أحكام التحكيم بين الزوجين في حال الشقاق
د.عبود بن علي بن درع*
إذا ظهر الشقاق بين الزوجين دون أن يعرف من هو السبب في ذلك، أو إذا خيف الشقاق بينهما قبل حصوله، فقد جاء القرآن الكريم بعلاج ذلك في قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا}[1].
وقد اختلف العلماء في المراد من الآية فيمن يبعث الحكمين؟ وما صفتها؟ وهل هما حاكمان لهما الفصل في الخصومة بين الزوجين؟ أو أنهما وكيلان ينفذ تصرفهما في حدود وكالتهما؟ أم أنهما جهة نظر يرفعان ما يريانه إثر التحقيق مع الزوجين إلى الحاكم ليتولى نفسه الفصل في خصومتهما؟
من المخاطب بهذه الآية؟
أ قال بعض المفسرين : إن المخاطب بقوله، تعالى: { فإن خفتم} هو الحاكم ، فإذا عرف الحاكم أن شقاقا وقع بين زوجين فيجب عليه أن يرسل حكماً من أهل الزوج وحكماً من أهل الزوجة للإصلاح بينهما، لأن الحاكم هو المكلف بالسهر على مصالح العباد ومن مصلحة المجتمع تقوية الأسرة بعدم ظهور الشقاق بين أفرادها.
قال الطبري : إن المأمور بذلك السلطان الذي يرفع ذلك إليه لما روي عن سعيد ابن جبير والضحاك[2].
وقال الجصاص : « الأولى أن يكون خطاباً للحاكم الناظر بين الخصمين والمانع من التعدي والظلم، وذلك لأنه قد بين أمر الزوج وأمره بوعظها وتخويفها بالله ثم بهجرانها في المضجع إن لم تنزجر ثم بضربها إن أقامت على نشوزها، ثم لم يجعل بعد الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم منهما من الظالم ويتوجه حكمه عليهما»[3].
وجاء في مغني المحتاج: « فإن اشتد الشقاق بعث القاضي حكماً من أهله وحكماً من أهلها لينظر في أمرهما… الآية { وإن خفتم شقاق بينهما}، والخطاب فيها للحكام وقيل للأولياء والبعث واجب[4].
وقال الحطاب : « إذا اختلف الزوجان وخرجا إلى ما لا يحل من المشاتمة كان على السلطان أن يبعث حكمين ينظران في أمرهما وإن لم يرتفعا ويطلبا ذلك منه، فلا يحل أن يتركهما على ما هما عليه من المآثم وفساد الدين»[5].
ب وقال آخرون إنما المأمور بذلك هو الزوج والزوجة والخطاب موجه إليهما.
فإذا شعر الزوجان بسوء المعاشرة بينهما وخشيا استفحال الشقاق اختار كل منهما حكما للإصلاح ولمعرفة المخطيء منهما.
قال ابن العربي: قوله: { وإن خفتم} قال السدي: يخاطب الرجل والمرأة إذا ضربها فشاقته… قال ابن عباس، ومال إليه الشافعي»[6].
وذكر الطبري أثراً بسنده إلى السدي أن المأمور بذلك الرجل والمرأة[7].
ج ويرى بعض الفقهاء أن الخطاب في قوله، تعالى: { فإن خفتم} موجه إلى الأولياء أيضاً. يقول ابن العربي: « وقال مالك: المخاطب قد يكون السلطان ، وقد يكون الوليين إذا كان الزوجان محجورين … وأما قول مالك إنه قد يكون الوليين فصحيح، ويفيده لفظ الجمع ، فيفعله السلطان تارة، ويفعله الوصيّ أخرى»[8].
يقول ابن عابدين : « وفي القهستاني عن شرح الطحاوي : السنة إذا وقع بين الزوجين اختلاف أن يجتمع أهلهما ليصلحوا بينهما، فإن لم يصلحا جاز الطلاق والخلع ا. هـ ، وهذا هو الحكم المذكور في الآية»[9].
مهمة الحكمين:
مهمة الحكمين أن يستقصيا أسباب الخلاف ويحاولا رأب ما بينهما من صدع، وإعادة الصفاء والمحبة إلى حياتهما الزوجية، فإذا تمكن الحكمان من إزالة ما طرأ بين الزوجين من الفساد، ونجحا في تقريب وجهات النظر بينهما، فقد زال الإشكال. أما إذا وجدا صعوبة التفاهم ووجدا ضرورة الافتراق فهل للزوجة المطالبة بالتفريق، وهل سلطان الحكمين يمتد إلى الحكم بالتفريق بين الجانبين باعتبارهما حكمين يصدران عن رأيهما لا وكيلين لا يستقلان بكلام؟
للفقهاء حول هذا الموضوع قولان : قول يرى أن الحكمين لهما الحكم بالتفريق إذا لم يتوصلا إلى الإصلاح فيما بين الزوجين، وقول آخر يرى أن الحكمين ليس لهما الحكم بالتفريق، لأن مهمتهما الإصلاح فقط، فهما وكيلان لا يستقلان بكلام، وإليك تفصل القولين:
القول الأول: يرى المالكية والشافعية في قول وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين أن مهمة الحكمين إيجاد حل للشقاق الواقع بين الزوجين، فإن تم الصلح بينهما والتوفيق وإلا فرقا بينهما. لأنه لا يجوز ترك زوجين نشب الشقاق بينهما وتعذر عليهما الإصلاح دون علاج، ولا علاج بعد هذه المحاولات إلا التفريق بينهما[10]. وروي نحو هذا عن علي وابن عباس والشعبي والنخعي وسعيد ابن جبير والأوزاعي وإسحاق وابن المنذر[11] ، وانتصر لهذا الرأي ابن القيم وأيده[12].
أدلتهم:
1- أن الله تعالى حين قال: {فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} دل على أنهما حكمان ولو كانا وكيلين لقال ابعثوا وكيلا عن الزوجة ووكيلاً عن الزوج، ولهذا لا يعتبر رضا الزوجين، لأن الحكم يحكم بما يراه من المصلحة، فإن وفق الحكمان إلى الإصلاح كان خيراً وإلا فلهما التفريق بين الزوجين[13].
وقد ذكر الله الإصلاح في القرآن الكريم ولم يذكر الفرقة لأنه الأفضل وليسعى الحكمان للوصول إليه فليس معنى ذلك الاقتصار عليه بحيث لا يباح غيره.
2- إن عثمان بن عفان بعث عبد الله بن عباس ومعاوية بن أبي سفيان حكمين للنظر فيما بين عقيل بن أبي طالب وزوجته فاطمة بنت عتبة بن ربيعة من شقاق، فقيل لهما: إن رأيتما أن تفرقا فرقتما . وصح عن علي بن أبي طالب أنه قال للحكمين : أتدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما[14].
3- إن الله أمر الزوج بقوله : {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}[15] ، فإذا حصل الشقاق تعين التسريح، لأنه وقع النفور والنشوز بين الزوجين وحاول الحكمان الإصلاح فلم يصلا إلى نتيجة، لذلك وجب التفريق ولو بدون رضا الزوجين.
4- إن التفريق لدى القاضي ثبت في الشرع في عدة حالات كالعيوب مثلاً وهذا متفق عليه، فالقاضي إذ يرسل الحكمين إنما يستمدان سلطتهما منه، لأنه يملك التفريق فإذا ما فرقا كان ذلك نيابة عن القاضي.
قال الحافظ ابن حجر : « فلما كان المخاطب بذلك الحكام وأن الإرسال عليهم، دل على أن بلوغ الغاية من الجمع أو التفريق إليهم»[16].
وبما أن القاضي بعثهما لتحقيق العدالة بين الزوجين، فكما أن العدالة تكون بالإصلاح بينهما، قد تقتضي العدالة التفريق بينهما، وليس من العدالة أن يقبل القاضي حكم الإصلاح ولا يقبل حكم التفريق.
فإذا ما قررا التفريق وجب على الحاكم تنفيذ ذلك.
يقول ابن القيم: « والعجب كل العجب ممن يقول: هما وكيلان لا حاكمان، والله تعالى، قد نصبهما حكمين، وجعل نصبهما إلى غير الزوجين، ولو كان وكيلين، لقال : فليبعث وكيلاً من أهله، ولتبعث وكيلاً من أهلها. وأيضاً فلو كانا وكيلين، لم يختصا بأن يكونا من الأهل ، وأيضاً فإنه جعل الحكم إليهما فقال: إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما، والوكيلان لا إرادة لهما ، إنما يتصرفان بإرادة موكليهما. وأيضاً فإن الوكيل لا يسمى حكماً في لغة القرآن، ولا في لسان الشارع، ولا في العرف العام ولا الخاص… وأيضاً فإن الحكم أبلغ من حاكم، لأنه صفة مشبهة باسم الفاعل دالة على الثبوت، ولا خلاف بين أهل العربية في ذلك، فإذا كان اسم الحاكم لا يصدق على الوكيل المحض، فكيف بما هو أبلغ من ذلك ! وأيضاً فإنه سبحانه خاطب بذلك غير الزوجين، وكيف يصح أن يوكل عن الرجل والمرأة غيرهما، وهذا يحوج إلى تقدير الآية هكذا { وإن خفتم شقاق بينهما} فمروهما أن يوكلا وكيلين: وكيلاً من أهله، ووكيلاً من أهلها، ومعلوم بعد لفظ الآية ومعناها عن هذا التقدير ، وأنها لا تدل عليه بوجه ، بل هي دالة على خلافه»[17].
القول الثاني: يرى الحنفية والشافعية، في قول ، وأحمد بن حنبل في رواية والظاهرية أن مهمة الحكمين الإصلاح والتوفيق بين الزوجين وليس لهما التفريق إلا إذا كانا وكيلين عن الزوجين بذلك[18].
ومن الأدلة التي استدلوا بها تأييداً لوجهة نظرهم ما يأتي:
1- قوله سبحانه وتعالى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا}[19] فالآية دليل على أنه لا يمضي تصرف أي شخص على شخص آخر إلا بالالتزام والتأييد منه، لذا ليس لأحد أن يطلق زوجة غيره، ولا أن يقوم بالتفريق بين الزوجين إلا إذا ورد النص بوجوب فسخ النكاح[20].
2- إن مهمة الحكمين هي الإصلاح بين الزوجين كما نص بذلك القرآن الكريم بقوله: { إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما} ، فلم يقل القرآن الكريم إن يريدا فرقة، فإيفاد الحكمين هو لوعظ الظالم من الزوجين وإعلام الحاكم بذلك ليأخذ على يده[21].
3- الفراق إما يتم بالطلاق وهو حق الزوج، أو ببذل المال كبدل للخلع، وهو حق الزوجة، وهذان الأمران منوطان بهما فليس لأحد التماسهما إلا إذا صدر التوكيل والإذن من الزوجين[22].
4- ويستدلون بأن سلطة الحكمين في التفريق لا أصل لها، لأن ذلك إما أن يكون مستمداً من الحاكم أو من الزوجين، فإن كانت مهمتهما مستمدة من الحاكم، فالحاكم نفسه لا يملك حق التفريق، وإن كانت من الزوجين فلا تصح بدون توكيل[23].
هذا الاستدلال قال به الحنفية بناء على نظريتهم في هذا الموضوع بأن القاضي لا يملك حق التفريق وهي حجة غير مسلم بها حتى من الذين قالوا برأي الحنفية في موضوع التحكيم فضلاً عن أن الحجج يجب أن تكون مسلماً بها من الطرفين، والطرف الآخر يعطي القاضي سلطة التفريق بين الزوجين في حالات متعددة[24].
5- ما روي عن علي ابن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه جاءه رجل وامرأة ومعهما جمع من الناس فسألهم علي عن شأنهما، فقالوا: بينهما شقاق، فقال: فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما. ثم قال للحكمين: أتدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا. فقالت المرأة رضيت بكتاب الله ، وقال الرجل أما الفرقة فلا. فقال علي: كذبت والله لا تنفلت مني حتى تقركما أقرت.
ووجه الاستدلال : أن حكم الحكمين لا يكون إلا بتوكيل من الزوجين ورضا منهما ، ولهذا أمر على الزوج أن يقبل التحكيم، فلو لم يكن ذلك لما طلب عليّ منه الموافقة على التحكيم ، فدل هذا على أن الحكمين ليس لهما سلطة التفريق إلا بتفويض من الزوجين[25].
الترجيح:
والذي أراه راجحاً هو قول المالكية ومن وافقوهم ، وهو إعطاء الحكمين سلطة الحكم بالتفريق إذا لم يتوصلا إلى الإصلاح فيما بين الزوجين.
وذلك أن الحكمين بعد أن عرفا المشكلة القائمة بين الزوجين التي استعصي حلها عليهما، ولم يستطيعا التوفيق بينها، كان هذا دليلاً على استحالة الحياة الزوجية .
وإذا كان في بعث الحكمين تحقيق مصلحة الزوجين والأسرة بإصلاح ذات بينهما فكذلك يبدو من المصلحة أيضاً إن تعذر الإصلاح أن يكون التفريق بينهما. لأن الغاية من الإصلاح هو عود الصفاء إلى البيت والمودة إلى القلوب ، وهذا إذا لم يتحقق ، بل كان الصفاء والمودة في التفريق بينهما تحققت غاية الإصلاح عن طريق آخر: قال تعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ}[26].
والتفريق للشقاق أو للضرر، كما يسميه المالكية، هو في الحالة التي يشكو منها أحد الزوجين للقاضي سوء معاشرة صاحبه له فينظر في أمرهما فإما أن يصلح وإما أن يفرق بينهما، إما على مال إن كان الضرر من الزوجة، أو بدونه إن كان من الزوج.
*أستاذ الفقه المساعد في جامعة الملك خالد بأبها- المملكة العربية السعودية.
[1] سورة النساء، الآية: 35.
[2] تفسير الطبري، 8/318.
[3] أحكام القرآن 2/190.
[4] مغني المحتاج 3/261.
[5] مواهب الجليل 4/16.
[6] أحكام القرآن لابن العربي 1/423.
[7] تفسير الطبري 8/318، وأحكام القرآن للجصاص 2/190.
[8] أحكام القرآن 1/423.
[9] حاشية ابن عابدين، دار الفكر 1995م ، 3/484.
[10] المغني 10/264 الخرشي على مختصر خليل، دار الفكر 40/9، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3/212 – 213مغني المحتاج 3/261.
[11] المغني 10/264.
[12] زاد المعاد ، مؤسسة الرسالة 1986م، 5/190.
[13] المهذب 2/74.
[14] زاد المعاد 5/191.
[15] سورة البقرة ، الآية : 229.
[16] فتح الباري، كتاب الطلاق، باب الشقاق 9/505.
[17] زاد المعاد 5/190 وما بعدها.
[18] أحكام القرآن للجصاص 2/191 وما بعدها ، المغني 10/264، المحلى 10/88، مغني المحتاج 2/261.
[19] سورة الأنعام، الآية 164.
[20] المحلى 10/88.
[21] أحكام القرآن للجصاص 2/193.
[22] المصدر السابق ص 192، مغني المحتاج 3/261.
[23] أحكام القرآن 2/191 – 192.
[24] د. عبد الرحمن الصابوني ، مدى حرية الزوجين في الطلاق 2/711.
[25] أحكام القرآن للجصاص 2/191، 192.
[26] سورة النساء ، الآية 130.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً