محاكم الكويت مختصة بقضايا سحب الجنسية :
“ليس صحيحا أن الجهة الإدارية تتمتع بسلطة مطلقة في ما تترخص فيه بلا معقب عليها, إذ لا تتمتع أي جهة إدارية بسلطة مطلقة، لكنها يمكن أن تتمتع بسلطة تقديرية واسعة”.
بهذه الكلمات كانت محكمة أول درجة في القضاء الإداري عام 2013 قد كرَّست مبدأ اختصاصها بنظر القضايا المتعلقة بسحب الجنسية من المواطنين, ورفضها، لكون السلطة التنفيذية لها سلطة مطلقة في هذه القرارت، بعيداً عن رقابة القضاء, وأضافت: “مهما اتسعت هذه السلطة، فإنها تخضع دوما للرقابة القضائية، ولا يمكن أن تنعدم, وليس في ذلك افتئات على مبدأ فصل السلطات، بل هو إعمال لصحيح هذا المبدأ ولصريح نص المادة 166 من الدستور, الذي عهد للقضاء الإداري بممارسة هذا الاختصاص، شاملاً ولاية الإلغاء وولاية التعويض بالنسبة للقرارات المخالفة للقانون”.
وبناءً على هذا، جاءت محكمة الاستئناف، لتؤيد ما أتت به محكمة الدرجة الأولى، ورفضها لتبريرات ممثلي الحكومة، بعدم اختصاص القضاء في النظر في الدعاوى المتعلقة بالجنسية, لتعلن عن اختصاصها بذلك، إذا ما ثبت وجود انحراف في قرارات الإسقاط والسحب.
ويُعد هذا الحكم سابقة تشكل قاعدة قد تبنى على أساسها الأحكام في القضايا المشابهة, كما يكون بارقة أمل لكل مَن أسقطت أو سحبت جنسياتهم في الفترة الماضية، لرفع الدعاوى، وإثبات عدم صحة قرارات الحكومة في السحب, علماً بأن المحكمة ألزمت “الداخلية” إعادة الجنسية للمواطن أيضاً.
الطعن في قرارات سحب الجنسية وكفالة حق التقاضي :
د. حسن البوهاشم السيد
صدر عن الدائرة الإدارية الأولى بمحكمة التمييز الكويتية حكمًا قضائيًا يحق لنا أن نصفه بـ”التاريخي”، لكونه عزز حق التقاضي المكفول دستوريًا، وأكد اختصاص القضاء في إلغاء القرار الصادر بإسقاط الجنسية عن المواطن أو سحبها منه، وذلك على الرغم من أن قانون دائرة المنازعات الإدارية الكويتي نص صراحة على عدم اختصاص المحكمة في مسائل الجنسية، كما أبعد عن مجال اختصاصها أعمال السيادة.
وقبل التعليق على الحكم المذكور، من الفائدة أن نبين بأن أوروبا شهدت في النصف الأول من القرن العشرين ترحيلا جماعيا وحرمانا غير عادل من المواطنة وتمييزا لأسباب عرقية لمئات الألوف من الأشخاص، والتي تعد الأضخم في تاريخ أوروبا. هذه المأساة الإنسانية كانت وراء تقرير مبدأ “عدم تجريد المواطن من جنسيته تعسفًا” في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي أصبح نبراسًا انتهجت بنهجه مواثيق واتفاقيات عالمية وإقليمية أخرى تعنى بحقوق الإنسان. إسقاط الجنسية أو سحبها عن المواطن لم يعد مأساة خجل منها التاريخ في عهد الظلمات، فطوى صفحته سريعًا. تجريد المواطن من جنسيته للأسف الشديد عقوبة لا تزال تمارس في محيطنا دون ضمانات أو شفافية أو الحق في التقاضي أمام قضاء محايد ينظر في قرار سحب الجنسية ليرى إن وافق القانون، أو أن التجرد تم تعسفًا.
وعودة إلى حكم محكمة التمييز الكويتية، نبين بأن الوقائع التي صدر الحكم بناء عليها تمثلت في أن أحد المواطنين الكويتيين الذي سبق أن اكتسب والده الجنسية الكويتية في عام 1962، وولد هو كويتيًا بعدها في عام 1965 وتزوج بامرأة كويتية وأنجب منها بنين وبنات كويتيين، صدر في حقه مرسوم في عام 2014 يقضي بسحب الجنسية الكويتية منه وممن كسبها معه بطريق التبعية. اتجه هذا الشخص متظلمًا للإدارة المعنية، ولكنه لم يتلق أي رد. وعدم الرد على التظلمات للأسف الشديد يُفهم منه أحيانًا أن الجهة المعنية لا تريد أن يُستغل ردها على التظلم ضدها في المستقبل إما إعلاميا أو قضائيًا، وقد يفهم منه أيضا أن الإدارة في موقف ضعيف لا تمتلك حياله السند القانوني المناسب فتتبع سياسية “التطنيش”، لاسيما وأنها تعلم بأن قراراتها محصنة ولا معقب عليها. كما قد يفهم من عدم الرد على التظلم بأن الإدارة لا تهتم بمعاناة هذا المتظلم، وما نجم عن قرارها في شأنه من مأساة له ولعائلته.
وإسقاط الجنسية أو سحبها عن المواطن كارثة لا يمكن أن توصف أو يعطى لها صورة تقريبية تحدد درجة قساوتها إلا صورة ذلك الشخص الذي احتل وطنه وأبعد عنه ليبقى بلا وطن وبلا حماية. فسحب الجنسية عن المواطن كسحب الحياة منه، وفي أغلب دول الخليج العربي فقدان الجنسية سبب في فقدان الوظيفة، أي لقمة العيش. كما أن فقدان الجنسية يعد سببًا في استرجاع الدولة للقرض أو لتسوية منحة الأرض الذي بني عليها، أي بلا مأوى. علاوة على فقدان العديد من الحقوق الأساسية كالتعليم والرعاية الصحية، بل إن الأمر قد يصل إلى الحرمان من الإقامة على وجه الأرض التي كانت له وطنًا وأصبح اليوم غريبًا عنها بقرار محصن عن نظر القضاء.
هذا الشخص الذي سحبت منه الجنسية لجأ إلى محكمة أول درجة لتنصفه، ولكن للأسف حكمت المحكمة بعدم اختصاصها ولائيًا بنظر الدعوى، فلم يقبل الحكم فولى وجهه نحو محكمة الاستئناف، لكنها قضت بتأييد الحكم المستأنف، أي أنها قضت كذلك بأن المحكمة غير مختصة ولائيًا بنظر الدعوى. ما حدا بالشخص المسحوبة جنسيته أن يتعلق بآخر أمل قضائي لديه في حياته الدنيا، فرفع دعواه أمام محكمة التمييز فأصدرت الحكم الذي نحن بصدده، والذي وصفناه بـ”التاريخي”.
وبينت محكمة التمييز في حكمها أن حق التقاضي مكفول للناس كافة، فلكل ذي شأن الحق في أن يلجأ إلى قاضيه الطبيعي للطعن في القرارات الإدارية النهائية، فالأصل أن تخضع أعمال وقرارات الإدارة لرقابة القضاء ويمنع تحصينها، فإن جاء القانون ومنع القضاء من نظر هذا الأمر فهو استثناء لا يجوز التوسع في تفسيره أو القياس عليه. ورأت محكمة التمييز في حكمها أن قانون دائرة المنازعات الإدارية الكويتي، أكد الأصل وهو إخضاع القرارات الإدارية لولاية المحاكم، وأنه إذ استثنى بعض القرارات من نظر القضاء ومنها القرارات الصادرة في مسائل الجنسية، فإن هذا الاستثناء يجب أن يكون في أضيق الحدود، وأن يقتصر فقط على القرارات الصادرة بمنح الجنسية أو رفض منحها. وهذا الاستثناء يمكن تبريره بكونه يتعلق بكيان الدولة وحقها في اختيار من يتمتع بجنسيتها في ضوء ما تراه وتقدره، غير أنه لا مبرر لاستثناء القرارات الصادرة بسحب الجنسية أو إسقاطها. استندت المحكمة إلى الدستور الكويتي، وهو كالعديد من الدساتير نص صراحة على أن الجنسية يحددها القانون ولا يجوز إسقاط الجنسية أو سحبها إلا في حدود القانون، وهو أمرٌ لا يتحقق إلا بالرقابة القضائية على عمل الإدارة.
ومن جانب آخر، بيّن حكم محكمة التمييز الكويتية بأنه لا محل للقول بأن القرار الصادر بسحب الجنسية يعد عملًا من أعمال السيادة التي لا يجوز للمحاكم نظرها. فمع غياب تعريف تشريعي لأعمال السيادة، تكون المحاكم هي المختصة بتقرير ما يعد من أعمال السيادة من عدمه. وقد جرى قضاء المحكمة بأن أعمال السيادة هي القرارات التي تصدرها الحكومة باعتبارها سلطة حكم وليس سلطة إدارة، أما القرارات التي تصدرها بصفتها سلطة إدارة ومنها قرارات إسقاط أو سحب الجنسية، فإنها يجب أن تصدر في إطار القانون المنظم لها، وتلتزم الإدارة بضوابطه وحدوده وتخضع بالتالي لرقابة القضاء. وبالتالي قضت محكمة التمييز الكويتية بقبول الطعن شكلًا وتمييز الحكم المطعون فيه وباختصاص المحكمة في نظر القرارات الصادرة بإسقاط أو سحب الجنسية.
هذا الحكم التاريخي لمحكمة التمييز الكويتية يجب أن يكون منهاجًا لجميع المحاكم في دول مجلس التعاون الخليجي، فتحصين القرارات الصادرة في مسائل الجنسية لم ينفرد به المشرع الكويتي فحسب، بل ذهب إليه المشرع في دول خليجية أخرى. فالمادة (11) من قانون السلطة القضائية القطري نصت صراحة على عدم اختصاص المحاكم بشكل مباشر أو غير مباشر في مسائل الجنسية، والمادة (4) من قانون الجنسية العمانية الجديد نص صراحة أيضا على أن “لا تختص المحاكم بالنظر في مسائل الجنسية والمنازعات المتعلقة بها”.
إن تحصين أعمال الإدارة وقراراتها أمر تجاوزته دول العالم ونصت بعض دساتيرها صراحة على عدم تحصين قرارات الحكومة تحقيقًا لكفالة حق التقاضي وترسيخًا لدولة المؤسسات والقانون.
والله من وراء القصد.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً