التَّوَاصُلُ الدَّوْلِيُّ لِمِرْفَقِ العَدَالَةِ
د. محمد العيسى
الحمدُ للهِ وحدَهُ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيكتنفُ عامةَ الحواراتِ الحيةِ توجّساتٌ مُعتادةٌ ، لتدافعِ الحجاجِ، مع صعوباتِها العلميَّةِ ، وجهودِها الفكريَّةِ ، ومن ذلك : ما يحصلُ من عدمِ إسعافِ الرصيدِ أو غيابِهِ، وعناءِ الفكرِ أو فواتِهِ ، ولا يخفى أنَّ العارضةَ تحضرُ وتغيبُ، والمادةَ تمدُّ وتجزرُ، ولاسِيَّمَا عندما يكونُ الحوارُ مفتوحَ النقاشِ؛ فيصعبُ الترتيبُ له، فينتهي إلى ما نرى ونسمعُ من دُوَلِ الحواراتِ ، فتُدِلُّ يوماً لك، وآخَرَ عليك، لكنَّ جميعَ ما ذُكرَ أسهلُ ما يكونُ عندما ينصبُّ الحوارُ على نظامِنَا العدليِّ وبخاصَّةٍ شِقِّهِ الموضوعيِّ، الذي يعتمدُ ـ بحمدِ اللهِ ـ تطبيقَ الكتابِ والسُنَّةِ، فلا يرضى لقانونٍ بشريٍّ أنْ يكونَ بديلاً عن ذلكم الهَدْيِ الحنيفِ، مهما حرَّفَ الغالونَ ، وانتحلَ المبطلونَ ، وتأوَّلَ الجاهلونَ، فالمادَّةُ الشَّرعيةُ لها السيادةُ والصَّدارةُ، محاطةٌ بالبركةِ والعنايةِ، مع ضرورةِ الأخذِ بالأسبابِ، فلا يُحمدُ اقتحامُ هذا السجالِ بوفاضٍ خالٍ.
وتيسرَ أنْ تمَّ ـ بتوفيقِ اللهِ ـ في رحابِ هذه الوزارةِ الميمونةِ شيءٌ من هذا الحوارِ في مادَّتيهِ الموضوعيَّةِ والإجرائيَّةِ، مع امتدادٍ حقوقيٍّ لهُ أثرُه في جميعِ الأحوالِ على سمعةِ الجهازِ ورجالِهِ، ومن نقاشاتِهِ ـ بدءاً ـ ما كانَ لمحضِ التبادلِ الحقوقيِّ، فجرى التوسعُ فيه بسجالٍ مثمرٍ تلبيةً لمقتضياتِ السياقِ؛ حيثُ المشارطةُ من قبلُ على طرحٍ مفتوحِ المحاورِ، لا مكانَ فيهِ للتحفظِ ولا التوجسِ ولا سقفَ محدوداً لمحاورِهِ ذاتِ الصلةِ.
ومن هذا ما جرى مع وفدِ هيئةِ الحريةِ الدينيةِ الأمريكيةِ حيثُ بيَّنا لهم أنَّ المملكةَ العربيةَ السعوديةَ تمثِّلُ النهجَ الإسلاميَّ المعتدلَ، انطلاقاً من مبادئِهَا الشرعيةِ التي تأسسَّ عليها كِيانُهَا على ضوءِ الكتابِ والسنةِ، وهو ما تسيرُ عليهِ وتؤكدهُ أنظمةُ الدولةِ.
وأنَّ قيمَ العدالةِ والاعتدالِ تمثِّلُ ثابتاً من ثوابِتِ المملكةِ لا يُقبلُ المساسُ بهِ أو التنازلُ عن شيءٍ منه تحتَ أيِّ ذريعةٍ، مع التأكيدِ لهم بأنَّ الوطنَ والمواطنَ السعوديَّ وهو يَدينُ بالإسلامِ يستشعرُ سماحةَ دينِهِ القويمِ وعالميَتَهُ وخصائصَهِ الحضاريةِ، مستنبطاً من نصوصِهِ المعانيَ العظيمةَ والتجلياتِ السديدةَ في تعاملِهِ مع الآخرينَ، وهو بكلِّ ثقةٍ وثباتٍ يتعايشُ مع غيرِهِ، ويحاورُهُ بِلغةٍ حضاريةٍ، ويتواصل معه بأسلوبٍ راقٍ، ينطلقُ في ذلك من تعاليمِ دينِهِ الحنيفِ الذي أمره ببِرِّ الجميعِ والإقساطِ إليهم بمن فيهم من يختلفُ معهم في الدينِ، *وِفقَ قولِ الحقِّ سبحانه:” لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ “.
ومن تعاليمِ الإسلامِ أنَّ الكلمةَ الطيبةَ صدقةٌ، وأنّ في كلِّ كبدةٍ رطبةٍ أجراً، وأن هذا المعنى الأخيرَ جاءَ في سياقِ الإحسانِ للحيوانِ وليس الإنسانُ فحسب، ومن تعاليمِ الإسلامِ عدمُ الإكراهِ في الدينِ، فكلُّ أمرٍ قد يقبلُ الإكراهَ ما عدا الفكرَ والاعتقادَ، وكلُّ أمرٍ قد يتأتَّى تحويلُه بأدواتِ الفرضِ والقوةِ ما عدا القناعاتِ والأفكارَ، ومن هنا جاءَ النهيُ الشرعيُّ على أنه لا إكراهَ في الدينِ، والإسلامُ لا يعترضُ لهذهِ القناعاتِ ما لم تخرجْ عن إطارِها المسموحِ بِهِ، ومن ذلك الإساءةُ، والخروجُ عن النظامِ العامِّ.
وأوضحنا لهم بأنَّ دينَ الإسلامِ يرحبُ بالحوارِ البنَّاءِ، بَلْ إنَّ منهجَه العلميَّ والعمليَّ في التواصلِ مع الآخرينَ مبنيٌّ على هذا المعنى الحضاريِّ، الذي يمثلُ العلامةَ الأبرزَ في مفاهيمِ أدواتِ التواصلِ لديهِ، مشيرين إلى دعوةِ خادمِ الحرمينِ الشريفينِ الملكِ عبدِ الله بن عبدِ العزيزِ إلى حوارِ الأديانِ، وإلى ثقافةِ الحوارِ والسلامِ في أكثرَ من محفِلٍ وعلى أكثرَ من صعيدٍ، في سياقِ القيمِ الإسلاميةِ التي تميِّزُ خطابَنَا الإسلاميَّ المعتدلَ، ويدركُهَا ـ أيَّدهُ اللهُ ـ غايةَ الإدراكِ، ولاسِيَّما أنه مَنْ ذكَّرَ وأكَّدَ ـ في حديثٍ ذي صلةٍ ـ (على عِظَمِ قدرِ أمَّتِنَا الإسلاميةِ، وصعوبةِ تحدياتِها في زمنٍ تداعى الأعداءُ من أهلِ الغلوِّ والتطرفِ من أبنائِها وغيرِهم على عدلِ منهجِها، تداعوا بعدوانيةٍ سافرةٍ، استهدفت سماحةَ الإسلامِ وعدلَهُ وغاياتِهِ الساميةَ)،
هذا أنموذجٌ من أفقِ قائدِ هذه البلادِ يُترجمُ منهجَ دولتِهِ، ويعكسُ عدالةَ وموضوعيةَ نظامِهِ.
وإنَّ منهجاً هذه معالمُه ينبذُ أيَّ أسلوبٍ من أساليبِ التَّطرفِ الدِّينيِّ، موضحين أنَّ المملكةَ حاربت الإرهابَ والعُنفَ بكافّةِ أشكالِهِ وصورِهِ، مع التأكيد على أنه من إفرازِ التطرفِ والغلوِّ.
وأنَّ قضاءَ المملكةِ يتميَّزُ بمواكبتِهِ الإجرائيةِ لتغيُّرِ الزمانِ والمكانِ والأحوالِ والعوائدِ، وقد أرسى في هذا مبادئَ عدالةٍ تنهلُ من القاعدةِ الأساسِ التي ينطلقُ منها، وهي تحكيمُ الشريعةِ الإسلاميةِ، التي أمرتنا بالعدلِ حتى مع أعدائِنا، وليس مع من نختلفُ معه في الدينِ فحسب، فقال تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون” ، أما من نختلفُ معهم في الدينِ ولَمْ يطلنا منهم أذى فقد شرعَ لنا دينُنا أن نَبَرَّهُم ونُقسطََ إليهِم، وأكد على هذا بالحثِّ عليهِ بقولِهِ في نهايةِ الآيةِ الكريمةِ” إن الله يحب المقسطين”.
وبيَّنا لهم أنَّ تاريخَ المملكةِ العربيةِ السعوديةِ حافلٌ بصفحاتِهِ المُضيئةِ بوسطيَّتِهِ الدينيةِ، واعتدالِهِ في المنهجيةِ، ولَمْ يُعانِ من شيءٍ كما عانى من الافتراءِ عليهِ بالارتجالِ، دون أن يكونَ ثمَّةََ سندٌ يشهدُ للطرحِ الأُحاديِّ المتحاملِ، الذي يتلقَّفُهُ كلُّ من يفتقدُ معاييرَ العدالةِ والإنصافِ.
وأنَّ بيننا وبين كلِّ من تأثرَ بالقولِ المرسلِ الحقائقَ، خاصَّةً وأنَّ وطنَنَا صفحةٌ مفتوحةٌ شعارُها الصدقيةُ والشفافيةُ، ولا أدلَّ على هذا من استضافةِ الوفدِ في هذا اللقاءِ وترحيبِنا بأيِّ طرحٍ أياً كان، فلكلِّ استطلاعٍ إيضاحٌ بمنتهى الشفافيةِ لا نترجلُهُ، بل ندلِّلُ عليهِ بمعاييرِ عدالةِ بلدِنا بوجهٍ عامٍّ، وجهازِ عدالتِها ممثلاً في هذه الوزارةِ بوجهٍ خاصٍّ، ولن نُخفيَ شيئاً مما نعتقدُه ونسلم بِهِ، فإن أخفيناهُ فهو في معيارِ دينِنا إثمٌ يجبُ التحولُ عنه، حيثُ قالَ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم:” الإثمُ ما حاكَ في نفسِك وكرهت أن يطلعَ عليهِ الناسُ “، فالمواقفُ العادلةُ والمشرفةُ مكانُها في وجدانِنا وفوقَ رؤوسِنا فهي مناط اعتزازنا، وليس في قيمِنا الإسلاميةِ أسرارٌ ولا ممارساتٌ نستحيي منها، أو نخشى عواقبَها أو عدمَ تجانسِها مع قيمِ العالَمِ المتحضرِ، فقيمنا تدعو إلى كلِّ الخصال الحميدة والبعدِ عن المعاني الوضيعةِ، وما يسعدُنا في هذا أنَّ من يجادلُنا في سلامةِ مواقفِنا لا يذهبُ بعيداً، حتى تتضحَ الأمورُ وتنكشفَ الحقائقُ، وأنَّ العلاقاتِ والمكاسبَ الدوليةَ التي كسبتْها المملكةُ بامتيازٍ، وصكوكَها التي وقَّعت عليها في مفاصلَ حيويةٍ ومهمةٍ ولاسِيَّما في الحقوقِ والضماناتِ الإنسانيةِ والاجتماعيةِ أكبرُ شاهدٍ على ثقةِ المملكةِ بمنهجِها وسلامةِ مواقفِها، وتداعي ادعاءاتِ مخالفيها، وهم بحمدِ الله قلةٌ قليلةٌ لا تكادُ تُذكرُ في مقابلِ صوتِ العدالةِ والإنصافِ، لا عن مجرَّدِ موقفٍ مضافٍ ومصالحَ دوليةٍ، بل عن سندٍ حقيقيٍّ، قد يقولُ البعضُ بأنَّ هذا القولَ لا يعدو الارتجالَ ونحن نقولُ ما مِنْ قولٍ نقولُهُ إلا وسندُه القاطعُ بين أيدينا، وكلُّنا صفحةٌ مفتوحةٌ، لكنَّ حقيقةَ الارتجالِ تكمنُ في الادِّعاءِ المجردِ.
وأضفنا لهم : بأننا عانينا من الإرهابِ واكتوينا بنارِهِ، لكنْ بتوفيقِ اللهِ لنا بسلامةِ فكرِنا ورحابةِ منهجِنا الوسطيِّ المعتدلِ، ثم بتصميمِنا وعزمِنا استطعنا محاصرته والتضييقَ عليه، وهذه الآفةُ هي في طليعةِ أعدائِنا وهي دسيسةٌ فكريةٌ تأسست على الغلوِّ والانغلاقِ وإلغاءِ معنىً مهمٍّ من أبرزِ معاني الشريعةِ الإسلاميةِ، ومعانيها الرفيعةِ، وهي المرونةُ والسعةُ واحترامُ كرامةِ الإنسانِ، بصونِ كافةِ حقوقِهِ، ومن حقِّ أيِّ شخصٍ ومنهم المتهمونَ بجرائمِ الإرهابِ الحصولُ على محاكمةٍ عادلةٍ لدى القاضي الطبيعيِّ بكافةِ الضماناتِ، وأننا عندما نقولُ ذلك ننفي نفياً تاماً من موقعِنا المعني بالعدلِ القضائيِّ أن يكونَ أيٌّ من الموقفين محروماً من محاكمةٍ عادلةٍ وناجزةٍ، أو من حقِّ اللجوءِ إلى القضاءِ الطبيعيِّ، فلا قضاءً استثنائياً لدينا، ولا ازدواجيةَ معاييرَ في قيمِنا العدليةِ، ولن نُخفيَ أيَّ حكمٍ قضائيٍّ في هذا الشأنِ، أو غيرِه، بل نسعدُ ونُسرُّ بطلبِ أحكامِنا للاطلاعِ عليها، فضلاً عن مبادرتِنا بنشرِها، لأننا نثق برصيدها الرصين، وقضاتُنا مؤهلونَ تأهيلاً عالياً كَوَّنَ لديهم حصيلةً قضائيةً كفيلةً باستجلاءِ المستجداتِ خاصةً في الجوانبِ الإجرائيةِ.
وأكدنا لهم بأنه من خلالِ بحوثِنا ودراساتِنا واستطلاعاتِنا لم نجد نظريةً دستوريةً أو قانونيةً متفقاً على صحتِها وسلامتِها إلا ولها أصلٌ قويٌّ وواضحٌ في نظمِنا الإسلاميةِ ومبادئِنا القضائيةِ المستمدةِ من الشريعةِ الإسلاميةِ، ومع هذا لا نستنكفُ عن الاستفادةِ من أيِّ خبرةٍ إجرائيةٍ أو أيِّ فكرةٍ لا تخالفُ نصاً في الإسلامِ.
وتابعنا التأكيد على أنَّ العباداتِ في الإسلامِ لا بد من التقيُّدِ في كلِّ أقوالِها وأفعالِها بالنصِّ، في حينِ أنَّ ما سواها يُكتفى فيه بعدمِ مخالفةِ النصِّ الشرعيِّ ومقاصدِه، والنصوصُ المقيدةُ في الموادِّ: “المدنيةِ” و”التجاريةِ” و”الأحوالِ الشخصيةِ” و”الجنائيةِ” قليلةٌ، لتعطيَ المجتمعات مساحةً كبيرةً أدت إلى سعةِ دائرةِ المباحِ والعفوِ والتي من شأنِها أن تكل أحكامَ هذه الموادِّ لظروفِ وفلسفةِ كلِّ دولةٍ.
ومن المهمِّ ألا تصدرَ الأحكامُ والآراءُ إلا من عالمٍ بالحقائقِ، أو متحققٍ في مصادرِ تلقيهِ، لكن عندما يرتدُّ الأمرُ سلباً في هذه الأمورِ تكون النتائجُ بحجمِ الانحرافِ عنها، وهو ما نعانيه من مبتسري الحقائق ومختزليها عن جهلٍ أو هوىً ويعاني منه آخرون، وإن كنا أقلَّ من غيرِنا بكثيرٍ، في حجمِ الإساءةِ لأننا كما قلنا لهم كتابٌ مقروءٌ مشرعُ الصفحاتِ بكلِّ ثقةٍ، فضلاً عن كون هذه الأصوات قليلة العدد والتأثير.
وحولَ مصطلحِ الحريةِ أوضحنا: أنَّ الحريةَ قيمةٌ عليا من قيمِ الإسلامِ لكن يجب أن لا تخلَّ بالنظامِ العامِّ، خاصةً دستور الدولةِ، وأنظمتِها، وهذا معنى انضباطها ومسؤوليتها، وأنَّ مساحةَ الحريةِ المتاحَة بضوابطِ المسؤوليةِ والموضوعيةِ المنبثقةِ عن النظامِ العامِّ، يمثِّل في حقيقته ملمحاً مهماً في قيمِ عدالتِنا، وأنَّ ثمَّةَ فرقاً كبيراً بين الحريةِ والفوضى، ويكفي ما نشاهدُه من احترامِ أساليبِ التنوعِ بتعايشِه القديمِ والمنسجمِ مع إطارِ النظامِ العامَّ للدولةِ، وهو حقٌّ لم ينشأ حديثاً، بل ترسَّخ منذ تأسست الدولةُعلىيدِجلالةِالملكِ عبدِ العزيزِ ـ رحمُه اللهٌ ـ، ولهذا التنوعِ (وهو تنوعٌ فطريٌّ في طبيعةِ البشرِ كما نصَّ على ذلك الكتابُ الكريمُ)، ضماناتٌ وفي مقدمتِها الضماناتُ القضائيةُ، وعدمُ المضايقةِ في القناعاتِ والآراءِ ما دامت لا تُخل كما أسلفنا بالنظامِ العامِّ للدولةِ، وألا يكونَ في إفشائِها سلبياتٌ تتعلقُ بالإساءةِ لما انعقدَ عليه ضميرُ الجماعةِ بالقدرِ المحفزِ لإثارةِ الفتنِ، وإلهابِ المشاعرِ، وسخطِ الرأيِ العامِّ، وهذا المُكوّنُ مهمٌ للغايةِ حيثُ يجمعُ بين حقِّ الكيانِ المؤسسيِّ بشموليةِ المصلحةِ العامةِ، وحقِّ الكيانِ الفرديِّ بخصوصيةِ المصلحةِ الذاتيةِ التي يقتنعُ بها ما دامت لم تخرجْ عن إطارِها المشارِ إليه، ولا أحدٌ يقولُ بأنَّ الحرياتِ مشرعةٌ ولا سقفَ لها، فهذا القولُ يفرغُ الدساتيرَ والأنظمةَ من محتواها، ويحولُ دونَ وجودِ المعادلةِ التي تحفظُ التوازنَ بين المصلحةِ العامةِ والخاصةِ.
وكشفنا لهم أن تاريخَ المملكةِ يختزنُ العديدَ من القيمِ والمعاني الرفيعةِ في هذا الجانبِ، وأنَّ ثمةَ أحداثاً تاريخيةً في الشأنِ الوطنيِّ وبخاصةٍ القضائيِّ منه تدلُّ على أنَّ المملكةَ تتفهمُ هذا التنوعَ الفطريَّ، وعليه فليس في قيمِ عدالتِها إيجادُ أيِّ فوارقَ داخلَ مُكَوِّنِهَا الوطنيِّ مطلقاً في أيِّ مجالٍ من المجالاتِ، وأننا على استعدادٍ لسماعِ أيِّ طرحٍ يخالفُ ذلك للجوابِ على إيرادِه، وأنه ليس من العدالةِ في شيءٍ البناءُ على أطروحاتٍ ودعاوى مرسلةٌ تنقصُها الأسانيدُ، ولن تتردَّدَ قيمُنا العدليةُ التي نعتزُّ بها على أنها من واجبِنا الدينيِّ والوطنيِّ؛ بوصفِها سمةً بارزةً في أخلاقِنا الإسلاميةِ من تقبلِ أيِّ طرحٍ أو إيرادٍ منطقيٍّ وإذا كان هناك ما هو خارجُ سياقِ عدالتِنا بسببِ تصرفٍ خاطئٍ من أيِّ شخصٍ ـ أياً كانت دوافعُه ـ وجب علينا المسارعة في إعادةِ الأمورِ إلى نصابِها الصحيحِ، وهذه هي العدالةُ الشرعيةُ التي نسمو دوماً برفعِ شعارِها، ونحن قبل هذا وبعده في منظومةٍ دوليةٍ تعمل عدالتُنا في إطارِها بفاعليةٍ، وتطبقُ ما التزمت به من عهودِها ومواثيقِها واتفاقياتِها، وتتحفظُ على ما تعتقدُ أنه من الواجبِ التحفظَ عليه، كما هو حقُ كلِّ دولةٍ، لكن لا يمكن أن يستنتجَ أيُّ محايدٍ منصفٍ من تحفظِنا خروجاً عن سياقٍ صحيحٍ، أو منطقٍ مقبولٍ، والرأيُ العامُّ الذي تُعبِّرُ عنه قناعةُ المواطنِ الداخليةُ يظلُّ محلَّ تقديرِ واحترامِ الدَّولةِ، ويُقاس على هذا أي مطالبةٍ خارجيةٍ تتقاطعُ مع هذه القناعةِ.
وأشرنا إلى أنَّ عدالتَنا جعلت المواطنَ السعوديَّ من أغلى القيمِ، إذ مكَّنته من ممارسةِ وأخذِ كافةِ حقوقِه الوطنيةِ، وجعلت على هذه الضمانةِ رقابةً قضائيةً قويةً، بل إنَّ في طليعةِ أجندةِ الدولةِ محاسبةَ كلِّ مقصرٍ مع المواطنِ أياً كان مصدر التقصيرِ ونوعِه وفلسفتِه، إذ يستحيلُ أن نخرجَ في هذا السياقِ عن تعاليمِنا الإسلاميةِ التي أوجبت العدلَ والإنصافَ ونهت عن الظلمِ، ومن ذلك الازدواجية في معاييرِ العدالةِ التي لا يمكن أن تجازفَ فيها مفاهيمُنا ، فنسيءَ إلى أنفسِنا قبلَ أن نسيءَ إلى غيرِنا، نحن ندركُ هذا ونعرفه حقَّ المعرفةِ، وننطلق فيه من ميزانِ العدالةِ الإسلاميةِ وأنظمتِنا المستمدةِ منها قبلَ أيِّ شيءٍ آخر.
كما أنَّ المقيمَ على أرضِ المملكةِ يحظى بالرعايةِ والاهتمامِ وفقَ تعاليمِنا الإسلاميةِ وأنظمتِنا المستمدةِ منها، ويتمتعُ بحقوقِهِ كاملةً ومن ذلك الرعايةُ العدليةُ له في كلِّ شؤونِهِ، وحريةُ تصرفاتِهِ مقيدةٌ بالنظامِ العامِّ، خاصةً أنه على قناعةٍ تامةٍ به قبل أن يدخلَ أراضي المملكةِ، فهو من اختارَ المجيءَ إليها ملتزماً باحترامِ نظامِها ، ولكلِّ دولةٍ اختيار ما تراه وفقَ قناعتِها، والله يفتح بين الجميع بحكمه وهو الفتاح العليم، وما يميزُنا أن نظامَنا نظامٌ إلهيٌ مستمدٌ من أحكامِ الشريعةِ الإسلاميةِ، ومن العدالةِ والمنطقِ أن يتفهمَ المنظمُ السعوديُّ خصوصيةَ بلادِنا التي تحتضنُ المقدسات الإسلاميةَ، فلسنا في هذا كغيرِنا، وعلينا استحقاقٌ إسلاميُّ كبيرٌّ، يقدرُ الشعور الإسلامي ويرعاه، ولا يدخل في أيِّ وجهاتِ نظرٍ تسببُ من الإشكالاتِ أكثر مما تجلبه من الإيجابياتِ، وهذه هي المعادلةُ العادلةُ التي يستوعبُها كلُّ منصفٍ ينظرُ بمعاييرِ الحكمةِ والموضوعيةِ، ويتمتعُ بسعةِ الأفقِ التي تتطلبُ منا النظر من كافةِ الزوايا لا من زاويةٍ واحدةٍ، وهو ما يؤدي في النهايةِ إلى قناعةٍ تامةٍ لا شكَّ فيها بسلامةِ الاعتباراتِ الموضوعيةِ التي تتطلبها النظرة الشمولية، ومن خلالِ عملي القضائيِّ السابقِ، وإدارةِ شؤونِ العدالةِ حالياً، فقد وجدت ـ باستطلاعِ العديدِ من الوقائعِ ـ أنَّ أكثرَ مَنْ تتولدُ لديه القناعةُ بهذه النظرةِ الشموليةِ بمعاييرِها المنطقيةِ هم رجالُ الشريعةِ والقانونِ.
جاءَ هذا خلالَ حوارٍ مطوَّلٍ مع رئيسِ وأعضاءِ الوفدِ أجبنا فيه على كافةِ أسئلتِهم واستطلاعاتِهم في مضامينَ ما سبقَ بيانُه ـ باختصارٍ ـ في هذهِ المقدمةِ ، وسَرَّنَا تفهُّمُ الوفدِ ما أبديناه لهم، وما عبَّرَ عنه رئيسُ الوفدِ من سعادتِه ومرافقيه بهذا اللقاءِ معتبراً ما دارَ فيه من أفضلِ الحواراتِ وأنجحِها، وعندما يفصحُ الوفدُ عن هذا الشعورِ فإنما يترجمُ حجمَ الوضوحِ والثقةِ من قِبَلِ ِمرفقِ العدالةِ، ولا غرو في ذلك فهي تأوي إلى ركنٍ شديدٍ ـ ركنِ الشريعةِ المطهرةِ ـ، الذي هُديت إليه هذه البلادُ المباركةُ، مُدْركةً مَقَاصدَها العظيمة بتوفيق الله لها لسلوك جادَّةِ الوسطية والاعتدال، فََكَتَبَ اللهُ لها انتظامَ الحالِ، وحققَ لها الطمأنينةَ والأمانَ، في حضورٍ دوليٍّ يُعَوَّلُ عليه ثقةً واعتباراً، حيثُ الحكمةُ وسدادُ القولِ والعملِ، وجميعُ هذا لا يأتي من فراغٍ بل من دستورٍ عظيمٍ ومفاهيمَ مسددةٍ.
وفي المقدمةِ التاليةِ نكملُ ـ إن شاءَ اللهُ ـ ما دارَ من حواراتٍ أخرى، تمثِّل جزءاً مهماً من الاستحقاقِ الكبيرِ على هذه الوزارةِ، التي تأسست ـ بحمدِ اللهِ ـ على تقوى من اللهِ ورضوانٍ، فكان لها من المولى جل وعلا السَّدَد والمَدَد، والسُّلوك على الجَدَد، وباللهِ التوفيق وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِهِ .
اترك تعليقاً