الإطار القانوني والخيارات المتاحة لإعادة هيكلة الدين العام في لبنان
دخلت الدولة اللبنانية رسمياً مرحلةَ التخلّف عن سداد ديونها السيادية. وتالياً، قد تكون عملية إعادة الهيكلة مؤلمة وعسيرة، لكنها في الوقت ذاته قد تمثل علامة القطع مع ممارسات الريع والاستغلال القائمة منذ عقود، وتمهيداً لمسار ٍجديد يتماهى مع حقوق المواطنين وآمالهم التي لطالما احتقرتها الطبقة الحاكمة. بات هناك إجماع اليوم على كون الدين العام غير مستدام وبحاجة إلى تعديلٍ جذري. لكن في ظل أزمة اقتصادية متعدّدة الوجوه – تشمل أزمة مالية وأزمة عملة مروراً بأزمة إنتاج طويلة المدى – ونظراً لتشابك هذه الأزمات، سواءً في أسبابها أو في تداعياتها المتداخِلة، تسود مخاوف جدّية حول الخيارات الواردة وقدرة الاقتصاد الوطني على تحمّل الصدمات المترتبة على خيار عدم السداد، ولا سيما التقلّبات المالية المحتملة.
نتناول هنا الإطار القانوني الذي يحكم عمليات إعادة هيكلة الديون السيادية، مع الإشارة إلى بعض الأسبقيات الدولية ذات دلالة خاصة، سعياً لاستجلاء الخيارات المتاحة للدولة اللبنانية وتبيان المخاطر والفرص التي تنطوي عليها هذه العملية. ونتّكل في استعراضنا هذا على مصدر أساسي ألّا وهو كتابات وأبحاث المحامي لي بكهيت (Lee Buchheit) الذي يُعتبر المرجع الأهم في هذا الاختصاص، كونه عُيّن كوكيل لسلسلة من الدول (من ضمنها اليونان والعراق والإكوادور وروسيا وآيسلندا والمكسيك) في أوج أزماتهم المديونية، إلى حدّ أنه لُقب بالأب الروحي للمجال القانوني المختص بالديون السيادية. ويُلاحظ في هذا الصدد أن بكهيت عملَ (قبل تقاعده) مع شركة المحاماة الأميركية كليري جوتليب التي عيّنتها الحكومة اللبنانية مؤخراً لتقديم المشورة القانونية في هذا الشأن، ما يدل على أنّ مقاربة بكهيت لهذه المسائل من المرجح أن تؤثر على السياسة التي قد تنتهجها الدولة في المرحلة المقبلة.
الإطار القانوني: الدولة في موقع قوّة وموقع ضعف في آن واحد
نبدأ إذاً بلفت النظر إلى بعض الخصائص التي تتميّز بها الديون السيادية عن الديون الخاصة للأفراد والشركات. ومن أهم هذه الخصائص أنّ الدول المشرفة على واقع التخلّف عن السداد تجدُ نفسَها في موقع قوة وموقع ضعف في آن واحد.
فمن جهة أولى، قد نعتبر الدول المعنيّة في موقع ضعف كونها لا تخضع لأيّ قانون إفلاس دوليّ ينظّم عملية إعادة الهيكلة تحت إشراف وحماية محكمة ما، كما يحصل في حال الأفراد والشركات أمام المحاكم الوطنية. وعليه، فلا بدّ من الخوض في مفاوضات مباشرة مع الدائنين للبحث عن حلٍّ خاضع لأحكام قانون الموجبات والعقود العادي من دون الإفادة من الحماية التي توفّرها أحكام الإفلاس، الأمر الذي يجعل الدولة المعنيّة أكثر عرضةً لممارسات استغلالية من قبل دائنين شرسين.
لكن من جهة أخرى، فالدول المتعثرة هي في موقع قوّة نسبيّة بسبب تمتّعها بالحصانة القانونية (المحدودة) أمام المحاكم الوطنية الأجنبية بفضل الاعتراف الدولي بسيادتها. ويفيد مبدأ الحصانة السيادية القائم في القانون الدولي بأنّ الدول المعترف بسيادتها دولياً لا يجوز إخضاعها لولاية قضائية خارجية من دون موافقتها. ويُلاحظ في هذا الصدد أنّ هذا المبدأ تطوّرَ في العقود الأخيرة ليتقلّص نطاق تطبيقه نسبياً إذ باتت النشاطات التجارية للدول (ومن ضمنها الإقتراض في الأسواق المالية) تعتبر قابلة للملاحقة أمام المحاكم الوطنية الخارجية باعتبارها ليست نشاطات سيادية. إلّا أنّ الأصول السيادية الموجودة في الخارج (كالسفارات والقنصليات والخ) تحتفظ بحصانة تحول دون حجزها أو مصادرتها من قبل المحاكم الأجنبية. والنتيجة، كما يصفها بكهيت، أنّ الحصول على حكم بحق دولة ما بسبب تخلّفها عن سداد ديونها بات أمراً يسيراً، إلّا أنّ تنفيذ الحكم ما زال يُعتبر أمراً شبه مستحيل – مع بعض الاستثناءات – ما يشكل حافزاً للدائنين أن يدخلوا في مفاوضات إعادة الهيكلة بهدف استرداد أكبر نسبة ممكنة من دينهم.
ويشكّل هذا التناقض، أي كون الدولة المعنيّة في موقع قوة وموقع ضعف في آن واحد، نقطة الانطلاق في أي تحليل لعملية إعادة هيكلة محتملة، لأنّ خيارات الدولة وخيارات دائنيها على حد سواء هي رهن هذه المعادلة وموازين القوى المترتّبة عليها. وفي هذا الإطار القانوني، تأخذ عملية إعادة الهيكلة طابع لعبة استراتيجية متعددة الأطراف، تجمع بينها علاقة اعتماد أو تبعية متبادَلة فيما تشوبها مصالح متناقضة.
فئات الدائنين
ينقسم الدائنون إلى ثلاث فئات:
الدائنون الرسميون الدوليّون (official multilateral creditors)، كصندوق النقد الدولي أو الصناديق التنموية الإقليمية،
الدائنون الرسميون الثنائيون (bilateral creditors)، أي الدول الدائنة للدولة المتعثرة،
الدائنون التجاريون (commercial creditors) في القطاع الخاص (الذين ينقسمون بدورهم إلى دائنين خارجيين ودائنين داخليين).
السؤال الأول المطروح لدى وضع أيّة مقترحات لإعادة هيكلة دين سيادي يتعلق بنطاق تطبيقها، أي تحديد فئات الدائنين التي سوف تُشمَل في عملية إعادة الهيكلة والفئات المستثناة من ذلك. ونجد أنّ فئة الدائنين الرسميين غالباً ما تُستثنى من العملية كلّياً، رغم غياب أيّ حكم قانوني ملزم لذلك. ويتأتّى هذا الأمر عن إدراك جميع الأطراف المعنيين بأنّ التمويل الرسمي يهدف عموماً لدعم الدولة المتعثرة واستعادة استقرارها المالي، وبالتالي فهو يخدم مصالح الدائنين ككل لأنّه يعزز قدرة الدولة على السداد. لكنّ بين الدائنين الباقين تكمن مصالح متضاربة رغم كونهم جميعاً في موضع الدائن. فالدولة المعنيّة بحاجة إلى حدّ معيّن للتخفيف من ديونها، وعبء هذا التخفيف سوف يقع حتماً على الفئات الدائنة المشمولة بالعملية، بحيث كلما ازداد عدد الفئات المستثناة، ازداد العبء على الفئات الباقية. وعليه، فإن من مصلحة الفئات الدائنة أن تعارض توسيع نطاق الاستثناءات قدر الإمكان – إن لم تستطع استثناء نفسها – لكي تخفّف من العبء الواقع عليها بعد انتهاء إعادة الهيكلة.
وربما أبرز تناقض قائم بين مصالح الفئات المختلفة من الدائنين يظهَر في إشكالية الممتنعين عن عملية إعادة الهيكلة (the Holdout Problem). ففيما يمثّل الدخولُ في عقود جديدة مع الدولة المتعثرة الحلَ العملي الوحيد للأغلبية الساحقة من الدائنين، نظراً لضيق السبل القضائية لاسترجاع الدين في ظل مبدأ الحصانة السيادية المحدودة من جهة، وواقعٍ اقتصاديٍّ بسيطٍ ألا وهو عدم قدرة الدولة على سداد جميع ديونها في كافة الأحوال من جهة أخرى، إلّا أنّ فئة من الدائنين قد تسعى إلى استغلال هذه الفرصة بغية ابتزاز مبالغ هائلة من الدولة. فتمتنع هذه الفئة عن الموافقة على مقترحات إعادة الهيكلة على أمل اللجوء إلى تهديدات ودعاوى قانونية لانتزاع أكبر مبلغ ممكن من الدولة المتعثرة مع مرور الوقت وتعافيها التدريجي.
ونستشفّ هذه التناقضات بشكل جلي في الحكم الصادر عام 2012 عن محاكم نيويورك في قضية الأرجنتين الكارثية، حيث استطاع صندوق NML Capital الذي امتنع عن الموافقة على مقترحات إعادة الهيكلة، أن يمنع الدولة الأرجنتينية التي وصلت إلى اتفاقٍ مع الفئات الدائنة الأخرى لإعادة هيكلتها، من خدمة ديونها. وقد وصلت المحكمة إلى هذه النتيجة بفعل وجود بند بالعقد الأول يقضي بالمعاملة المماثلة بين فئات الدائنين (pari passu clause)، إذ اعتبرت أنّه لا يحق للدولة بموجب هذا البند أن تخدم بعض دائنيها (ولو بناء لشروط جديدة) من دون أن تخدم دينها القائم مع NML Capital. فأبرز هذا الحكم تضارباً واضحاً بين مصالح الفئات المختلفة من الدائنين، ومنعَ الدولة الأرجنتينية من الاقتراض في الأسواق العالمية لمدة 15 عاماً، إلى أن تم التوصّل إلى اتفاق بينها وبين NML Capital في عام 2016 لدفع مبلغ 4.63 مليار دولار. كثيراً ما يُشار إلى هذه التجربة بصفتها عبرة للتداعيات الكارثية التي قد تترتّب على أيّة عملية إعادة هيكلة إذا تم استغلالها من قبل بعض الجهات بهدف كسب أرباح فاحشة في خضم الأزمات. ورغم أنّ أحكام لاحقة تفيد بأن قضية الأرجنتين كانت استثنائية وأن نطاق تطبيق الحكم الذي صدر فيها بات محدوداً، إلّا أنها ما زالت مضرب مثل على مخاطر التخلّف عن سداد الديون.
ويُلاحظ في هذا الصدد أنّ كثيراً ما تقوم الصناديق الافتراسية (vulture funds) بشراء سندات الدولة المعنيّة في السوق الثانوية بأسعار بخسة تحديداً لتحقيق هذه الغاية، حيث تسعى إلى شراء نسبة كافية منها لتمنحها حق “الفيتو” على مقترحات إعادة الهيكلة كأداة للضغط على الدولة المعنيّة، علماً بأن عقود السندات إجمالاً تتضمّن بنداً يشترط تعديلَ العقد بنيل موافقة نسبة محدّدة من الدائنين. وفيما يتعلّق بلبنان، تشير التقارير إلى أنّ سندات اليوروبوند اللبنانية تنص على وجوب الحصول على موافقة نسبة 75% من الدائنين في كل شريحة من السندات لتعديل موجباتها. وهنا نستشفّ دلالة بعض التقارير المشيرة إلى أنّ المصارف المحلّية قد باعت نسبة تفوق الـ25% من السندات لصناديق أجنبية، ما يثير تساؤلات حرجة حول نيّة المصارف من هذه الخطوة ويلوّح بسيناريو محتمل لمحاولة إبتزاز الدولة من قبل صناديق إفتراسية خارجية.
الدائنون المحلّيّون والدائنون الخارجيّون: اعتبارات تدفع في اتّجاهيْن متضاربيْن
من أهم الإشكاليات المرتبطة بإعادة هيكلة الديون السيادية مسألة التمييز ما بين الدائنين المحليين والدائنين الخارجيين، حيث نجد تجاذبات حادة تدفع في اتجاهات متضاربة.
فمن جهة، قد تقترح الدولة المعنيّة أو الدائنون المحليون أنفسهم استثناءَ هذه الفئة من عملية إعادة الهيكلة، بحجّة أنّ شمولها بها إنما يهدد استقرار القطاع المصرفي الداخلي المضطرب أساساً، الأمر الذي قد يُجبر بدوره الدولةَ على التدخّل لإعادة رسملتها تجنّباً للإنهيار المالي الشامل – ولا بدّ كذلك أن ينعكس على إيرادات الدولة – أي أن يؤدي في نهاية المطاف إلى تعميق أزمة المديونيّة بدل معالجتها، ما يلحق ضرراً مؤلماً بالدولة ودائنيها على حد سواء.
لكن من جهة أخرى، قد تعتبر الدولة المعنيّة أنه من المفضّل أن تُفرض أضرار إعادة الهيكلة على الدائنين المحليين، كي تُعالج المسألة داخلياً ضمن إطار إصلاحي شامل ومتداخل. لهذه المقاربة فضائل عدّة. أولاً، إنها لا تمسّ بقدرة الدولة على الإقتراض في الأسواق المالية الخارجية في المرحلة المقبلة، علماً بأن وضع القطاع المصرفي الداخلي الذي غالباً ما يتّسم بالهشاشة في زمن الأزمات من المرجح أن يحول دون قدرته على الاستمرار في إقراض الدولة. ثانياً، إنها تجنّب الدولة سيناريو الوقوع في فخ التقاضي المؤلم والمحرج أمام المحاكم الخارجية، كما سبق وحصل مع الأرجنتين في بدايات القرن الجديد، وجلب معه تداعيات كارثية للدولة والإقتصاد على مدى سنين طويلة. وثالثاً، إن لدى الدولة قدرة مميّزة على التأثير في قطاعاتها الداخلية، إما من خلال التشريع المباشر أو بفضل الترابط المحتوم بين مصيري المديونية السيادية وصحّة القطاع المالي الداخلي، مما يشكل حافزاً للأخير أن يتقبّل الخسائر المؤقتة تجنّباً لانهياره المطلق.
يُضاف إلى هذه التجاذبات عاملٌ آخر ألا وهو ردود أفعال الدائنين على أية محاولة للتفريق والتمييز بين فئاتهم المختلفة، ما قد يخلق شعوراً بالامتعاض ويُبرز إنقسامات جديدة في صفوفهم. وهذه الإنقسامات من شأنها أن تحول دون إكمال المفاوضات بحسن نية وبسرعة ملائمة لضرورة الوصول إلى حل منصف فيما يعاني الاقتصاد الوطني من تداعيات الأزمة المشتعلة.
آليات إعادة الهيكلة
إجمالاً، هناك ثلاث آليات لإعادة هيكلية الديون السيادية، وغالباً ما تعتمد الدول المعنيّة على مزيج منها:
أولاً، إعادة الجدولة، أي تأجيل موعد استحقاق الديون والفوائد، ما يمنح الدولة المعنيّة المزيد من الوقت لمعالجة وضعها المالي. وتُعتبر هذه الآلية بمثابة “هير كات” (haircut) ضمنيّة بسبب تكلفة الفرصة البديلة (opportunity cost) للدائنين نتيجة عدم تلقيهم المبالغ المعنيّة مبكراً كي يقوموا بإعادة استثمارها وكسب عائدات مضافة عليها، بالإضافة إلى تآكل القيمة الحقيقية للدين مع مرور الوقت بسبب التضخّم الإقتصادي.
ثانياً، تخفيض نسبة الفوائد على الدين (coupon adjustment)
ثالثاً، “هير كات” على الديون نفسها، أي شطب قسم محدد منها (principal haircut)
مفاوضات مثقلة بالإغراءات والتهديدات
وهنالك عدة آليات بوسع الدولة أن تستخدمها بهدف الوصول إلى اتفاق جديد مع دائنيها. بعض هذه الآليات هي بمثابة إغراءات إيجابية، بينما البعض الآخر بمثابة تهديدات قهرية.
فعلى سبيل المثال، تستطيع الدولة أن تعرض على دائنيها أدوات لاسترجاع عائدات مستقبلية (value recovery instruments) إذا ما وافقت على إعادة الهيكلة، من خلال الإلتزام بدفع مبالغ متفق عليها في حال وصول الناتج المحلي الإجمالي إلى حدّ معيّن. وهكذا فعلت كوستاريكا في إعادة هيكلة ديونها عام 1989، حيث التزمت بدفع قِسط محدد لدائنيها إذا ما تجاوز ناتجها الإجمالي نسبة 120% مما كانت قيمته في تلك السنة.
في المقابل، تستطيع الدولة أن تهدّد بعدم السداد إطلاقاً كي تحفّز الدائنين على القبول بشروطها المعروضة لإعادة الهيكلة، أو أن تشرّع لتجعل الدفع لدائنيها الداخليين أمراً غير قانوني، ما يُجبرهم فعلياً على الخضوع أمام شروط إعادة الهيكلة، لكن قد يُترجم مستقبلاً بعدم استعداد دائنين محتملين لإقراض الدولة نظراً لممارساتها السابقة. والحصيلة في أغلب الحالات يجب أن تتضمّن مزيجاً من هذه الإغراءات والتهديدات بهدف تحقيق توازن بين ضرورة الإلتزام بموجبات الدولة وفرض عوامل جبه لممارسات الإبتزاز والإستغلال من قبل الدائنين الشرسين.
خيارات لبنان الصّعبة
يتبيّن مما تقدم أنّ الدولة اللبنانية تقف الآن أمام مسارات حرجة قد يستمر صدى تداعياتها على مدى السنين والعقود المقبلة. وربما الخيارات الأصعب التي تطرحها هذه المرحلة هي كيفية التعامل مع الدائنين المحليين والخارجيين. فهل تفرِض الدولة جُلّ أضرار إعادة الهيكلة على القطاع المصرفي الداخلي الذي أدى دوراً أساسياً في إنتاج هذه الأزمات وكوّمَ أرباحاً فاحشة من خلال ممارساته الريعية على حساب الاقتصاد المُنتج وعامة الشعب؟ لا شك بأنّ لهذا الخيار جاذبية واضحة، سواءً من حيث المبدأ أو نظراً لفوائد إبقاء جلّ عملية إعادة الهيكلة ضمن إطار الدولة الوطنية التي سبق وأشرنا إليها، وتفادياً لخوض معارك قانونية مؤلمة مع الدائنين الخارجيين وما قد تحمله هكذا معارك من انقطاع محتمل عن الأسواق المالية الدولية. لكنه – أي خيار فرض الضرر على الدائنين المحليين دون الخارجيين – يطرح بدوره أسئلة حرجة. فهل يستطيع القطاع المتعثر حالياً تحمّل الخسائر المترتّبة على مثل هذا المسار، بدون أن يمضي قدماً إلى هاوية الانهيار؟ وفي ظل الأزمات المتعاقبة، ولا سيما وباء فيروس كورونا المستجد الذي من المرجّح أن يتطلّب إجراءات مالية طارئة لضمان قدرة البلاد على استيراد المستلزمات الطبية، لقد اكتسب القطاع المالي – شئنا أم أبينا – أهمية مضاعفة بما يقتضي اتخاذ التدابير اللازمة لتجنّب انهياره.
من الصعب أن ندلي بوجهة نظر حاسمة على خلفية الحالة السائدة من التكتّم على حسابات وموجودات مصرف لبنان والمصارف التجارية. لكننا نرى مبدئياً أنّه في ظلّ التعقيدات القائمة، من المفضّل ألّا تقوم الحكومة بأية محاولة للتمييز بين فئات الدائنين المختلفة، تجنباً لإبراز انقسامات وعوائق جديدة، مع استثناء واحد ألا وهو الضغط على المصارف المحليّة لإعادة شراء السندات التي باعتها للصناديق الأجنبية، تفادياً لاحتمال الابتزاز من قبل الصناديق الشرسة بتواطؤ مع القطاع المصرفي الذي بات يتصرّف وكأنّه هو الدولة الفعلية في البلاد وغير خاضع لرقابة أيّ كان.
وهنا نلاحظ حساسية الوضع اللبناني. فتشير التقارير إلى أنّ قرابة 95% من الديون السيادية اللبنانية تملكها أطرافٌ داخلية. وقد نعتبر هذه الحقيقة نعمة للأسباب المتعددة التي سبق وأشرنا إليها، إلّا أنّها تحمل خطورة قوامها أنّ شطب الديون قد يهدد القطاع المالي بالإفلاس ويفاقم الأزمة القائمة بدلَ معالجتها، بحيث تتحوّل أزمة الدين العام إلى أزمة إنهيار مالي ما لم تتخذ إجراءات موازية لضمان السيولة الكافية لمستلزمات هذه المرحلة الحرجة ورعاية العدالة الاجتماعية في آن واحد. هذه، إذاً، هي المعادلة الصعبة: ضرورة معالجة وضع الدين العام من دون تعريض القطاع المصرفي من خلال ذلك لخطر الإفلاس والانهيار.
ومن الإجراءات المطلوبة لإيجاد التوازن ما بين هذه التجاذبات المتضاربة، فرض الضرائب أو “هير كات” على ثروات المودعين الكبار الذين استفادوا من الفوائد الخيالية على مدى السنين – الأمر الذي يساهم في الحفاظ على السيولة الداخلية ورعاية الوضع المالي للدولة – بالإضافة إلى النّظر في مسألة تأميم المصارف أو بعضها كي يتمّ تخصيص أصولها ومواردها للمصلحة الوطنية في ظل حالة الطوارئ القائمة. ما رأيناه حتى الآن هو العكس تماماً، إذ انتفضت الطبقة الحاكمة في إثبات واضح للتضامن الطبقي والتفّت حول مصالح القطاع المصرفي عقب قرار النائب العام المالي بتجميد أصول المصارف رداً على انتهاكاتها المتعددة. التحديات جسيمة، والحلول ليست يسيرة. لكنها ضرورة لا مفر منها، وقد حان الوقت لاتخاذ القرارات الجذرية اللازمة فيما تعاني البلاد – سواء مكوّناتها اللبنانية أو السورية أو الفلسطينية أو العاملين والعاملات الأجانب في المنازل وغيرها – من وطأة الأزمات المتعاقبة المؤلمة.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً