الاجتهاد القضائي
د. عبد اللطيف القرني
استقرار الاجتهاد نتيجة حتمية لاستقرار موجبات الأحكام، وعند تغير الموجبات التي تتضمنها الأحكام القضائية تتغير معها الأحكام القضائية، لأنها تعتبر من الناحية التطبيقية من مبحث تعليل الأحكام، وحقيقة هذا التغيير أو التعديل ليس معناه تبدل التشريع أو تحول الأحكام بالأهواء، إنما يحصل التغيير أو التعديل نتيجة لتغير علل الأحكام، سواء كانت بالمصلحة أو العرف أو غيرهما من الموجبات. فالنصوص الشرعية والنظامية جعلت من المصلحة أو العرف مناطات بتلك الأحكام، لا أن الحكم يتغير تغيراً كليا بما يشبه النسخ والإزالة. ومعلوم أن الأحكام القضائية امتداد للأحكام الشرعية، التي جاءت معللة بمصالح جليلة هي جوهر معاني التشريع ومقاصدها العليا، وبحكم أن هذه المصالح هي من الأمور الوجودية، فإنه يعرض لمحاّلها من عوارض التبدل والإخلاف ما يوجب تجديد التّكيّف مع تلك المحال، حسبما يقتضيه مناط الحكم الأصلي، ما يعني بوضوح أن الحكم القضائي المعلل يدور مع علته في سائر محالها وتشخّصاتها.
ولعل اجتهاد الصحابة – رضوان الله عليهم – في زيادة حد الخمر على الأربعين أكبر دليل على تغير موجبات الحكم القضائي.
قال ابن القيم – رحمه الله – في تعليل ذلك ”هذا وأمثاله سياسة جزئية بحسب المصلحة، يختلف باختلاف الأزمنة فظنّها من ظنّها شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة”. والأسباب التي تستوجب تغيير المبادئ القضائية خاضعة في الأصل للحيثيات التي تتضمنها العلل الشرعية، إذ ثمة كثير من الأحكام مبنية على مناطات متغيرة بحسب العوارض وتختلف هذه العوارض باختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأحوال والأعراف. والحقيقة أن أصل هذه الأسباب كلها في حالة عدم وجود النص القاطع هو تغير المصلحة واختلاف الأحوال والظروف، سواء كان التغير شموليا عاما أو متعلقا بأشخاص معينين. والقاضي في تعامله مع المبادئ القضائية يستصحب النظر في التغيرات المجتمعية التي تطرأ على الوقائع، فإذا استصحب الاقتضاء الأصلي، فإن عليه العدول عن هذا المبدأ إلى قواعد العدل والمصلحة.
وقد يسلك القاضي هذا المسلك فيتغير المبدأ القضائي السائد، ولولا اجتهاد القاضي لما حصل التغيير، ولظل الناس في عنت ومشقة من استمرارية المبدأ القضائي المعدول عنه، ومن أمثلة ذلك ما حصل في قضاء ديوان المظالم عند قيام إحدى الدوائر بالعدول عن مبدأ قضائي كان سائداً، وهو الحكم بعدم تسجيل العلامة التجارية المشتملة على صور ذات الأرواح. وظل قضاء الديوان مستمسكاً بهذا المبدأ، فأي دعوى تتضمن علامة تجارية لذوات الأرواح فإنها ترفض استناداً إلى حرمة التصوير، ولم يتغير هذا المبدأ إلا في عام 1424هـ، عندما قامت إحدى الدوائر بتأسيس الاجتهاد القضائي المطلوب العدول عنه بما يلي:
أولاً: إن الصور عموماً مما عمت بها البلوى ويشق الاحتراز منها في العصر الحاضر، إذ هي منشورة ومنتشرة في الكتب والمجلات والصحف وفي كل مكان، ومطبوعة على النقد المتداول والمحمول في جيوب الناس وخزائنهم، وفي وثائقهم التي تثبت شخصياتهم كالبطاقات، والجوازات، وغيرها من الوثائق الرسمية، وتعرضها شاشات التلفاز وجميع الوسائل المرئية، متضمنة صور كبار العلماء والمرشدين والدعاة في أقدس الأماكن في بيت الله الحرام، وفي مسجد رسول الله – عليه الصلاة والسلام – وهذا العموم والشيوع يتعذر معه الاحتراز من هذه الصور والقول بتحريمها، والحالة هذه يوقع في حرج ومشقة، والقاعدة الشرعية أن المشقة تجلب التيسير.
ثانياً: إن الصور التي تتضمنها العلامات التجارية التي رفعت الدعاوى بشأنها أمام الديوان، إضافة إلى أنها ممتهنة لم توضع للتقديس والتعظيم، فهي في الغالب الأعم صور لأجزاء من حي أو رسوم كاريكاتيرية لا تمثل في واقعها حقيقة كائن حي وليس فيها ما يخل بالآداب العامة، وقد قرر الفقهاء – رحمهم الله – جواز الصور التي قطع منها عضو لا تبقى الحياة معه، وفي هذا يقول ابن قدامة في المغني (وإن قطع منه ما لا تبقى الحياة بعد ذهابه كصدره أو بطنه أو جعل له رأس منفصل عن بدنه لم يدخل تحت النهي، لأن الصورة – أي الحياة – لا تبقى بعد ذهابه..).
ثالثاً: إن تشابك المصالح الاقتصادية في العصر الحديث اقتضى سعي المملكة إلى الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية واتفاقياتها، ومنها اتفاقية تريبس التي تعنى بحماية حقوق الملكية الفكرية المتضمنة حماية العلامات التجارية المسجلة في أي دولة من دول الاتفاقية، ومقتضى ذلك أن العلامات المشتملة على صور متى سجلت في أي دولة من الدول المنضمة إلى الاتفاقية يجب حمايتها في جميع الدول الموقعة على الاتفاقية، ورفض حماية هذه العلامات مع عدم وجود نص قطعي الدلالة بتحريمها، من شأنه الإضرار بمصالح المملكة الاقتصادية وتضييق الخناق عليها، بل منعها من الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية واتفاقية تريبس لحماية حقوق الملكية الفكرية، مع أن الأمر واسع ويتعين النظر فيه بما يحقق المصلحة العامة، ويدرأ المفاسد، ثم إن الامتناع عن تسجيل هذا النوع من العلامات التجارية، وعدم حمايتها لا يمنع تسجيل تلك العلامات في دول أخرى، ودخولها على البضائع والمنتجات إلى المملكة، ولكونها غير محمية يتسابق المقلدون والمزورون إلى تقليدها وتزويرها، وتتكاثر تبعا لذلك الصور في علامات مزورة فيستشري الضرر وتتسع دائرته، حيث تنتشر الصور التي قيل بتحريمها ويضار المنتجون والمصنعون والتجار بتقليد علاماتهم التجارية، والمستهلكون بتضليلهم والتلبيس عليهم بإظهار السلع المقلدة الرديئة في صور سلع أصلية متميزة، الأمر الذي تنتهي معه الهيئة إلى الموافقة على العدول عما استقر عليه القضاء بإلغاء القرارات المتعلقة بتسجيل صور ذوات الأرواح علامات تجارية..) أ.هـ.
فلو أن قضاة الدائرة استسلموا للمبدأ السائد لأصبح المتقاضون في حرج وضيق، ولظلت الأحكام القضائية في هذه المسألة تفتقر إلى معاني العدل والمصلحة، لكن حذق قضاة الدائرة جعلهم يسعون إلى حكم قضائي آخر مستجد أقدر على تحقيق العدل والمصلحة، نظراً لكون المناط الذي هو مستند المبدأ القضائي قد انتقل إلى ما يقتضيه الاجتهاد الجديد. وكل ما سبق لا يعني اطّراح المبادئ القضائية السابقة وعدم الالتفات إليها، بل هي دعوة إلى إعادة النظر في كيفية الاجتهاد القضائي ومعالجات الحوادث والمستجدات والموازنة بين الأحكام الأصلية ومآلات التطبيق الواقعي. وعدم الاكتفاء بالاستقرار القضائي مع تغير الظروف، لأنه قد يتمخض عن ذلك من المفاسد والأضرار ما لا تقره الشريعة ولا ترضاه قواعدها القطعية.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً