قبل الحديث عن حالة المريض المصاب بمرض لا يرجى شفاؤه والتي تتطلب التخفيف بالتبصير لابد من الإشارة إلى بعض الحالات المرضية البسيطة والتي تتطلب التخفيف بالتبصير أيضاً والتي يصاب بها الإنسان وتفترض علم الناس كافة بمخاطرها وآثارها ومعالجتها كحالة المصاب بالأنفلونزا والمصاب بارتفاع ضغط الدم وغيرهما من الأمراض الأخرى التي لا تقع تحت حصر، فضلاً عن حالة المريض السريع التأثر وهذا يخضع لتقدير الطبيب المعالج وفراسته؛ فعندما يرى الطبيب أن تبصير المريض الواسع يؤثر في نفسيته ومن ثم يؤثر في تقبله للعمل الطبي علاجياً كان أم جراحياً فان هذا الأمر يفرض عليه التخفيف في التبصير. أما عن حالة المريض المصاب بمرض يعدّ شفاؤه ميؤوساً منه كالمريض المصاب على سبيل المثال بمرض الإيدز(1).أو السرطان، فهذان المرضان لحد الآن لم يكتشف العقار الناجح في علاجهما ومن ثم فان النتيجة الطبيعية للمصاب بهما هي الموت،
لكن السؤال الذي يمكن أن يطرح في هذا المجال هو: ما مدى التزام الطبيب بتبصير مريضه، أيفرض تشديد التبصير على المريض؟! أم التخفيف فيه؟! إن حالة المريض المصاب بمرض لا يرجى الشفاء منه تفرض على الطبيب تبصيره بحالته تبصيراً مخففاً وذلك من اجل المحافظة على حالته النفسية ومعنوياته وذلك بأن يبث فيه روح الأمل مفضياً إليه بالمخاطر المتوقعة الحدوث دون المخاطر الاستثنائية النادرة، كما يفرض ذلك على الطبيب التزاماً بعدم إعلامه بأن حالته ميؤوس منها والنتيجة الطبيعية لها هي وفاته لأن الموت والحياة بيد الله وحده لا يملكه غيره ولا يعلمه إلا هو، كما أن الإفضاء إليه بمثل هذا الأمر يؤثر في نفسيته تأثيراً كبيراً قد يمنعه من الاستجابة للعلاج(2). وفضلاً عن ذلك فان أخلاقيات هذه المهنة تفرض على الأطباء رفع الروح المعنوية للمرضى لكن يجب على الطبيب أن يراعي في الوقت نفسه عدم الكذب على المريض، لأن العقد الطبي كما نعلم من عقود الثقة فلا يمكن الجمع بين نقيضين الثقة والكذب لذلك يجب على الطبيب الإفضاء بحالة المريض لأهله أو لأقاربه أو لأي شخص آخر قريب منه مع إشعار المريض بخطورة الحالة دون أن ينتزع منه كل أمل للشفاء وذلك من أجل فسح المجال للمريض بترتيب ما يراه مناسباً من أمور دينه ودنياه. لكن إذا كانت الغاية من الكذب هو مصلحة المريض هل يعدّ ذلك أمراً مشروعاً؟! في هذا المجال تجدر الإشارة إلى أن هناك ما يسمى بالكذب التفاؤلي الذي من شأنه رفع الروح المعنوية ومراعاة حالة المريض النفسية ومن ثم فان هذا النوع من الكذب يكون مبرراً، لأن هدفه الأساسي هو مصلحة المريض إذ أن الكذب الذي يقع من الطبيب نوعان: نوع يهدف من ورائه إخفاء المرض عن المريض وآخر يهدف إلى تشويه الحقيقة بهدف دفع المريض إلى قبول العلاج وهذا لايقصد من ورائه مصلحة المريض إنما يسعى به إلى تحقيق مصلحة الطبيب بدفع المريض إلى التعاقد. فالنوع الأول يكون مشروعاً خلافاً للنوع الثاني، لأن المعيار الذي يحكم به مشروعية الكذب من عدمه هو مصلحة المريض، هذا ما أكدته محكمة باريس في قرار لها جاء فيه: (إعفاء الطبيب من المسؤولية رغم كذبه العمد على المريض باخفائه حقيقة المرض العضال عليه، لأن ذكر الحقيقة لن يكون له أثر ايجابي ولا تستلزمه طبيعة العلاج)(3).
فالقضاء الفرنسي أعفى الطبيب من أية مسؤولية بالرغم من كذبه المتعمد على المريض ما دامت غايته هو مصلحة المريض بالدرجة الأساسية. وقد تبين لنا من خلال الاستبيان الذي أجريناه في مدينة الموصل على الأطباء العاملين في المستشفيات الحكومية والأهلية والعيادات الخاصة، أن 94.8% من الأطباء يدعون إلى ضرورة تبصير المريض الذي لا يرجى شفاؤه تبصيراً مخففاً لبث روح الأمل بنفسه وكي يستجيب للعلاج ويمضي بقية عمره بصورة طبيعية، إلا أن نحو 5.2% من الأطباء يدعون إلى ضرورة تشديد التبصير تجاه المريض المصاب بمرض ميؤوس من شفائه معززين رأيهم هذا باعطاء المريض الفرصة المناسبة لإكمال ما يراه ضرورياً قبل موته، فضلاً عن أن العلم له حدوده ويبقى الأمر بيد الله(4). فالاتجاه الأول هو الراجح لأن المريض المصاب بمثل هذه الأمراض التي لا يرجى الشفاء منها تتطلب حالته رفع الروح المعنوية لديه بالتبصير المخفف(5).وبهذا نأمل من مشرعنا ايراد نص بهذا الخصوص يقضي بأن: (يلتزم الطبيب بتبصير مريضه بحقيقة مرضه إلا إذا كان المرض مميتاً فيلتزم بالتبصير تجاه أهله والمقربين له). وقد تميز موقف المشرع الجزائري من غيره من القوانين المقارنة الأخرى التي لم تأخذ هذه الحالة بعين الاعتبار في نص المادة (51) من مدونة أخلاقيات الطب والتي جاء فيها: (يمكن إخفاء تشخيص مرض خطير عن المريض لأسباب مشروعة يقدرها الطبيب) أي بمعنى أنه يمكن للطبيب أن لا يفضي للمريض المصاب بمرض لا يرجى الشفاء منه أو خطير كما وصفه المشرع الجزائري بحقيقة مرضه وذلك لأسباب مشروعة يقدرها الطبيب ألا وهي مراعاة حالة المريض النفسية ومعنوياته وهذا الاتجاه أقره القضاء الفرنسي أيضاً. وقد قضت محكمة استئناف ليون في قرار لها مقتضاه:
(أن الالتهاب الوريدي الناشئ عن الحقن بدواء لعلاج مرض عقلي يمثل نتيجة غير متوقعة الحدوث، فلا يسأل الطبيب عن عدم قيامه بأخطار المريض بها)(6). بهذا أقرت محكمة استئناف ليون التبصير المخفف وذلك بأعلام المريض بالمخاطر المؤكدة دون المحتملة الاستثنائية فقد جعلت هذه المحكمة الالتهاب الوريدي مسألة استثنائية ونادرة الحدوث، فهذا لا يلزم الطبيب بتبصير المريض بها ومن ثم فانه لن يسأل عن عدم إعلام المريض بهذه الحالة النادرة. يتضح لنا من كل ما تقدم أن للتبصير حالتان، الأولى: وهي حالة التشديد بالتبصير والثانية: هي حالة التخفيف بالتبصير ولكلا الحالتين اعتبارات تقوم عليها(7). وتأسيساً على ما تقدم فان التزام الطبيب تجاه مرضاه بالتبصير يجب أن يؤخذ في حدود التحفظات الآتية:
1. يجب أن يأخذ الطبيب بعين الاعتبار عند إعلام مريضه حالته النفسية لأن ذكر النتائج الضارة قد يؤثر في معنوياته، فعليه إذاً إخفاء بعضها أو التهوين في ذكرها أو سردها بطريقة عامة مراعاةً لحالة المريض.
فقد ذهبت محكمة النقض الفرنسية في إحدى قراراتها في عام 1999 إلى إعفاء الطبيب من المسؤولية في حالة كذبه على المريض باخفاء حقيقة المرض الخطير عليه لأن ذلك أدى دوراً حاسماً في حالته النفسية والجسدية لأن ذكر الحقيقة لا فائدة منه(8).
2. أن يميز الطبيب عند تبصيره للمريض بين الأمراض البسيطة والأمراض الخطيرة، فالنوع الأول يستوجب التبصير المشدد والثاني يستوجب التبصير المخفف وفقاً لما سار عليه القضاء الفرنسي(9).
3. ان التزام الطبيب بتبصير مريضه لا يلزمه بأعطاء كل التفاصيل الفنية التي قد لا يستطيع استيعابها علمياً سواءً ما يتعلق بنتائج المرض أو طرق العلاج المستخدمة، فالطبيب لا يستطيع أن يشرح للمريض كل ما يمكن أن تثيره لديه عملية التخدير أو الصدمات الكهربائية مثلاً، ما دامت هذه الطرق متعارفاً عليها علمياً فيجوز للطبيب أن يستخدم كل الوسائل الطبية المسلم بها ما دامت لم تعد محل تجربة حول صلاحيتها؛ لكن تجدر الإشارة إلى أنه في بعض الحالات قد تثير هذه الوسائل لدى المريض نتائج ضارة خاصة به بسبب حالته الجسمية ففي هذا الفرض يجب على الطبيب تبصير مريضه بذلك كي يتخلص من مسؤوليته.
4. يصعب على الطبيب الوفاء بالتزامه بتبصير المريض في حالة الضرورة، لذلك يجب أخذ هذه المسألة بعين الاعتبار حول مسؤوليته.
5. يجب أن يأخذ القاضي بعين الاعتبار عند تقرير مسؤولية الطبيب في حالة إخلاله بالتزامه بتبصير المريض، حسن نية الطبيب ورغبته في إنقاذ المريض وحالة المريض الصحية، لأن التزامه هذا هو التزام بالإعلام لا الإقناع فهو ملزم بعرض المعلومات على مريضه لا فرضها.
من كل ما تقدم نأمل من مشرعنا أخذ هذه المسائل بعين الاعتبار عند تشريع قانون طبي، لأن هناك بعض الحالات تستوجب التشديد بالتبصير وأخرى تقتضي التخفيف وذلك بايراد نص يقضي بأن: (1. يلتزم الطبيب بتبصير مرضاه مع مراعاة ما يأتي: أ. تشديد التبصير في نطاق التجارب الطبية وعمليات استقطاع الأعضاء البشرية وزرعها والإجهاض غير العلاجي وعمليات التجميل غير العلاجية، وغيرها من الأعمال الطبية التي تنطوي على خطورة بالغة. ب. تخفيف التبصير في الأحوال التي يكون شفاء المريض فيها لا أمل فيه).
___________________________
– يطلق على هذا المرض باللغة العربية (مرض نقص المناعة المكتسبة) وكلمة ايدز تتكون من الحروف الأولى للكلمات الانكليزية التي سميّ بها هذا المرض: (Acquired Immune Deficiecy Syndrome)
ويطلق الفرنسيون على هذا المرض لفظ سيدا وهي الأحرف الأولى للكلمات الفرنسية:
(Syndrome Immuno Deficien ce Aquise)
ينظر تفصيلاً: د. عاطف عبد الحميد حسن، المسؤولية وفيروس مرض الإيدز، دار النهضة العربية، القاهرة، 1998، ص15.
2- د. عبد الرحمن بن حسن النفيسة، مسائل في الفقه، بحث منشور في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة والتي تصدر في المملكة العربية السعودية، السنة التاسعة، العدد 35، 1418 هـ، ص224.
3- صدر القرار في 7/3/1925، أشار إليه أ.د. محمد حسين منصور، الخطأ الطبي في العلاج، بحث منشور في المجموعة المتخصصة في المسؤولية القانونية للمهنيين، المصدر السابق، ص452.
4- ينظر: الملحق رقم (2) الذي يبين النسب المتحققة من الاستبيان.
5- أشار مشروع دستور السلوك المهني الطبي العراقي في البند خامساً من فصل آداب المهنة الطبية إلى ذلك إذ جاء فيه:
(للمريض الحق في معرفة حقيقة مرضه وهو الأساس في إحلال التعاون بين الطبيب ومريضه ويستثنى من ذلك المرض المميت الذي يتجنب فيه الطبيب إخبار مريضه به خوفاً من تدهور حالته الصحية فيلجأ عند ذلك إلى إخبار أقرب الأقربين إليه والمسؤولين عنه إلا إذا لم يتوفر هؤلاء وكان المريض في حالة نفسية وعقلية سليمة فيحتم الواجب إخباره مع الاحتياطات المناسبة …).
قد أصاب هذا النص في تخفيف التبصر تجاه المريض المصاب بمرض لا أمل في الشفاء منه إلا أنه أخفق بالصيغة التي جاء فيها، إذ لم يضفِ عليها الطابع القانوني، كما انها تعد بمثابة شرح مطول وليس بصيغة مادة قانونية.
6- صدر القرار في 12/4/1951 أشار إليه أواز سليمان دزه بي، الالتزام بالإدلاء بالمعلومات عند التعاقد، أطروحة دكتوراه مقدمة إلى كلية القانون، جامعة بغداد، 2000، ص185.
7- تبين لنا في الواقع العملي لمهنة الطب من خلال الاستبيان الميداني، أن نسبة عدد الأطباء الذين يؤيدون التبصير المخفف (18%)، بينما نسبة الأطباء الذين يؤيدون التبصير المشدد كانت (12.8%)، أما نسبة تأييد التبصير بحدود فكانت أكبر من هاتين النسبتين فوصلت إلى (69.2%) إذ أنهم يميزون بين الأمراض البسيطة والخطرة.
8-Aldin Bery، Contract de sions Actualites odonto، Stomato logiques، n’218. juin، 2002، P.239
9-Recueil Dalloz، 2001، Juris prudence، P.3559.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً