التعسف في إجراءات التقاضي
القاضي علي كمال
منذ كان الإنسان وحتى يكون كان العدل وسيبقى حلم حياته وامل مفكريه وجوهر شرائعه، ولئن كانت التشريعات الموضوعية هي موطن العدل بمضمونه وفحواه فان التشريعات الاجرائية هي بالنسبة اليه الطرق والاداة ذلك ان الرسالة الاولى والاخيرة للتشريعات الاجرائية ان تكون اداة طيعة ومطية ذلولا لعدل سهل المنال مأمون الطريق لا يحفل بالشكل ولا يلوذ به الا مضطراً محترفو الكيد وتجار الخصومة.
وان كل فرد قد جبل على السعي للمطالبة بحقه وذلك في صالح المجموع وحق الالتجاء للقضاء هو ان يوجه اجراءات التقاضي لتحقيق الغرض الذي وضعت من اجله وهو وضع حد للمنازعات والخلافات وتصفية المراكز القانونية للمتقاضين وحماية حق كل ذي حق فاذا حكم لصاحب الدعوى او الدفع فقد توصل الى ما كان يصبو اليه وصان حقه من النزاع القائم حوله فيحكم عليه بالمصاريف والتقاضي هو حق عوض القصاص الفردي الذي يخول للفرد ان يستوفي حقه من الآخر دون اي رادع ولا راد فهو السبيل لاقامة العدل في المجتمع وتحقيق المساواة بين المواطنين وهو المكرس لسيادة الدولة الضامنة لتطبيق القانون بواسطة إحدى سلطاتها والمتمثلة في السلطة القضائية، فالحق لغة كما عرفه ابن منظور في مؤلفه لسان العرب هو نقيض الباطل ويقال حاقه في الامر اي ادعى انه اولى بالحق منه اما التقاضي فاصلها مشتقة من قضى اي قطع وفصل والقضاء هو القطع والفصل والحكم في الامر.
فالحق في التقاضي يقوم مقام الحريات المضمونة قانوناً ولا يمكن الحرمان منها فهو حق اختياري يمكن ممارسته او عدم ممارسته باعتبار أن الدعوى المدنية إنما تحمي حقوقاً قابلة للترك والتنازل رغم ان بعض الفقهاء ومنهم الفقيه الالماني Ihrin اعتبر ان الحق في التقاضي ليس حقاً اختيارياً وانما هو الواجبات المحمولة على الفرد وقد عمد المشرع الحديث في تنظيمه للحقوق الاجرائية الى تحقيق نوع من التوازن والعداله في تقرير هذه الحقوق وذلك حتى لا تكون لطرف دون اخر فاذا كان المشرع مثلاً قرر ان لكل شخص الحق في الالتجاء للقضاء فقد حمى المدعى عليه واعطاه الحق في الاعلان والاطلاع والمواجهة وتحضير دفاعه وهذا التوازن في تقرير الحق الاجرائي ليس من ابتداع المشرع الداخلي فقط بل هو امر دعت اليه الدساتير والمواثيق الدولية.
ولقد شاع في الفقه القانوني استعمال مصطلح نظرية التعسف في استعمال الحق، وفي فقه الشريعة الاسلامية شاع استعمال مصطلح الإساءة في استعمال الحق وهو مصطلح اشمل واوسع من مصطلح التعسف، ولقد سبقت الشريعة الاسلامية غيرها من التشريعات بالاخذ بنظرية التعسف في استعمال الحق وذلك لان الشريعة الاسلامية تقيم احكامها على اساس العدالة والرفق بالناس ورفع الحرج عنهم.
وقد عنيت التشريعات المختلفة التي عرضت للتعسف في استعمال الحق بتحديد معايير التعسف وضوابطه غير انها اختلفت في تحديدها ويقال الامام الشاطبي رحمة الله تعالى مؤيداً تحريم قصد الاضرار لا اشكال في منع القصد الى الاضرار من حيث هو اضرار لثبوت الدليل على ان لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.
ومن المتفق عليه فقهاً وقضاءً حظر استخدام اجراءات القانون لمجرد الإساءة او الحقد او الجور او التشفي وكل ما دخل في اطار الدهوى الكيدية فالذي يرفع الدعوى لمجرد النكاية بخصمه او لمضايقته او إرهاقه انما يكون قد تعسف في استعمال حق رفع الدعوى لانه يوجه الاجراءات القانونية على غير الاغراض التي وضعت لها اصلاً فضلاً عن انه يشغل السلطة القضائية ويضللها ويستغلها لتحقيق مآرب شخصية ويسري الحكم نفسه في ما يتعلق باساءة استخدام جميع اجراءات التقاضي وقد قضت محكمة النقض المصرية بمسؤولية من يقيم دعوى كيدية او يستخدم طرقا ملتوية في الإجراءات.
ويلاحظ ان اساءة استعمال حق التقاضي لا تتوفر بمجرد خسارة الدعوى انما تتوفر منذ رفع الدعوى بسوء نية لا بقصد الوصول الى حق متنازع فيه بل بقصد النكاية والاضرار بالخصم وعليه فانه اذا وجهت اجراءات التقاضي لغرض غير مشروع وهي ان يسيء الفرد حقه في الالتجاء للقضاء فيستخدم هذا الحق بقصد التشهير بخصمه والكيد له او بقصد تكبيده تكاليف مادية ومعنوية او بقصد تحقيق مصلحة غير مشروعة فهو الامر الذي لا يقره القانون ولا تبيحه النصوص الواجب اعمالها واحترامها وتسري في هذا المقام الأحكام العامة للمسؤولية التقصيرية اذا لم تتوفر نصوص خاصة باحكام اساءة استعمال التقاضي.
وقد تلاحظ ان المحاكم وهي تتناول حيثيات مثل هذه الجرائم تتوسع في ذكر اسباب الحكم وتميل الى تقليل التجريم والعقاب الى ادنى حد مثل هذه الأحوال ولقد أصبحت نظرية سوء استعمال الحقوق نظرية عامة تبسط على جميع الحقوق واخذ بها الفقه والقضاء الحديثان وانتظمتها تشريعات الدول الحديثة وتكمن اهمية التقاضي بحسن نية في حفظ مراكز الخصوم وصيانة حقوقهم وتفعيل دور القاضي في حسم المنازعات على اساس قواعد العدل والإنصاف وعدم الانحراف بالنصوص القانونية عن مسارها الطبيعي على خلاف ذلك فان التقاضي بسوء نية شانه ان يؤدي الى هدر الحقوق وتكريس الظلم والتلاعب بمصالح العباد وتمويه القضاء من خلال استصدار اوامر واحكام غير مستحقة وبالتالي دفع القضاء على غير علم الى مناصرة الظلم عوض الانتصار للمظلومين وان الحق الذي لا مرية فيه انه ليس عدلاً بحال ذلك ان يتأتى بعد الاوان فان هو فعل فهو الى الظلم ادنى وبه اشبه كذلك ليس عدلاً ذلك الذي يرهق كاهل المستجير به المتطلع اليه.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً