كتبه: إبراهيم السكران
الحمد لله وبعد،،
جرت عادة محققي هيئة التحقيق والادعاء العام وضع يدهم على الأجهزة التي بحوزة المقبوض عليهم، وغالباً ما تكون جهاز الجوال المحمول (موبايل)، وجهاز الحاسوب المحمول (اللابتوب)، والذاكرة القلمية (فلاش ميموري)، ونحوها، ثم لا يعيدونها للمقبوض عليه بتاتاً، وغالباً يذكرون أنهم أرسلوها إلى الأدلة الجنائية، وقد أصبح هذا السلوك الضبطي لدى منسوبي هيئة التحقيق والادعاء العام أشبه بالقاعدة العامة بسبب اعتيادهم عليها، بل ويستغربون من أن يتجرأ المقبوض عليه ويطالب بإسترجاع أغراضه الشخصية.
وقد مارس محققوا هيئة التحقيق هذا السلوك مع أهالي الموقوفين المقبوض عليهم أثناء مراجعة الدوائر العدلية عدة مرات، وآخر حدث وقفت عليه هو ما وقع أثناء زيارة وفد من أهل العلم والدعوة والنصيحة للديوان الملكي هذا الشهر، حيث حجبوا مرتين، وفي المرة الثالثة يوم الثلاثاء 17 ربيع الأول 1434هـ فوجئوا بالقبض عليهم، وضبط جوالاتهم وعدم إرجاعها لهم، مع تكرار المشايخ ضيوف الديوان بالمطالبة بجوالاتهم المحمولة، إلا أن محققي هيئة التحقيق تمسكوا برفض إعادة أي جهاز جوال محمول، بسبب اعتيادهم على عدم إعادة أي جهاز مضبوط.
حسناً أين جوهر الانحراف النظامي في هذا الإجراء؟ الحقيقة أن جوهر الخلل –في تقديري- هو الخلط المفاهيمي لدى محققي هيئة التحقيق وعدم إدراكهم للتمييز بين مفهومين جنائيين فرّقت بينهما الأنظمة السعودية جذرياً، وهما مفهوم (الضبط) ومفهوم (المصادرة).
فحين يقوم المحقق بتفتيش المقبوض عليه يحق له بموجب المواد (43-45) من نظام الإجراءات الجزائية أن يقوم بـ(ضبط) كل ما يفيد في كشف الجريمة، ولكن وضع النظام أسساً لإعادة المضبوطات للمقبوض عليه، أما إذا لم يتم إرجاع المضبوطات إلى المقبوض عليه فهذه تسمى (مصادرة)، والمصادرة ليست من اختصاص رجل التحقيق، بل من اختصاص القضاء، لأن (الضبط) وسيلة من وسائل التحقيق يخول بها رجل التحقيق، أما (المصادرة) فهي عقوبة قضائية يختص بها القضاء.
وللأسف الشديد أنه ما يزال محققوا هيئة التحقيق والادعاء العام يخلطون بين مفهومي (الضبط) و (المصادرة)، ويتوهمون أن تخويل المنظم لهم حق الضبط للتحقيق، يعني تخويلهم حق المصادرة الذي هو إجراء قضائي مختلف وليس من صلاحياتهم! وهذا التمييز شديد الوضوح في النظام السعودي، لكن بسبب ضعف (التأهيل القانوني) لكثير من موظفي هيئة التحقيق يقع في أذهانهم هذا الخلط.
وسأوضح ذلك في الفقرات التالية:
-أولاً: التأسيس للدستوري لاختصاص القضاء بالمصادرة:
النظام الأساسي للحكم يعتبره شراح النظام السعودي أعلى الأنظمة، وأنه بمثابة دستور الدولة السعودية، كما يقول مثلاً بعض شراح النظام السعودي (يعد “النظام الأساسي للحكم” أهم وثيقة دستورية في المملكة، إذ يعد الوثيقة الدستورية الأم)[د.بن شلهوب، النظام الدستوري في السعودية، ص 395].
وربما يتساءل البعض عن ثمرة كون النظام الأساسي للحكم بمنزلة الدستور؟ والجواب أن من أهم ثمرات ذلك أنه لا يجوز للأنظمة واللوائح أن تخالفه، لأن مبادئه أقوى درجة نظامية منها.
وقد نص هذا النظام -الذي هو بمنزلة الدستور- صراحة على أن المصادرة عقوبة يختص بها القضاء، كما جاء في المادة التاسعة عشرة منه (ولا تكون عقوبة المصادرة الخاصة إلا بحكم قضائي)[النظام الأساسي للحكم، م/19].
-ثانياً: انبثاث التأكيد في الأنظمة على اختصاص المصادرة بالقضاء:
اختصاص القضاء بالمصادرة لم يكتف المنظم بتأسيسها في النظام الأساسي للحكم، بل توزّع التأكيد عليها في كافة الأنظمة، وسأذكر بعض الأمثلة، وحاول أخي القارئ أن تلاحظ كيف يكرر المنظّم ربط المصادرة بالقضاء في كل مرة وكل حالة، برغم أنها أنظمة مختلفة في حقول متفاوتة:
أ-(المصادرة: التجريد والحرمان الدائمان من الأموال، أو المتحصلات، أو الوسائط المستخدمة في الجريمة؛ بناء على حكم قضائي صادر من محكمة مختصة)[نظام مكافحة غسيل الأموال، م:1].
ب-(المصادرة: إدخال أشياء، أو أموال، أو جزء منها؛ إلى ملكية الدولة بحكم قضائي)[نظام مكافحة المخدرات، م:1].
ج-(لا تجوز مصادرة الاستثمارات التابعة للمستثمر الأجنبي إلا بحكم قضائي)[نظام الاستثمار الأجنبي، م:11]
د-(يجوز بحكم قضائي مصادرة الطائرة)[نظام الطيران المدني، م:173]
هـ-(ولا تتم المصادرة إلا بحكم قضائي)[تنظيم معاملة القادمين للمملكة بتأشيرات، م:4]
و-(مصادرة المحل بحكم قضائي)[نظام الأنشطة المضرة بالبيئة، م:6].
ز-(يجوز لديوان المظالم في أي دعوى مدنية أو جنائية أن يحكم بمصادرة الأشياء المحجوزة)[نظام العلامات التجارية، م:52].
وهذه فقط بعض النماذج من أنظمة مختلفة، وفي حقول شديدة التفاوت، وكلها تؤكد أن المصادرة عقوبة يختص بها القضاء، وتزيد ترسيخ المبدأ الدستوري الذي قرره النظام الأساسي للحكم.
-ثالثاً: تأكيد نظام الإجراءات الجزائية على إعادة المضبوطات للمقبوض عليه:
لا يخلو حال المحقق من مسارين: أحياناً يرى المحقق بعد استكمال التحقيق رفع الدعوى لدى القضاء، وأحياناً يقرر المحقق حفظ المعاملة.
فإن وصلت الدعوى للقضاء اختص القضاء بالمصادرة أو تسليم المضبوطات.
وإن حفظت الدعوى فيجب إعادة المضبوطات للمقبوض عليه، فإن رفض المحقق إعادة المضبوطات فيرفع تظلم لرئيس الدائرة كما ينص نظام الإجراءات الجزائية (لصاحب الحق في الأشياء المضبوطة أن يطلب من المحقق المختص تسليمها إليه، وله في حالة الرفض أن يتظلم لدى رئيس الدائرة التي يتبعها المحقق)[نظام الإجراءات الجزائية، م:59].
حسناً .. فإن رفعنا التظلم لرئيس الدائرة ورفض أيضاً؟ فترفع الدعوى لدى المحكمة لإعادة المضبوطات كما ينص نظام الإجراءات الجزائية (يصدر الأمر برد الأشياء المضبوطة من المحقق أو من قاضي المحكمة المختصة التي يقع في نطاق اختصاصها مكان التحقيق)[نظام الإجراءات الجزائية، م:88].
وسيأتي لذلك مزيد إيضاح
-رابعاً: تأكيد شراح النظام الجزائي السعودي على رد المضبوطات:
أكّد شراح النظام السعودي أنه ليس من حق المحقق مصادرة المضبوطات، وأن المحقق لا يخلوا من حالين: إما إرسال المضبوطات للمحكمة ليقرر القضاء رأيه فيها، وإما إرجاعها للمقبوض عليه، وسأنقل بعض نماذج تعليقات الشراح:
أ-(لكل شخص يدّعي حقاً في الأشياء المضبوطة؛ أن يطلب من المحقق تسليمها إليه، ويصدر الأمر برد الأشياء المضبوطة من المحقق في أثناء فترة التحقيق، أو من المحكمة المختصة التي يقع في نطاق اختصاصها مكان التحقيق في حالة ما إذا رفض المحقق تسليمها)[إبراهيم الموجان، إيضاحات على نظام الإجراءات الجزائية، ص 111].
ب-(معنى ضبط الأشياء المتعلقة بالجريمة هو وضعها تحت يد السلطة العامة للتحفظ عليها إلى حين انتهاء الإجراءات في الدعوى الجنائية، سواء بإصدار أمر بحفظ الأوراق، أو حُكِم في موضوعها)[د.تاج الدين، أصول التحقيق الجنائي وتطبيقاته في السعودية، ص 184].
ولمزيد من تأكيدات شراح النظام السعودي على هذه القضية، أعني إعادة المضبوطات للمقبوض عليه؛ يمكن –أيضاً- مراجعة:
-شهاب والجبالي، الوجيز في التحقيق الجنائي في ضوء نظام الإجراءات الجزائية، ص133
-د.سعد بن ظفير، الإجراءات الجنائية في السعودية، ص 146.
وأما الشروحات المشهورة في الفكر القانوني العربي فيمكن مراجعة:
-د.محمود مصطفى، شرح قانون الإجراءات الجنائية، ص 287
-د.محمود حسني، شرح قانون العقوبات: القسم العام، ص 791
-د.أحمد سرور، الوسيط في قانون العقوبات: القسم العام، ص610.
وخلاصة الأمر: أنه ليس من صلاحيات ولا اختصاص محققي هيئة التحقيق والادعاء العام، ولا جهات الضبط، الامتناع عن إرجاع المضبوطات للمتهم، بل يجب نظاماً على محققي هيئة التحقيق أن يعيدوا المضبوطات للمقبوض عليه، أو يرفعوها للمحكمة ليقرر القضاء رأيه فيها، وأن امتناع محققي هيئة التحقيق والادعاء العام عن إرجاع المضبوطات يحول (الضبط) إلى (مصادرة)، والمصادرة عقوبة يختص بإيقاعها القضاء، كما نص النظام الأساسي للحكم (لا تكون عقوبة المصادرة الخاصة إلا بحكم قضائي) ورسّخت هذا المبدأ الدستوري سائر الأنظمة السعودية، وأكده –أيضاً- نظام الإجراءات الجزائية، وتوارد على تعميقه وإيضاحه شراح النظام السعودي، ومفكروا القانون العرب.
وهذا يعني أن ما جرت به عادة محققي هيئة التحقيق والادعاء العام من وضع اليد على جوالات وحواسيب المقبوض عليهم، وعدم إرجاعها: أنه انتهاك صريح لاختصاص القضاء، وتعدٍّ فادح على الصلاحيات التي حددتها الأنظة السعودية، وخلط غريب بين مفاهيم جنائية ميزت بينها الأصول النظامية السعودية، وهما مفهومي (الضبط) و (المصادرة).
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
أبو عمر
ربيع الأول 1434هـ .
اترك تعليقاً