التعويض العقابي – المبدأ الغائب
تعد الدعوى التي أقامتها ستيلا ليبيك ضد سلسلة مطاعم ماكدونالدز من أبرز الأمثلة على مبدأ التعويض العقابي أو ما يسمى بـ (punitive damage). ولا ترجع الشهرة التي صاحبت هذه الدعوى إلى ضخامة المبلغ المحكوم به، بل إلى غرابة الحدث الذي بني عليه أساس التعويض حيث تعود أحداث هذه الدعوى إلى فبراير عام 1992م عندما تسبب كوب من القهوة الساخنة الذي طلبته السيدة ليبيك من ماكدونالدز لها بحروق من الدرجة الثالثة. حكم القاضي للسيدة ليبيك بمبلغ 480,000 ألف دولار كتعويض عقابي وهو ما يمثل ثلاثة أضعاف مبلغ التعويض عن الضرر الفعلي، ثم اتفق الطرفان بعد ذلك على تسوية الدعوى خارج المحكمة بمبلغ لم يتم الإفصاح عنه.
السؤال الأبرز في هذه الدعوى: ما هو الخطأ الذي قامت به ماكدونالدز؟ تؤسس جميع قضايا التعويضات على ثلاثة أركان وهي الخطأ والضرر وعلاقة السببية بينهما أي أن يتسبب هذا الخطأ بضرر مستحق للتعويض. كان الخطأ هو الركن الأصعب إثباتاً في هذه الدعوى وهو سبب شهرتها، إذ لا يتصور أن تباع القهوة إلا ساخنة. لكن محامي السيدة ليبيك استطاع إقناع المحكمة بأن الحرارة الآمنة للقهوة التي تقدم للزبائن يجب ألا تتعدى 60 درجة مئوية، في حين قامت ماكدونالدز بتقديم القهوة بدرجة حرارة 82 درجة مئوية مما تسبب لموكلته بحروق من الدرجة الثالثة.
يعتمد حساب التعويض العقابي على تقدير المحكمة إلا أن المحكمة العليا الأمريكية قررت ملائمة نسبة 4 إلى 1 بين التعويض العقابي والتعويض عن الضرر الفعلي مع وجود بعض الاستثناءات وفقاً لظروف كل دعوى. قد يبدو الهدف من التعويض العقابي في ظاهره لمصلحة المتضرر إلا أن الغاية الأسمى منه هي تهذيب سلوك المخطئ وردعه عن تكرار خطأه في المستقبل. ولا يتوقف الأمر على المحكوم عليه فحسب، بل يتعداه إلى ردع غيره من الأشخاص الذين قد يتصرفون بشكل مشابه. فبعد الحكم في الدعوى السابقة، قامت كثير من المطاعم والمقاهي بوضع عبارة “caution: content hot” أو ” تحذير: المحتوى ساخن” على أكواب المشروبات الساخنة التي تقدمها، وذلك تحذيراً لزبائنها وحماية لها من المسؤولية وتقليلاً من فرص رفع دعاوى مشابهة.
بالنظر إلى شرعية مبدأ التعويض العقابي فإنه يمكن الاستناد إلى عدد من النصوص التي قد تمثل تأصيلا شرعيا لجواز التعويض زيادة عن الضرر الفعلي ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سرقة الماشية من المرعى إذا لم تبلغ نصاب السرقة: هي ومثلها والنكال أي الجلد وقال في سرقة شيء من الماشية من المراح إذا لم تبلغ حد النصاب: ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال. مثل هذه النصوص قد تمثل أساسا لاجتهاد فقهي معاصر يتبنى التعويض العقابي كمبدأ قضائي
وقد استقر القضاء في المملكة على التعويض عن الضرر المعنوي علاوة على الضرر الفعلي في كثير من الحالات، إلا أنه بالنظر إلى سعي حكومة المملكة لتهيئة البيئة الاستثمارية الجاذبة لرؤوس الأموال الأجنبية، فإن تبني مبدأ التعويض العقابي سيعزز من فرص خلق بيئة قانونية مناسبة ومشابهة لتلك التي جاءت منها هذه الأموال. ولو أن تبني هذا المبدأ يجب ألا يقودنا إلى التوسع فيه بالقدر الذي قد يتم فيه استغلاله، بل أن يكون الهدف من تبنيه إيصال رسالة إلى المجتمع ولاسيما الشركات، وهي المستهدفة من هذا المبدأ، أن حياة الأنسان وكرامته أهم من جنيها وتحقيقها للأرباح.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً