الإصلاحات الدستورية الضرورية لبدأ عملية الاصلاح السياسي
الإصلاحات الدستورية التي ينبغي إجراؤها كمنطلق للإصلاح السياسي .. د.محمد الحموري
أصبحت الإصلاحات الدستورية، مطلباً تنادي به خلال الشهرين الأخيرين، قوى حزبية ونقابية وشبابية ومجتمعية، بشكل ضاغط، وأخذ التعبير عن هذا المطلب، يظهر بقوة، من خلال المسيرات والإعتصامات والندوات والدراسات، وغير ذلك من وسائل التعبير. ومع ذلك، فإن هناك بعض الجهات المستفيدة من الوضع القائم تعمل جاهدة على التقليل من أهمية هذا المطلب، وتتصرف على أساس أن الذي يحدث، لا يعدو أن يكون موضة وهبّات حماسية عند المنادين به، تيمناً بما يجري في الساحات العربية، وأن هذا الحماس لا يلبث أن يخبو تدريجياً حتى يتلاشى مع الأيام، ويكفي لاحتوائه بعض التغييرات الشكلية التجميلية، وتشكيل لجنة أو لجان للدراسة وتقديم الإقتراحات، وذلك انطلاقاً من هذا الأسلوب تمت تجربته في الماضي، كما حصل في لجنة الميثاق والأجندة، على سبيل المثال، وقاد إلى تخدير الناس وامتصاص هباتهم، وبالتالي انتهاء الأمر. في ظني أن مثل هذا الاعتقاد أو الطرح أو مثله، الذي تقف خلفه جهات وشخصيات معينة، استأثرت بالسلطة والتسلط، وبالمال والامتيازات، لا يصدر إلا عن قوى ينطبق عليها وصف “قوى الشد العكسي”، وأن سلاحها الوحيد الذي تتسلح به الآن، بعد انكشاف أغطيتها كافة، هو ثوب الولاء الذي تتدثر به. ذلك أن مطلب الإصلاحات الدستورية ليس جديداً على الساحة الأردنية، وقد كان هذا الموضوع يظهر حيناً مع كل فسحة للحرية، ويصمت أحياناً أخرى بفعل فاعل تنتقص الحريات من سلطانه وامتيازاته.
وبدوري، فمنذ أكثر من عشر سنوات، وأنا أنشر الدراسات والكتب والمقالات وأعطي المحاضرات حول هذا المطلب، وقلت في ما نشرت وحاضرت، إن التعديلات التي جرت على دستورنا قد ذهبت بتوازنه كدستور يأخذ بالنظام البرلماني، وأدى اختلال التوازن هذا إلى أن تمارس الحكومات وأجهزتها سلطات سماوية جعلت السلطة التشريعية والسلطة القضائية ورقاب الناس وتوجهات الرأي العام، تنحني أمام جبروت سلطوي وتغول يحاكي ما كان يجري في العصور الوسطى الأوروبية، وأن الصمت على ذلك ليس قبولاً بما يجري، وإنما هو سكوت سببه خوف من قطع الأرزاق أو جرّ الناس بكرباج السجان من الأعناق، وسوف يؤدي الضغط في يوم من الأيام إلى الانفجار لا محالة، وعلى المنتمين لهذا الوطن أن يتداركوا ما تخبئه قادم الأيام.
وجاءت الأيام، وبدأت شرارة الانفجار من تونس، وعبرت إلى مصر، وخرج المارد المصري من القمقم ليكسر حاجز الخوف، وبعد ذلك ليزأر بمطلب التحرر من السلطان المطلق، ومن ثم ليعبر هذا الزئير من حدود الدول بغير استئذان، وليفتح أبواب مطالب الشعوب العربية أيضاً من غير استئذان، وأصبحت تقتدي بمصر شعوب عربية كثيرة، ووصل الأمر إلى مدن الأردن وساحات تجمعات أبنائه.
وكدارسٍ أفنى ردحاً من عمره في بحث موضوع الحقوق والحريات والسلطات في الأنظمة الدستورية في هذا العالم، سواء من حيث تاريخها ومضمونها أو من حيث تطورها، حتى استقرت في دساتير برلمانية أو رئاسية، فإني أؤكد بيقين، إن الإصلاحات الدستورية في الأردن أصبحت الآن ضرورة لا تحتمل التأخير، وأن القيود التي كسرتها شعوب الوطن العربي، أزالت حاجز الخوف في كل أرض عربية، وأن المزيد من الانتظار في الأردن سيقود إلى ما لا تحمد عقباه. وعلينا أن نعترف بأن هناك نصوص دستورية ينبغي تعديلها أو إضافتها، وأخرى يتوجب حذفها، وذلك من أجل أن يصبح مبدأ الشعب مصدر السلطات حقيقة واقعية لا مجرد شعار، وقد سبق أن اقترحت إعادة خمسة نصوص إلى الدستور، وحذف نصين منه كحد أدنى فيما مضى، لكني الآن أمام هذا الحراك المجتمعي والسياسي في الأردن، والاستجابة الرسمية له، وحتى يكون النظام الدستوري في الأردن نظاماً برلمانياً متكاملاً، يشكل قدوة للشعوب العربية في تونس ومصر والمغرب واليمن وليبيا وغيرها من الشعوب العربية، التي أجمعت على أن تحكم وفقاً لنظام دستوري برلماني، فإنني أبدي ما يلي:
1- إن جميع الدساتير في الأنظمة السياسية المعاصرة، تنص على أن الشعب هو مصدر السلطة.
2- وحيث أن الشعب لا يستطيع الاجتماع ليمارس السلطة، فهو يختار ممثلين عنه لممارسة السلطة باسمه ونيابة عنه. ويسمى مجلس الممثلين لهذا الشعب، مجلس النواب أو مجلس الشعب، أو مجلس العموم، أو غير ذلك من الأسماء. وهذا المجلس هو الذي يضع التشريعات، ويعطي الثقة للحكومة لتصبح دستورية الوجود ويراقبها ويحاسبها ومن ثم لتكون ممارستها لصلاحياتها متفقة مع أحكام الدستور.
3- وفي الأردن فإن السلطة التشريعية تتكون من مجلس نواب منتخب، ومجلس أعيان يشكّل بالتعيين. والحكومة هي التي تقرر تعيين أعضاء مجلس الأعيان، ويصدر بهذا التعيين إرادة ملكية، بموجب المادة (40) من الدستور. وفي هذا المجال، نلاحظ أن التعديلات الدستورية مكنت الحكومات من التغوّل على ما عداها، فتجاوزت على القضاء، وعلى الحقوق والحريات، وجعلت مجلس التشريع الأردني ألعوبة بيد الحكومات، وأفقدت مجلس النواب دوره كممثل للشعب مصدر السلطة، وهذا يستوجب إصلاحات دستورية على النحول التالي:
أ. كانت المادة (74) من الدستور تتضمن نصاً أضيف إليها كفقرة ثانية في 1/11/1955، ينص على أن: “الحكومة التي يحل مجلس النواب في عهدها تستقيل من الحكم خلال أسبوع من تاريخ الحل على أن تجري الانتخابات النيابية حكومة انتقالية…” لكن هذا النص تم إلغاؤه في 4/5/1958، فأصبحت الحكومات تحلُّ مجلس النواب، وتبقى في السلطة دون حسيب أو رقيب، فاختل التوازن بين السلطتين على نحو ذهب بمبدأ الفصل بين السلطات. وبتاريخ 10/11/1974، أضيفت الفقرة (4) إلى المادة (73) من الدستور، وأصبح بموجب هذه الإضافة من حق الحكومة حل مجلس النواب وتأجيل الانتخابات إلى الوقت الذي تريد، وبتاريخ 9/1/1984 أضيف للنص الفقرة (6) التي أصبح بموجبها لنصف مجلس النواب سلطة انتخاب النصف الآخر، وإذا كان تشريع هاتين الفقرتين قد ارتبط بوجود ظرف قاهر هو الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، فإنه رغم فك الارتباط مع الضفة الغربية عام 1988، وزوال السبب الذي شرّعت النصوص من أجله، إلا أن الحكومات أصبحت تحل مجلس النواب وتؤجل الانتخابات كما تريد، وتتولى هي سلطة التشريع، وغدت هي وليس الشعب مصدر السلطة. وهذا الأمر الذي لا يقبله عقل قانوني أو سياسي أو إنساني، هو الذي جعل الحكومات وأجهزتها تمارس سلطاناً مطلقاً أوحداً لا مثيل له في العالم المتحضر.
ليس ذلك فحسب، بل تجاوزت الحكومات على الفقرة الأولى التي ظلت في المادة (74) وتوجب على الحكومة التي تحل مجلس النواب ذكر سبب الحل حتى لا يتكرر الحل لذات السبب، عندما أصبحت الحكومات تمتنع عن ذكر سبب حلها لمجلس النواب. واستتبع عبث الحكومات بمجلس النواب، أن أصبحت هذه الحكومات تصنع مجالس مزورة كما تريد، ووصلنا إلى الحالة التي نشكو منها منذ أمد طويل.
وفي ضوء ما سبق، يغدو ضرورياً عودة النص الدستوري الذي يوجب على الحكومة التي تحل مجلس النواب أن تستقيل، وأن تلتزم بذكر سبب الحل، وحذف النصوص التي تعطي الحكومات صلاحية تأجيل الانتخابات، أو تمكن نصف مجلس النواب من انتخاب النصف الآخر بدلاً من الشعب.
ب. وبالنسبة لمجلس الأعيان كجزء من السلطة التشريعية، فإن الحكومات أفقدته دوره، وجعلت من هذا المجلس الذي يتوجب عليه مراقبة أدائها، مجلساً تغلب عليه بالممارسة صفة المجلس الديكوري. فالحكومة هي التي تقرر تعيين أعضاء هذا المجلس لتصدر بذلك إرادة ملكية. ورغم أن هناك مواصفات يتوجب توافرها في عضو مجلس الأعيان وفقاً للمادة (64) من الدستور، إلا أن الحكومات أصبحت تعين من تأنس بهم مباركة سلوكياتها وتصرفاتها، وعندما يتبين لها أن هناك من لا يقبل بالانحناء لها، تبادر بإخراجه من المجلس دون ذكر السبب، وذلك بموجب التعديل الدستوري الذي أضاف الفقرة (4) على المادة (34) من الدستور في 10/11/1974. وهكذا أفقدت الحكومات هذا المجلس دوره وفاعليته، بعد أن سلبت استقلاله، ولم يعد هناك أي مبرر لوجود مجلس أعيان بهذه الصيغة.
وإذا كانت الغاية النظرية من هكذا مجلس، عند صدور الدستور الأردني عام 1952، هي توفير كفاءات وخبرات لمجلس ثان في سلطة التشريع، لسد النقص الذي قد تسفر عنه انتخابات مجلس النواب في هذا المجال، فإن الصيغة التي يمكن الإقتداء بها في دساتير النظام البرلماني بدلاً من الصيغة الحالية عندنا، هي أن يكون مجلس الأعيان منتخباً، ومؤلفاً من أعضاء يمثلون المحافظات بالتساوي ودون تفرقة بينها، على أن توضع مواصفات لعضوية هذا المجلس تضمن التأهيل المطلوب من حيث السن والمؤهلات والخبرات التي ينبغي توافرها في من يرشح نفسه لعضوية مجلس الأعيان، وفي المقابل أن يتكون مجلس النواب من أعضاء منتخبين بحيث يخصص لكل محافظة عدداً من المقاعد يتناسب مع عدد سكانها. وسواء بالنسبة لمجلس النواب أو مجلس الأعيان، فإن المجلس هو الذي ينبغي في الحالتين أن ينتخب رئيسه.
ج. كان نص الفقرة (3) من المادة (54) من الدستور وفقـاً للتعديـل الذي جـرى فـي 17/4/1954، يوجب على الحكومة أن تتقدم ببيان وزاري لمجلس النواب لنيل الثقة على أساسه، لكن هذا النص تم تعديله بإدخال استثناء عليه في 4/5/1958 يسمح للحكومة باعتبار خطاب العرش بياناً وزارياً لها إذا كان تشكيلها قد حدث عندما كان المجلس غير منعقد أو منحلاً. ومثل هذا الاستثناء لا بد من إلغائه والعودة لنص عام 1954، لأن الحكومات أصبحت تستخدمه للتستر خلف الملك، انطلاقاً من أن النواب يتحرجون من توجيه النقد لخطاب الملك الذي اعتبرته الحكومة بياناً وزارياً لها.
د. وبالنسبة للمجلس العالي لتفسير الدستور الـذي تنـص على تشكيلـه واختصاصاتـه وصلاحياته، ومنها محاكمة الوزراء، المواد (57، 58، 59، 60، 122)، فقد أثبتت الممارسة أنه أصبح أداة في يد الحكومات، وبالتالي لم يعد يصلح لأداء الدور الذي أعطته النصوص له. فمن ناحية، فهو في ضوء تأثره بتوجه الحكومات لا يصلح لأن يكون المحكمة المطلوبة لمحاكمة الوزراء، وينبغي أن يكون الاختصاص بذلك لمحكمة تشكل من قضاة أعلى درجة. ومن ناحية أخرى، فإن هذا المجلس لم يعد مؤهلاً أو صالحاً لتفسير الدستور، وله سجل واضح في ممالأة الحكومات بهذا الصدد، وآخر مثال يشهد على ذلك، موضوع نقابة المعلمين، حيث فصّل المجلس عام 1994 تفسيراً للدستور في هذا المجال على مقاس الحكومة في ذلك الوقت، بعد إنهاء عضوية المعارضين للتفسير المطلوب عام 1993 وإعادة تشكيل المجلس، وقرر عدم دستورية النقابات المهنية من أجل أن يتوصل، بغير وجه حق، لعدم دستورية نقابة المعلمين، ثم أعاد المجلس تفسيره في قراره رقم (1) لسنة 2011 تاريخ 24/3/2011، ليلغي تفسيره السابق ويقرر دستورية إنشاء نقابة للمعلمين، بعد أن تغيرت ظروف السياسة. ومثل هذه التفسيرات التي يحكمها الظرف السياسي للحكومات، تؤكد أن اختصاص المجلس بمحاكمة الوزراء، أصبح يشوبه إمكانية تأثير السياسة التي ينتمي إليها أربعة من أعضاء المجلس على حساب المنطق القضائي والقانوني، ولا بد أن يعطي الاختصاص بهذا الشأن للقضاء العادي وحده، كما أسلفنا.
وفي ضوء ما سبق، فإنه ينبغي إلغاء النصوص المتعلقة بالمجلس العالـي، علــى أن يحل مكانها نصوص تنشأ بموجبها محكمـة دستوريـة، وعلى أن يتم تشكيل هذه المحكمة لمباشرة عملها عندما تتوافر الكفاءات اللازمة لها. وهنا ينبغي التنبيه إلى أننا نحتاج إلى فترة من الزمن بعد التعديلات الدستورية، لتأخذ هذه النصوص مداهـا في التطبيق، ونرى التفعيل الحقيقي لمبدأ الفصل بين السلطــات بموجـب التعديلات المذكورة، من أجل أن نكون أمام سلطة قضائية مستقلة ومحصنة في مواجهة الحكومات وذلك قبل تشكيل المحكمة الدستورية ومباشرتها لعملها.
هـ. إن تحديد مدة الدورة العادية لمجلس الأمة بأربعة شهور وفقاً للمادة (78/3) لم يعد ممكناً قبوله، لأن اجتماعات المجلس من أجل التشريع ورقابة الحكومات تحتاج إلى وقت أطول، خاصة وأن هذه المدة قد فُرضت بموجب تعديل دستوري في 16/10/1954، في حين أنها كانت قبل التعديل ستة شهور. ولذلك فإنه يبغي العودة إلى المادة القديمة وإلغاء التعديل الذي جرى عليها. وبتاريخ 8/4/1973 جرى تعديل دستوري أضيفت بموجبه إلى المادة (88)، فقرة ثانية تعطي لمجلس النواب صلاحية تعيين عضو مجلس نواب محل العضو الذي شغر مكانه عند وجود ظروف قاهرة تقدره الحكومة، وينبغي حذف هذا النص، لأنه يتعارض مع مبدأ الشعب مصدر السلطات. وفوق ذلك فإن الحكومات طبقت النص بشكل شاذ، عندما أصبحت تحدد توافر أو عدم توافر الظروف القاهرة على هواها، ويشهد على ذلك تأجيل الحكومات لانتخابات مجلس النواب مراراً بعد حله، وذلك تذرعاً بوجود ظروف قاهرة تصورت أو تخيلت وجودها، في حين أن الواقع يكذب تصورات الحكومات وتخيلاتها في هذا الصدد.
ز. وكخطوة للإصلاح الدستوري أيضاً، فإن المادة (71) من الدستور التي تعطي صلاحية لمجلس النواب صلاحية الفصل في صحة نيابة أعضائه، يتوجب حذفها، لأن الممارسة أكدت على مدى السنين الماضية، أن المجلس مارس هذه الصلاحية بانحياز لأعضائه، وبالتالي ينبغي أن تعطى هذه الصلاحية للقضاء وحده.
ح. وبالنسبة لصلاحية الحكومة في إصدار القوانين المؤقتة، فإن التجربة أثبتت أن الحكومة التي وضعت في دستورنا الصيغة الواردة في المادة (94/1) من هذا الدستور، ابتغت من ورائها فتح الباب للحكومات من أجل أن تمارس سلطات واسعة في إصدار القوانين المؤقتة ولو بدون توافر أي حالة ضرورة، حتى بلغ ما لدينا منها المئات، مما أساء إلى النظام القانوني للدولة، وشكّل ذلك اغتصاباً لسلطة التشريع وانتهاكاً صارخاً لأحكام الدستور. والصيغة الحالية للمادة المذكورة دخلت إلى الدستور الأردني بموجب تعديل دستوري في 4/5/1958، في حين كانت الصيغة قبل التعديل أكثر دقة وانضباطاً، حيث كانت تحددها حالات الضرورة على سبيل الحصر، ومن ثم ينبغي إلغاء الصيغة الحالية والعودة إلى الصيغة القديمة للمادة (94/1)، مع إضافة فقرة إليها توجب بت مجلس التشريع بالقوانين المؤقتة خلال شهرين من أول اجتماع له، وإلا اعتبرت باطلة.
ط. وفي موضوع مسؤولية مجلس الوزراء في مقابل الصلاحيات التي يمارسها هذا المجلس، نجد تعارضاً بين نص المادة (51) والاستثناء الوارد في المادة (45) من الدستور. فالمادة (51) تنص على مسؤولية رئيس الوزراء والوزراء مسؤولية مشتركة أمام مجلس النواب عن السياسة العامة للدولة. ومن الطبيعي أن تكون المسؤولية المذكورة أمام مجلس النواب بسبب الصلاحيات أو السلطات التي يمارسها هذا المجلس، انطلاقاً من مبدأ تلازم السلطة والمسؤولية. وهنا نجد أن مطلع المادة (45) من الدستور أعطى مجلس الوزراء له صلاحية إدارة جميع شؤون الدولة الداخلية والخارجية، وفي هذه الحدود، فإن النصين يتكاملان وتتلازم فيهما ممارسة السلطة مع المسؤولية عنها. لكن الاستثناء الذي ورد في عجز المادة (45) من الدستور، خلق تناقضاً مع التكامل والتلازم المذكورين. فالمادة (45) تنص على ما يلي:
“يتولى مجلس الوزراء مسؤولية إدارة جميع شؤون الدولة الداخلية والخارجية، باستثناء ما قد عهد أو يعهد به من تلك الشؤون بموجب هذا الدستور أو أي تشريع آخر إلى أي شخص أو هيئة أخرى”.
فإذا كان من الممكن أن يستثنى من صلاحية مجلس الوزراء ومسؤوليته ما ينص عليه الدستور، فلا يستقيم مع النصوص الدستورية سلب صلاحيات من مجلس الوزراء بموجب أي تشريع آخر، وفقاً للنص المذكور، وفي ذات الوقت جعل هذا المجلس مسؤولاً أمام مجلس النواب عن هذه الصلاحيات المسلوبة بموجب المادة (51) من الدستور. وهذا يطرح أمراً في غاية الأهمية وهو، أن يصبح لمجلس الوزراء الحق في أن يتحلل من المسؤولية أمام مجلس النواب عن جانب من المسؤولية عن السياسة العامة للدولة، تحت ذريعة أن المسائل المطروحة لمساءلته، خرجت من صلاحياته إلى جهة أخرى بموجب قانون مؤقت أو نظام أصدره. وهذا أمر في غاية الشذوذ.
وفي ضوء ما سبق، فإني أقترح أن يحذف من نص المادة (45) عبارة “أو أي تشريع آخر”.
ي. وبالنسبة للمحاكم، فقد استغلت الحكومات اصطلاح “المحاكم الخاصة” الوارد في المادة (102) من الدستور، واستصدرت نصوصاً تشريعية لإنشاء محاكم، مثل محكمة أمن الدولة، لا يتوافر فيها ضمانات القضاء العادي، وأعطيت لها صلاحيات في غاية الخطورة تتعلق بالحقوق والحريات، ذلك أن رئيس أركان الجيش هو الذي يعين النائب العام في هذه المحكمة، والنائب العام هذا هو ذاته رئيس قضاة هذه المحكمة، وهو الذي يكون وراء إشغالهم لمواقعهم في هيئة المحكمة، وهو الذي يكتب قرار الظن على المتهمين وتجرى المحاكمة على أساسه، ومثل هكذا قضاء، لا تقبل به الشرائع التي تكفل الحقوق والحريات وتنشد العدالة. ولذلك ينبغي أن يمنع الدستور إنشاء هذا النوع من المحاكم. وإذا كانت الحجة التي تسوقها الحكومات وأجهزتها لتبرير وجود مثل هذه المحاكم هو سرعة الفصل في الدعاوي التي تعرض عليها، فإنه يمكن تخصيص هيئات في القضاء العادي لنظر هذه الدعاوي، علماً بأن عدد هذه المحاكم الخاصة قد وصل إلى (16) محكمة.
ك. أما تشكيل الحكومات والطريقة التي تتشكل بها، والكيفية التي تطلب بموجبها الثقة من مجلس النواب، فقد قاد إلى حكومات تنازلت عن سلطاتها، وغدت شكلاً دستورياً خالي المضمون، وأصبح هذا الموضوع بحاجة إلى إعادة نظر. وفي ضوء دساتير النظام البرلماني التي تأخذ بها أعرق الملكيات في هذا العالم، وبشكل خاص الدستور الإسباني والدستور البلجيكي، فإنه يمكن اقتراح ما يلي:
أولاً: بالنسبة للمجلس الذي تطلب الحكومة منه الثقة، وهو مجلس النواب، فقد أصبحت الحكومات تعبث بأعداد النواب الذين يجسدون إرادة الشعب. وبالنظر إلى ما أصبح يثيره ذلك من اختلال وتفاوت غير مبرر لعدد المقاعد المخصصة لمحافظات المملكة، فإن هذا الموضوع يمكن علاجه من خلال نص في الدستور على أن يتكون مجلس النواب من (120) نائب، وأن يقسم عدد سكان المملكة على (120) لمعرفة كم عدد المواطنين الذي يجسدهم المقعد النيابي، ومن ثم يقسم عدد سكان كل محافظة على الناتج فتكون المحصلة هي عدد المقاعد المخصصة لكل محافظة. وهنا ينبغي أن يؤكد الدستور على ضرورة إجراء إحصاء لعدد سكان المملكة كل عشر سنوات، بحيث يعاد احتساب عدد المقاعد المخصصة لكل محافظة بعد كل إحصاء بالطريقة السابقة. أما مجلس الأعيان، فقد أسلفنا عن ضرورة أن يكون منتخباً وأن تتساوى المحافظات في عدد المقاعد المخصص لكل منها، ويمكن أن يحدد الدستور عدد أعضائه بـ (60) عضواً، ليكون نصف عدد أعضاء مجلس النواب.
ثانياً: وبالنسبة لتشكيل الحكومة والثقة التي تطلبها، فإنه بالنظر إلى معرفة مجلس النواب والأعيان المنتخبين بالتوجهات السياسية الموجودة في المجلسين، وبالكفاءات الأردنية التي تستطيع إشغال موقع رئيس الوزراء لتحقيق التوجهات المذكورة، نجد أن من الممكن علاج هذا الموضوع من خلال نص في الدستور يقضي بأن يقوم جلالة الملك، بعد التشاور مع الممثلين في مجلس النواب والأعيان للكتل الحزبية وأصحاب الطروحات والتكتلات والتوجهات الأخرى، بتسمية مرشح لرئاسة الحكومة، ويقوم هذا المرشح بتقديم برنامجه إلى المجلسين بعد أسبوع من تسميته، فإن حصل على الثقة بالأغلبية البسيطة من العدد الذي يتكون منه كل واحد من المجلسين، يصدر الملك مرسوماً بتعيينه رئيساً للوزراء، ويقوم هذا الرئيس بتقديم أسماء وزرائه ليصدر بالتشكيل مرسوم ملكي. فإن لم يحصل من يتم ترشيحه على الثقة، يصار بعد أسبوع إلى طرح الموضوع ثانية في جلسة مشتركة للمجلسين، ويكون التصويت على الثقة بغالبية الحضور. فإن لم يحصل الرئيس المسمى على الثقة كما سبق، يسمى جلالته غيره ليقوم بتقديم برنامجه بالطريقة السابقة. فإن مضى شهران، دون أن يحصل برنامج أي مرشح على الثقة المطلوبة، يقوم الملك بحل المجلسين، على أن يوقع رئيس كل مجلس على قرار حل مجلسه، وبعد ذلك، تجري انتخابات جديدة للمجلسين، ليصار إلى تشكيل الحكومة بعد الانتخابات بالطريقة السابقة. وهذا الأسلوب في تعيين رئيس الوزراء، يعالج الوضع الحالي الذي لا يوجد فيه حزب أغلبية لتسمية رئيسه لهذا الموقع، وفي حالة وصولنا إلى مرحلة يوجد فيها حزب أغلبية، فإن الواقع الذي يجسده هذا الحزب، يفرض رئيسه لتشكيل الحكومة.
4- إن التعديلات الدستورية السابقة، من شأنها أن تعيد دستورنا إلى النظام البرلماني، ليكون بالصورة التي عليها أعرق الملكيات البرلمانية في العالم. وإذا كان النظام البرلماني قد صاحب في نشوئه وتطوره الأحزاب السياسية، فإن وجود حزب أغلبية أو ائتلاف أحزاب تكون أغلبية في المجلس النيابي تتشكل منها الحكومة، يقابلها حزب أقلية معارض، هو الضمانة الأساسية للفاعلية والإنتاجية المتوخّاة من هذا النظام، وتحقيق مبدأ تداول السلطة.
وكما أسلفنا، فإن هذا الأمر غير موجود واقعياً في الأردن، لأن تكوين الأحزاب تم منعه لأكثر من ثلاثين سنة، كان التحزّب خلالها جريمة. وعندما أصبح إنشاء الأحزاب متاحاً منذ عام 1992، كان الشعور بالخوف من الانضمام للأحزاب القادم من الماضي، معيقاً للنمو المطلوب للأحزاب. يضاف إلى ذلك أن تشريع قوانين أحزاب يغلب عليها الطابع العقابي، وصدور قانون انتخابات يأخذ بنظام الصوت الواحد، ثم السيطرة الأمنية على الحياة الحزبية وتدخل الأجهزة في الانتخابات، منع بشكل واقعي أي نمو مرتجى للأحزاب، وأي تشكيل لمجلس نواب خال من التزوير، مما أفقد الحياة الحزبية والبرلمانية الدور الدستوري المقرر لها.
وبالنظر إلى أن آلية عمل النظام البرلماني تتطلب وجود أحزاب لتفعيله، فإنه يصبح من الضرورة بمكان تسهيل نشوء الأحزاب وتمكينها من النمو، وذلك من خلال قانون يجعل إنشاء الأحزاب تتشكل بمجرد إشعار السلطات بهذا النشوء، بالإضافة إلى إصدار قانون انتخاب يأخذ بنظام الصوت المتعدد والدوائر الانتخابية الواسعة، لأن هكذا قانون هو الذي يمكّن الأحزاب من إيصال مرشحيها إلى مجلس النواب من خلال حشد أصوات من دوائر واسعة، وبالتالي تستطيع هذه الأحزاب في ضوء برامجها الحزبية التي أوصلت نوابها إلى المجلس، مراقبة الحكومات ومحاسبتها. ونعتقد أن قانون الانتخاب لعام 1986 الذي أجريت بمقتضاه انتخابات المجلس النيابي الحادي عشر عام 1989، يتوافر فيه الأمران معاً. وبغير قانوني أحزاب وانتخاب على النحو السابق، فسوف يظل العمل السياسي يراوح مكانه، حتى ولو أجريت التعديلات الدستورية سابقة الذكر.
اترك تعليقاً