الفرق بين الوكالة العامة و الوكالة الخاصة في القانون السوري
إننا نقدم مزيداً من التوضيحات للمواد التي وردت في القانون السوري بهذا الشأن..
مناقشة المادة 667 مدني :
يتضح من خلال مفهوم هذه المادة أن الوكالة العامة هي الوكالة الواردة في ألفاظ عامة، التي ليس فيها تحديد لنوع العمل القانوني, أي التي لا تتضمن البيع، و الشراء, والرهن, والإقرار، فهي حينئذ تعد وكالة عامة لا تصلح إلا للأعمال الإدارية، لهذا يتمسك الوكلاء أصحاب المصلحة بهذا المفهوم أمام القضاء قائلين : إن الوكالة العامة التي نعتمدها تتضمن نوع العمل القانوني مثل :البيع, والشراء, والرهن, والصلح, والإبراء، والتبرع.
وبحسب المفهوم المخالف للفقرة الأولى من المادة 667 مدني فهي تنقلب وكالة خاصة, تجيز لنا القيام بالتصرفات التي وردت في فحواها صراحة، والقضاء السوري قد تبنى هذا التفسير, وسار عليه في أحكامه، لكن هل هذا التفسير سديد من الناحية القانونية والفقهية؟؟؟
التفسير القاصر المنغلق :
إن هذا النهج من التفسير الذي تبنته المحاكم هو تفسير صحيح فيما لو حصرنا النظر بالمادة 667 مدني وحدها, وبمعزل عن غيرها من النصوص القانونية المتعلقة بأحكام الوكالة، ولكن مع وجود نصوص قانونية أخرى معطوفة على المادة المذكورة مثل : المواد ( 665 , 668 , 134 , 151 ) من القانون المدني التي تعالج نفس الموضوع, فلا يجوز مع وجودها تفسير المادة المذكورة هكذا تفسير منزوٍ ومنغلق على ذاته, دون توسيع النظر إلى باقي النصوص لمشاركتها في الإبانة والتبيين، وبغير ذلك يكون التفسير قاصراً بشكل فاضح، و يؤدي إلى بطلان الأحكام القضائية القائمة عليه، ذلك لأن نصوص القانون متساندة تدعم بعضها بعضاً، وكذلك نص العقد أو الوكالة فإن عباراتها تُفسر بعضها بعضاً، ولا يجوز عزلها أثناء التفسير بحسب الاجتهادات المستقرة, منها الاجتهاد المنشور بالقاعدة 23 والقاعدة 24 ( التقنين المدني السوري الملحق الدوري الأول ص72 لشفيق طعمه وأديب استانبولي ).
التفسير العلمي السديد :
وعليه فإذا ما اتفقنا على أن النصوص متعاضدة في الدلالة والتفسير, وليست متعارضة أو متناقضة, فإنه ينبغي بنا في هذا السياق وضع المادة 668 مدني موضع الاعتبار عند تفسير المادة 667 مدني, وإذا ما فعلنا ذلك فإننا نجد أن النص الأول (668) هو نص خاص يتكلم عن الوكالة الخاصة, والثاني (667) هو نص عام يتكلم عن الوكالة العامة, ولأن المشرع يجب ألا يقع في اللغط والتناقض فلا يجوز تفسيرهما إلا تفسيراً توافقياً بحسب القواعد القانونية العامة للتفسير, وبما أن النص الخاص بالمفهوم الفقهي والقانوني يعقل النص العام في المجالات التي عالجها وأفتى بها, فيسري العام على جميع الأعمال التي وردت فيه, ماعدا الأعمال التي وردت في النص الخاص الذي تخصص فيها بمفرده دون غيره، مثل البيع, والشراء, والرهن, والإقرار, والصلح والإبراء، والتبرع، الأمر الذي يستدعي استبعاد هذه التصرفات عن نص المادة 667مدني، وإناطتها بالنص 668 مدني بدلاً عنه، وهذه هي وظيفة التخصيص أساساً وفق ما أوضحته قواعد الفقه التي تقول : إن التخصيص يعني قصر العام على بعض مسمياته، أو هو إخراج بعض ما كان داخلاً تحت العام من حكمه، أو استعمال اللفظ الذي تناوله العام في مجال آخر.
( يراجع إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول – الشوكاني – دار السلام للنشر عام 1998 جزء أول ص 406 وما بعدها ).
ثمة من يسأل : ما نفع ألفاظ البيع، والشراء, والرهن, والتبرع الواردة في الوكالة العامة طالما لا يستطيع الوكيل القيام بها؟؟؟
إن هذا السؤال رغم وجاهته فإن عدم نفع هذه الألفاظ يكمن في تركيبتها, وفي بنيتها, التي جاءت مجردة من التحديد وخالية من التوصيف, وهذا الإطلاق الذي اعترى الألفاظ جعلها مبهمة طالما لم تنسب إلى محلها, لذا فهي مع هذا الإطلاق تعد ألفاظاً عامة لا تصلح للقيام بعمل قانوني بعينه, إنما تصلح للأعمال العامة بعمومها, والأعمال القانونية العامة معروفة لنا قانوناً, إذ أنها هي الأعمال التي تقتضيه الإدارة العامة للشيء محل التوكيل, وقد ضرب المشرع لنا في المادة 667 مدني مثالاً على الأعمال القانونية المتعلقة بالإدارة بقوله : كبيع المحصول, وبيع البضاعة، أو المنقول الذي يسرع إليه التلف, وشراء ما يستلزمه الشيء محل الوكالة من أدوات لحفظه واستغلاله، ففي هذا المجال من الأعمال حصراً تكمن فائدة ألفاظ التصرفات القانونية العامة الواردة في الوكالة العامة، بمعنى أنه لا يحق لمثل هذا الوكيل بيع الشيء محل الوكالة, إنما بيع ما ينتجه هذا الشيء، ولا يحق له رهن الشيء، إنما محصول هذا الشيء وثمراته، فكيف يحق للوكيل بيع الشيء في حين أن المشرع بمقتضى المادة 667 مدني قد منعه بموجب وكالته العامة من تأجير هذا الشيء الموكل به لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر؟؟؟
أي أن التأجير الذي تزيد مدته عن الثلاثة أشهر يحتاج إلى توكيل خاص واضح وصريح، يحدد فيه المدة والعقار المراد تأجيره ومواصفاته تحديداً واضحاً، و ذلك منعاً من الإضرار بالموكل, فكيف لا يكون بيع العقار أو رهنه لا يحتاج إلى توكيل خاص يحدد محل الالتزام بدقة، طالما البيع والرهن والإقرار أخطر من التأجير، فكل ما كان قليله محرماً فمن البداهة أن كثيره أكثر تحريماً؟؟؟!!!
فضلا عن ذلك فلو لم يكن لفظ : بيع، أو رهن, أو شراء لفظاً عاماً وليس خاصاً لما عدّ المشرع لفظ التأجير لفظاً عاماً، فاللفظ العام هو اللفظ المطلق الذي لا ينطوي على إضافة تحدد مكانه بدقة، أما اللفظ الخاص متى ما حصل جعل الوكالة خاصة، و ذلك وفق ما قد بينته المادتين (668 – 134 ) مدني.
مناقشة المادة 668 مدني :
أوردت الفقرة الأولى من المادة إياها تقول : لابد من وكالة خاصة في كل عمل ليس من أعمال الإدارة, وبوجه خاص في البيع والرهن والتبرعات والصلح و الإقرار والتحكيم وتوجيه اليمين والمرافعة أمام القضاء، ورغم أن رجل القانون في معرض تفسيره للنصوص القانونية لا يحتاج إلى توجيه من أحد ليذكره بإعمال أثر النص الخاص في تقييد النص العام, فإن المشرع وبرغم ذلك جاء يذكره ثانية ويشدد عليه بضرورة التنبه لخطورة الموضوع، وضرورة إبراز الوكالة الخاصة في التصرفات القانونية قائلا له : وبوجه خاص في البيع والرهن، فعاد يذكرنا بوجود خصوصية لهذه التصرفات, ويذكرنا بخصوصية أخرى للتبرعات، فتخصيص المخصص في الفقه ينقلب تحذير وتنبيه.
وعند وجود نصين أحدهما عام والآخر خاص، فإن الخاص يعني قصر العام في التناول فيما يتعلق بدلالته ( المرجع السابق ص408 وما بعد ).
وعبارة المشرع التي مؤداها ” لابد من وكالة خاصة ” لا يعني الاكتفاء بعنوان الوكالة على أنها تحمل عنوان وكالة عامة أو وكالة خاصة, إنما تعني وجوب توفر شروط الوكالة الخاصة أيا كان العنوان، لأن العبرة في معرفة نوع الوكالة هي ( لعبارات التوكيل وليس لاسم الوكالة أو عنوانها ) ( يراجع حول ذلك نقض سوري قرار 921 أساس 2253 لعام 2001 محامون لعام 2003 ص659 ).
ولأن ( العبرة للمقاصد والمعاني وليس للألفاظ والمباني، بمعنى أن الوكالة الخاصة تعبر عنها ألفاظ وعبارات خاصة بها, لها معاني ودلالات تشير إليها إشارة واضحة لا لبس فيها ولا غموض, فما هي إذن شروط الوكالة الخاصة.
شروط الوكالة الخاصة :
يشترط المشرع بالوكالة الخاصة أن يتحدد فيها محل الالتزام بذاته تحديداً دقيقاً, وإذا لم يصار إلى تحديده بالذات, ينبغي أن يعين بوسيلة أخرى تعييناً نافياً للجهالة بكونه هو المقصود, وإلا انقلب التوكيل عام لا يجيز للوكيل القيام بالتصرف، والدليل على ذلك هي المادة 134 مدني التي نصت على الآتي :
إذا لم يكن محل الالتزام معينا بذاته, وجب أن يكون معيناً بنوعه ومقداره وإلا كان العقد باطلاً.
يكفي أن يكون المحل معيناً بنوعه فقط إذا تضمن العقد ما يستطاع مقداره, وإذا لم يتفق المتعاقدان على درجة الشيء من حيث جودته, ولم يمكن استخلاص ذلك من العرف أو من أي ظرف آخر التزم المدين بأن يسلم شيئاً من صنف متوسط.
ومن الجدير بالذكر والتذكير به هو : أن ما يسري على العقد من أحكام قانونية هو ذاته الذي يسري على الوكالة عملاً بالمادة 625 مدني، التي وردت في المقال السابق, والتي أكدت أن الوكالة عقد بمقتضاه يلتزم الوكيل بأن يقوم بعمل قانوني لحساب الموكل.
وعندما تكون الوكالة عقد ينبغي أن يكون محل العقد معيناً بالذات, وإن معنى مفردة بالذات تفيد أشد أنواع الوصف الذي تميز الشيء عن غيره, فقد ورد في معاجم اللغة العربية مفردة بالذات تعني منع خلط بين ذات الشيء وذات شيء آخر، وقد ورد في ذات المعجم أن مفردة ذات تعني ( انفرادي – معتزل – معتكف – منزو , منغلق على ذاته ) أي انه انفرادي في مواصفاته ومعتزل عن غيره, ومنغلق وحده على صفاته.
وجوب تحديد محل الالتزام بعينه :
و تأكيداً على ما سبق فقد جاء في مذكرة المشروع التمهيدي للمادة 134 مدني ( إذا التزم شخص بعمل شيء أو الامتناع عنه وجب أن يكون ما التزم به محدداً تحديداً كافياً, وإذا ورد على العقد شيء معين بالذات فيجب وصفه وصفاً كافياً لتميزه عن غيره )، ولم يشأ المشرع تضييق الخناق على الموكل بتحديده الالتزام بهذه الدقة الذاتية دائماً, إنما فتح له خياراً آخراً وفق ما ورد في المادة 134 إياها التي نصت على أنه : ” إذا لم يكن محل الالتزام معينا بذاته, وجب أن يكون معيناً بنوعه ومقداره وإلا كان العقد باطلاً ) بمعنى أن الأولوية لتحديد ذات محل الالتزام, ثم التعيين بالنوع والمقدار، كما وأن تعيين محل الالتزام بالنوع والمقدار, يعني تعيينه بالاثنين معاً, وليس بواحدة, أي بنوع محل الالتزام الذي هو مثلاً ( أرض )، والمقدار يعني مساحة الأرض البالغة مساحتها مثلاً 100 م2, وعندما يضاف إليهما نوع العمل القانوني كالبيع مثلاً, فهذه التحديدات تكفي لبيان توجه إرادة الطرفين، كما ويكفي لوصف الشيء محل الالتزام وتحديده.
ليس صعبا أن نكتشف الآن أن هذا النص متناغم تماماً مع الفقرة الثانية للمادة 688مدني التي أوردت تقول :
“الوكالة الخاصة في نوع معين من أنواع الأعمال القانونية تصح ولو لم يعين محل هذا العمل على وجه التخصيص إلا إذا كان العمل من التبرعات “.
لكن عبارة ولو لم يعين محل هذا العمل لا تبرر للوكيل أن يبيع لموكله أي محل يريده من أملاكه, إنما لابد عند عدم تحديد المحل إعمال حكم المادة 134 مدني آنفة الذكر، التي أوجبت عند إغفال محل الالتزام أن يصار إلى تعيين هذا المحل بطريقة أخرى كتعيينه بنوعه ومقداره، وأن يتم هذا التعيين في العقد نفسه، أي في فحوى الوكالة ومضمونها, ولا يعني عدم ذكر المحل أن يترك لمشيئة الوكيل ولمطلق رغبته واختياره كما يريد ويتمنى, وهو ما أشار إليه السنهوري بقوله :
” لا يجوز ترك تعيين المحل لإرادة أحد المتعاقدين المحضة إذ يصبح المتعاقد الآخر تحت رحمته, إلا إذا كانت عناصر التعيين معروفة، بحيث لا يكون هناك مجالاً للتحكم “
( يراجع رأي السنهوري – التقنين المدني السوري – الجزء الأول ص511 )
مؤدى ذلك أن القاضي ملزم بالتعرف على إرادة الطرفين من خلال وضوح عبارات العقد وصراحته وليس من خارجه, لأن عبارات التوكيل الواضحة هي التي تعبر عن نية الطرفين سنداً للمادة 151 مدني التي نصت :
إذا كانت عبارة العقد واضحة, فلا يجوز الانحراف عنها من طريق تفسيرها للتعرف على إرادة المتعاقدين، وإن وجوب توضيح محل الالتزام هي مسألة إلزامية بحسب ما طرحته المادة 134 مدني عندما فرضته فرضاً بقولها :
بحال السهو عن تحديد محل الالتزام بالذات, أن يتم تعيينه بنوعه ومقداره وإلا كان العقد باطلاً، مما لا غنىً معه عن تحديد محل الالتزام بالعقد ذاته، الأمر الذي لم يعد يترك مجالاً للقاضي من استخدام سلطته في التقدير أو الترجيح, لأنه عندما لم يكن التحديد واضحاً وجب عليه الحكم ببطلان الوكالة.
في النهاية..لابد من الإشارة إلى أن تكرار ذكر النص القانوني الواحد لأكثر من مرة في سياق المناقشة, إنما في كل مرة يتم فيها تكرار ذكره يكون البحث فيه من وجه آخر، غير الذي كان قد بحث فيه بالمرة السابقة.
و ختاماً..فإن الوكالة العامة التي تضمنت تخويل الوكيل البيع والشراء والرهن والصلح والتحكيم تعد ألفاظاً عامة, لا تخول الوكيل ممارسة هذه التصرفات أبداً, لأن الموكل لم يعيّن محل الالتزام بالذات تعييناً نافياً للجهالة به, وتحديداً صريحاً يؤكد رغبة الموكل في التصرف فيه بعينه دون غيره, وإذا حصل هذا التحديد والتعيين لمحل الالتزام في فحوى الوكالة فإنه يحق للوكيل التصرف بالشيء الذي جرى تحديده حتى ولو كان هذا التحديد وارداً في وكالة تحمل اسم ( وكالة عامة )، وما لم يتحدد ويتعين تعيناً دقيقاً فلا يحق للوكيل التصرف به و إن كان وارداً في وكالة تحمل عنوان وكالة خاصة, لأن حقيقة التوكيل به مع وجود الغموض في المحل يغدو توكيلاً عاماً لا تخول صاحبها التصرف.
المحامي
موسى سامي خليل
اترك تعليقاً