في الحقيقة أن فقهاء الشريعة الأقدمين لم يعنوا بإيراد تعريف للحق مع كثرة استعمالهم إياه، ويبدو أن ذلك يرجع إلى أنهم رأوه واضحاً فاستغنوا عن تعريفه، والحال كذلك عند الأصوليين وإن كانوا قد اهتموا بتقسيمه وتبيان أحكامه وقد حاول بعض الأصوليين أن يعطوا تعريفاً جامعاً للحق فقالوا أنه (حكم يثبت) وواضح أن هذا التعريف من العمومية والإجمال بحيث لا يمكن التعويل عليه. وقد وضع بعض الفقهاء المعاصرين عدة تعريفات للحق، فعرفه بعضهم بأنه (مصلحة مستحقة شرعاً)(1) وعرفه الأستاذ الدكتور السنهوري بأنه (مصلحة ذات قيمة مالية يحميها القانون)(2). ويعرفه الدكتور (حسن كيرة) بأنه تلك القدرة أو السلطة الإرادية التي يخولها القانون لشخص من الأشخاص في نطاق معلوم(3). لقد جعلت الشريعة الإسلامية للإنسان منزلة جليلة وحرمة خاصة وفضلته على كثير من مخلوقات الله عز وجل وشرعت لذلك ما يصون كرامته ويحرم الاعتداء، ووضعت الحماية اللازمة له وتأثيم القائم بالاعتداء على حق الإنسان في التكامل الجسدي إذ أن للحق في التكامل الجسدي حرمة ولا يجوز الاعتداء عليه وحددت القصاص جزاءً للمعتدي(4).
أما من الناحية القانونية فإن القانون الجنائي يهدف بتجريمه أفعال الضرب والجرح وإعطاء المواد الضارة إلى حماية حق الإنسان في سلامة جسمه، وهذا الحق هو المصلحة القانونية التي يحميها القانون في أن يظل الجسم مؤدياً وظائفه كلها على النحو العادي الطبيعي حتى لا تتعطل إحدى هذه الوظائف ولو كانت أقلها أهمية أو كان التعطل وقتياً، وقد عنى المشرع بحماية الحق في سلامة الجسم لاتصاله بحق الإنسان في الحياة أوثق اتصال فالاعتداء على الحياة ليس هو إلا اعتداء على سلامة الجسم بقصد تعطيل وظائفه العضوية تعطلاً تاماً أبدياً كما وأن المساس بسلامة الجسم ينطوي على خطر تعطيل هذه الوظائف تعطيلاً كاملاً فضلاً عما يتضمنه من أذىً محقق يصيب المجني عليه سواءً تحقق الخطر أو لم يتحقق(5). بالنسبة لمفهوم الحق وأقسامه لدى الفقه القانوني فلقد تحددت بشكل عام النظريات التي تضمنت تعريف الحق بثلاثة اتجاهات، اتجاه شخصي واتجاه موضوعي واتجاه مختلط. فأما الاتجاه الشخصي فقد أقام الحق على أساس السلطة التي يخولها القانون لصاحب الحق، أما الاتجاه الموضوعي فقد أقام الحق على أساس المصلحة التي يقرها القانون لصاحب الحق ولم يسلم الاتجاهان السابقان من سهام النقد(6). فقد برز الاتجاه المختلط الذي حاول أن يمزج بين الاتجاهين السابقين ويقيم الحق على أساس السلطة والمصلحة، إذ يعرف هذا الاتجاه الحق بأنه مصلحة مشروعة تقوم على تحقيقها سلطة أو قدرة يقرها القانون(7).
ويميل أغلب الفقهاء إلى تغليب الاتجاه المختلط لما أبداه من تفسير معقول لمفهوم الحق وطبيعته(8). فحماية الكيان البدني للإنسان واضحة في مواجهة غيره ومن الشخص نفسه أيضاً، ولتعلق هذا الموضوع أيضاً بحقين هما حق الله وحق العبد على الروح والجسد، فقد أوجبت شريعتنا الغراء المداواة وعدم الإهمال المتعلق بالجروح لضمان سلامة البدن وحرمت كذلك الزنا والإجهاض والاعتداء بالضرب أو الجرح وما بلغته الشريعة الإسلامية في ميدان حرمة جسد الإنسان وروحه لم يبلغه ما سبقها من قوانين(9). فالأذى الذي يقع على الإنسان دون أن يؤدي بحياته يدخل ضمن أنواع الإيذاء والاعتداء في الشريعة الإسلامية إذ يتمثل في الجرح والضرب والدفع والجذب والضغط وغير ذلك من أنواع الاعتداء وتسمى الجريمة هنا بالجناية على ما دون النفس. ولابد من التعرض إلى تقسيمات الحقوق في الفقه الإسلامي لكي نتعرف أين الحق في السلامة الجسدية من تقسيمات هذه الحقوق وأثر الرضا بالمساس الذي ينال من الجسد بناءً على قبول صاحبه، فهناك اتجاهان في هذا المجال، الاتجاه الأول: يقسم الحقوق على أربعة أقسام وهي:
1.الحقوق الخالصة لله تعالى: وهي عبادات وحدود والأخيرة تتعلق بحماية الفضيلة بالمجتمع والنفع العام.
2.الحقوق الخالصة للعبد: ومنها الضمان، ضمان الدية وبدل التلف وحق الملكية والتصرفات الواقعة عليها.
3.اجتماع الحقين وحق الله يكون هو الغالب فيه: كحد القذف ويعد من الحقوق الغالبة لله على حق الفرد، عليه فلا أثر للرضا أو العفو.
4.اجتماع الحقين وحق العبد يكون هو الغالب فيه: كما في القصاص واختلف الفقهاء بشأنه فمنهم من ذهب إلى أن الله سبحانه وتعالى له في نفس العبد حق الاستعباد وللعبد حق الاستمتاع وفي شرعية القصاص يكون حق العبد أغلب، والبعض الآخر يقولون بأنه ليس للمكلف التسلط على نفسه ولا على عضو من أعضائه بالإتلاف فحق الله في سلامة الجسد إنما تقرر حتى يستطيع العبد القيام بالتكاليف الشرعية والواجبات المفروضة عليه. أما الاتجاه الثاني فإنه يقسم الحقوق على ثلاثة أقسام ويسقط حقوق العباد الخالصة بحجة أن ما من حق يثبت للعبد إلا وفيه حق لله والرأي الراجح هو الاتجاه الأول إذ أن الحقوق الخالصة للعباد هي الحقوق التي يكون فيها العبد هو المكلف بالوفاء أو الضمان(10).
هذا فيما يخص تقسيمات الحقوق في الفقه الإسلامي بحسب الاتجاهات المذكورة آنفاً فلا يجوز التعرض بالسوء لهذا الكيان وذلك للمنزلة الكبيرة التي خصها الله تعالى لعباده ما لم يهدر الشارع عصمته لأمر موجب وهذا التكريم للإنسان يبعد عنه المهانة مما يوجب الابتعاد عن كل ما يلحق المهانة به إذ أن أي تصرف فيه يكون غير مأذون به ممن له الحق فيه لأن في الجسد حق هو المحافظة عليه سليماً(11).
وهنا نتساءل أين يكمن الحق في التكامل الجسدي من تقسيمات هذه الحقوق؟
هناك رأيان بهذا الخصوص :-
الرأي الأول : يرى أن المقاصد الشرعية للشريعة الإسلامية تتمثل بالضروريات وهي تمثل الغالبية من الحقوق الخالصة لله تعالى وأيضاً تمثل طائفة أخرى من حقوق مشتركة إذ أن كل ما يتضمن حفظ هذه الأصول فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفع للمصلحة، ويبين أصحاب هذا الرأي أن حفظ النفس وما دونها متمثلاً بالحق في التكامل الجسدي المصالح الضرورية المقصودة شرعاً و هو من أساسيات التشريع الإسلامي وأن المساس به يؤدي إلى تقويض نظام المجتمع عليه يتعين تأثيم الأفعال الماسة بهذا الحق حتى وإن كانت هذه الأفعال صادرة من صاحب الحق، والحجج التي استند إليها أصحاب هذا الرأي هي أن حق الله وحق العبد في نفس وجسم العبد يوكلان للمنسوب إليه ثبوتاً وإسقاطاً(12) فلا يجوز لأحد أن يتصرف في حق غيره، من دون إذنه فقطع عضو من أعضائه لا يحتمل الإباحة بغير حق وإسقاط العبد لحق فيما اجتمع فيه الحقان يكون مشروطاً بعدم إسقاط حق الله وحقوق الله مبنية على التسهيل بينما العبد على التشديد في حالة الضرورة وواضح على وفق هذا الرأي أنه لا تأثير لرضا صاحب الحق في التكامل الجسدي في إباحة الأفعال الماسة به كون هذا الحق فيه جانب من حق الله.
الرأي الثاني: يذهب إلى أن طائفة من الحقوق التي يجتمع فيها الحقان وإن ظهر هناك غلبة لحق العبد فإسقاطه لا ينفذ لأن الحق صادر له والله تعالى لا يرخص للعبد إسقاطه.
نخلص إلى أن الحق في التكامل الجسدي هو حق مشترك وهو من الحقوق ذات النفع العام إذ أن الله تعالى خص العباد كلهم بمنحهم هذا الكيان من دون تفرقة وعلى الجميع عدم الاعتداء على حق الإنسان بالتكامل الجسدي حتى وإن كان برضا صاحبه فلا يجوز المساس به إلا من أجل ضرورة المحافظة على التكامل الجسدي، فهو يتناول كل منفعة لحفظ النفس وهو بذلك مصلحة القصد من ورائها المحافظة على كيان المجتمع وسلامة أفراده بغية تحقيق الازدهار ودرءً للمفسدة في الوقت نفسه. إذاً لا يرخص لعبد المساس بجسده فكيف يتم ذلك وإعطاء الإذن يكون من أصحابه كما يحصل في تغيير جنس الإنسان هذا وأن شريعتنا الغراء أكدت حفظ النفس والجسد بعيداً عن المهانة كل ذلك من أجل الحفاظ على التراث الإنساني.
وإذا كان هذا هو موقف الشريعة الإسلامية في عدم الاعتداد بالرضا في الأفعال الماسة بالجسم كذلك فإن التشريع والقضاء والفقه الجنائي منعقدُ على أنه ليس لرضا المجني عليه أية قيمة قانونية في إباحة أفعال الاعتداء التي تسبب له الموت أو الإيذاء ويؤكد أنصار نظرية (الوظيفة الاجتماعية) التي تتضمن بأن الجانب الاجتماعي يتفوق على لجانب الفردي إذ أن حياة الإنسان وسلامة جسده محلاً لحق الفرد. والمقصود برضاء المجني عليه (إذن صادر بإرادة حرة حقيقية عن شخص من أشخاص القانون الخاص أو العام حال تعامله ضمن إطار القانون الخاص إلى شخص أو أكثر للقيام بفعل مخالف من شأنه تعريض المجني عليه للضرر أو للإيذاء شريطة عدم المساس بالمصلحة العامة)(13).
__________________
1- الأستاذ أحمد موافي، الفقه الجنائي المقارن بين الشريعة والقانون الصادر عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة الكتاب الثاني، 1965، دار ومطابع الشعب، ص4.
2- الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري، مصادر الحق في الفقه الإسلامي –دراسة مقارنة-، الجزء الأول، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1967، ص5.
3- أنظر مؤلفه، المدخل إلى القانون، الإسكندرية، الطبعة الرابعة، 1971، ص431.
4- الدكتور أحمد فتحي بهنسي، العقوبة في الفقه الإسلامي، دار الشروق، القاهرة، 1980، ص68.
5- الدكتور محمد عبد الغريب، دروس في قانون العقوبات، القسم الخاص، كلية الحقوق، جامعة المنصورة، 1989، ص436.
6- الدكتور عبد الفتاح عبد الباقي، نظرية الحق، الطبعة الثانية، مطبعة نهضة مصر، القاهرة، 1965، ص7.
7- الدكتور محمد عبد العال السناري، النظرية العامة للحقوق والحريات العامة، الطبعة الأولى، المكتبة القانونية، القاهرة، بلا سنة نشر، ص11.
8- الدكتور عبد الرزاق السنهوري، مصادر الحق في الفقه الإسلامي، الجزء الأول، المجمع العلمي العربي الإسلامي، بيروت، 1953 – 1954، ص9؛ والدكتور حسن كيرة، المدخل إلى القانون – الحق-، الطبعة الخامسة، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1974، ص431.
9- الشيخ عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الاسلامي مقارنا بالقانون الوضعي- الجزء الثاني- القسم الخاص- دار الكتاب العربي، بيروت، ص3.
10- الدكتور أحمد محمود سعيد، تغيير الجنس بين الحظر والإباحة، دراسة مقارنة، الطبعة الأولى، دار النهضة العربية للطبع والنشر والتوزيع، 1993، ص393.
11- عارف علي عارف، مدى مشروعية التصرف بالأعضاء البشرية، دراسة مقارنة، رسالة دكتوراه، كلية العلوم الإسلامية، جامعة بغداد، 1991، ص56.
12- الدكتور أحمد محمود سعيد، المرجع السابق، ص 394.
13- الدكتور ضاري خليل محمود، أثر رضا المجني عليه في المسؤولية الجزائية، دار القادسية للطباعة، الطبعة الأولى، بغداد، 1982، ص21.
المؤلف : حسين عبد الصاحب عبدة الكريم الربيعي
الكتاب أو المصدر : جرائم الاعتداء على حق الانسان في التكامل الجسدي
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً