحو إصلاح الخلل الذي دفعه للسّقوط في الإجرام وتبرز هذه الضّمانات من وجهتين ضمانات ماديّة (أ) تخلق ألفة وانسجام بين السّجين والمؤسّسة العقابية المتواجد بها وضمانات معنوية (ب) تدفعه نحو تقبّل النّظام العقابي الذي سيسلّط عليه.
أ- الضّمانات المادّيّة
إنّ الوصول إلى تحقيق أهداف السّياسة العقابيّة الحديثة يتطلّب توفير منظومة قانونيّة متكاملة تقوم على تحقيق التّوازن الضّروري بين أهداف متباينة وهي من جهة النّظام ومن جهة أخرى إصلاح شخصيّة السّجين وتدريبها على العلاقات الإنسانيّة السّليمة وما من شكّ أنّ الخطوة الأولى تبدأ بضمان إنسانيّة السّجين وحماية كرامته داخل المؤسّسة العقابيّة.
فلئن كان “السّجن” سيسلبه حرّيته في التّنقّل أو أحيانا في الاتّصال بمن يريد ومتى شاء ذلك فإنّه يبقي على حقّه في الحصول على ما هو ضروري لقضاء مدّة عقابه في ظروف إنسانيّة ملائمة تنسجم مع معايير منظومة التّفريد العقابي وإنسانيّة العقاب الجزائي([71]).
وتتجلّى هذه الضّمانات من خلال تنظيم ظروف الإقامة داخل المؤسّسة العقابيّة وهو ما نص عليه الفصل 1 من القانون عدد 52 لسنة 2001 المؤرخ في 14 ماي 2001 المتعلّق بنظام السّجون ليؤكّد على أهميّة حماية الحرمة الجسديّة للسّجين، وقد أقرّ العديد من الإجراءات الرّدعيّة تجاه الموظّف العمومي أو شبهه الذي يرتكب بدون موجب بنفسه أو بواسطة جريمة التّعدّي بالعنف على النّاس حال مباشرته لوظيفته أو بمناسبة مباشرتها([72]).
بالتّالي يجب أن يحظى السّجين بمعاملة إنسانيّة داخل المؤسّسة العقابيّة مع تمتيعه بحقوقه الأساسيّة لتهيئة شخصيّته ودفعها نحو التّأقلم وبالتّالي الإصلاح.
أي أنّه يتعيّن أن تتوفّر في جميع أجنحة المؤسّسة العقابيّة الشّروط المقرّرة قانونا([73]) سواء من حيث المساحة أو التّهوئة أو الإضاءة أو المرافق الصّحيّة أو النّظافة فيلزم أن تكون الأماكن المخصّصة للنّوم ذات مساحة معقولة بالنّسبة لعدد النّزلاء وأن يدخلها قدر كاف من الإضاءة والتّهوئة وأن يخصّص فيها لكلّ نزيل سرير مزود بالأغطية التي تتناسب مع فصول السّنة، ونفس الشّيء بالنّسبة للأماكن المخصّصة للعمل والأكل أو التّرفيه أو الألعاب فيجب أن تكون هي الأخرى واسعة وبها نوافذ كبيرة تسمح بدخول كميّة كافية من الإضاءة والتّهوئة وأن تتّخذ بشأنها كافّة الاحتياطات اللاّزمة لعدم تعرض السّجناء للأخطار أثناء تواجدهم بها، كما يجب أن تتوفّر المرافق الصّحيّة الكافية في أماكن متعدّدة من المؤسّسة العقابيّة حتى يتسنّى للسّجناء قضاء حاجياتهم الطّبيعيّة وتنظيف أبدانهم.
وقد سعى المشرّع لتفادي سلبيّات ظاهرة الاكتظاظ والأخذ بعين الاعتبار القواعد الدّنيا لمعاملة المساجين([74]) معاملة حضاريّة تمثّل توسيع وتهيئة العديد من الوحدات السّجنيّة([75]).
ودعت هذه الحاجيات الأساسيّة عبر توفير مستلزمات السّجين من :
المأكل : يجب أن تكون وجبات الطّعام التي تقدّم للنّزلاء متنوّعة وكافية من حيث الكميّة والقيمة الغذائيّة وأن يتمّ إعدادها بطريقة نظيفة، كما أقرّ القانون المتعلّق بنظام السّجون الحق في مجانيّة التّغذية، وتمتّع كلّ سجين بـ3 وجبات يوميّا (الفطور والغداء والعشاء) وقد عملت الإدارة العامّة للسّجون والإصلاح على تحسين الأكلة وتنوّعها وذلك بالتّرفيع في الاعتماد المخصّص له([76]).
كما لا تقدم وجبات مكرّرة لفترات طويلة ويتعيّن الاهتمام بنظافة المطبخ والقائمين عليها، كما يراعى ضرورة تقديم وجبات خاصّة للنّساء أثناء الحمل أو الرّضاعة أو لأيّ سجين آخر يقرّر له طبيب السّجن ذلك.
الملبس : يلتزم كلّ سجين بارتداء اللّباس الخاصّ بالسّجن وعلى الإدارة العقابيّة أن تراعى في هذا اللّباس تناسبه مع درجة الحرارة أو البرودة وألاّ يكون في هيئته تحقير للنّزلاء أو إهدار لكرامتهم كما يجب تغييره من فترة إلى أخرى.
النّظافة الشّخصيّة : تلتزم الإدارة العقابيّة توفير الأدوات لنظافة السّجين عبر تعدّد أماكن الاستحمام وتجهيزها بالمياه، كما يمنح السّجين الأدوات الشّخصيّة اللاّزمة للعناية بنظافة جسمه وقصّ شعره وحلق لحيته…
العناية الصّحيّة : خصّص لهذا الغرض مكان في الإدارة الطّبيّة تتوفّر فيه الشّروط الصّحيّة ويضمّ عدد كاف من الغرف لإيواء المرضى من السّجناء إلى جانب تزويدهم بالأجهزة والأدوات الطّبيّة للكشف عن المرضى وتغطية كافّة العلل المرضيّة التي يشكو منها النّزيل والتي يحتمل أن تكون بدنيّة أو نفسيّة([77])، وتدعم هذا الجهاز عبر توفير طاقم فنّي مستقلّ يتألّف من أطبّاء مختصّين وهيأة تعويض ويتمثّل الفحص في معاينة السّجين عند الدّخول بالإضافة إلى المتابعة بصفة دوريّة([78])، كما برز تدعيم المشرّع لتطوير شخصيّة الجاني بأن مكّنه من حرّية اختيار الخضوع لمثل هذه الفحوصات من عدمه.
فالعلاج الذي يمثل وسيلة لتحديد المعاملة العقابيّة يتطلّب رضاء النّزيل به سواء في حالة معالجة الأمراض البدنيّة أو العقليّة أو النّفسيّة بشرط أن لا يؤدي العلاج إلى إهدار كرامته.
إنّ إعداد نظام مادّي يساعد السّجين على التّكيّف مع حياته الجديدة داخل السّجن ويقرّبه من الحياة العامّة لا ينحصر في توفّر ضمانات ماديّة بل يكمل بالأخصّ ضمانات معنويّة من شأنها تجاوز الشّعور بالنّقمة واللاّمساواة لتفادي العودة إلى الإجرام.
ب- الضّمانات المعنويّة
للرّعاية الاجتماعيّة داخل المؤسّسات العقابيّة أهميّة بالغة في إصلاح المحكوم عليه وإعداده للعودة إلى المجتمع وتوفير أحسن الظّروف التي تساعده على الاندماج في المجتمع، كما تهدف هذه الرّعاية إلى إحداث تغيير وتعديل في شخصيّة النّزيل وفي نظرته إلى الحياة العامّة([79]).
فمنذ أن اعتبر الإصلاح والتّأهيل أساس قيام العقوبة أصبح من المتعيّن عدم حرمان النّزلاء من سبل الحياة الطّبيعيّة وذلك بالسّماح لهم بتنظيم حياتهم على نحو يساعدهم أوّلا على تقبّل الحياة الجديدة داخل السّجن والتّكيّف معها وتنظّم صلاتهم الخارجيّة، ممّا يخفّف الانعكاس المفاجئ لسلب حريّته.
كما يعنى الأخصّائي الاجتماعي بمساعدة السّجين على حلّ مشاكله :
سواء السّابقة على دخول السّجن والتي تشمل خلافات بينه وبين زوجته أو مرضا أو مسألة تهمّ أبنائه أو مشاكل لاحقة تعود معظمها إلى سلب الحريّة وما ينجر عنها من آثار نفسيّة وبدنيّة.
وتكمن مساعدة الأخصّائي في حلّ هذه المشاكل بقدر المستطاع كالاتّصال بأسرة السّجين، كما يسعى جاهدا نحو إقناع السّجين بجدوى المعاملة العقابيّة وانعكاساتها الإيجابيّة على دفع شخصيّته نحو الإصلاح والابتعاد عن الإجرام، كما يبرز له أهميّة الاستجابة إلى نظام السّجن وضرورة إتّباع كلّ التّعليمات والأوامر التي تصدر إليه.
لكن الضّمانات تتجاوز هذا الحدّ لتشمل ضمانات يتمتّع بها السّجين أقرّها القانون ودعّمها سعيا لتحقيق التّوازن النّفسي للسّجين ويتجلّى من خلال :
-تمكين السّجين من التّمتّع بحريّة نسبيّة : عبر تمتيعه بحريّة الحركة، ممّا ينمّي لديه الإحساس بآدميّته وقيمته عبر تنظيم زنزانته، كما يسمح له بالالتقاء بالأخصّائي النّفساني أو الاجتماعي أو الطّبيب… وغيرهم من المسؤولين بالإدارة العقابيّة، كما يسمح لهم بقراءة الصّحف والمجلات.
وبما أنّ الحياة الطّبيعيّة للإنسان تستلزم تواجده وسط مجموعة من أقرانه فلا يجب عزل المحكوم عليه كلّيا عن زملائه أو عن عالمه الخارجي لكي لا ينمّي لديه شعورا بالنّقمة والاضطراب فيدفع نحو الانتقام “فبقاء السّجين معزولا ضمن نطاق الحياة المصطنعة داخل السّجن تفقده قابليّته الاجتماعيّة وتجعله غير قادر على الانصهار في المجتمع الحرّ بعد انتهاء مدّة محكوميّته وهو ما يشجّع على العود وامتهان الإجرام([80]).
لذلك اعتبر الانفتاح على العالم الخارجي خير سبيل لتحقيق التّوازن النّفسي عبر حقّ تلقّي الزّيارات وهو من أهمّ الحقوق التي يتمتّع بها السّجين([81]) لانعكاساته الإيجابيّة على شخصيّة السّجين عبر التّخفيف من عزلته والإلمام بما يدور خارج السّجون، وقد أقرّه المشرّع ضمن الفصل 18 فقرة 2 من قانون 14 ماي 2001 المتعلّق بنظام السّجون ووضع له شروطا وفقا لما يتماشى والأبعاد الآمنة داخل المؤسّسة العقابية : كالتّرخيص من الوزير المكلف بالسّجون والإصلاح أو من الإدارة المكلّفة بالسّجون([82])، كما حدّد الأشخاص الذين يحقّ لهم زيارة السّجين بصفة أصليّة([83]) أو استثنائيّة([84]).
كما يتمتّع السّجين بحق المراسلة : يجب أن تسمح الإدارة العقابيّة للسّجناء من تبادل المراسلات مع ذويهم وبصفة خاصّة أفراد أسرتهم وهو ما نصّ عليه الفصل 18 من قانون 14 ماي 2001.
ومنح السّجين حقّ تلقّي المؤونة والطّرود والملابس التي ترد عليه من أهله([85])، إلى جانب مكاتبة المحامي المكلّف بالدّفاع والسّلط القضائيّة المعنيّة عن طريق إدارة السّجن، وتخضع المراسلات كذلك لقيود ورقابة مراعاة البعد الأمني عبر التّأكّد من محتواها.
إنّ توفير كلّ هذه الضّمانات داخل المؤسّسة العقابيّة يساعد على تطوير شخصيّة السّجين وحسن التّأقلم مع المعاملة العقابيّة التي حضي بها، فهذه الضّمانات تمثّل الخطوة الأولى المهيّأة لشخصيّة الجاني وإصلاح الخلل الذي يعتريها هذا الهدف لا يتحقّق بمجرد تهيئه مناخ سليم يراعى فيه شخصيّة السّجين وتمتيعه بامتيازات وإنّما يتطلّب كذلك رقابة على تصرّفات السّجين ومدى احترامه للواجبات([86]) المرميّة على عاتقه والتي تفرض التّقيّد التّلقائي طيلة مدّة العقوبة. فمن خلال معاينة الأعوان لانضباط السّجين وتطبيقه للواجبات المحمولة عليه يتمكّنون من تحديد نوعيّة شخصيّة هذا الأخير ومميّزاتها التي يحدّد على إثرها نوعيّة المعاملة العقابيّة التي يستحقّها، أمّا إذا ما كان متمرّدا على النّظام الدّاخلي للسّجن فسوف يعرّض إلى عقوبات تأديبيّة قادرة على ردعه وزجره وحثّه على إصلاح شخصيّته وتصرّفاته.
إذا يسعى المشرّع للإحاطة بالسّجين عبر خلق إحساس بالرّاحة والإحاطة بحاجيّاته لتحقيق نموّه الانفعالي السّليم وتكيفه المعنوي الصّحيح مع نفسه والبيئة التي ينتمي لها “فيعدو بذلك أكثر فهما لنفسه وللبيئة المحيطة به”.
وتتجاوز الوسائل الإصلاحيّة هذا الحدّ لتهتمّ بتعديل الجانب النّفسي للسّجين عبر الحدّ من سلوكه الانحرافي ودفعه إلى السّلوك السويّ بتوجه عقل السّجين وضميره نحو إتّباع سلوك حضاري عماده احترام الآخر وممارسة حريّته في نطاق القانون، وضمن هذا الإطار أشار الفصل 37 من قانون ماي 2001 المتعلق بنظام السّجون إلى أنّ الرّعاية الاجتماعيّة للسّجين تهدف إلى تعديل سلوكه الانحرافي عبر تعديل اتّجاهات وميول الجاني الانحرافية وإبدالها باتّجاهات اجتماعيّة سليمة([87]) ويسند هذا البرنامج الاجتماعي إلى أخصائيّين اجتماعيّين ونفسيّين يعتمدون على إلقاء دروس ومحاضرات واجتماعات مع النّزلاء أو التقاء شخصي.
كما يعتمدون نظام المكافأة لتحفيز المساجين على التّحلّي بالسّلوك القويم([88]) نسجا على ما أوصت به القاعدة 70 من القواعد النّموذجيّة الدّنيا لمعاملة السّجناء.
أمّا بالنّسبة للأطفال المنحرفين فأمام خصوصيّة شخصيّتهم المتميّزة بقلّة الإدراك والتّأثّر المفرط بالعوامل المحيطة به وجب أن تراعى هذه الإحصائيّات في تحديد السّبل الكفيلة لإصلاحهم عبر حسن تأطيرهم وكفالة حقوقهم الأساسيّة داخل المؤسّسة الإصلاحيّة ليتمتّع هذا الأخير بالحماية الصّحيّة والجسديّة والأخلاقيّة، كما له الحقّ في العناية الاجتماعيّة والتّربويّة ويراعى في ذلك سنّه وجنسه وقدراته الشّخصيّة([89])، كما تأخذ الإدارة الإصلاحيّة المشرفة على عاتقها مع توفير رعاية مكثّفة للأطفال لخلق إحساس بالأمان والثّقة سعيا لإصلاحهم فيقع تمكينهم من تغذية صحيّة ومتكاملة وملابس وكافّة مستلزمات النّظافة كالاستحمام مرّة في الأسبوع وكلما دعت الضّرورة لذلك ويخصّص لهم أنشطة متنوّعة للتّرويح عن أنفسهم كالأنشطة الرّياضيّة والثّقافيّة…”([90]).
كما دعّم المشرّع جسور التّواصل بين الأطفال المنحرفين والعالم الخارجي عبر إقرار حقّ كلّ طفل يتمتّع بسلوك حسن من تلقّي زيارة ذويه بصفة مباشرة إلى جانب تمتيعه بالرّخص الأسبوعية والاستثنائيّة والإجازات حسب ما أقره الفصل 35 في فقرته الأخيرة، كما له حقّ مراسلتهم لدعم إحساسه بالانتماء وخلق التّوازن النّفسي فيه لتطوير تفاعله مع البرامج الإصلاحيّة، إذا تعتمد النّظم العقابيّة الحديثة مخاطبة شخصيّة السّجين ودفع ضميره للاستفاقة بغية تقويم سلوكه وتهذيب نفسه وتعليم الفرد المراجعة الذّاتيّة للسّلوك والأخطاء وتلك أهمّ العوامل لاستئصال عامل الإجرام([91]).
الفقرة الثّانية : تنفيذ العقوبة كأداة لتأهيل الشّخصيّة
انطلاقا من تعريف التّأهيل كبرنامج لخلق الشّعور لدى المحكوم عليه بمسؤوليّاته تجاه نفسه وتجاه المجتمع والمحافظة على ما لديه من إمكانيّات بدنيّة وذهنيّة ثمّ تنفسها([92])، سعيا لتحقيق الانسجام ولتحقيق إعادة اندماج هذا الأخير داخل المجتمع من جديد كفرد صالح، وتحقيقا لهذا الهدف سخّرت وسائل وتقنيّات مدروسة تتلاءم وشخصيّة كلّ نزيل تكون قادرة على صقل مواهبه سعيا لتدريبه على الحياة الاجتماعيّة خارج المؤسّسة العقابيّة، ومن خلال هذا التّأطير عبر التوغّل في شخصيّة النّزيل وفهم نقاط ضعفها وأسبابها والبحث عن الطّاقات الإيجابيّة الكامنة في شخصيّة كلّ فرد وإعادة صقلها وتسخيرها لتقويمه وتطوّره وإعادة ثقته بنفسه عبر توفير برامج متنوعّة تلائم صفات وشخصيّة كل نزيل.
وقد أكّد كلّ من “Bouzat” و”Pinatel” على عدم نجاعة كلّ برنامج تأهيلي يعدّ مسبقا لأنّه برنامج عامّ ومجرد غير مؤسّس على معرفة عميقة بشخصيّة المنحرفين وخصوصيّاتها لما يتطلّبونه من معاملة فرديّة يمكن أن تترتّب عنها معطيات جديدة من شأنها أن تساهم في تفريد برنامج التّأهيل([93]).
أ- برامج التّعليم والتّعلّم
يقول أوليفيه ربول : لا يودّ الإنسان إنسانا، إنّما نقطة تجمع عليها اليوم العلوم الإنسانيّة كلّها، فلا شيء من على ما يؤلف الإنسانيّة، أي اللّغة والفكر والمشاعر والفنّ وعلم الأخلاق ولاشيء من كلّ تبعث الحضارة طيلة آلاف السّنين للحصول عليه، فقد انتقل إلى حجم المولود الجديد فعليه أن يكتسبه بالتّربية والتّعليم([94]).
* برامج تعليم الكبار :
قصد تمكين المساجين الأمّيّين من التّحرّر من أميّتهم وتحسين مستوياتهم الثّقافيّة وهو ما أوصت به القواعد النّموذجيّة الدّنيا لمعاملة السّجناء صلب المادّة 77 على ضرورة توفير التّعليم للمحكوم عليهم، كما أكّدت على وجوب أن يكون تعليم الأطفال والأحداث إلزاميّا وأن توجّه الإدارة العقابيّة عناية خاصّة بهم.
فتحصين شخصيّة النّزيل من مساوئ الجهل تجعله منضبطا في حياته وملتزما بالمبادئ السّلوكيّة السّائدة في المجتمع، وقد تجسّد العمل بهذا البرنامج من خلال الفصل 21 قانون ماي 2001 حيث تمّ الارتقاء بعدد المراكز المحدثة داخل السّجون من 18 مركزا خلال سنة 2000 إلى 22 مركزا خلال 2005 ومن 363 دارسا ناجحا سنة 2000 إلى 620 خلال 2005، وقد مكّنت الإجراءات التي تمّ إقرارها في 2006 المتعلّقة بتدعيم هذا البرنامج من حيث الفضاءات وتكثيف عمليّات ترغيب المساجين وإحكام عمليّات التّنسيق مع الهياكل الجهويّة المعنيّة وتوفير كلّ الظّروف الملائمة لضمان حسن سيره من الارتقاء بعدد المساجين الدّارسين إلى 961 سجينا (504 بحلقة الأساسي و344 بحلقة التّكميل و113 بحلقة المتابعة)([95])، وتدعّم هذا البرنامج برصد مكافآت لكلّ من تعلّم من النّزلاء القراءة والكتابة خلال مدّة تنفيذ العقوبة.
* برنامج مواصلة التّعليم داخل المؤسّسة العقابيّة :
في نطاق الحرص على إعداد المساجين للحياة الحرّة تعمل الإدارة العامّة للسّجون على تمكين الرّاغبين في مواصلة الدّراسة والمشاركة في الامتحانات الوطنيّة داخل المؤسّسة العقابيّة والمرسّمين بمؤسّسات التّعليم الثانوي والعالي وذلك بتيسير الإجراءات المتّبعة في الحصول على التّراخيص والتّسجيل وذلك بالتّنسيق مع الإدارات الجهويّة للتّربية والتّكوين والمؤسّسات الجامعيّة إلى جانب ضمان الحصول على ما يلزم([96]) أدوات الكتابة والوثائق المكتوبة التي تيسّر له تلك المتابعة للاستعداد للمشاركة في الامتحانات بصفة استثنائيّة داخل المؤسّسات العقابيّة.
وقد تمكّن العديد من المساجين بفضل هذا المناخ الملائم والإجراءات المرنة من تتويج هذا المجهود بتحقيق النّجاح في امتحانات الباكالوريا أو الإجازة أو مختلف مستويات التّعليم العالي، وقد حصدت سنة 2005 مشاركة 7 مساجين في امتحانات الباكالوريا نجح منهم 3 إلى جانب نجاح سجينين في امتحانات السّنتين الأولى والثّانية من التعليم العالي فيما تحصّل سجين واحد على الإجازة في الحقوق.
كما تدعّم دور الثّقافة لإكساء المعنى لحياة السّجين لكي لا يصاب بالإحباط والانطواء وينمّى لديه الشّعور بالمسؤولية الذي يجب أن يلعبه في المجتمع، فقد أقرّ قانون ماي 2001 حقّ السّجين في المتابعة والمشاركة في البرامج التّثقيفيّة وللإدارة العقابيّة اختيار مواضيعها وتحديدها من برمجة متكاملة([97]).
ب- برامج العمل والتّكوين المهني
لم يعد العمل العقابي يهدف إلى إيلام المحكوم عليه كما كان سائدا، حيث شهدت بعض النّظم العقابيّة ما أطلق عليه “سجون عمل” إجبارهم على العمل دون مراعاة لميولاتهم ورغباتهم بما فيها من قمع لشخصيّتهم.
رافق الاهتمام بشخصيّة المحكوم عليه أبعاد إصلاحيّة وتأهيليّة هامّة الغرض منها تأطير الجاني لتطوير شخصيّته وتجاوز مواطن الخلل فيها، وعلى هذا الأساس نص الفصل 19 من قانون ماي 2001 حقّ السّجين في “الشّغل مقابل أجر وطبق الإمكانيّات المتاحة” ليخلق في شخصيّة النّزيل الشّعور بمسؤوليّته تجاه نفسه وتجاه المجتمع والمحافظة على ما لديه من إمكانيّات بدنيّة وذهنيّة ثمّ تنميتها([98])، فيكون مفيدا أو منتجا لا مجرّد صخرة… ويقدم على العمل بنفسيّة سليمة برضاه لانعدام الصّفة القسريّة أو القصريّة بل يرمي إلى تنشيط قدراته وتوظيفها بصورة مفيدة محقّقة بذلك لبعدها التّربوي والتّأهيلي([99])، إذا يهدف العمل داخل المؤسّسة العقابيّة إلى تنمية شخصيّة النّزيل وتطوير مؤهّلاته وتوظيفها لغايات إنتاجيّة نفعيّة.
فالثّقة بالمقدرة المهنيّة تجعل الإنسان مدركا لقوّته الإنتاجيّة فيسعى إلى إتقان عمله([100])، ممّا يعزز الإحساس بالمسؤوليّة ويدعم عديد الخصال الحميدة كالصّدق والأمانة فتكون العقوبة قد حقّقت مبتغاها لتلاؤمها مع حاجيات شخصيّة الجاني ولمسها لمواطن الخلل وحسن توظيفها للحدّ من تلك السّلبيّات والنّوازع الإجراميّة.
كما تبرز أهميّة التّكوين المهني في منح السّجين حظوظا وافرة في حذق اختصاص مهني معيّن يساعدهم على التّهيّؤ للحياة الحرّة بعد قضاء مدّة عقوبته وخلق الفرص لإيجاد شغل يقيه خطر العودة لعالم الجريمة والانحراف([101]).
وتختم فترة التّكوين المهني بحصول المتدرّب على شهادة كفاءة مهنيّة تعادل التي تمنحها معاهد التّكوين المهني، إذ يمثّل التّكوين المهني عامل إيجابي وحافز قويّ ودعامة فعليّة للاندماج من جديد في المجتمع([102]).
خلاصة القول أنّ مفهوم ملاءمة العقوبة مع شخصيّة الجاني تحدّد بعد التّنفيذ عبر تأمّل نتائجها وانعكاساتها على شخصيّة هذا الأخير فإذا حقّق النّزيل التّوازن النّفسي وتطوّرت شخصيّته تكون العقوبة بلغت هدفها ونقرّ بحسن اختيارها، أمّا إذا ما برز تأصّل النّوازع الإجراميّة في شخص النّزيل عبر العود أو استقراءها من تصرّفاته نستنتج أنّ العقوبة المحدّدة لم تلمس حقيقة الخلل الذي أصاب هذا السّجين ولم تستطع ردعه كما يجب.
وقد ذهب بعض الباحثين([103]) إلى التّشكيك في الوظيفة التّأهيليّة للسّجين انطلاقا من تحليل أنظمة السّجون ذاتها بالقول “بأن واقع السّجن يشكل تناقضا بين ما يهدف إلى تحقيقه من إعادة تأهيل السّجين لاندماجه مجدّدا في المجتمع كعنصر اجتماعي سليم وبين كيانه المادّي العازل عن المجتمع بالإضافة إلى الجوّ النّفساني السّائد فيه المجرد للإنسان النّزيل من كلّ مبادرة فرديّة بسبب خضوعه للأنظمة تعرض عليه نوع وحدود تحرّكه ضاغطة على حاجته الجسديّة والنّفسانيّة وتطلّعاته([104]).
المبحث الثّـاني : تفعيل دور الولاية القضائيّة لتحقيق الملائمة
ضمن السّياسة العقابيّة الحديثة حظي القاضي بمكانة هامّة لأهميّة دوره في تحقيق أهداف تتلاءم ومقتضيات التّفريد التّنفيذي للعقوبة الجزائيّة.
حيث يشمل دوره تحليل واقع المحكوم عليه ودراسة متطلّبات تطوير شخصيّته وحمله على إحداث تغيّر نوعي في مفاهيمه ومعايير سلوكه ومواقفه.
فلا جدال أنّ عمليّة التّفريد تجد منطلقا لها منذ المحاكمة عبر اختيار العقوبة الملائمة استنادا إلى شخصيّة الجاني وتمتدّ إلى الطّور التّنفيذي لتحقيق أبعاد العقوبة المسلّطة لتحقيق أبعادها الرّدعيّة والإصلاحيّة والتّأهيليّة وقطع الرّابط بين الجاني وعالم الانحراف والجريمة.
فمكافحة الجريمة لا يقف عند تحقيق أركانها والنّطق بالعقاب لمرتكبها وإنّما تتعدى لتشمل وبصفة بالغة الأهميّة مرحلة تنفيذ الجزاء، وينبني هذا الامتداد إلى مرحلة التّنفيذ على تطوّر شخصيّة المحكوم عليه وتأثير التّنفيذ عليها([105]).
لذلك أصبح واضحا أنّ الوصول إلى الأهداف المرجوّة من الحكم تتطلّب بالضّرورة رقابة القضاء على التّنفيذ وذلك حتّى تتابع الجهة القضائيّة بنفس الرّوح التي أهلّت الحكم ما يتّخذ أثناء مرحلة التّنفيذ من قرارات وليكون القضاء بتدخّله هذا بمثابة العين الرّقيبة.
لذلك تدعّم دور القضاء سواء في قضايا الأطفال ومراقبة مدى نجاعة وملاءمة العقوبة وتدعّمت صلاحيّاته (الفقرة الثّانية) سعيا لحماية شخصيّة السّجين والسّعي نحو تحقيق الملاءمة المرجوّة، إذا يهدف العمل داخل المؤسّسة العقابيّة إلى تنمية شخصيّة النّزيل وتطوير مؤهّلاته بإبرازها وتوظيفها لغاية إنتاجيّة نفعيّة.
الفقرة الأولى : تأصيل دور القضاء لحماية الأطفال
أقرّت مجلّة حماية الطّفل ضمانات إجرائيّة جديدة لفائدة الطّفل الجانح في مرحلة تنفيذ التّدابير والعقوبات كما ضمنت له حقوقه، وهذا الاهتمام والتّأطير غايته الأساسيّة مراعاة الأوضاع الذّاتيّة والاجتماعيّة التي أدّت إلى انحرافه وتعمل على تقويم سلوكه بغاية إعادة تأهيله نفسانيّا واجتماعيّا ومهنيّا([106]).
حيث يعتبر التّشريع الخاصّ بالأحداث المنحرفين الذي دأبت أكثر الدّول في العالم على إقراره كمبدأ لمعاملة هؤلاء ومتابعتهم لإصلاحهم من أهم المنجزات التي حقّقتها السّياسة التّشريعيّة في تكريس المعطيات الحديثة للعلوم الجنائيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة ويحتلّ قضاء الأطفال في هذا الإطار مكانة رفيعة من حيث المستوى الوظيفي والإصلاحي لتقويم الاعوجاج الطّارئ على شخصيّته، فالطّفل في مرحلة تنشئته يتأثّر شخصيّته بالمؤثرات الإيجابيّة التي ترافقها فإذا توفّرت الظّروف الملائمة تجاوب معها بصورة فاعلة وبنّاءة([107])، ممّا يعكس أهميّة الإشراف القضائي على التّنفيذ العقابي الخاصّ بالأطفال الجانحين كوسيلة لمراقبة تطبيق العقوبة عليه ومراعاة تطوّر شخصيّة الطّفل ومدى ملاءمة العقوبة للتّغيّرات الحاصلة عليه.
ولفهم هذا الدّور وتحديد خصوصيّاته يتعيّن علينا إبراز نطاق الولاية القضائيّة على التّنفيذ العقابي للأطفال الجانحين (الفقرة أولى) ثمّ إبراز تنوّع آليّات القرار القضائيّة (الفقرة الثّانية) والتي من خلالها يقع ملاءمة العقاب مع تطوّر شخصيّة الطّفل وانصلاحها.
أ- توسيع نطاق الرّقابة
جاء بالفصل 109 من مجلّة حماية الطّفل أنّ قاضي الأطفال مكلّف بالإشراف على تنفيذ الإجراءات والعقوبات الصّادرة عنه وعن محكمة الأطفال، حيث تعدّ سلطة الإشراف الموكولة لقاضي الأطفال موسّعة لأنّها تشمل الإجراءات التّربوية والعقوبات الجزائية الصّادرة عنه إلى جانب الإجراءات والعقوبات الصّادرة عن محكمة الأطفال.
ممّا يجعل منها خطوة هامّة في سبيل تطوير هياكل ومؤسّسات أجهزة العدالة الجزائيّة في تونس([108]). وفي إطار حرص المشرّع على توسيع نطاق الرّقابة القضائيّة على تنفيذ الإجراءات والعقوبات الصّادرة ضدّ الأطفال الجانحين فقد اشتمل الإشراف على :
-تنفيذ التّدابير التّربويّة :
عدّد الفصل 99 م ح ط جملة التّدابير التّربويّة التي يمكن أن يتّخذها قاضي الأطفال أو محكمة الأطفال إذا كانت الأفعال ثابتة في حقّه ويتمّ ذلك عمليّا من خلال زيارته للطّفل المسلّط عليه التّدبير للإطلاع على وضعه بغاية مراقبة مدى ملاءمة القرار المأذون به مع حالته بما يكفل تحقيق المصلحة الفضلى، فله أن يأذن بإجراء فحوصات طبّيّة وأبحاث اجتماعيّة ونفسيّة للكشف عن الأسباب التي أدّت إلى انحرافه، ومن خلال هذه الزّيارات يحدّد القاضي قدرة المؤسّسة الإصلاحيّة على تحقيق الأهداف العلاجيّة والتّقويميّة للتّدابير التّربويّة الصّادرة عنه أو عن المحكمة.
كما يتولّى قاضي الأطفال مراقبة تطوّر الحالة السّلوكيّة للطّفل الجانح وأساليب التّربية المعتمدة في شأنه لتقييم مدى ملاءمة العقوبة مع شخصيّة الطّفل وقدرتها على إصلاح مواطن الخلل في شخصيّته([109]). وقد مكّن الأمر عدد 2423 لسنة 1995 في فصله الثّالث المؤرّخ في 11 ديسمبر 1995 المتعلّق بالنّظام الدّاخلي الخاصّ بمراكز إصلاح الأحداث المنحرفين الذي أكّد على أنّه : « يتمّ بالتّعاون مع قاضي الأحداث توجيه الأحداث إلى مختلف هذه الأنظمة بالتّدرّج إثر قضاء فترة ملاحظة تشفع بدراسة حالة الحدث لتقييم تطوّره السّلوكي والنّفساني والمهني ».
حيث يقع الأخذ بتطوّر شخصيّة الطّفل في تحديد النّظام العقابي الملائم له ولشخصيّته، وقد كرّست بعض التّشريعات المقارنة هذا التّوجيه الجنائي للأطفال الجانحين موكّلة بذلك للسّلطة القضائيّة مهمّة الرّقابة والإشراف على التّدابير الوقائيّة والتّربويّة، ففي هذا الإطار أقرّ قانون الأحداث البحريني في الفصل 35 دور القاضي في متابعة التّدابير والأحكام الصّادرة ضدّ الطّفل حتّى يتسنّى له الوقوف على مدى ملاءمة العقاب للطّفل وانعكاساته إذ نص أنه : «… ويتولى القاضي زيارة دور الملاحظة ومراكز التّدريب المهني ومؤسّسات الرّعاية الاجتماعيّة والمستشفيات المخصّصة ومركز رعاية الأحداث التّابع لوزارة الدّاخليّة »([110]).
كمـا يشمل الإشراف تنفيـذ العقوبـات الجزائـيّـة فقـد نصّ الفصـل 99 م ح ط أنّه : «… يجوز تسليط عقاب جزائي على الطّفل مع مراعاة أحكام هذه المجلّة إذ تبيّن أنّ إصلاحه يقتضي ذلك وفي هذه الصّورة يقضي العقاب بمؤسّسة مختصّة وعند التّعذّر بجناح مخصّص للأطفال بالسجن ». يمكن القول أنّ تسليط عقاب جزائي على الطّفل الجانح بعد الاختيار النّهائي لقاضي الأطفال أو محكمة الأطفال أي لا تطلق إلاّ بصفة استثنائيّة([111])، فلا يمكن للسّلطة المختصّة أن توقع بالطّفل الجانح عقابا جزائيّا إلاّ متى ثبت لها قصور وعجز التّدابير عن تقويم الاعوجاج الحاصل في شخصيّته وبعد دراسة دقيقة لملفّ الواقعة وملفّ الشّخصيّة للطّفل وقد تعرّضت الفصول 79 و87 و88 م ح ط إلى مختلف هذه الملّفات.
والملاحظ أنّ إيداع الطّفل الجانح بالسّجن لا يمكن أن يكون إلاّ لمدّة قصيرة إذ اقتضى الفصل 13 م ح ط أنّ أحكام هذه المجلّة ترمز إلى إيجاد الحلول الملائمة لظاهرة انحراف الأطفال بالاعتماد على المبادئ الإنسانيّة والإنصاف… كما أكّدت م ح ط على حقّ هذا الأخير أثناء تنفيذ الوسيلة الوقائيّة أو العقوبة من التّمتّع بإجازة دوريّة ومحدودة المدّة تراعي في إسنادها مصلحته الفضلى([112]) ذلك لتمتين علاقته بمحيطه العائلي، كما يمكن للقاضي أو محكمة الأطفال استنادا إلى الفصل 79 م ح ط أن “يتّخذان حسب الصّور وسائل الوقاية والإسعاف والمراقبة والتّربية المناسبة…” والغاية من توسيع نطاق الإشراف القضائي على الأطفال مراعاة شخصيّتهم وحسن تأطيرها ومراقبة التّطور الملمّ بها ومدى ملاءمة العقوبة أو التّدبير المسلّط على الطّفل لتقييم نجاعة القرارات المسلّطة عليه ومحاولة تعديلها إن أمكن ذلك عبر الاستناد إلى السّلطة المخوّلة له.
ونستنتج ممّا سبق بيانه أنّ متابعة قاضي الأطفال للقرارات المتّخذة في شأن الطّفل تمكّنه من إيجاد خصائص شخصيّة الطفل لتمكينه من الإحاطة بالمشاكل الحقيقيّة المؤثّرة على الطّفل حتى يتمكّن من انتشاله من كلّ ما يمثل خطرا عليه، هذا ما دفع المشرّع لمنح قاضي الأطفال آليّات قانونيّة تدعم تدخّله في تحقيق الملاءمة بين العقوبة المسلّطة وتطوّر شخصيّة الطّفل الحدث.
ب- تنوّع آليّات القرار
إنّ قضاء الأطفال قضاء من نوع خاصّ يجمع بين الصّفتين القضائيّة والوصائيّة وكذلك الرّعائيّة، كما أنّ دوره ممتدّ في الزّمن لا ينتهي بمجرّد النّطق بالحكم وإنّما يتواصل ويتدعّم أكثر خلال مرحلة التّنفيذ وللغرض مكّنه المشرّع من عدّة صلاحيّات تدعم ولايته القضائيّة على الطّور التّنفيذي وتمكّنه من الإحاطة بالتّطوّرات الطّارئة على شخصيّة الطّفل عبر ملاحظة شخصيّته والقيام بدراسة شاملة لأحواله، على إثرها يحاول قاضي الأطفال التّدخّل لجعل العقوبة تتلاءم ومميّزات الطّفل، كما يرفع العراقيل التي تواجهه وتحول دون إعادة تأهيله نفسيّا واجتماعيّا ومهنيّا([113]).
من هذا المنطلق مكّن المشرّع قاضي الأطفال في مراحل تنفيذ خطّة العلاج من عديد الآليّات التي تدعّم تفاعل شخصيّة الطّفل مع البرامج التّربوية والإصلاحيّة المشرعة، وتتجسّد الصّلاحيّات في :
* آليات القرار الممنوحة لقاضي الأطفال :
وهي الصّلاحيّات التي خوّلها المشرّع للقاضي وتتمثّل في :
-إعادة النّظر في ملفّ الطّفل مرّة كلّ ستّة أشهر على أقصى تقدير قصد مراجعة الإجراء المقرّر سواء من تلقاء نفسه أو بطلب من النّيابة العموميّة أو الطّفل أو والديه أو المقدّم عليه أو حاضنه أو محاميه أو مدير المؤسّسة الموضوع بها([114]).
نستخلص أنّ المشرّع في تكريسه لمبدأ إعادة النّظر في ملفّ الطّفل خروجا عن القواعد العامّة التي تنصّ أنّ صدور الحكم في الموضوع من شأنه إخراج القضيّة عن ولاية القاضي ولا يجوز له بعد ذلك إعادة النّظر مجدّدا فيها إلاّ عن طريق الطّعن بالطّرق المقرّرة قانونا([115])، ويرد هذا الاستثناء لحماية المصالح الفضلى للطّفل المنحرف وللقضاء على صرامة الأحكام القضائيّة والتّوجّه نحو الأخذ بخصوصيّات شخصيّته.
كما أنّ إعادة النّظر في ملفّ الطّفل الجانح لا يمسّ بقاعدة اتّصال القضاء، فقاضي الأطفال لا يعود إلى مناقشة الوقائع ولا يمسّ بمبدأ الإدانة التي سبق أن تمّ البتّ فيها وإنّما ينظر في مدى ملاءمة الإجراء التّربوي أو العقابي لوضع الطّفل القانوني والواقعي.
واستنادا إلى هذه الآليّة يمكن لقاضي الأحداث أن يستبدل العقاب البدني بإجراء وقائي، إذ ثبت له تطور شخصية الطفل وتحسين سلوكه، ممّا يدعّم دور قاضي الأطفال كمشرف على تنفيذ العقاب باعتباره يحدّد أسلوب معاملة الطّفل الجانح ونوع المؤسّسات التي يودع بها وتعديل التّدابير والعقوبات المحكوم بها([116])، أمّا الآلية الثّانية فتتمثّل في :
-المراجعة وتعديل أهمّ الآليّات التي تدعّم ولاية قاضي الأطفال على القرارات المتّخذة بشأن الطّفل الجانح خلال طور التّنفيذ، فاستنادا للفصل 111 م ح ط أسند لقاضي الأطفال في أيّ وقت وبطلب من الطّفل أو والديه أو مقدّمه أو حاضنه أن يغيّر ما اتّخذه من القرارات الوقائيّة أو الجزائيّة إذا كانت صادرة في غياب الطّفل وصارت باتّة بانقضاء آجال الاستئناف.
تبعا لذلك فالمراجعة هي آليّة قانونيّة ترمي أساسا إلى تغيير القرارات الصّادرة في غياب الطّفل والتي أضحت باتّة بانقضاء آجال الاستئناف، كما لا تؤدّي هذه الآليّة بأيّ حال من الأحوال إلى تعكير حالة الطّفل الجانح القانونيّة والواقعية([117])، عمليّا يقوم مديرو المؤسّسات الإصلاحيّة على تقديم مطالب المراجعة إلى قاضي الأطفال بهدف مراجعة الأحكام والتّدابير التّربويّة الصّادرة بشأن الطّفل المودع بها ولأهميّة تطوّر شخصيّة الطّفل يقع الاستناد لمثل هذه الآليّات سعيا لتحقيق الملائمة بين طبيعة العقوبة وشخصيّة الطّفل للوصول إلى إصلاح هذا الأخير وتقويم شخصيّته، لذلك عادة ما يلحق مطلب المراجعة بتقرير حول سيرة وسلوك الطّفل داخل الإصلاحيّة وحالته النّفسيّة ومدى اندماجه مع بقيّة الأطفال المودعين وتقبّله لبرامج التّأهيل المهني والتّربوي([118])، أمّا الصّلاحيّة الأخيرة المتعلّقة بآليّات القرار فتتمثّل في :
-البتّ في الصّعوبات التّنفيذيّة والأمور الطّارئة تدعيما لضمان عمليّة إصلاح الطّفل الجانح، ولتسير حسن تنفيذ التّدبير المحكوم به مكّن المشرّع قاضي الأطفال وفقا للفصل 110 م ح ط النّظر في جميع الأمور الطّارئة التي تستدعى تدخّله، وقد ترك أمر تقدير تلك الأمور إلى اجتهاد القاضي وذلك باعتبار أنّه لم يحدّد مفهوم الصّعوبات التّنفيذيّة والأمور الطّارئة ولم يحدّد ميدان تدخّل قاضي الأطفال ممّا يعطي للقاضي سلطة واسعة في تقرير ما إذا كانت الحالة المعروضة أمامه تمثّل أمرا طارئا أو تشهد صعوبة تنفيذيّة تستدعى تدخّله([119]) لتسهّل عليه إصلاح ومتابعة تطوّر شخصيّة الطّفل لحسن تنفيذ التّدابير التّربوية والعقوبات الجزائيّة بما يكفل تقويم شخصيّة الطّفل وتأطيرها.
أمّا من النّاحية الجزائية حدّد الفصل 112 م ح ط معايير اختصاص قاضي الأطفال برفع الإشكالات العمليّة والأمور الطّارئة التي تطرح أثناء التّنفيذ، ومع تنوّع آليّات القرار وأهميّتها على مستوى التّطبيق يجب التعرّض إلى آليات المراقبة للتّدابير والإجراءات المقرّرة إزاء الطّفل الجانح والتي تتمثّل في :
-الإشراف على هياكل الحريّة المحروسة، ويكون ذلك بالإشراف على حسن أداء المندوبين القارّين لمهامهم والتثبّت من حصول التّنسيق بينهم وبين المندوبين المتطوّعين.
فالحرّيّة المحروسة تعدّ تدبير علاجي يبقى الطّفل الجانح في بيئته الاجتماعيّة متمتّعا بحريّته تحت رعاية وملاحظة هيكل مختصّ في شؤون الطّفولة قصد تقويم الاعوجاج الطّارئ على شخصيّة الطّفل دون الالتجاء إلى إيداعه بالمراكز الإصلاحيّة، وذلك للمحافظة على استقراره النّفسي الذي يعدّ ضروريّا للتّجاوب مع برامج التّأهيل التّربوي([120]).
وعهد بمهمّة مراقبة الأطفال الموضوعين تحت نظام الحريّة المحروسة لمندوبين قارّين ومتطوّعين([121]) يتعهّدون بجمع كافّة المعلومات والإرشادات حول وضعيّة الطّفل الجانح النّفسيّة والعائليّة وحول علاقاته الاجتماعيّة([122]).
فيحرّر مندوب الحرّيّة المحروسة تقريرا يمدّ به قاضي الأطفال إذا ما ساء سلوك الطّفل ولحق به خطر أدبي أو إذا ما وقع تعطيله عند قيامه بمأموريّته وهو ما نصّ عليه الفصل 108 م ح ط.
وما يمكن استخلاصه أنّ قاضي الأطفال يتولّى مراقبة سير نظام الحرّيّة المحروسة عبر التّقييم والإشراف على أداء المندوبين القارّين لمهامهم ومدى تعاونهم مع المندوبين المتطوّعين ففي ذلك ضمان لحسن تأطير شخصيّة الطّفل وحسن توجيهه وتقويم شخصيّته وهو الهدف من فرض هذا التّدبير العلاجي.
أمّا الآليّة الثّانية للرّقابة فتتمثّل في متابعة إجراءات الوساطة وهي تعدّ من أبرز الآليّات القانونيّة التي تدعّم وضعيّة الطّفل الجانح إذ ترمي إلى إبرام صلح بين الطّفل الجانح ومن يمثّله قانونا وبين المتضرّر أو من ينوبه أو ورثته، وتهدف إلى إيقاف مفعول التتبّعات الجزائيّة أو المحاكمة أو التّنفيذ([123]).
ويمكن إجراء الوساطة في كلّ وقت وعلى الطّفل سواء كان عقابا جزائيّا أو وسيلة وقائيّة، لكنّ المشرّع حدّد مجال الوساطة بحسب نوع الجريمة([124]) يبيّن أنّ المشرّع تماشى مع المبادئ العامّة التي كرّسها والتي تهدف إلى إحاطة الطّفل بأقصى ما يمكن من الوسائل لحمايته وللحفاظ عليه مع الحفاظ على القيم الاجتماعيّة بعدم إهمال المتضرّر وجبر خاطره، أحدثت هذه الآليّة لأوّل مرّة في التّشريع التّونسي المتعلّق بالأطفال الجانحين([125]).
ويحتلّ قاضي الأطفال مكانة هامّة في سير إجراءات الوساطة إذا تولّى مراقبة كتب الصّلح الذي يرفعه إليه مندوب حماية الطّفولة وفق ما اقتضاه القانون، فيتولّى إقراره وإكسائه بالصّبغة التّنفيذيّة ما لم يكن مخلاّ بالنّظام العامّ أو الأخلاق الحميدة، كما له مراجعة الكتب المذكورة إذا اقتضت مصلحة الطّفل الفضلى، ذلك وهو ما نصّ عليه الفصل 116 م ح ط أو إذا كانت به بنود تقمع حقوقه الأساسيّة خاصّة أنّ الهدف من الاستناد لمثل هذه الآليّة هو إعطاء فرصة للطّفل لتغيّر نوعيّة سلوكه وتحسين تصرّفاته بما يتماشى ونواميس المجتمع.
الفقرة الثّانية : تدعيم صلاحيّات قاضي تنفيذ العقوبات
تجد مؤسّسة قاضي تنفيذ العقوبات فلسفتها في المفاهيم الحديثة للسّياسة العقابيّة وفي أبعادها الإنسانيّة النّبيلة على أساس قيم العدالة المشخّصة وملائمة العقاب مع شخص المحكوم عليه وذلك بتجنّب السّجن قدر الإمكان مقابل تدابير وواجبات تقيّد من حريّته، كلّ ذلك توصّلا للإحاطة به وتأهيله لاستبعاد دوافع الانحراف لديه وإعادة إدماجه صلب حظيرة المجتمع سليما معافى([126])، وتبعا لهذا التّوجّه بادرت التّشريعات الجزائيّة إلى التّشريك في التّنفيذ العقابي.
فقد أرسى المشرّع الإيطالي منذ 1930 مؤسّسة قاضي تنفيذ العقوبات([127])، وأقرّ المشرّع الفرنسي بمجلّة الإجراءات الجنائيّة لسنة 1958 وجود قاضي يتولّى مراقبة تنفيذ العقوبات ويمارس صلاحيّاته بكل محكمة ابتدائيّة ويتمّ تعيينه بأمر بعد أخذ رأي مجلس أعلى للقضاء([128])، أمّا في مصر فقد أوكل المشرّع مهمّة الإشراف على التّنفيذ العقابي إلى النّيابة العامّة بمقتضى المادّة 86.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا التّوجّه يعكس أهداف السّياسة العقابيّة الحديثة الهادفة للوقوف في وجه الإجرام عبر تأهيل وتتطوّر دور قاضي تنفيذ العقوبات وتدعيم مهامه وصلاحيّاته، فهو الهيكل الأقرب من المحكوم عليه والقادر على فهم معالم شخصيّة كلّ سجين ومعاينة التّطوّرات الحاصلة نتيجة تفسير نمط وأسلوب حياته يوما بعد يوم، فطريقة العيش داخل السّجن سوف تؤثّر حتما على شخصيّته وتتحقّق هذه الملاحظة أو الدّراسة من خلال الاحتكاك المتواصل مع السّجناء،
أمّا في تونس فإنّ مؤسّسة قاضي تنفيذ العقوبات كانت مجهولة وظلّت لسنوات كمطلب ملحّا لتحقيق نجاعة السّياسة الجنائيّة الحديثة الداعية لمراعاة شخصيّة الجاني وتفريد الجزاء سعيا لتحقيق العدالة الجزائيّة فلكي ترتقي بهذه المفاهيم وتخرج بها من التّجريد إلى التّطبيق وجب خلق مؤسّسة مؤهلة لمراقبة حسن تطبيق العقوبات وقادرة على ملاءمتها مع التّطوّرات المستجدّة من خلال الصّلاحيّات أو الآليّات المسندة لهذا الهيكل.
تدعّم دور قاضي تنفيذ العقوبات بأمر صدر بتاريخ 31 جويلية 2000 القانون عدد 77 لسنة 2000 المتعلّق بتنقيح بعض الفصول من مجلة الإجراءات الجزائيّة أبرزت تطوّرا ملحوظا على مستوى التّشريع والتّطبيق وذلك “لفرط اتصالها بحسن أداء رسالة العقاب في تقويم أصحاب النّفوس المنحرفة عن طريق تغيير المعاملة المناسبة لكلّ منهم”([129]).
وعلى ضوء ما تقدّم فإنّ مسألة تكريس تدخّل قاضي تنفيذ العقوبات في مجال التّنفيذ يكتسي أهميّة بالغة في الاتّجاهات العقابيّة الحديثة، ويتجلّى من خلال معايير اختصاص قاضي تنفيذ العقوبات (أ) واتساع مهامّه لحسن تأطير شخصيّة المحكوم عليه إلى جانب تدعّم صلاحيّات القرار المسندة له لمواكبة تطوّر شخصيّة السّجين وتطوير العقاب لملاءمة هذه التّحوّلات (ب).
أ- الإحاطة بحسن تطبيق العقوبة
تهدف السّياسة العقابيّة الحديثة إلى تأكيد تأصيل الولاية القضائيّة على تنفيذ العقوبات الجزائيّة خاصّة السّالبة للحرّيّة، ويقوم التّدخّل القضائي في التّنفيذ العقابي على أسس واقعيّة هامّة تتمثل في متابعة تنفيذ العقوبة الملائمة لشخصيّة الجاني ومدى نجاعتها في تحقيق أبعادها الرّدعيّة والإصلاحيّة والتّأهيليّة للحدّ من النّزعة الإجراميّة الكامنة في شخصيّة السّجين وقطع الطّريق بينه وبين عالم الانحراف والإجرام.
لتبرز مهامّه كعمليّة تقييميّة وإصلاحيّة للبرامج المنتهجة السّاعية لتحقيق أهداف العقوبة المسلّطة على المحكوم عليه، إذا يعدّ تدخّله بمثابة الوصل بين النّشاط القضائي خلال مرحلة المحاكمة والنّشاط العقابي خلال مرحلة التّنفيذ([130])، فمكافحة الجريمة لا تقف عند تحقيق أركانها والنّطق بالعقوبة الملائمة لشخصيّة الجاني، وإنّما تتعدّى ذلك لتشمل بصفة هامّة مرحلة تنفيذ الجزاء، ويفسّر هذا الامتداد بتطوّر شخصيّة المحكوم عليه استنادا إلى الظّروف التي تواجهه داخل المؤسّسات العقابيّة.
وعلى هذا الأساس منح المشرّع لقاضي تنفيذ العقوبات صلاحيّات واسعة في إطار تدعيم دوره في متابعة العقوبة الجزائيّة السّالبة للحريّة، حيث “يتوّلى قاضي تنفيذ العقوبات مراقبة ظروف تنفيذ العقوبات السّالبة للحرّيّة المقضات بالمؤسّسات السّجنيّة الكائنة بمرجع النّظر التّرابي الرّاجع لها النّظر”([131]).
اسند لقاضي تنفيذ العقوبات دور الإشراف على ظروف تنفيذ العقوبة السّالبة للحرّيّة داخل المؤسّسات العقابيّة ومتابعة تطوّر شخصيّة الجاني بعد اطّلاعه على ملفّ المحكوم عليه الذي تمّ إعداده قبل صدور الحكم ودعّم بعد دخوله السّجن، فهل تعدّ المعلومات الواردة في هذا الملف حول شخصيّة المحكوم عليه كافية لتمكين قاضي تنفيذ العقوبات من إعداد برنامج المعاملة الملائم ؟
إنّ قاضي التّنفيذ بصدد التّعامل مع كائن يمثّل كتلة من المشاعر والأحاسيس المتكيّفة مع ظروف بيئته أي متطوّرة مع نمط وأسلوب حياته يوما بعد يوم، وطريقة العيش داخل السّجن سوف تأثّر حتما على شخصيّة المحكوم عليه، ممّا يدخل تغييرا على النّتائج التي دوّنت أثناء فحصه قبل المحاكمة وإثر دخوله السّجن، لذلك وجب إجراء فحص دوريّ لشخصيّة المحكوم عليه للكشف عن تطوّر شخصيّاتهم بموجب الحياة داخل السّجن، فالتّعرّف على معالم الشّخصيّات أثناء التّنفيذ يعدّ عنصرا أساسيّا لتجنّب الأخطاء في التّشخيص، التي كثيرا ما تؤدّي إلى فشل المعاملة، لذا ينبغي على قاضي التّنفيذ أن يكمّل بنفسه المعلومات المتاحة إن لم تكن كافية عبر الإذن بإجراء فحوص وتحقيقات من أجل تكوين الملف العقابي، وحتّى يتسنّى له سدّ الثّغرات التي يحميها ملفّ الشّخصيّة على الوجه المطلوب، أسندت له معظم التّشريعات التي تعترف بهذه المؤسّسة سلطات واسعة.
1- زيارة السّجن ومقابلة المساجين
حيث تضمّن الفصل 30 من قانون 14 ماي 2001 المتعلّق بنظام السّجون “الحقّ في زيارة السّجن دون أن يتوقّف ذلك على ترخيص، فيزور قاضي تنفيذ العقوبات السّجن مرّة في الشّهرين على الأقلّ للاطّلاع على أوضاع المساجين كما يتولّى مقابلة المساجين الرّاغبين في ذلك أو من يرغب في سماعهم بمكتب خاص”([132]). وتفعيل دور الرّقابة القضائيّة لظروف التّنفيذ تعدّ من الآليّات الفعّالة لمتابعة وتقييم تنفيذ العقوبة بالمؤسّسة السّجنيّة عبر الاحتكاك بالمساجين للتّعرّف والاطّلاع على ظروف عيشهم وخاصّة للاقتراب من السّجين في محاولة للتّعرّف على شخصيّته والتّوصّل إلى مدى قابليّته واستعداده للتّقويم والتّهذيب.
لأهميّة الإشراف على ظروف التّنفيذ لم يقيّد المشرّع زيارة السّجين من قبل قاضي تنفيذ العقوبات ولم يحدّد إجراءات معقّدة تعيق عمليّة المراقبة كشكليّة الاسترخاص المسبق من الوزير المكلف بالسّجون والإصلاح أو من الإدارة المكلّفة بذلك([133])، فقيمة هذه الزّيارات تكمن في إخراج المحكوم عليه من المجموعة التي وضع ضمنها للتّقرّب منه كفرد مستقلّ عن طريق التّحاور معه في محاولة لفهم شخصيّته وحسن تقدير مدى ملاءمة المعاملة العقابيّة التي تطبّق عليه بالذّات، وهل أنّ خطورته الإجراميّة قد زالت أم أنّها في طريقها نحو الزّوال، فمهمّة قاضي التّنفيذ لا تنصبّ على تنفيذ العقوبة بصفة عامّة، ولكن على إجراءات هذا التّنفيذ وحالة المحكوم عليه.
قد شكّك البعض في جدوى الزّيارات التي يؤدّيها قاضي التّنفيذ إلى المؤسّسات السّجنيّة نظرا لاكتظاظ السّجون وصعوبة الالتقاء بكلّ المسجونين مع تخصيص الوقت الكافي لكلّ وضعيّة على حدة مع ما تتطلّبه من تركيز واطّلاع مسبق على ظروف المحكوم عليهم بصفة منفردة، كما أنّ المدّة التي ضبطها المشرّع التّونسي والتي يزور خلالها قاضي التّنفيذ المؤسّسات السّجنيّة المتمثّلة في مرّة في الشّهرين على الأقلّ (الفصل 342 ثالثا فقرة أولى م ا ج)، تعتبر مطوّلة بعض الشّيء، رغم أنّ المشرّع قد خفّض شهرا كاملا عن المدّة التي ضبطها مشروع القانون، حيث جاء بالفصل 342 رابعا من مشروع القانون « يتولّى قاضي تنفيذ العقوبات زيارة السّجن مرّة كلّ ثلاثة أشهر على الأقلّ ».
في المقابل نجد أنّ المشرّع الفرنسي خوّل لقاضي التّنفيذ زيارة السّجن مرّة كلّ شهر على الأقلّ لفحص مختلف الدّفاتر والاستماع للمحكوم عليه من تلقاء نفسه أو بناء على طلبه (الفصل 767 م ا ج ف) فبقدر ما تتكثّف الزّيارات بقدر ما يقترب قاضي التّنفيذ من شخصيّة المحكوم عليه، بالتّالي تتدعّم حظوظ نجاح هذه المؤسّسة وتحقيق الأهداف التي بعثت من أجلها عبر ضمان التّفريد في مرحلة التّنفيذ، لذلك عملت معظم التّشريعات المقارنة على تأكيد واجب الزّيارات من ذلك التّشريع الجزائري الذي نصّ صلب الفصل 46 من قانون تنظيم السّجون والإيطالي ضمن المادّة السّادة من اللاّئحة العقابيّة الصّادرة في 18 جوان 1931 والمؤكّدة على زيارة القاضي المشرف على التّنفيذ للمؤسّسات العقابيّة إلى جانب زيارة النّيابة العموميّة.
تدعّم دور القضاء في مراقبة ظروف التّنفيذ باعتباره سلطة إشراف وجب عليه متابعة كلّ حالة بصفة فرديّة أثناء فترة العقاب([134])، فهل أنّ كلّ قاضي مهما كانت رتبته له أن يتعهّد بهذه المهمّة البالغة الأهميّة ؟
كلّف قاضي من الرّتبة الثّانية بمباشرة مثل هذه المهام تكون “لديه القدرة على تمييز أنماط وأصناف المنحرفين اعتمادا على ثقافته وقدرته العمليّة التي لا غنا عنها لبلوغ أهداف السّياسة الجزائيّة الحديثة والتّمكّن من حسن الإحاطة بالظّروف الواقعيّة لتنفيذ العقوبة الجزائية، فقاضي التّنفيذ هو قاضي اجتماعي لأنّه يقوم بدور فعّال لأنسنة أسلوب المعاملة، فيأخذ بعين الاعتبار حالة المحكوم عليه في مختلف جوانبها القانونيّة والشّخصيّة والاجتماعيّة ويحدّد قدراته البدنيّة والذّهنيّة والثّقافيّة،
ومثل هذا الأمر يتطلّب خبرة اجتماعيّة وقدرات ذهنيّة لفهم شخصيّة الجاني وتمييز صدق كلامه من خلافه، حيث تلعب خبرة القاضي دورا هامّا في هذا الميدان، لأنّه يتعامل مع أصناف متعدّدة من المجرمين وعليه التّمييز بينهم بموجب خبرته، بين من ندم على فعلته بمجرّد دخول السّجن ومن يصرّ على نزعته الإجراميّة، وهي مهمّة صعبة ودقيقة، تتطلّب تكوينا خاصّا في عديد العلوم كعلم الإجرام وعلم النّفس وعلم بسيكولوجيا وعلم الاجتماع التي تساهم في إنجاح مهمّة هذا القاضي للوصول إلى معرفة حقيقة الجاني دون الانخداع بتصرّفاته، كما لا يقتصر دور قاضي التّنفيذ على دراسة شخصيّة السّجين، وإنّما يراقب الإطار الذي يوجد به هذا الأخير والضّغوطات التي تسلّط عليه.
ويمكن استنتاجها من مراقبة دور الإدارة العقابيّة في مراعاة حرمة السّجين الجسديّة والمعنويّة المؤثرة على شخصيّة السّجين والدّافعة له نحو تخطّي مواطن الخلل التي مكّنته من الإقدام على مثل هذه الأفعال الإجراميّة.
ونقصد بالإحاطة بالظّروف الواقعيّة احترام مقتضيات القانون عدد 52 لسنة 2001 المؤرخ في 14 ماي 2001 المتعلق بنظام السّجون الذي يحمّل الإدارة العقابيّة مجموعة من الالتزامات القانونيّة لحسن تطبيق العقوبة، وتحقيقا لأغراضها وجب تقريب العيش داخل السّجون من الحياة العاديّة لتهيئة أرضيّة صالحة لتطوير شخصيّة السّجين ودفعه للتّأقلم والتّفاعل مع البرامج الإصلاحيّة والتّأهيليّة.
ويتطلّب ذلك توفير الحقوق الأساسيّة لأيّ إنسان وحماية ذاته وكرامته للتّقليص من النّزعة الإجراميّة والاستعدادات الكامنة في ذاته نحو الإجرام، وقد حدّد القانون المتعلّق بنظام السّجون هذه الحقوق ووسّع المشرّع صلاحيّات الرّقابة المسندة لقاضي تنفيذ العقوبات للإلمام بها ومواكبة نسق الأنظمة العقابيّة المقارنة التي قطعت شوطا متقدّما وتبرز هذه الصلاحيات في :
2- رقابة الرّعاية الصّحيّة للسّجين
حيث نصّ الفصل 342 م ا ج في فقرته الرابعة « يعلم طبيب السّجن قاضي تنفيذ العقوبات كتابيّا بالحالات الخطرة التي يعاينها ». تشمل هذه المعاينة الخدمات الصحّيّة كوسائل العلاج والأدوية ومراقبة النّظام الغذائي المعتمد والنّظافة عامّة، تتجلى أهميّة مراقبة توفّر مثل هذه الحقوق في دفع السّجين نحو التّأقلم مع برامج الرّعاية والتّفاعل معها لإيمانه بنجاعة هذه البرامج وقدرتها على تطوير شخصيّته وتقويمها كونها تراعى إنسانيّته وتوفّر حاجياته وتتجاوز الرّعاية نطاق الصّحّة لتشمل :
3- رقابة الرّعاية الاجتماعيّة للسّجين
تسند لإطارات مختصّة في هذا المجال ويتمثّل في مكتب الإرشاد الاجتماعي الموجود بكلّ مؤسّسة سجنيّة وتهدف لدراسة شخصيّة السّجين والعوامل المأثّرة عليه، ثمّ صقل طاقاته الفكريّة والبدنيّة لإعداده للحياة الحرّة وتهذيب سلوكه، وعلى إدارة السّجن واجب إعداد تقرير سنوي لقاضي تنفيذ العقوبات ينصّ على أهمّ أنشطتها الاجتماعيّة وأهدافها يستند لها قاضي التّنفيذ لفهم شخصيّة السّجين وميولاته للتّحقّق من مدى ارتداعه وتأثّره بالمعاملة العقابيّة المسلّطة عليه أي مدى ملاءمتها لمتطلّبات إصلاح شخصيّته.
وللحرص على أن تكون أعمال قاضي تنفيذ العقوبات ناجعة تقوم بالدّور المنوط بعهدتها وجب على هذا الأخير رفع تقرير سنوي محرّر من طرفه يتضمّن ملاحظاته واستنتاجاته ومقترحاته يحيله على وزير العدل، ممّا يحقّق تأطيرا فعّالا لظروف التّنفيذ العقابي ويحمي حقوق المحكوم عليهم لأنّ قاضي التّنفيذ يعدّ الأقرب والأكثر قدرة على فهم حاجيات السّجين لاحتكاكه بهم وإلمامه بخصائص شخصيّاتهم.
لكن يصطدم قاضي تنفيذ العقوبات إثر تدخّله في سير المؤسّسة السّجنيّة بتنازع بين صلاحيّاته وصلاحيّات أعوان الإدارة السّجنيّة الذين قد لا يرتاحون لوجود قاض ينازعهم في سلطتهم ويحدّ من نفوذهم([135])، فعلى الرّغم من كلّ ما يهمّ الإجراءات والقرارات المتّخذة تجاه المحكوم عليه تندرج ضمن اختصاصات الجهة القضائيّة، في حين تتدرّج القرارات ذات الطّبيعة التّنظيميّة الدّاخليّة ضمن اختصاص الجهة الإداريّة، ويبقى الإشكال قائما في نظام التّغذية والنّوم والعمل وأوقات الفراغ وتغيير الدّرجة داخل المؤسّسة له تأثير كبير على تطوّر شخصيّة المحكوم عليه نحو إصلاحه، حيث يلاحظ قاضي التّنفيذ من خلال الزّيارات التي يقوم بها مدى ملاءمة المعاملة العقابيّة ومتطلّبات شخصيّة الجاني، وفي صورة عدم التّلاؤم يطلب من الإدارة السّجنيّة القيام ببعض المهام ويطرح السّؤال عن مدى إلزاميّة مطالب القاضي تجاه الإدارة العقابيّة ؟
تأكّد ضمن ردّ لوزارة العدل وحقوق الإنسان عن المقترح الذي قدّمته لجنة الشّؤون السّياسيّة والعلاقات الخارجيّة لتعويض عبارة “يطلب من” الواردة بالفقرة الرّابعة من الفصل 342 م ا ج استبدالها بعبارة “يأذن”.
إنّ عبارة “يطلب من” تؤكّد علاقة التّعاون الرّابطة بين المؤسّسة السّجنيّة وقاضي تنفيذ العقوبات([136]).
لكن هذه الصّلاحيات لم تقف عند هذا الحدّ، فقد دعّمها المشرّع عبر تمتيع قاضي التّنفيذ بصلاحيّات القرار لأهميّة دوره وإلمامه بخصائص شخصيّة كلّ سجين ومتطلّباتها وهذا لا ينفي وجود بعض النّقائص التي تعيق دور قاضي تنفيذ العقوبات في تحقيق أهدافه قد يعود ذلك إلى حداثة التّجربة التّونسيّة مقارنة بالتّشاريع المقارنة أو إلى الضّعف الهيكلي لتحمّله لالتزامات وأعمال قضائيّة أخرى إضافة إلى الإشراف على التّنفيذ، ممّا يتحتّم معه تعزيز هذه المؤسّسة بهياكل تساعده على إجراء أعماله على النّحو المطلوب كما هو الحال بفرنسا([137]).
ب- توسيع نطاق القرارات لتحقيق الملاءمة
أمام احتكاكه المباشر بالمحكوم عليه واطّلاعه على أوضاع المساجين داخل المؤسّسة العقابيّة وإلمامه بالظّروف القانونيّة والواقعيّة بالأهمّ، أصبح قاضي تنفيذ العقوبات يميّز بموجب خبرته خصائص كلّ محكوم عليه فلا يكتفي بظواهر الأمور وإنّما يقتحم ذات الفرد ويتعامل مع شخصيّته لا ظواهر أفعاله ليكتشف مدى ملاءمة العقوبة المسلّطة عليه وقدرتها على تغييره نحو الأفضل عبر إصلاح مواطن الخلل فيها، وسلوك السّجين لا يعكس حقيقة نواياه وخصائص شخصيّته وهذا ما أشار إليه الأستاذ “رضا المزغني”. إنّ السّلوك المبني على الامتثال والطّاعة لا يخلو من أحد الأمرين، إمّا المداهنة المحسوسة من السّجين قصد الحصول على مكافأة، أو الخضوع المفرط المنجرّ على التّكيّف مع البيئة السّجنيّة ممّا يذيب شخصيّة السّجين([138]).
إذا سعيا لتأصيل العمل بالسّياسة الجنائيّة الحديثة وأمام حساسيّة المهامّ المسندة لقاضي تنفيذ العقوبات وأهميّة دوره اسند له المشرّع في إطار أدائه لمهامّه صلاحيّات تخوّل له اتّخاذ قرارات مهمّة تكون حصيلة إطّلاعه وإلمامه بصورة شاملة بظروف قضاء العقوبة وتطوّر شخصيّة السّجين.
كما حدّدت صلاحيّات القرار منذ البداية بتطبيق العقوبات الجزائيّة دون أن تمسّ بمبدأ اتّصال القضاء بالعقوبة، فالأحكام الجزائيّة الصّادرة بالإدانة والقرارات القضائيّة تنفّذ، وعلى هذا الأساس تحدّد هذه القرارات بـ :
* منح تراخيص الخروج من المؤسّسة السّجنيّة :
نصّ الفصل 342 ثالثا مجلّة الإجراءات الجزائيّة على أنّ قاضي تنفيذ العقوبات “ينظر في منح هذه التّراخيص لزيارة الزّوج أو أحد الأصول أو الفروع عند المرض الشّديد أو لحضور موكب جنازة أحد الأقارب…”.
إذا يخوّل تراخيص الخروج للمحكوم عليه التّغيّب عن المؤسّسة السّجنيّة زمنا معينا يقع احتسابه ضمن مدّة العقوبة كما وقع التّنصيص عليه صلب الفصل 18 من القانون عدد 52 لسنة 2001 المؤرخ في 14 ماي 2001 المتعلّق بنظام السّجون، وذلك كتقرير لفكرة مراعاة حالة السّجين ومراعاة نفسيّته والتّقلّبات التي من الممكن أن تؤثّر سلبا على شخصيّته فتخلق فيه إحساسا بالنّقمة والحقد تجاه المجتمع ككلّ عوضا عن علاجه وإصلاحه، ويعود لقاضي تنفيذ العقوبات السّلطة المطلقة في تقدير الحالات التي تستوجب إسناد هذه الرّخصة خاصّة أنّ هذه الآلية لا يجب أن تتحوّل إلى حقّ مكتسب يطالب به أيّ سجين فيفقد أهميّته وأهدافه كجائزة يتمتّع بها المحكوم عليه الذي ارتدع وأثبت ذلك من خلال تصرّفاته.
كما يمكن لقاضي تنفيذ العقوبات منح السّراح الشّرطي وهو ما جاء به القانون عدد 92 لسنة 2002 المؤرّخ في 29 أكتوبر 2002 المتعلّق بتنقيح وإتمام مجلّة الإجراءات الجزائيّة لتدعيم صلاحيّات قاضي تنفيذ العقوبات، حيث نصّ الفصل 342 م ا ج في فقرته الثّالثة أن لقاضي تنفيذ العقوبات “أخذ رأي وكيل الجمهوريّة أنّه يمنح السّراح الشّرطي للمحكوم عليه بالسّجن لمدّة لا تتجاوز ثمانية أشهر من أجل ارتكابه جنحة والذي تتوفّر فيه الشّروط المنصوص عليها بالفصلين 353 و355 من هذه المجلة”.
بعدما كان دوره مقتصرا على مجرّد اقتراح منح السّراح الشّرطي تدعّمت صلاحيّاته نحو منحه على أنّ وكيل الجمهوريّة يمكنه الطّعن في قرار السّراح الشّرطي وطعنه يوقف التّنفيذ([139]). وتقوم هذه الصّلاحيّة على طلب التّمتّع بالسّراح الشّرطي([140]) قبل انتهاء أمد العقاب في نطاق التّدرّج به من مرحلة الحرمان المطلق من الحرّيّة إلى مرحلة أخفّ تؤدّي في النّهاية إلى استرجاعه لحريّته كاملة إذا ما تبيّن أنّ العقوبة التي قضّاها قد حقّقت بعدها الرّدعي والإصلاحي وإنّ شخصيّة المحكوم عليه تجاوزت مواطن الخلل فيها، واستطاع بالتّالي السجين التّغلّب على النّوازع الإجراميّة عبر صحوة ضميره واقتناعه بأخطائه، ويكون ذلك نتاجا لحسن اختيار العقوبة القادرة فعلا على صلاح وتقويم شخصيّة الجاني إلى جانب نجاعة تطبيقها أي إخراجها من التّجريد وتمثيلها على أرض الواقع باختبار المعاملة العقابيّة الأنجع للسّجين والمتماشية وخصائص شخصيّته ثمّ انتظار انعكاساتها على هذا الأخير عبر ملاحظته طيلة بقائه في السّجن واستنتاج مدى نجاعة وملاءمة تطبيق هذه العقوبة على تطوير خصائص شخصيّة المحكوم عليه والتي تختلف من فرد لآخر، عليه يصبح لقاضي تنفيذ العقوبات سلطة تقديريّة في منح السّراح الشّرطي يعتمد فيها على عدّة معايير، ترك له المشرّع مهمّة اختيارها وتقديرها بحسب ما يراه ملائما للوضعيّة القانونيّة والواقعيّة للسّجين وهي معايير تعكس مدى جدارة واستحقاق هذا الأخير للتّمتّع بالسّراح الشّرطي([141]).
ويعدّ منح السّراح الشّرطي بمثابة الجائزة التي يتمتّع بها السّجين الذي أدرك أخطاءه وأصلح شخصيّته، فإسناد السّراح الشّرطي فيه أخذ بعين الاعتبار استقرار السّجين نفسيّا الذي يساهم بصورة فعليّة في نجاح البعد الإصلاحي والتّأهيلي للتّنفيذ العقابي. فمنح السّراح الشّرطي لا يأتي بصفة اعتباطيّة وإنّما بعد بحث ودراسة لشخصيّة السّجين والإحاطة بالظّروف الواقعيّة للتّنفيذ العقابي بهدف تشخيص عقوبة المحكوم عليه ومتابعة حياته السّجنيّة وظروفه الاجتماعيّة والتي تدرج بملفّ المحكوم عليه وهذه الإرشادات من شأنها أن تعتمد عند اتّخاذ القرار([142])، غير أنّ قرار منح السّراح الشّرطي يبقى موقوفا على استقامة المحكوم عليه فإذا ما تبيّن بعد التّمتّع به أنّ تواجد المحكوم عليه خارج المؤسّسة السّجنيّة يشكّل مصدر قلق وأنّه ارتدّ إلى تصرّفاته الإجراميّة ولم يرتدع يقع الرّجوع في السّراح الشّرطي ليستأنف تنفيذ العقاب السّالب للحرّيّة لعلّه يرتدع.
لكن تبقى صلاحيّة إسناد السّراح الشّرطي محدودة ومقتصرة على مادّة الجنح المعاقب عليها بالسّجن لمدّة لا تزيد عن ثمانية أشهر مقارنة بصلاحيّات قاضي تنفيذ العقوبات الفرنسي الذي اسند له منح سراح شرطي لمحكوم عليه الذي تتجاوز مدّة عقوبته خمس سنوات وبعد أخذ رأي لجنة تنفيذ العقوبات، أمّا إذا تجاوزت العقوبة هذا الحدّ يرجع الأمر إلى وزير العدل([143]) فإنّ التّشريع الفرنسي أصل مبدأ الأخذ بشخصيّة السّجين وأقرّ أهميّة قاضي تنفيذ العقوبات في تحقيق ذلك، وتجدر الملاحظة أنّ تركيز الولاية القضائيّة على طور تنفيذ العقوبة لدعم صلاحيّات قاضي تنفيذ العقوبات وتدعيم سلطاته داخل وخارج المؤسّسة العقابيّة عبر :
-الإشراف على تنفيذ عقوبة العمل لفائدة المصلحة العامّة : يعتبر العمل بنظام النّقل خارج السّجن بالنّسبة للعقوبات القصيرة أو في نهاية العقوبات الطّويلة تمهيدا للاندماج في الحياة الحرّة، ويتولى قاضي تنفيذ العقوبات التّابع له مقرّ إقامة المحكوم عليه والتّابع للمحكمة الابتدائيّة الصّادر بدائرتها الحكم إذا لم يكن للمحكوم عليه مقرّ إقامة بالبلاد التّونسيّة متابعة تنفيذ عقوبة العمل لفائدة المصلحة العامّة بمساعدة مصالح السّجون.
تكريسا لنجاعة هذه العقوبة البديلة يتولّى قاضي تنفيذ العقوبات تحديد نوعيّة العمل المحكوم به لفائدة المصلحة العامّة وضبط مدّته مع مراعاة الظّروف الصّحيّة للمحكوم عليه ومدى استعداده الفعلي لمباشرة هذه العقوبة البديلة التي تسند إلى المحكوم عليهم قليلي النّوازع الإجراميّة، حيث تراعى طبيعة شخصيّتهم والظّروف التي دفعتهم لمثل هذه التّجاوزات ضمانا لفاعليّة تنفيذ عقوبة العمل لفائدة المصلحة العامّة بحرص قاضي تنفيذ العقوبات على التّنسيق مع مؤسّسة الانتفاع للاطّلاع على ظروف قضاء العقوبة من طرف المحكوم عليه والتّأكد من مدى احترام مؤسّسة انتفاع لقرارات التي يتّخذها ومدى احترامها للقانون بصفة عامّة من خلال تعاملها مع المحكوم عليه، من ذلك يتولّى قاضي تنفيذ العقوبات التّحقّق من توفير الحماية الكافية ضدّ حوادث الشّغل والتّغطية الصّحيّة في حالة الإصابة بمرض مهني([144]).
كما تلزم مؤسّسة الانتفاع إعلام قاضي تنفيذ العقوبات كتابيّا بكلّ ما يطرأ أثناء مدّة التّنفيذ من أحوال تخصّ المحكوم عليه سواء التي تعكس إنصلاح شخصيّة السّجين وتأقلمه مع العمل كانضباطه وحسن سلوكه، أمّا التي تعكس تمرّده كتغيّب وسوء تصرّفاته ومثل هذه الاتّصالات المتواصلة من شأنها الإحاطة بخصائص شخصيّة المحكوم عليه على إثرها يقع تحديد الرّعاية اللاّزمة القادرة على ردعه عن عالم الجريمة والانحراف.
وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ قرار العمل خارج السّجن هو قرار جريء يتطلّب توفّر الثّقة في شخص المحكوم عليه وإيمانا بقدرة هذه العقوبة على إصلاحه في تقرّبه كثيرا من نمط الحياة الحرّة وتأهله لتطوير شخصيّته وتهيئته للحياة الخارجيّة تدريجيّا بمنحه فرصة العمل خارج أسوار السّجن، ويتدعّم دور قاضي تنفيذ العقوبات في مجال تفريد العقوبة والأخذ بشخصيّة السّجين عبر القرارات الهامّة والمتزامنة لقضاء عقوبة العمل لفائدة المصلحة العامّة كتعديل التّدابير المتّخذة طيلة مدّة التّنفيذ وكلّما اقتضت الضّرورة ذلك([145]) أو تعليق هذه العقوبة لأسباب صحيّة وعائليّة أو مهنيّة أو عند قضاء الخدمة الوطنيّة وهي صلاحيّات تعكس السّعي نحو الإحاطة بشخصيّة المحكوم عليه ومحاولة مواكبة تطوّرها وملاءمة التّنفيذ لاستيعاب هذا التّطوّر أملا في الوصول إلى إصلاح السّجين وتقويم شخصيّته والتّوصّل إلى مواطن الخلل وعلاجها، فقاضي تنفيذ العقوبات كالطّبيب لا يسأل عن الدّواء الذي يصفه لمريضه وعن العمليّة الجراحيّة التي يجريها له ولكن عن الظّروف التي تحيط بمريضه أثناء وجوده في المستشفى لكي يأخذ الدّواء مجراه الطّبيعي دون أن يعيق مفعوله إهمال الفنّيّين القائمين على المرحلة العلاجيّة.
ويبقى المجال مفتوحا لمزيد دعم هذه الصّلاحيات التي تعدّ محدودة مقارنة بما أسند لقاضي تنفيذ العقوبات من مهامّ في التّشريعات المقارنة التي تهتمّ أكثر بشخصيّة السّجين كالإشراف على نظام الاختبار القضائي الذي يؤخذ بشخصيّة الخاضع للاختبار كمعيار لتعديل الالتزامات المفروضة عليه.
كما أسند له الإشراف على نظام شبه الحرّيّة، لذلك يمكن القول أنّ دور قاضي تنفيذ العقوبات في تحقيق التّفريد التّنفيذي عبر ملاءمة التّنفيذ العقابي مع تطوّر شخصيّة المحكوم عليه لا يزال في حاجة إلى تدعيم وتطوير عبر مجاراة النّسق الذي يتّسم به صلاحيّاته بالقوانين المقارنة والتي يجب العمل على منوالها لتجاوز النّقائص والعراقيل التي تواجهنا اليوم.
خلاصة الجزء الثّاني
امتد مبدأ الأخذ بشخصيّة الجاني ليشمل مرحلة التّنفيذ عبر متابعة تطوّر شخصيّة المحكوم عليه وتفاعله مع الجزاء الذي حدّد حسب متطلّباته وحاجيات شخصيّته ومدى قابليتها للتّطوّر والتّقويم، وذلك استنادا إلى بحوث ودراسات علميّة مدروسة تنوّعت طرق التّنفيذ حسب أنواع الجرائم وأصناف الجناة.
وقد دأبت الأجهزة الإداريّة المباشرة للتّنفيذ والهياكل القضائيّة المشرفة عليه على إرساء ممارسة فعليّة لهذا المبدأ المقرّر قانونا عبر سعيهم الحثيث نحو رقابة ومتابعة تطوّر شخصيّة الجناة في إطار تنفيذهم للمعاملة العقابيّة التي حدّدت بحسب التّصنيف القانوني المعتمد.
لكن يبقى الاهتمام بهذه المرحلة قائما لكونها تمثّل تتويجا للمجهودات المبذولة في إطار السّياسة الجنائيّة الحديثة ومحور اهتمام لانعكاساتها على الجاني وعلى المجتمع ككلّ.
وهي محور تساؤلات الباحثين، هل أنّ هذا المبدأ قادر على إصلاح الجناة أم أنّه مجرّد تصورات ورغبات يحول دون تحقيقها واقع الحياة داخل السّجن والجوّ النّفسي المسيطر عليه ؟
الخـاتمــــة
في إطار المناداة بضرورة تكريس السّياسة الجنائيّة الحديثة القائمة على مسايرة المبادئ التي جاءت بها حركة الدّفاع الاجتماعي، التي تعتمد لمكافحة الجريمة دراسة الدّوافع الكامنة خلف قيام الجاني بذلك الفعل الإجرامي بغرض إيجاد العلاج الملائم لإصلاحه المتمثّل في التّدابير الوقائيّة ووسائل التّربية أكثر من اعتماده على العقوبة الصّارمة.
برز تشريعنا منطبعا بهذا المنهج من خلال تنصيصه على اعتماد دراسة شخصيّة الجاني من خلال ملفّ الشّخصيّة واعتماد آليّات تراعي خصائص الجاني كظروف التّخفيف والتّشديد إلى جانب التّدرّج في العقوبات، وتطوير العقوبات البديلة لكن نظرا لأنّ القوانين تتّسم بالتّجريد والعموميّة أصبح من المستحيل تطبيق تفريد العقوبة عبر الأخذ بشخصيّة الجاني، ممّا أوجب منح القاضي مكانة هامّة بغرض تطبيق هذه القوانين بما يلاءم شخصيّة الجاني الماثل أمامه، فلا يكفي أن تأتي القوانين الوضعيّة بالنّصوص بل يجب أن يتوفّر التّنفيذ العملي الصّحيح لهذه النّصوص وقد منحه المشرّع سلطة تقديرية واسعة ليتمكّن من تحقيق التّفريد، لكن لا يجب أن تتعدّى سلطة القواعد القانونيّة المحدّدة بل يجب أن يتّسم حكمه بالمشروعيّة أي أن يكون له ركيزة قانونيّة يرتكز عليها لتعليل حكمه.
كما طوّر المشرّع آليّات ووسائل تحقيق مبدأ التّفريد لكن اصطدمت هذه السّلطة القضائيّة بحدود سواء تشريعيّة أو مادّية تجعل من إمكانيّة تحديد شخصيّة الجاني محدودة جدّا بسبب عدم توفّر الجهاز البشري أو المادّي اللاّزم الذي يضع بتصرّف القاضي المعلومات الشّخصيّة عن وضع المجرم، مع التّأكيد أنّ السّجل العدلي لا يشكّل بأيّة حالة صورة حقيقيّة عن حياة الشّخص، وما محتوياته أحيانا إن لم يكن غالبا إلاّ حلقة من حلقات مأساة بشريّة تمثل أمام أعيننا ولسنا بقادرين على المساهمة في حلّها، فإن لم يتمكّن القضاء من وضع يده على حقيقة الأسباب التي تؤدّي بالمجرم لتكرار إجرامه يبقى شاهدا على مأساة تظهر فصولا أمامه وليس بينه وبين حلّها سوى خطورة واحدة يمكن أن يتخطّاها بمجرد اعتماد ملف الشّخصيّة وتدعيم آليّة الحوار مع الجاني عند الجلسة ليتقرب من حقيقة شخصيّته ودوافعه على إثرها يقع تحديد العقوبة التي تلائم خصاله والتي تكون الأقرب لتحقيق إصلاحه وتقويم الخلل الذي يعتري شخصيّته.
لكن التّفريد تجاوز هاتين المرحلتين ليتمظهر في مرحلة التّنفيذ بغرض متابعة تطوّر شخصيّة الجاني ومدى تأثّره بالعقوبة التي سلّطت عليه فهذه الفترة هي مرحلة للملاحظة واستنتاج مدى فاعليّة القرارات القضائيّة ووجاهتها على مستوى التّطبيق في مكافحة الجريمة.
ولمزيد تدعيم هذه المرحلة وتنظيمها خاصّة أنّها تعرّضت للعديد من الانتقادات فاعتبر السّجن لفترة طويلة مقبرة الجناة ومدرسة للإجرام وغيرها من الصّفات تجاوزناها عن طريق بعث مؤسّسة قاضي تنفيذ العقوبات وتدعيم سلطاته لقربه من الجناة، وإلمامه بوضعيّتهم بصورة واقعيّة ومراعاته للجوانب الإنسانيّة واحترامه لكرامة السّجين وأدميته مع إصلاحه وتأهيله لحياة اجتماعيّة متوازنة، لكن رغم بذل الأجهزة الإداريّة المباشرة للتّنفيذ والهياكل القضائيّة المشرفة عليه إلاّ أنّنا نصطدم في الواقع بارتفاع نسب العود ممّا يثير التّساؤل حول مدى فاعليّة هذه السّياسة المعتمدة في حسن اختيار العقوبات الملائمة لشخصيّة الجاني ؟.
ممّا يوجب على المشرّع أن يرتدّ ويعيد النّظر في فاعليّة القوانين ويحاول تفعيل دور القضاء وتقليص القيود التي وضعها وقيّد بها القاضي والحال أنّه الأقدر على تحقيق التّفريد لكونه يتعرّض لكلّ حالة على حدا، إلى جانب تدعيم صلاحيّات قاضي تنفيذ العقوبات وتطوير الهياكل المساعدة له بغرض حسن مراقبة وملاحظة الجناة وتطوير العقاب بما يلائم تطوّر شخصيّتهم.
([1]) سهام عاشور، المرجع سابق، ص 10.
([2]) أحمد الزين البرهومي، “في وظائف العقوبة بين النظريات والتطبيق”، مداخلة بمناسبة ملتقى : تنفيذ العقوبات الذي نظمته الجمعية التونسية للقانون الجنائي، تونس 16 و17 مارس 1991 ص10.
([3]) عبد العظيم مرسي، “دور القضاء في تنفيذ الإجراءات الجنائية” دراسة مقارنة، دار النهضة العربية، القاهرة 1977، ص 120.
([4]) المنصف السباولجي، المرجع سابق، ص 44.
([5]) إقبال الفلوجي، “نحو سياسة جنائية حديثة”، م ق ت، فيفري 1977، ص 41.
([6]) مفهوم الشخصية، مقال مقتطف من الأنترنات.
([7]) محمود نجيب حسني، علم العقاب، دار النّهضة العربيّة، القاهرة 1982، ص 214.
([8]) مكوّنات الفحص اللاّّحق للأطفال الجانحين داخل مراكز الإصلاح (انظر ملحق عـ8ـدد).
([9]) أحمد حسني أحمد طه، المرجع السّابق، ص 47.
([10]) مصطفى محمد موسى، إعادة تأهيل نزلاء المؤسسات العقابية في القضايا الجنائية والإرهابية، دار الكتب القانونية 2008، ص 103.
([11]) محمود نجيب حسني، المرجع السّابق، ص 214.
([12]) نجيب براهم، الحماية الصّحيّة للسّجين، م ق ت، 1997، ص 9.
([13]) مصطفى محمد موسى، المرجع السّابق، ص 105.
([14]) سعد جلال، أسس علم النّفس الجنائي، دار المطبوعات الجديدة، الاسكندريّة مصر 1997، ص ص 282-283.
([15]) دراسة للدكتور سامي نصر، بحث جامعي في أغوار السّجن، مقتطف من جريدة الملاحظ الصّادرة على عددين الأربعاء 13 جانفي 2010 والأربعاء 20 جانفي 2010.
([16]) مصطفى محمد موسى، المرجع السّابق، ص 104.
([17]) أحمد حسني أحمد طه، المرجع السّابق، ص 98.
([18]) محمد سلامة مأمون، المرجع السّابق، ص 128.
([19]) محمد سلامة مأمون، نفس المرجع السّابق.
([20]) علي محمد جعفر، فلسفة العقاب والتصدّي للجريمة، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، بيروت، 2006، ص 343.
([21]) إسماعيل بن صالح العياري، الاتجاهات الجديدة للنظام العقابي في تونس، م ق ت، جانفي 1989، ص 37.
([22]) نفس المرجع السّابق.
([23]) علي محمد جعفر، المرجع السّابق، ص 149.
([24]) ملحق في أغوار سجن 9 أفريل.
([25]) إسماعيل بن صالح العياري، المرجع السّابق، ص 35.
([26]) أحمد حسني أحمد طه، المرجع السّابق، ص 98.
([27]) أمر عدد 1876 لسنة 1988 مؤرخ في 4 نوفمبر 1988 يتعلق بنظام السجون.
([28]) أحمد حسني أحمد طه، المرجع السّابق، ص 97.
([29]) الفصل 10 قانون ماي 2001، “إذا اقتضى الأمر إيداع الطفل بالسّجن فإنّه يودع بجناح خاصّ بالأطفال مع وجوب فصله عن بقيّة المساجين الكهول”.
([30]) رضا خماخم، الطفل والقانون الجزائي التونسي، المرجع السّابق، ص 568.
([31]) الفصل 2 من الأمر عدد 2423 المؤرخ في 11 ديسمبر 1995 المتعلق بالنّظام الخاص بمراكز إصلاح الأحداث المنحرفين.
([32]) الفصل 4 من أمر عدد 2423 المؤرّخ في 11 ديسمبر 1995 والمتعلّق بالنّظام الدّاخلي الخاصّ بمراكز إصلاح الأحداث المنحرفين.
([33]) الفصل 5 من أمر عدد 2423 المؤرّخ في 11 ديسمبر 1995 والمتعلّق بالنّظام الدّاخلي الخاصّ بمراكز إصلاح الأحداث المنحرفين.
([34]) مصطفى الشريف، سجون الإصلاح وإصلاح السجون، ملاحظة تمهيدية عن السياسة العقابية المعاصرة بمناسبة ملتقى من أجل تطوير السّياسة العقابيّة بتونس، أفريل 1994، ص 7.
([35]) محمد نجيب حسني، المرجع السّابق، ص 519.
([36]) علي كحلون، دروس في الإجراءات الجزائية، مجمع الأطرش للكتاب المختص، تونس 2009، ص 434.
([37]) علي كحلون، المرجع السّابق، ص 434.
([38]) محسن عبد الغريب، السّراح الشرطي في ضوء السياسة العقابية الحديثة، رسالة تخرّج من المعهد الأعلى للقضاء 1994-1995، ص131.
([39]) عبد الجليل البكوش، الآليات القانونية المخففة للعقوبة، م ق ت، أكتوبر 2008، ص306.
([40]) نجيبة الشريف، قضاء الأطفال في تونس، الجزء الثّاني، ص ص 244-272.
([41]) نجيبة الشريف، نفس المرجع السّابق.
([42]) علي كحلون، المرجع السّابق، ص 435.
([43]) الفصل 356 مجلة الإجراءات الجزائية الفقرة الثانية (أضيفت بالقانون عدد 92 لسنة 2002 المؤرخ في 29 أكتوبر 2009).
([44]) الفصل 342 فقرة 5 من مجلة الإجراءات الجزائية.
([45]) علي كحلون، المرجع السابق، ص 436.
([46]) الفصل 359 م ا ج : “إذا حكم من جديد على المتمتع بالسراح الشرطي أو خالف الشروط التي وضعت لسراحه…”
([47]) عبد الجليل البكوش، المرجع السابق، ص 304.
([48]) رؤوف عبيد، مبادئ القسم العام من التشريع العقابي، دار الفكر العربي، القاهرة 1965، ص 722.
([49]) جندي عبد الملك، المرجع السّابق، ص 242.
([50]) رضا المزغني، العفو الخاصّ والعفو العام، ملتقى تنفيذ العقوبات 1991 مركز الدّراسات والبحوث، كلية الحقوق والعلوم السياسية تونس، ص 4.
([51]) علي كحلون، المرجع السّابق، ص 448.
([52]) مصطفى العوجي، السّياسة العقابيّة والتصدّي للجريمة، المرجع السابق، ص 256.
([53]) M. Laura Rassat, Droit pénal et procédure pénale, 1ère Ed. Paris 1986, p 10.
([54]) الفصل 336 جديد فقرة 3 مجلة الإجراءات الجزائية.
([55]) الفصل 336 فقرة 6 م ا ج « تعلّق مدّة تنفيذ العمل لفائدة المصلحة العامّة لأسباب صحيّة أو عائليّة أو مهنيّة أو عند إيداع المحكوم عليه السّجن من أجل جريمة أو عند قضاء الخدمة الوطنيّة ».
([56]) الفصل 227 مكرر المجلة الجنائية، «… وزواج الفاعل من المجني عليه في الصّورتين المذكورتين يوقف التتبّعات وآثار المحاكمة… ».
([57]) الفصل 31 مجلة الأحوال الشخصية.
([58]) علي كحلون، المرجع السابق، ص 446.
([59]) علي كحلون، المرجع السّابق، ص 440.
([60]) الفصل 367 م ا ج نقّح بالمرسوم عدد 14 لسنة 1973 المصادق عليه بالقانون عدد 69 لسنة 1973 المؤرّخ في 19 نوفمبر 1973 وأخيرا نقّح بموجب القانون عدد 75 لسنة 2008 المؤرخ في 11 ديسمبر 2008.
([61]) الفصل 367 م ا ج.
([62]) الفصل 369 مكرر نقح بالقانون عدد 114 لسنة 1993 المؤرخ في 22 نوفمبر 1993 ونقحت الأعداد 1. 2. 3 منه بموجب القانون عدد 75 لسنة 2008 المؤرخ في 11 ديسمبر 2008.
([63]) لا يشار إلى هذه العقوبات بالبطاقة عدد 3 التي تسلم إلى المعني بالأمر لكن يشار بالبطاقة عدد 1 و2 بإجراء استرداد الحقوق.
([64]) الأهداف المنشودة من المعاملة التّربويّة الموجّهة للطّفل الجانح (انظر ملحق عــ9ـدد).
([65]) أحمد عبد العزيز الألفي، حقوق المحكوم عليه في مرحلة التنفيذ، م ق ت، أكتوبر 1980، ص 89.
([66]) إسماعيل بن صالح العياري، المرجع السّابق، ص 42.
([67]) Soukeina Bouraoui, op-cit, p p 133-144.
([68]) أحمد عبد العزيز الألفي، حقوق المحكوم عليه في مرحلة التّنفيذ، م ق ت، أكتوبر 1980، ص 89.
([69]) من بين الصّكوك التي دعّمت الأخذ بشخصية المحكوم عليه، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 10 ديسمبر 1948 الفصل الخامس إلى جانب العهد الدّولي الخاصّ مؤرّخ في 16 ديسمبر 1966 (المادة 5).
([70]) مصطفى محمد موسى، المرجع السّابق، ص 107.
([71]) خالد البراق، وضع المشبوه فيه والمتهم والمحكوم عليه في القانون التونسي، م ق ت، نوفمبر 1991، ص 9.
([72]) الفصل 101 من المجلة الجزائية.
([73]) الفصل 15 من قانون عدد 52 المؤرخ في 14/05/2001.
([74]) القواعد النّموذجيّة الدّنيا لمعاملة السّجناء المنعقد في مؤتمر الأمم المتّحدة الأوّل لمنع الجريمة والمجرمين (ملحق عــ10ــــدد).
([75]) حقوق الإنسان في تونس، التقرير الوطني، الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريّات الأساسيّة لسنة 2005، ص 119.
([76]) نفس المرجع السّابق.
([77]) الفصل الأول الفقرة الثانية من أحكام القانون الصادر في 14 ماي 2001 المتعلق بنظام السجون ورد فيه “ينتفع السجين على هذا الأساس بالرعاية الصحية والنفسية…”.
([78]) التقرير الوطني للهيئة العليا لحقوق الإنسان، المرجع السّابق، ص 118.
([79]) نورة العتيبي، خدمات الرّعاية الاجتماعيّة بسجن نساء بالرياض، من منظور التّخطيط والتّطوير، جامعة نايف العربيّة للعلوم الأمنيّة، الرّياض، 2009، ص 125.
([80]) قبال الفلوجي، المرجع السّابق، ص 60.
([81]) غنام محمد غنام، حقوق الإنسان في مرحلة التنفيذ العقابي، دار النهضة العربية، بيروت 1988، ص 134.
([82]) الفصل 30 من القانون عدد 52 لسنة 2001، « لا يمكن لايّ شخص زيارة السّجن إلاّ بترخيص من الوزير المكلّف بالسّجون والإصلاح أو من الإدارة المكلّفة بالسّجون والإصلاح باستثناء والي الجهة والقضاة المخوّل لهم ذلك قانونا ».
([83]) الفصول 31-32-33 و34 من قانون 14 ماي 2001.
([84]) الفصلان 35 و36 من قانون 14 ماي 2001.
([85]) بسمة الفضلاوي، المرجع السّابق، ص 144.
([86]) الفصل 20 قانون 52 المؤرّخ في 14 ماي 2001.
([87]) وهو ما نص عليه الفصل 58 فقرة 2 من أمر 4 نوفمبر 1988 بصورة واضحة مقارنة بقانون 2001 الذي اعتبر التهذيب الأخلاقي مناط البرنامج التأهيلي.
([88]) أقر الفصل 21 قانون ماي 2001 إن الإدارة العامة للسجون والإصلاح بناءا على اقتراح من مدير السجن إسناد مكافئة لبعض المساجين الذين تميزوا بحسن سلوكهم داخل السجن.
([89]) ما نص عليه الفصل 15 من مجلة حماية الطفل.
([90]) الفصل 16 من أمر 11/12/1995.
([91]) رمسيس بهنام، المرجع السّابق، ص 359.
([92]) إسماعيل بن صالح العياري، المرجع السّابق، ص 23.
([93]) Pierre Bouzat et Jean Pinatel : « Traite de droit pénal et de criminologie » III criminologie par J. Pintel 3ème édition, Dallez, Paris 1975, p 471.
([94]) مصطفى العوجي، الأمن الاجتماعي وارتباطه بالتربية الاجتماعيّة، مؤسّسة نوفل، تونس 1983 ص 277.
([95]) التقرير الوطني للهيئة العليا والحريات الأساسية، ص 120.
([96]) الفصل 19 من القانون عدد 52 لسنة 2001 المؤرّخ في 14 ماي 2001 والمتعلّق بنظام الاسّجون.
([97]) التقرير الوطني لسنة 2005 قدم 11 عرض مسرحي و14 عرض موسيقي استفاد منه 500 سجينا إلى جانب نوادي الفنون التشكيلية والبراعات اليدوية للمشاركة في المعارض الجهوية والوطنية. تنظيم حصص ترشيد وتثقيف يشرف عليها إطارات مختصة.
([98]) إسماعيل بن صالح العياري، المرجع السّابق، ص 23.
([99]) مصطفى العوجي، السّياسة العقابيّة والتصدّي للجريمة ، المرجع السّابق، ص ص 378-393.
([100]) مصطفى العوجي، المرجع نفسه، ص ص 381-393.
([101]) G. Stefani G. Levasseur et R. Jambu Merlin, « Criminologie et science pénitentiaire », Dalloz, Paris, 1976, p 530.
([102]) مصطفى العوجي، السّياسة العقابيّة والتصدّي للجريمة ، المرجع السّابق، ص ص381-393.
([103]) Samuel Gatabanton, l’évolution de la pensée péni tentiaire de 19ème siècle à nos jours article publie sur internet http://www.penalreform.org/français/articlecongo.htm « l’isolement est la contradiction de tante vie en Sté De ce fait il ne favorise pas l’intégriste de l’individu dans une communiante mais risque au contraire de développer chez lui une attitude a sociale ».
([104]) مصطفى العوجي، السّياسة العقابيّة والتصدّي للجريمة ، المرجع السّابق، ص 26.
([105]) وجدي بن أحمد، تأصيلا لمؤسسة قاضي تنفيذ العقوبات، ملتقى أفريل 1994، كليّة العلوم القانونيّة أريانة، ص 37.
([106]) رجا بوسمة، ضمانات تنفيذ العقوبات الجزائية، م ق ت، أكتوبر 2001، ص 43.
([107]) مصطفى العوجي، السّياسة العقابيّة والتصدّي للجريمة ، المرجع السابق، ص 42.
([108]) رضا خماخم، مجلّة حماية الطفل أداة للبيداغوجيا الجماعية، المرجع السّابق، ص 93.
([109]) صيغة إعداد ومسك دفتر متابعة (انظر ملحق عــ11ـدد).
([110]) محمد راشد الرمحي، “دراسة مقارنة في التشريعات المتعلقة بالأحداث في القانون البحريني والقانون التونسي”، رسالة تخرج من المعهد الأعلى للقضاء، 1999-2000.
([111]) رضا خماخم، الطفل والقانون الجزائي التونسي، المرجع السّابق، ص 374.
([112]) الفصل 16 م ح ط، « يحقّ للطّفل أثناء تنفيذ الوسيلة الوقائيّة أو العقوبة التّمتّع بإجازة دوريّة ومحدودة المدّة تراعى في إسنادها مصلحته الفضلى ».
([113]) محمود كعباش، دور قاضي الأطفال في حماية الطفولة الجانحة، م ق ت، جانفي 1999، ص 93.
([114]) الفصل 110 مجلة حماية الطفل، « …ويتعيّن عليه فيما عدا ذلك من الصّور إعادة النّظر في ملفّ الطّفل مرّة كلّ ستّة أشهر، وعلى أصقى تقدير قصد مراجعة الإجراء المقرّر، سواء من تلقاء نفسه أو بطلب من النّيابة العمومية أو الطّفل أو والديه أو المقدّم عليه أو حاضنه أو محاميه أو مدير المؤسّسة الموضوع بها ».
([115]) نجيبة الشريف، المرجع السّابق، ص 308.
([116]) جلال الدّين بوكتيف، تنفيذ القرارات والأحكام الصّادرة في شأن الأطفال الجانحين، م ق ت، جانفي 1999، ص 153.
([117]) الفقرة الأخيرة من الفصل 110 مجلة حماية الطفل، «… غير أنّه لا يمكن له إبدال إجراء وقائي بعقوبة بدنيّة ويبقى العمل بالعكس جائزا ».
([118]) قمر الشابي، حماية الأطفال الجانحين، م ق ت، أكتوبر 2000، ص 331.
([119]) نجيبة الشريف، المرجع السّابق، ص 309.
([120]) جلال الدّين بوكتيف، المرجع السّابق، ص ص 123-128.
([121]) الفصل 107 م ح ط : “… وللمندوبين القارّين مهمّة تسيير وتنسيق عمل المندوبين المتطوعين تحت إشراف قاضي الأطفال ويشرفون كذلك على مراقبة الأطفال اللذين كلفوا بهم شخصيا…”.
([122]) جلال الدين بوكتيف، المرجع السّابق.
([123]) الفصل 113 من مجلة حماية الطفل « الوساطة آليّة ترمي إلى إبرام صلح بين الطّفل الجانح ومن يمثّله قانونا وبين المتضرّر أو من ينوبه أو ورثته وتهدف إلى إيقاف مفعول التتبّعات الجزائيّة أو المحاكمة أو التّنفيذ ».
([124]) الفصل 115 من مجلة حماية الطفل : “…أنه لا يجوز إجراء الوساطة إذا ارتكب الطفل جناية”. ويمكن تجاوز هذه القاعدة إذا انتهج القضاء منهج التجنيح والذي لا يطال جريمة القتل حسب الفصل 69 م.ح.ط.
([125]) نجيبة الشريف، المرجع السّابق، ص 268.
([126]) جمال شهلول، قاضي تنفيذ العقوبات التجربة الفرنسية، م ق ت، جانفي 2000، ص 75.
([127]) الفصل 585 من المجلة الجزائية الإيطالية.
([128]) الفصل 709 من مجلة الإجراءات الجزائيّة الفرنسيّة.
« L’exécution des peines privatives de la liberté personnelle et surveillée par le juge et relève aussi compétence d’une formation collégiale ».
([129]) المنصف السباولجي، دور القضاء في تأهيل العقوبة مداخلة بمناسبة الدّورة الدّراسيّة، نظّمتها المعهد الأعلى للقضاء حول موضوع قاضي تنفيذ العقوبات، تونس 14 أفريل 2000.
([130]) وجدي بن أحمد، المرجع السّابق، ص 39.
([131]) الفصل 342 مكرر من م ا ج « يتولّى قاضي تنفيذ العقوبات مراقبة ظروف تنفيذ العقوبات السّالبة للحريّة المقضاة بالمؤسّسات السّجنيّة الكائنة بمرجع النّظر التّرابي… ولقاضي تنفيذ العقوبات أن يقترح تمتيع بعض المساجين بالسّراح الشّرطي… ».
([132]) الفصل 342 مكرر من مجلة الإجراءات الجزائية.
([133]) الفصل 30 من القانون عدد 52 لسنة 2001 المؤرّخ في 14 ماي 2001 المتعلّق بنظام السجون.
([134]) Christian Nilz, « La participation de J.A.P. dans l’exécution des peines », RSC 1974, n°1, p 13.
([135]) R. Merle et A. Vitu, op-cit, p 666.
([136]) مداولات مجلس النواب عدد 39، جلسة 26 جويلية 2000.
([137]) تساعد لجنة المساعدة المراقبة وهي لجنة تابعة إداريا للمؤسسة السجنية تعمل تحت إشراف قاضي تنفيذ العقوبات يؤطر مهامها الفصل 578 م ا ج ف.
([138]) رضا المزغني، المرجع السّابق، ص 11.
([139]) حنان بن عبد الله، السراح الشرطي، المجلة القانونية، أفريل 2007، ص 28.
([140]) السّراح الشّرطي يقرره إما قاضي تنفيذ العقوبات من نفسه أو بطلب من المحكوم عليه أو أحد أصوله أو فروعه أو الولي الشرعي أو بناء على اقتراح مدير السجن.
([141]) يتكوّن ملف منح السّراح الشّرطي من طرف قاضي تنفيذ العقوبات من الوثائق التالية : مطلب كتابي + بطاقة عدد2 + مذكرة شخصية + بطاقة سجين + بحث اجتماعي + الحكم الجزائي الذي يجب أن يكون باتا + تقرير نفساني.
([142]) الفقرة السّادسة من الفصل 342 مكرر مجلة الإجراءات الجزائيّة.
([143]) الفصل 730 من مجلة الإجراءات الجزائية الفرنسية.
([144]) الفصل 336 فقرة ثالثة من م ا ج « تتولّى مصالح السّجون السّهر على عقوبة العمل لفائدة المصلحة العامّة تحت إشراف النّيابة العموميّة ».
([145]) نظام شبه الحرية يخول للمحكوم عليه بعقوبات قصيرة المدة مغادرة المؤسسة السجنية لمزاولة تعليمه أو لمباشرة نشاط مهني أو نظام علاجي يشرف قاضي التنفيذ على تنفيذه نص عليه الفصل 723 ـ 1 م ا ج ف.
([1]) عادل عازر، النظرية العامة في ظروف الجريمة، المطبعة العالمية، القاهرة 1967، ص 432.
([2]) Jean Baptiste Therry, L’individualisation du droit criminel, RSC Janvier – Mars 2008, n° 1, Dalloz, Paris, p59.
([3]) عبد الجليل بكوش، الآليّات القانون المخفّفة للعقوبة، م ق ت، أكتوبر 2008، ص 288.
([4]) R. Charles, Les limites actuelles de l’individualisation judiciaire et pénitentiaire des peines et des mesure de sureté, R.I.D.P, 1957, p 198.
([5]) سامية حسن الساعاتي، الجريمة والمجتمع، بحوث في علم الاجتماع الجنائي، الطبعة الثانية، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت 1983، ص 42.
([6]) فرحات الراجحي، تقدير العقوبة، م ق ت، نوفمبر 2007، ص 37.
([7]) مارك أنسال، الدّفاع الاجتماعي الجديد، ترجمة حسن علام، دار المعارف، الإسكندرية 1981، ص 198.
([8]) الفقرة الأولى من الفصل 54 م ا ج.
([9]) الفصل 71 م ا ج : “يحال ذي الشبهة على مصلحة القيس بقصد تحقيق هويته والبحث عن سوابقه”.
([10]) محمد سلامة مأمون، “حدود سلطة القاضي الجنائي في تطبيق القانون”، دار الفكر العربي، 1975، ص ص 107-108.
([11]) عبد الرحمان محمد العيساوي، علاج المجرمين، منشورات العلى الحقوقية، القاهرة 2001، ص 49.
([12]) عبد العزيز العوادي، “ملف الشخصية” م ق ت، مارس 1978، ص 20.
([13]) Prade J., « Trait de procédure pénale » 7ème édition, Cujas, Paris 1987, p 330.
([14]) أحمد فتحي سرور، أصول السياسة الجنائية، دار النهضة العربية، القاهرة 1978، ص ص 216-217.
([15]) المؤتمر الدولي الثاني للدفاع الاجتماعي المنعقد في لياح سنة 1949، والمؤتمر الدولي الثاني لعلم الإجرام المنعقد في باريس سنة 1950 والمؤتمر الدولي العاشر بروما سنة 1969.
([16]) فصل 87 م ح ط : “يقوم قاضي الأطفال مباشرة أو عن طريق أحد الأشخاص المؤهلين لذلك بجميع الأعمال والأبحاث اللازمة للتوصل إلى إظهار الحقيقة ومعرفة شخصية الطفل أو الوسائل المناسبة لإصلاحه وحمايته”.
([17]) الفصل 93 الفقرة الثانية م ح ط : “… يمكنه (القاضي الأطفال) أن يكلف بالبحث الاجتماعي المصالح الاجتماعية المختصة…”.
([18]) الرائد الرسمي للجمهورية عدد 73، ص 1441.
([19]) تقرير الملاحظة (انظر ملحق عـ1ـدد).
([20]) أحدث لأوّل مرّة بولاية أريانة بمقتضى قانون عدد 91-38 الصّادر في 30 ديسمبر 1991، وتدعّم هذا التّوجّه نحو بعث مثل هذه المراكز على فترات، توّجت ببعث مركز بكلّ من قابس وبنزرت سنة 2002
([21]) الفصل 10 م ا ج : مأموري الضابطة العدلية “يباشر وظائف الضابطة العدلية تحت إشراف الوكيل العام للجمهورية والمدعين العموميين لدى محاكم الاستئناف، كل في حدود منطقته، من يأتي ذكرهم : محافظو الشرطة وضباطها ورؤساء مراكزها، ضباط الحرس الوطني وضباط صفه ورؤساء مراكزه.
([22]) مداولات مجلس النواب ليومي 26-27 سبتمبر 2005 تدخل السيد البشير التكاري.
([23]) Soukeina Bouraoui, « L’expertise pénale et la politique criminelle Moderne », RTD 1988, p 137.
([24]) عبد العزيز العوادي، المرجع السابق، ص11 “أكد على أهمية الاستناد إلى الفصل 199 م ا ج لإبطال الإجراءات التي لا تختم مطالب القيام بأبحاث ملف الشخصية”.
([25]) عبد الجليل البكوش، المرجع السّابق، ص290.
([26]) فرحات الراجحي، المرجع السّابق، ص 27.
([27]) عبد الجليل البكوش، المرجع السابق، ص 291.
([28]) مصطفى جعفر، الجريمة والعقاب في قانون المخدرات، المكتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة 1968 ص309.
([29]) قانون عدد 75 لسنة 2003 المؤرخ في 10 ديسمبر 2003 المتعلق بدعم المجهود الدولي لمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال.
([30]) محمد سلامة مأمون، المرجع السّابق، ص ص 107-108.
([31]) الفصل 68 م ح ط، أقرّ تمتيع الطّفل المنحرف الذي لم يبلغ 13 سنة قرينة غير قابلة للدّحض على عدم قدرته خرق القوانين، أمّا الفصل 78 بدا مكرّسا لعدم التّجريم القانوني بالنّسبة للأطفال الذي سنّهم بين 13 و15 سنة في صورة ارتكاب فعلة من نوع الجنحة.
([32]) فرحات الراجحي، المرجع السابقّ، م ق ت، ص 37.
([33]) الفصل 43 م ج : “يقع تطبيق القانون الجزائي على المتهمين الذين سنهم أكثر من ثلاثة عشر عاما كاملة وأقل من ثمانية عشر عاما كاملة. لكن إذا كان العقاب المستوجب هو الإعدام أو السجن بقية العمر يعوض ذلك العقاب بالسجن مدة عشرة أعوام. وإذا كان العقاب المستوجب هو السجن لمدة معينة تحط من مدته إلى النصف على أن لا يتجاوز العقاب المحكوم به الخمسة أعوام ولا تنطبق العقوبة التكميلية المنصوص عليها بالفصل 5 من هذه المجلة وكذلك قواعد العود”. تنقيح هذا الفصل بموجب قانون عدد 93 لسنة 1995 أكد على تغلب الجانب الوقائي على الزجري.
([34]) Merle R.et Vitu A., « traite de droit criminel, droit pénal général, Edition Cujas, Paris, 1967, p 771.
([35]) رضا خماخم، الطّفل والقانون الجزائي التّونسي، المرجع السّابق، ص 305.
اترك تعليقاً