الأصل القانوني لقاعدة “ما بُني على باطل فهو باطل ”
ان اصل قاعدة مابني على باطل فهو باطل يعود الى علم المنطق ومقتضاها ( اذا كانت التصرفات الفعلية والقولية صحيحة فانها تنتج اثارها الشرعية او القانونية ) اما اذا كان اساس تلك التصرفات شابها عيب او عدم مشروعية كانت نتائجها باطلة ومنعدمة شرعا وقانونا .
والبطلان لغة : هو فساد الشيء وسقوط حكمه واصطلاحا وهو ما لا يصُح اصلاً بوصفه ذاته او وصفاً باعتبار بعض اوصافه الخارجية،اما بعد فان الباطل نقيضُ الحق، قال تعالى ( وَلاَ تَلبِسُواْ الحَقَّ بِالبَاطِل ) وقال تعالى (لِيُحِقَّ الْحَقَّ ويُبطِلَ اَلْباطِل ولَو كَرِه اَلْمجْرِمُون ) ،ويرد البطلان على التصرفات القانونية القولية كالعقد والقرار الاداري وقد يرد على تصرفات المكلفين شرعا كبطلان الزواج او الصلاة او الوضوء وغيرها من الواجبات الشرعية .
والبطلان في التشريعات الوضعية اما ان يكون على مرتبة واحدة كما في القانون المدني العراقي او ان يكون على مرتبتين هما البطلان المطلق والبطلان النسبي وهو ما اتبعه المشرع الفرنسي والمصري والانكليزي .
اما في القانون الروماني فانه لاتوجد قاعدة عامة للبطلان ولم يميز فقهاء القانون الروماني بين البطلان المطلق والبطلان النسبي فهم لم يعرفوا الا مرتبة واحدة من البطلان فالعقد اما ان يكون صحيحا منتجا لاثاره او ان يكون عقداً باطلاً لا تترتب عليه اية اثار .
الا انهم ارجعوا اسباب البطلان اما الى تخلف الشكلية المطلوبة قانونا او عرفا او الى تخلف ركنا من اركان العقد او تحقق عيب من عيوب الارادة وهو من اكثر الانواع شيوعا في العقود الرضائية لاسيما بعد ان تحرر القانون الروماني من شكلياته . اما اركان العقد التي تؤدي الى بطلان العقد عند الرومان فهي الرضا والمحل والشكلية اما السبب فلم يشترط وجوده في العقد وفي ذلك بينت مدونة جوستنيان في اشارة الى ان السبب لا يعد من اركان العقد بقولها ( الباعث الكاذب لا اثر له في قيام العقد ) .
ومن ناحية اخرى فان القانون الروماني لم يشترط اعادة الحال الى ماكان عليه قبل ابرام التصرف فالقانون الروماني تبنى قاعدة مفادها ( اذا سَلمَ احد العاقدين للآخر شيئاً تنفيذاً للعقد غير المشروع، ليس له ان يسترده، الا اذا كان عدم المشروعية غير آت من جهته، اما اذا كان شريكاً في عدم المشروعية، اي كانت يده مُلوثة بالعمل غير المشروع، فليس له ان يسترد ما سلمه ).
ومع ان هذه القاعدة لم تنسجم مع اثر البطلان ومنطقه لان التصرف الباطل يعد عدما كأن لم يكن وهذا يقتضي اعادة الحال الى ما كان عليه قبل ابرام العقد اما التعويض عن الضرر – اذا كان له موجبا – فيتم وفقا لقواعد المسؤولية التقصيرية التي تشترط وجود عمل غير مشروع يترتب عليه ضرر وعلة ذلك ان العقد يعد واقعة مادية وليس تصرفاً قانونياً اقول مع كل ذلك فقد اخذ القضاء الفرنسي والمصري بهذه القاعدة التي اصلها القانون الروماني واخذ ايضا بالتفرقة التي اشار اليها في احوال الضرر .
وقد ميزت النظرية التقليدية بين ثلاث حالات للبطلان وهي حالة الانعدام وتكون في حالة تخلف ركن من اركان العقد ( الرضا والمحل والسبب ) او انه لم يستوف الشكلية التي قررها القانون اما الحالة الثانية فتسمى البطلان المطلق وهي حالة وجود جميع اركان العقد مع تخلف شرط من شروط احد الاركان كما في حالة مخالفة سبب العقد للنظام العام او الاداب ، وهناك حالة ثالثة من البطلان التي يطلق عليها البطلان النسبي ويتحقق في حالة استيفاء العقد اركانه وكان رضا المتعاقدين متوافرا الا انه شاب الارادة عيب كالغلط او التدليس او الغبن مع التغرير وقد يتحقق البطلان النسبي بنص القانون ايضا بالنسبة لبعض التصرفات .
اما النظرية الحديثة في البطلان فانها تذهب الى جعل الانعدام والبطلان المطلق في مرتبة واحدة وتطلق عليها البطلان المطلق ، اما البطلان النسبي فقد بقي محتفظا بمفهومه في النظرية التقليدية وقد اخذ بهذا المفهوم التشريعان المصري والفرنسي .
وعموما فان التشريعات الحديثة اتجهت ايضا الى تلطيف اثر قاعدة ما بني على باطل فهو باطل نتيجة لاثارها الاجتماعية السيئة التي خلفها منطق هذه القاعدة على الرغم من انها تساير المنطق الا انها كثيرا ماكانت تخالف منطق العدالة والانصاف فضلا عن انها في بعض الاحيان تخالف مبدأ استقرار المعاملات ، لذلك فقد بدأ الفقه والقضاء بالبحث عن حلول اخرى اكثر انصافا ساعدت على تلطيف اثار هذه القاعدة كثيرا ، فظهرت نظريات جديدة في علم القانون وجدت طريقها الى التطبيق والنص عليها في التشريعات الحديثة المدنية والادارية وحتى في قواعد القانون الدولي العام والخاص ، مثل نظرية انتقاص العقد والتي تعني:(ان التصرف او العقد اذا تضمن عدة امور وكان صحيحاً بالنظر الى بعضها وباطلاً بالنظر الى بعضها الآخر فإن العقد لا يبطل في الجميع، بل يبطل منه ما لا يكون صحيحاً، ويبقى عقداً صحيحاً مستقلاً بالنظر الى ما كان صحيحاً فيه، فكأنه جاء من الابتداء عقداً مستقلاً به).
وقد اخذ المشرع العراقي بنظرية انتقاص العقد في المادة 139 من القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 التي تنص على انه( اذا كان العقد في شق منه باطلاً فهذا الشق وحده هو الذي يبطل. اما الباقي من العقد فيظل صحيحاً باعتباره عقداً مستقلاً إلا اذا تبين أن العقد ما كان ليتم بغير الشق الذي وقع باطلاً).
و ظهرت ايضا نظرية اخرى سايرت منهج التلطيف هي نظرية تحول العقد التي ترجع الى الفقه الالماني وقد ظهرت في القرن التاسع عشر وتبناها المشرع الالماني في القانون المدني في المادة 140 منه ، واخذ بها القضاء الفرنسي ايضا تطبيقا لنظرية التكييف .
ومقتضى هذه النظرية(ان العقد اذا كان باطلاً، الا انه توافرت فيه اركان عقد اخر، فإنه يتحول الى ذلك العقد الاخر إذا تبين من ظروف التعاقد ان نية المتعاقدين ستنصرف الى هذا العقد لو كانا يعلمان ببطلان العقد الذي ابرماه ابتداء) ويرى بعض فقهاء القانون ان نظرية تحول العقد ماهي الا تطبيق لنظرية التكييف التي هي من صميم عمل القاضي وقد اخذ المشرع العراقي بالحكم الذي اسسته نظرية تحول العقود، حيث نصت المادة (140) من القانون المدني العراقي على انه ( إذا كان العقد باطلاً وتوافرت فيه أركان عقد آخر فإن العقد يكون صحيحاً بوصفه العقد الذي توافرت اركانه إذا تبين ان المتعاقدين كانت نيتهما تنصرف الى ابرام هذا العقد ).
المحامية: ورود فخري
اترك تعليقاً