د.رجب العويسي يكتب: هل نمتلك ثقافة حب القانون؟
د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
في مجلس الدولة
يأتي تناولنا للموضوع في ظل الأحداث الأخيرة المتعلقة بما يسمى: باختلاسات وزارة التربية والتعليم، وردة فعل الرأي المجتمعي العام عبر منصات التواصل الاجتماعي والهاشتاق الذي تم حوله والتداول الواسع الذي تم حول الموضوع، والتي أظهرت حالة الامتعاض والاستهجان والصدمة والذهول من فجاعة الحالة وهول هذا السلوك وانعكاساته على البناء الفكري والأخلاقي للأجيال القادمة، خاصة أنها تمس أم المؤسسات وهي تتعامل مع أكثر من نصف مليون طالب وطالبة، وأكثر من ثلثي العاملين في منظومة الخدمة المدنية، ويتفاعل مع أنشطتها وبرامجها وخططها المجتمع بجميع شرائحه، على أن ما صاحب هذا السلوك الأرعن من اهتمام مجتمعي بكل أطيافه برز في اقتباس نصوص من التشريعات الوطنية ذات العلاقة بتأكيد المسؤولية الوطنية وما أشار إليه النظام الأساسي للدولة في هذا الشأن، والعقوبات المنصوص عليها في القوانين ذات الصلة، مثل قانون الجزاء وغيره، بالإضافة إلى تداول الكثير من المقاطع الصوتية والمرئية لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم حفظه الله ورعاه، في مناسبات مختلفة وهو يتحدث عن المواطنة والحفاظ على ثروات الوطن وحماية المال العام والمحافظة عليه، وعدم استغلال الوظيفية والمنصب الحكومي لأغراض شخصية وتصرفات تسيء للأمانة ، ومع ما تم تداوله بمختلف الوسائط والوسائل الإعلامية أو ما تم من نقاشات وحوارات وتعقيبات، واختلاف او اتفاق في الرأي عبر هذه المنصات الإعلامية والتواصلية، يبقى السؤال المطروح هل نمتلك ثقافة حب القانون، وهل ما تم الإشارة إليه تعبير مقنع عن تحول القانون من كونه حالة مزاجية مرتبطة في ذهن المواطن وتفكيره وقناعاته بفعل شائن وسلوك مستهجن، فهو بذلك تعبير عن اللحظة دون سواها، وهل هذا السلوك هو ما تحتاجه الشعوب والأوطان لنقل القانون إلى الواقع، وفي الوقت نفسه هل يعد ذلك كافيا في تقرير امتلاك المجتمع لثقافة القانون والعلم به، وهل هذه الضجة والصيحات التي تمت تعبر عن وعي مجتمعي بالقانون وفهم له وإدراك لقواعده ومواده ، وما التحديات التي تقف في وجه ترسيخ ثقافة حب القانون ، وكيف يمكن نقل آلية التعامل مع القانون في قراءة مستجدات الوقائع القانوني من كونه ردة فعل وقتية أو ظاهرة صوتية آنية لا تتجاوز الحناجر ولا تلامس الضمائر، إلى كونه سلوكا مستداما وممارسة أصيلة وفقهًا واعيا يعبر عن التصاق النفس بالقانون، واندماج الضمير مع مواده، وشعور المخاطب بأن القانون حياته وأمله ونهضته وسعادته وأمنه واستقراره وصوته الذي يرغب بإيصاله للآخرين ( أفراد، مؤسسات، حكومة) ليكون التناغم بينها تعبير عن الحميمية التي تضمن التصاق القانون بهواجس النفس وتعبيرات الذات في كل الحالات.
تساؤلات تبقى وهاجسا يستدعي البحث عن كل المعطيات للوصول إلى إجابة مقنعة وشواهد إثبات مؤتمنة، وإن لم تكن إجابات وافية وجامعة، إلا أنها تضع النقاط على الحروف وتتطلب التأمل في كل ممارساتنا المتجهة إلى القانون في مختلف المراحل ، ليكون له حضورا في الواقع ونهضة في السلوك وتأثيرا في البناء الفكري وإعادة هندسة السلوك الإنساني والمؤسسي، على أن الفرضية التي طرحناها حول وجود تدني في الالتزام بالقانون وغياب ثقافة الحب للقانون ، إنما هي نتاج لجملة من المسوغات التي نعتقد بأنها باتت تعكس مؤشرات هذا الضعف المتحقق المنعكس سلبا على الوعي بالقانون كمنتج متحقق لصالح الإنسان نفسه، والتي تأتي من بينها، النظرة السطحية الضيقة للقانون من طرف خفي، إذ ما زال ينظر إلى القانون كأداة ترهيب وتخويف وضامن للعقوبة ، حتى أصبح مدخل لصناعة الخوف مما ساعد في إيجاد بدائل أوسع للتملص من القانون باعتباره أداة ترهيب لا ترغيب، ومنطقًا لنشر الخوف لا لصناعة ثقافة القوة، وطريقًا لغرس الشك وليس لبناء اليقين في الذات، وحالة عرضية زائلة وليس كمسار استراتيجي لبناء الثقافة وترقية الممارسات وتأصيل التوجه وإصلاح الذات وتهذيب النفس وتعميق الشعور الإيجابي بقيمته ، في كونه استراتيجية حياة ، وهو أمر يضع القانون في موقف اللحظية بحيث لا يمتد أثره إلى تشخيص الحالة قبل نشأتها وفي مرحلة النشأة وإجراءات التحقق من القضية، والمرحلة الأخيرة التي يصدر فيها الحكم بالعقوبة أو البراءة، وهو ما نعتقد بأنه أحد الأسباب التي أدت إلى ضعف ملامسة القانون لواقع حياة كثير من الناس وارتباطه بالممارسة وتشخيصه للسلوك أو تصحيحه للمسار عندما ينحرف عن الجادة، او يقوّي عزيمة الإرادة وتطوير الذات وبلوغها مرحلة الوعي وتحقيقها لمعادلة التميز والتكامل، عندما يراد منه بلوغ استحقاقات الكمال البشري ، هذا المنظور الفكري والنفسي والوجداني والانفعالي نحو القانون، أوجد في المخاطبين منه حالة الخوف الظاهري الذي لم يكد يلامس شغاف القلب، أو يؤسس لإصلاح الذات وتجويد العمل، لذلك بقي تأثيره وقتيا محصورًا في شعارات يتداولها المجتمع ونصوص قانونية يتناقلها الناس دون فهم مقاصها وانطباقها على السلوك الحاصل من عدمه ، أما النقطة الأخرى، فتتعلق بطريقة تدريس القانون والموقع الذي يشكله في البرنامج التعليمي والإعلامي والتثقيفي والتدريبي الوطني، على مستوى مناهج التعليم المدرسي والعالي ، وطريقة تدريسه، والمفاهيم والمحتوى الذي يؤسس لثقافة القانون – الذي يغلب عليه الإشارة إلى العقوبة، أي ما بعد ممارسة الفعل وليس كتأسيس حالة استباقية قبل حدوث الفعل ومساحات الأمان التي يصنعها ويولدها في ذات المخاطب وفكره وقناعاته وانطباعاته حول القانون او التشريع بشكل عام ، بما يؤكد الحاجة إلى وجود المتخصصين لتدريس القانون في التعليم المدرسي من جهة، أو يرجع إلى قلة المساحة الممنوحة لحضور لقانون في التعليم الجامعي من غير تخصص القانون او في غير كليات القانون والحقوق، وكما هو معلوم بأن هناك تشريعات وقوانين ترتبط بخصوصية بعض الوظائف أو المهن في مختلف القطاعات وقد تختلف قوة هذه النصوص القانونية بحسب طبيعة القطاعات المهنية والقوانين الخاصة بكل مهنة ، سواء في قطاع التعليم أو الطب أو الهندسة أو الاعلام أو غيرها، ويحصل أن لا يتم تعريض الطالب في مؤسسات التعليم العالي لمثل هذه التشريعات بصورة دقيقة ومفصلة، يستوعب فيها طبيعة السلوك الذي ينظم هذه الممارسة ويؤطرها والحوافز والعقوبات المقررة في ذلك، إذ من شأن هذا التأطير للقانون في المناهج والممارسة التعليمية والسلوك الإداري والتنظيمي ومراعاة حضور التشريع في الصلاحيات والحوافز والتمكين والتفويض، سوف يضمن حضوره في السلوك الشخصي وينتقل من كونه ممارسة مؤسسية، إلى سلوك فردي ومجتمعي يعبر عن قدرة هذا المجتمع على صناعة التزاما قويا نحو القانون، ومن جهة ثالثة فإن قياس أثر القانون ذاته على المخاطبين به ومستوى تقبلهم له وانطباعاتهم حوله وشعورهم بانه عامل إصلاح لهم يدفعهم نحو انتقاء أفضل الممارسات، وانتهاج أجود العمليات الإدارية والتنظيمية ، وأن القانون يحمل في ذاته أدوات نجاحه واستحقاقات تفوقه ورصانة قواعده بالشكل الذي يعطي المخاطب اريحية أوسع ومرونة أنضج وثقة أكبر تعزز من حميمية التقارب والتناغم بين ما يطرحه القانون والفلسفة التي يؤكد عليها، وسقف التوقعات التي يرسمها لمستقبل الانسان، ومظاهر الإنسانية ( القيم والمبادئ والأخلاقيات)، التي يؤصلها في احكامه وقواعده ، فيراعي الخصوصيات ويتيح فرص اكبر للتصحيح والمراجعة ، إذ من شأن وجود هذه الحميمية مع القانون واكتشاف قدرته على قراءة الحدس ورسم سيناريوهات المستقبل والتصورات والتوقعات الحاصلة، ضمان لبناء منطق التقنين للقانون واكسابه حق الولاء والانتماء إليه، فتحمله النفس كاستراتيجية حياة لا تتغير النظرة حوله بتغير الأشخاص او المواقف والظروف. فيوفر الظروف المواتية لنجاحه ويعيد انتاج الواقع بشكل يتكيف فيه المخاطبين الجدد مع بيئة القانون وتعبر هوية القانون عن مساحة واسعة يبني فيها مواطنة المواطن ويؤصل له فيها ارصدة نجاحاته القادمة.
وعليه فإن تقييمنا لما أشرنا إليه من ثقافة الحب للقانون، لا يتعدى أن يكون مجرد ظاهرة صوتية أو فرقعه إعلامية وقتية كردة فعل، تنتهي مع مرور الوقت ونسيان الذاكرة للحدث ودخول أحداث جديدة في المشهد القادم، وما يعكسه ذلك من نظرة ضيقة للقانون، ارتبط وجوده بوقت الاحتياج أو الأزمات فقط دون غيرها، وكأن صوت القانون القوي كتب له أن يخفت في حياة المواطن عندما تغيب مثل هذه الممارسات، لذلك نعتقد بأنه عندما نفهم القانون ونتعلمه ونعلمه الأجيال وفق ثقافة الخوف واللحظة والوقتية، فإنه لن يؤسس القانون ثقافة الأمن والأمان ، بل يصبح نتاج المعرفة به، مدخلا للشك فيه والتقليل من قيمته ومسوّغ لتجاوزه ، في حين أنه لما يتحول الوعي به إلى كونه سلوكا يتناغم مع النفس، يتجاوب مع الضمير، يتفاعل مع الممارسة، يساير التجديد، ويؤسس لمنطق الإنسانية الواعية، المتوازنة الفكر، المعتدلة في السلوك ، فإن تأثيره سيكون أقوى واختراقه سيكون صعبا بلا شك، لذلك كانت الحاجة إلى تأسيس فقه القانون في ثقافة النشء ونقله إلى كونه استراتيجية حياة، وأفضل الطرق لتعزيز المستقبل والحصول على الثروات بطرق مشروعة والوصول إلى أعلى المناصب باجتهاد وانتاجية وعطاء، إذ التأكيد على تأصيل ثقافة الحب للقانون، ينطلق من تأكيد دوره في إنتاج ثقافة الحياة والأمل والحب والاستقرار والأمن والتعاون والتكامل والحوار والتعايش وتعديل السلوك وبناء الذات، وتوليد ثقافة المسؤولية والأمانة والموضوعية والمصداقية والتشاركية في مواجهة حالة الفوقية والخوف والسلطوية والفردانية، إذ هذه الموجهات هي ما يُبقي للقانون تأثيره المستمر وحضوره المستدام في حياة الإنسان، فيرفع من سقف التوقعات التي يحققها في ذات الفرد ومهاراته واستعداداته وجاهزيته والتزامه وانضباطه، ويفتح له آفاقا رحبة في الحياة، ويأخذ بيده إلى بر الأمان، وتبقى مسألة المحافظة على هوية القانون في ظل حالة التهور والتعدي التي نتعامل بها مع القانون ، – وكأن القانون في تصورنا قائم على كونه إشاعة وقتية ارتبطت بظهور تجاوزات في السلوك حتى أصبحت فرصة للتشهير والانتصار لنوازع النفس في التعبير عن ما تكنه من دوافع ذاتية .
من هنا فإن طرحنا السابق منطلق لرسم مسارات جديدة وأدوات متجددة، للوقوف على موضع الخلل في تعاطينا مع القانون “تدريسا وتعريفا وصياغة وتطبيقا”، ويبقى نقل صورة القانون في حد ذاتها إلى الواقع وتحسين صورته الذهنية في تفكير النشء، منوطا بما يمكن أن يقدمه القانون ذاته من حقائق ويثبته من دلالات ويوجهه من عقوبات تتقاسم المشترك فيما يؤمن به الرأي العام حول هذه الجرائم المالية أو غيرها، فإن ثقتنا في مؤسساتنا التشريعية والقضائية والضبطية والأمنية كبيرة، وثقتنا في القانون الذي يحتوي الجميع ويحقق العدالة، أكبر، ويبقى علينا جميعا أن نضع القانون كرابطة وطنية يلتفت حولها الجميع، ليشد بعضهم البعض نحو تطبيق أحكامه وإحداث ثورة له في حياة المجتمع، عبر الاستفادة من كل الفرص التي أتاحتها حلول مستلزمات التقنية والمنصات الإعلامية التفاعلية المختلفة ومساحة المرونة المتاحة في تعظيم دور الشبكات القانونية المختلفة في مساندة جهود التوعية المؤسسية والأسرية بالقانون، والاستفادة من مخرجات المؤسسات التعليمية في التخصصات القانونية وجمعيات الوعي القانوني في توليد البدائل وتأصيل ثقافة العلم بالقانون، وتكثيف المبادرات والابتكارات والبرامج الطلابية الداعمة لذلك وتيسير حضورها في كل المؤسسات التعليمية وعلى مستوى المجتمع، فإن ثقافة حب القانون معادلة صعبة تصنعها الذات العارفة بحقوقها، ويؤسسها الضمير الواعي لواجباته ومسؤولياته، ويغلفها غطاء الاعتراف بالتقصير ومحاسبة الذات ولومها على الزلات، فهل سيتجه العمل في سبيل بناء هذه الثقافة إلى إعادة تأهيل المسار الذي نعمل فيه نحو القانون؟
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً