الجانب التطبيقي لبعض العقود الإلكترونية
د. رمضان عبدالله الصاوي
أستاذ الفقه المشارك بكلية الإمام مالك للشريعة والقانون بدبي
وكلية الشريعة والقانون
جامعة الأزهر
وفي هذه الحلقة نتناول الجانب التطبيقي لبعض العقود الإلكترونية، مثل البطاقات الائتمانية والبطاقات الذكية والنقود الإلكترونية، والاعتمادات المستندية.
الجانب التطبيقي لبعض العقود الإلكترونية
أولاً – البطاقات الائتمانية – تعريفها:
هي بطاقة خاصة يصدرها المصرف لعملية تمكنه من الحصول على والسلع والخدمات من محلات وأماكن معينة عند تقديمه لهذه البطاقة، ويقوم البائع بتقديم الفاتورة الموقعة من العميل إلى المصرف المصدر لها فيسدد قيمتها له، ويقدم المصرف للعميل كشفاً شهرياً بإجمالي القيمة لتسديدها أو خصمها من حسابه الجاري لديه(1).
وتسميتها مجازية من باب إطلاق السبب على المسبب؛ حيث تأتمن الجهة المصدرة للبطاقة «البنك» الشخص الممنوح له هذه البطاقة على تأدية الحق الذي ائتمن عليه، ويصير بموجب ذلك مخولاً حق الاستدانة بها وفقاً للاتفاقية المبرمة بينهما(2)، ولها أنواع منها: فيزا، ماستر كارد، دايز كلوب، أمريكان اكسبريس.. وغيرها(3)، ويتلخص عمل البطاقة في قيام المشتري حامل البطاقة لسلعة أو منفعة أو خدمة ما من تاجر فيملكها ويكون ثمنها ديناً في ذمته، وبعد ثبوت الدين في ذمته يقوم البنك «الكفيل للمشتري» بوفاء الدين الذي للتاجر فيصبح البنك هو المسئول عن السداد، وتبرأ ذمة المشتري تجاه البائع ويصبح البنك الضامن مسئولاً عن هذا السداد، ثم يقوم التاجر بمطالبة البنك بالسداد الفوري، وبعد ذلك يعود البنك على حامل البطاقة بسداد الدين(4).
الفقه الإسلامي ينظر إلى بطاقة الائتمان على أنها كفالة يصالح فيها الكفيل الدائن على أقل من مبلغ الدين ثم يرجع على المكفول بما ضمنه لا بالذي أداه.. وهي جائزة
ولا شك أن السداد تم بطريقة إلكترونية بين كل من المشتري والبائع التاجر، وأيضاً بين البنك الضامن والتاجر البائع، ويتم أيضاً بنفس الطريقة بالخصم من الحساب أو المطالبة بالسداد مع دفع غرامات التأخير إذا كانت البطاقة غير مغطاة، وبطاقة الائتمان تتضمن التعريف بشخص صاحبها وكذلك العلامة المميزة للهيئة الدولية التي تعطي التصريح للمؤسسات المالية بإصدارها، وتتضمن كذلك شريط التوقيع الذي يقوم حامل البطاقة بالتوقيع عليه عند تسلمه البطاقة، وتتضمن رقم التمييز الشخصي – أي الرقم السري – ويتم استخدامه عند السحب النقدي من أجهزة الصرف الآلي(5).
التكييف القانوني لها: اختلفت آراء فقاء القانون حول طبيعتها؛ حيث نظر البعض إليها على أنها أقرب لحوالة الحق، ونظر البعض لها على أنها أقرب لحوالة الدين، وقد واجه كلا الرأيين انتقادات أهمها: أن الحق في الحوالة ينتقل بجميع خصائصه وضماناته ودفوعه، بحيث يكون للمحال عليه – أي حامل البطاقة – التمسك تجاه المحال له – الجهة المصدرة للبطاقة – بجميع الدفوع التي يمكن التمسك بها تجاه المحيل – التاجر- وهذا يتعارض مع الأنظمة والعقود النموذجية التي يلتزم بموجبها حامل البطاقة التزاماً مباشراً ومجرداً عن علاقته بالتاجر؛ فلا يمكن لحامل البطاقة التمسك بمواجهة الجهة المصدرة للبطاقة بما له من دفوع بمواجهة التاجر(6). ويرى البعض الآخر أنها اشتراط لمصلحة الغير، إلا أن هذا الرأي لم يلقَ قبولاً، لأنه في هذه الحالة يمكن للتاجر الرجوع على مصدر البطاقة وحاملها في آن واحد؛ فيكون له مدينان، وهذا غير معمول به في بطاقة الائتمان(7)، ثم انتهى الأمر إلى أنها ذات طبيعة خاصة، يتم تأصيلها حسب التشريعات التي تحكمها وليس وقت النظريات التقليدية(8).
التكييف الفقهي لها: ينظر الفقه الإسلامي إلى بطاقة الائتمان على أنها كفالة يصالح فيها الكفيل الدائن على أقل من مبلغ الدين، ثم يرجع على المكفول بما ضمنه لا بالذي أداه، وهي جائزة، وأجمع المسلمون على جواز الضمان في الجملة(9)، ويشترط مصدر البطاقة وجود الموافقة من حاملها على الدفع بالتوقيع على القسيمة أو غير ذلك مما يدل على الرضا، والهدف من ذلك التأكد من ثبوت الدين في ذمة حامل البطاقة(10).
ثانياً – البطاقات الذكية:
تعريفها: هي عبارة عن شريحة إلكترونية يتم عليها تخزين جميع البيانات الخاصة بحاملها، ويتم التعامل بها في الدفع الفوري أو التعامل الائتماني، وهي تشبه جهاز حاسوب صغير، وتحتوي على سجل بالبيانات والمعلومات والأرصدة القائمة لصاحب البطاقة وبياناته الشخصية ورقمه السري(11)، وهذه البطاقة بها قدرة على تخزين المدخول البيولوجي (Biometrics) ويعني الوسائل التي يمكن عن طريقها معرفة السمات الشخصية للفرد؛ كمسح شبكة العين أو قرنية العين أو بصمة الشفاه والصوت وأنسجة الأوردة، فهي تفوق بل لا تقارن ببطاقة إثبات الهوية الصادرة عن الأحوال المدنية، بل يمكن استخدامها كجواز سفر، كما تقوم بذلك سنغافورة(12).
التعاقد الإلكتروني يحتاج إلى نفس الأركان والشروط للتعاقد العادي ولا عبرة باختلاف الوسيلة أو الأماكن مادامت قد تحققت الأركان والشروط
وعمل البطاقة الذكية يتم بمعالج دقيق يمكنه من تخزين الأموال من خلال البرمجة الأمنية، ولديها القدرة على التعامل مع بقية أجهزة الكمبيوتر، ولا تحتاج تفويض أو تأكيد صلاحية من أجل نقل الأموال من المشتري إلى البائع، والقدرة الاتصالية لها تعطيها الأفضلية على الشريط المغناطيسي لبطاقات القيمة المخزونة التي يتم تمريرها على قارئ البطاقات(13)، ولا يحتاج صاحب البطاقة الذكية لإثبات هويته، ولا يحتاج لإجراء معاملاته من خلال خدمات اتصالية مكلفة، فعندما يتم استخدامها تنقص قيمة الشراء بطريقة آلية من بطاقة المشتري وتودع القيمة في أجهزة إلكترونية طرف البائع، وبذلك يستطيع تحويل ناتج عمليات البيع والشراء اليومية إلى البنك الذي يتعامل معه عن طريق الوصلات الهاتفية، مما يؤدي لإتمام الصفقات التجارية في خلال ثوانٍ معدودة(14).
ثالثاً – النقود الإلكترونية:
تعريفها: هي «قيمة نقدية مخزنة على وسيلة إلكترونية مدفوعة مقدماً وغير مرتبطة بحساب بنكي وتحظى بقبول واسع من غير من قام بإصدارها، وتستعمل كأداة للدفع لتحقيق أغراض مختلفة(15)، وهذه البطاقة ليست شرطاً أن تصدرها جهة حكومية، بل يمكن أن تقوم بها هيئة خاصة؛ تقوم بوضع قيمة مالية مخزونة في بطاقة لشراء حاجيات أو خدمات مقدمة من مُصدر البطاقة مثل ما تقوم به بعض الجامعات الغربية من تقديم خدمات لنسخ الأوراق على آلات لا تعمل إلا من خلال إدخال بطاقات بلاستيكية تحوي شريطاً ممغنطاً خلفها، وحين يقوم الطالب أو الأستاذ بنسخ أي من هذه الأوراق فإن آلة النسخ تقتطع تكلفة النسخة لكل ورقة بصورة تلقائية، فإذا قاربت البطاقة على الانتهاء قام الطالب أو المتعامل عموماً بإدخال هذه البطاقة في آلة أخرى ويضع عملات ورقية لزيادة محصلة القيمة داخل هذه البطاقة لاستعمالها مرة أخرى(16), ومثلها ما تقوم به حكومة دبي بالإمارات العربية المتحدة حيال بطاقة «سالك» عند المرور ببعض الشوارع داخل المدينة وبمجرد مرور السيارة تحت جهاز سالك يقوم مباشرة بخصم مبلغ نقدي من هذه البطاقة وعند مقاربتها على الانتهاء يتم شحنها بالنقود الورقية مرة أخرى.
يرى الرأي الغالب فقهاً وقانوناً حجية العقود الإلكترونية، والتسوية بينها وبين العقود الورقية
التكييف القانوني للنقود الإلكترونية: لم تتفق كلمة فقهاء القانون والاقتصاد بشأن النقود الإلكترونية في التسوية بينها وبين النقود الورقية، فبينما يرى البعض محدوديتها، لأنه لا يمكن عن طريقها أداء الديون مثلاً لأنه لا يمكن للبائع استبدال النقد الإلكتروني بالورقي إلا بالرجوع لمصدر بطاقة النقود الإلكترونية حتى يستبدلها بالنقود الورقية المتداولة، إلا أن البعض الآخر يرى أن النقود الإلكترونية باعتبارها وسيطاً للتبادل ووسيلة للدفع لا تختلف عن النقود الورقية حتى وإن كانت هناك بعض الفوارق، حيث إن النقود الورقية صادرة عن البنك المركزي للدولة وهو القائم على تحديد المقدار المتداول والذي يمكن به المحافظة على السياسة النقدية للدولة، بينما القائم على إصدار النقود الإلكترونية مؤسسات خاصة قد تكون خاضعة للرقابة الحكومية، كما يضاف للفوارق أن النقد الإلكتروني لا يقدم فائدة مالية عند وضعه كوديعة، بخلاف الأوراق النقدية، إلا أنه مع هذا الاختلاف فإن النقد الإلكتروني يتساوى مع النقد الورقي في قبوله كوسيلة للدفع، ويتمتع بقدر واسع من القبول، وإن كان النقد الورقي أكثر تداولاً إلا أن الفروق المذكورة فروق شكلية، ويمكن للنقد الإلكتروني القيام بوظائف النقد العادي في التعاملات التعاقدية وعند القيام بها كوسيلة للدفع في التعاقدات يقوم كلا المتعاقدين بوضع بطاقتيهما في محفظة إلكترونية تقوم بخصم ثمن السلعة أو الخدمة من بطاقة المشتري وتنقلها لبطاقة البائع، ويمكن للبائع أن يقوم باستخدامها لشراء منتجات وسلع أخرى من بائع آخر، أو يمكنه استخدامها في إبراء دينه فتكون مساوية للنقود الورقية(17).
مدى قبول الفقه الإسلامي للنقود الإلكترونية: أقول.. بالنظر في تاريخ العملة في الفقه الإسلامي يمكن الخروج بنتيجة وهي أن النقد الإلكتروني مقبول تداوله ولا يوجد مانع شرعي منه، وبالتالي يصلح للتعاقدات التي تتم بهذه الطريقة وبغيرها، وتأسيس كلامي هنا على أن النقد في الفقه الإسلامي بل وفي التاريخ الإنساني بدأ بسلع اصطلح الناس على قبولها مادة لتقييم السلع، إلى أن وصل الأمر إلى جعل الذهب والفضة كمقياس للأثمان وتعامل الفقه الإسلامي بها وقبلها، مع أنها كانت مستوردة من الفرس والروم، ولم تكن هناك عملة خاصة بالدولة الإسلامية، وكذلك قبل الفلوس؛ وهي العملة الصغيرة من النقد الردئ قليل القيمة، بل قبل العملة المغشوشة إذا عمَّ استعمالها، وقبل صكوك الصيارفة وأبدلها بالذهب، وقبل العملة الورقية التي بدأت بغطاء ذهبي، ثم قبل العملة الورقية دون غطاء الآن، وهكذا نجد الفقه الإسلامي قد تطور وتماشى مع كل حقبة زمنية بما يناسبها مادامت لم تخالف أصلاً شرعياً، وإذا كانت النقود الإلكترونية قد تم قبولها في التعامل(18) وفي أوساط محددة إلا أنه يمكن القول إن جميع العملات السابقة قد بدأت هكذا، وعليه فلا مانع من اعتماد النقد الإلكتروني كوسيلة للدفع في العقود الإلكترونية وغيرها من العقود.
الجانب التطبيقي على بعض العقود الإلكترونية
أولاً – خدمات الإنترنت في العقود الإلكترونية:
تعريفها: هي الجهة التي تقدم للمستخدمين المزودين بحاسبات آلية الدخول إلى الخطوط السريعة للإنترنت سواء أكانت حكومية أم خاصة، فهي تؤمِّن لهم الخدمة الإكترونية بموجب عقد اشتراك نظير أجر معين(19).
ويكيف هذا العقد شرعاً بأنه عقد إجارة بين مقدم الخدمة والمشتركين مادامت المنفعة مباحة ومعلومة ومملوكة ومأذون فيها، وتم الاتفاق على الأجرة، وكذلك التراضي بين طرفي العقد، وهو أجير مشترك لأنه يقبل أعمالاً لعدد من الأفراد والجهات، يجمع بينهم الاشتراك في الخدمة التي يقدمها لهم مقابل أجر معين من كلٍ منهم، ويلتزم تجاههم بتقديم كافة الخدمات الإلكترونية الواقعة في العقد الإلكتروني(20).
ثانياً – عقود الدعاية والإعلان:
تعريفها: هي مجموعة الوسائل المستخدمة بقصد التعريف بمشروع تجاري أو امتداح منتج ما، وبهذا يظهر أنه عملية اتصالية تهدف إلى التأثير من بائع على مشترٍ بواسطة وسائل الاتصال المستحدثة كالصحف أو التلفاز أو الإنترنت والمعبر عنها بالإعلان التجاري؛ حيث يصف السلع وصفاً مبالغاً فيه بقصد الانتشار وجذب المشترين(21)، وتمام الدعاية والإعلان والتعاقد عنهما يمكن أن يتم عبر الوسائط الإلكترونية دون مقابلة من أحد الطرفين للآخر.
مع وجود أوجه اتفاق بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي في حجية العقود الإلكترونية إلا أن هناك اختلافاً في بعض العقود كالزواج والصرف والسلَم التي تتطلب شروطاً خاصة
تكييفها الفقهي: ويتم تكييفها فقهاً على أنها عقود سمسرة؛ حيث يتوسط المعلن بين البائع والمشتري لقاء أجر معلوم، كما يمكن تكييفها على أنها بيع مزايدة، وقد ذكر النووي قوله: «فأما ما يطاف به فيمن يزيد وطلبه طالب فلغيره الدخول عليه والزيادة في الثمن»(22)، وكلتا الصورتين جائزتان ولا حرج فيهما، وقد ذكر ابن حجر: «ولم يرَ ابن سيرين بأساً – بعد ذكره باب أجرة السمسرة – قال ابن عباس: لا بأس أن يقول: بِع هذا الثوب فما زاد على كذا وكذا فهو لك، وقال ابن سيرين: إذا قال بِعه بكذا فما كان من ربح فلك، أو بيني وبينك فلا بأس به»(23)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: المسلمون على شروطهم(24) فالسمسرة بهذه الطريقة صورة من صور الإعلان التجاري وإن اختلفت الوسائل سواء أكانت بالوسائط الإلكترونية أم سيراً على الأقدام لبيع السلعة، ومن جملة ما ورد في السنة المطهرة وأخذ شكل الإعلان التجاري ما ورد «أن رجلاً أعتق غلاماً عن دبر فاحتاج فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبدالله بكذا وكذا فدفعه إليه»(25)؛ فقوله صلى الله عليه وسلم من يشتريه مني؟ صورة من صور الإعلان التجاري عن السلعة كي يتنافس عليه من يريد الشراء دون غش أو خديعة، لأن السلعة كانت أمام المشترين.
ثالثاً – إبرام العقود التجارية بالاعتمادات المستندية:
تعريف الاعتمادات المستندية: هي عبارة عن «وثيقة يوجهها مصرف لأحد مراسليه في الخارج يدعوه فيها أن يدفع مبلغاً معيناً من النقود أو يمنح قرضاً أو يفتح اعتماداً للمستفيد، ويقسم الاعتماد إلى أقسام بأوضاع مختلفة فمنها اعتمادات التصدير والاستيراد، والاعتماد القطعي والقابل للإلغاء، والاعتماد المستندي بالاطلاع والقبول(26).
صورة خدمة الاعتمادات المستندية وحكمها: يقوم المصرف المحلي بأداء خدمة لطالبها تتمثل في كفالته تجاه مصرف أجنبي؛ حيث يقوم بأداء ثمن البضاعة المستوردة للبائع المنتج لها بناءً على كفالة المصرف المحلي(27).
الواقع العملي يؤكد صحة العقود الإلكترونية والتعامل بها بين الناس
أما عن حكمها: فإنه يختلف حسب تطبيق الصورة، فإن تم الاتفاق على حسب الصورة السابقة بحيث يقوم طالب الخدمة بأداء عمولة متفق عليها تجاه البنك، أو مقداراً نسبياً محدداً دون احتساب فائدة عليه؛ فإن تطبيق هذه الصورة لا يحتوي على مخالفة شرعية، وتصبح الصورة جائزة، أما إذا أخذ تطبيق الصورة الشكل السابق لكن بدلاً من العمولة أو النسبة الثابتة يصبح البنك دائناً لطالب الخدمة بما قام بسداده عنه فعلياً، مع ترتيب فائدة جارية عليه فإن تطبيقها يدخل في دائرة الشك على الأقل إن لم نجزم بحرمتها، وقد أجاز الفقهاء المعاصرون الذين قاموا على عمل الموسوعة الفقهية الكويتية فتح الاعتمادات المستندية على أنها عمل من أعمال المصارف، وقد أسسوا حكمهم هذا على أنها من باب التوكيلات والرهون، أو على أنها توكيل وحوالة، أو على أنها عقد جديد لا يوجد له نظير في العقود القديمة، والأصل في المعاملات الإباحة ما لم يوجد حظر شرعي، ولم يوجد، فلا مانع شرعاً لهذا العقد، وأما تخريجه على أنه توكيل ورهن فالمقصود منه أنه توكيل من طالب فتح الاعتماد للمصرف مع قيامه برهن البضاعة، وتخريجه على أنه توكيل وحوالة؛ حيث إن طالب الاعتماد هو المحيل، بينما المصرف الذي قام بفتح الاعتماد هو المحال عليه(28)، ولكن ينبغي أن يوضع في التصور الطريقة التي تم بها الدفع من طالب الخدمة حتى لا تقع في الربا المحرم.
وهناك صورة أخرى لتطبيقها وهي: قيام التاجر بتقديم طلب لأحد البنوك الإسلامية – بعد تحديد ما يريده من بضاعة ومصدره – أن يستورد البضاعة باسم البنك مع اتفاق التاجر مع البنك على شرائها ويربح البنك فيها، وتسمى هذه الطريقة بالمرابحة الخارجية مع الآمر بالشراء(29).
وحكم هذه الصورة الجواز: تأسيساً على ما ورد عند المالكية من قاعدة الوعد الملزم(30)، وكذلك على ما نص عليه الإمام الشافعي – رحمه الله – حيث قال: «وإذا أرى الرجلُ الرجلَ السلعة فقال: اشترِ هذه وأُربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز، والذي قال أربحك فيها بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعاً وإن شاء تركه، وهكذا إن قال اشترِ لي متاعاً ووصفه له، أو متاعاً – أي متاع شئت – وأنا أربحك فيه فكل هذا سواء يجوز البيع الأول، ويكون هذا فيما أعطي من نفسه بالخيار، وسواء في هذا ما وصفت إن كان قال ابتاعه وأشتريه منك بنقد أو دين يجوز البيع الأول ويكونان بالخيار في البيع الآخر(31)، وقريب من هذا ما ورد عن محمد بن الحسن الشيباني حينما سئل عن رجل قال لآخر «اشترِ هذا العقار وأنا أشتريه منك وأربحك فيه، فتخوف من شراء العقار وعدم وفاء طالب الشراء بما وعد به من شرائه من المشتري، فأجاب بشراء العقار مع خيار الشرط له، ثم يقوم بعرضه على الآخر في فترة الخيار فإن اشتراه فبها وإلا فسخ العقد ورد المبيع(32)، ولا شك أن هذا التأسيس الفقهي يؤيد الجواز وكذلك القواعد العامة لفقه المعاملات، وما ذهب إليه كذلك القائمون على عمل الموسوعة الفقهية الكويتية الذين قالوا بالجواز أيضاً، وهو ما حدا بلجنة الإفتاء بوزارة الأوقاف بالمملكة الأردنية الهاشمية إلى إجازة الصورتين السابقتين الداخلية منهما والخارجية(33) حتى وإن كان هناك مجال للقول بعدم الإلزام في قاعدة الوعد الملزم عند المالكية فإن في تخريج الشافعي – رحمه الله – للمسألة مسلك شرعي شريطة عدم إجبار المشتري الثاني على الشراء، وللخروج من هذا الخلاف يمكن أن يقوم البنك بالشراء على شرط الخيار، وفي مدة الخيار يقوم بعرض السلعة على المشتري فإن اشترى دون إجبار فبها ونعمت وإلا فيمكنه الرد في أثناء فترة خيار الشرط كما ذكر ذلك محمد بن الحسن الشيباني – رحمه الله -.
الخاتمة والنتائج
بعد الانتهاء من هذا البحث أخلص إلى النتائج الآتية:
أولاً – العقد الإلكتروني ما هو إلا أداة من أدوات التطور التي وجدت في هذا العصر وتماشت معها الشريعة الإسلامية المتسعة القواعد، فأصل العقود موجود لكن التطور حدث في الوسيلة ولا يأبى الفقه الإسلامي ذلك بل يسير مع كل ما هو نافع ومفيد.
ثانياً – العقد الإلكتروني لا يختلف عن العقود القولية أو المكتوبة؛ إلا أن فيه من الخصائص ما لا يوجد في غيره؛ من حيث تيسير إبرام المعاملات التجارية وتقريب المسافات بين الناس؛ حيث يمكن التعاقد بين طرفين أحدهما في المشرق والآخر في المغرب عبر الوسائط الإلكترونية التي أعطت العقد صفة الدولية.
ثالثاً – اختلاف الفقهاء فيه من الرحمة بعباد الله ما فيه، حيث ظل الفقه حيناً من الدهر لا يعتمد الكثير من وسائل إبرام العقود كالتعبير بالإشارة للناطق أو التعاقد بالمعاطاة إلى أن جاء وقت الحاجة لكي ترجح هذا الرأي بعد أن كان الترجيح يميل إلى غيره تبعاً للعرف السائد وحاجة الناس.
رابعاً – يتفق الفقه الإسلامي والقانوني على أن التعاقد بوسائل التخاطب والتواصل الإلكتروني مشروعة وإن اختلفت أشكال الإيجاب والقبول فيها.
خامساً – يحتاج التعاقد الإلكتروني لنفس الأركان والشروط للتعاقد العادي، ولا عبرة باختلاف الوسيلة أو الأماكن مادامت قد تحققت الأركان والشروط.
سادساً – العقد الإلكتروني فيه ما يثبت حجيته على المتعاقدين كالتوقيع الرقمي أو تذييل الرسالة باسم المرسل والقلم الإلكتروني والمسح الضوئي للتوقيع التقليدي، واستخدام الخواص الذاتية أو رقم التمييز الشخصي أو الضغط على زر الموافقة.
سابعاً – يرى الرأي الغالب فقهاً وقانوناً حجية العقود الإلكترونية، والتسوية بينها وبين العقود الورقية، وعلى ذلك نص القانون المصري والإماراتي والأردني، وكذلك الرأي في مجمع الفقه الإسلامي.
ثامناً – مع وجود أوجه الاتفاق بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي في حجية العقود الإلكترونية إلا أن هناك اختلافاً؛ حيث نص القانون الوضعي على سريان حجية العقود الإلكترونية على جميع المعاملات المدنية والتجارية والإدارية، إلا أن الفقه الإسلامي احتاط للأمر فأقر ما يصلح ومنع غيره؛ كعقود الزواج وعقد الصرف وعقد السلم التي تتطلب شروطاً خاصة لا تتوفر في العقد الإلكتروني.
تاسعاً – الواقع العملي يؤكد صحة العقود الإلكترونية والتعامل بها بين الناس، والدليل على ذلك التعامل بالبطاقات الائتمانية مثل: «فيزا كارد»، «ماستر كارد» والبطاقات الذكية وخدمات الإنترنت ..وغيرها.
المراجع
(1) راجع: د. أحمد بدوي، معجم المصطلحات التجارية والتعاونية، ص63، ط. دار النهضة 1984م.
(2) د. نزيه حماد، قضايا فقهية معاصرة في المال والاقتصاد ص141، ط. دار القلم، أولى 2001م.
(3) راجع: مجلة مجمع الفقه الإسلامي، ن العدد السابع 1/448، ط. 1412هـ.
(4) د. نزيه حماد، السابق ص148 وما بعدها.
(5) د. عبدالرسول عبدالرضا، المفهوم القانوني للتوقيع الإلكتروني، مرجع سابق ص45.
(6) د. رفعت أبادير، بطاقات الائتمان من الوجهة القانونية، ص67، بحث منشور بمجلة إدارة الفتوى والتشريع، السنة الرابعة، العدد الرابع 1984م. د. نبيل محمد أحمد، بعض الجوانب القانونية لبطاقات الائتمان المصرفية، بحث منشور بمجلة الحقوق الكويتية، ص251 العدد الأول السنة السابعة والعشرين 2003م.
(7) المرجعين السابقين على الترتيب، ص77، ص251.
(8) د. عبدالفتاح بيومي، النظام القانوني للحكومة الإلكترونية، ص415، ط. دار الكتب القانونية.
(9)راجع شمس الأئمة السرخسي، المبسوط 12/17. ابن قدامة، المغني 6/326 وما بعدها.
(10) د/ محمد علي القرى، البطاقات الائتمانية، ص47، بحث منشور بمجلة التمييز، عدد ربيع الآخر 1421هـ.
(11) د. عدنان سرحان، الوفاء (الدفع) الإلكتروني، بحث مقدم إلى مؤتمر الأعمال المصرفية الإلكترونية بين الشريعة والقانون جامعة الإمارات1/327.
(12) د. هند محمد حامد، التجارة الإلكترونية في المجال السياحي ص114، بدون دار نشر.
(13) د. عبدالرسول عبدالرضا، المفهوم القانوني للتوقيع الإلكتروني، السابق ص48.
(14) د. محمد إبراهيم الشافعي، الآثار النقدية والاقتصادية للنقود الإلكترونية، ص18، ط. دار النهضة العربية 2003م.
(15) راجع د. عبدالرسول عبدالرضا، المفهوم القانوني للتوقيع الإلكتروني، مرجع سابق ص37.
(16) المرجع السابق، ص40.
(17) راجع في نفس المعنى: د. رأفت رضوان، عالم التجارة الإلكترونية، ص97، ط. المنظمة العربية للتنمية الإدارية سنة 1999م.
(18) راجع في هذا المعنى: د. رمضان عبدالله الصاوي، أثر تغير قيمة العملة على أداء الالتزام .. دراسة تطبيقية، ص385:388، بحث منشور بمجلة المعيار مجلة كلية الإمام مالك للشريعة والقانون بدبي، العدد الأول، يناير 2012م.
(19) د. محمد منصور المدخلي، أخلاقيات التجارة الإلكترونية في الفقه الإسلامي ص38، بحث منشور على الإنترنت.
(20) المرجع السابق، ص39.
(21) د. علي السلمي، الإعلان، ص10، ط. مكتبة غريب بالفجالة، القاهرة، دون تاريخ.
(22) النووي، روضة الطالبين وعمدة المفتين 3/451، ط. المكتب الإسلامي 1412هـ. الرافعي، فتح العزيز شرح الوجيز 8/222، ط. دار الفكر، بيروت.
(23) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري 4/451، ط. دار المعرفة، بيروت 1379هـ. ابن بطال، شرح صحيح البخاري 6/400 باب أجرة السمسرة، ط. مكتبة الرشد، السعودية، ثانية 1423/ 2003م.
(24) أبو داود، سنن أبي داود 5/446، كتاب الأقضية باب في الصلح، والحديث عن أبي هريرة، ط. دار الرسالة العالمية، أولى، 1430/ 2009م، رقم الحديث 3594، الحاكم، المستدرك على الصحيحين من حديث أبي هريرة 2/57، رقم الحديث 2309، ط. دار الكتب العلمية، أولى 1411/ 1990م.
(25) البخاري، صحيح البخاري 3/69، كتاب البيوع، باب: بيع المزايدة، ط. دار طوق النجاة، أولى 1422هـ، والحديث عن عطاء بن أبي رباح عن جابر. مسلم، صحيح مسلم 2/692 كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة، رقم الحديث 997، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت، دون تاريخ. ومعنى الحديث: يحدثنا جابر رضي الله عنه: أن رجلاً أعتق غلاماً عن دبر «أي أن رجلاً أنصارياً يدعى أبا مدكور أعتق عبداً قبطياً بعد وفاته يسمى يعقوب» فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من يشتريه»؟ أي فأصابت الرجل ضائقة مالية فعرض النبي صلى الله عليه وسلم عبده للبيع عن طريق المزايدة. راجع في الشرح: حمزة محمد قاسم، منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري 3/272، ط. دار البيان، دمشق 1410/ 1990م.
(26) علي الحمراء، المجلة العربية، ص52، عدد المحرم 1432هـ.
(27) د. محمد منصور المدخلي، السابق، ص47.
(28) الموسوعة الفقهية الكويتية 3/243 وما بعدها، ط. ذات السلاسل بالكويت 1407هـ.
(29) د. محمد منصور المدخلي السابق، ص48.
(30) يرى الدكتور رفيق يونس المصري أن الوعد الملزم عند المالكية مقبول في الوعد المجرد كما لو قال تزوج ولك كذا من المال فإذا تزوج وجب عليه الوفاء، لكنه لم يوافق على نقل الوعد إلى العقد لأن الوعد في الصورة السابقة من باب التبرعات أما العقد فمن باب المعاوضات، فهو يرى أنه لا يجوز سحب الوعد ليحل محل العقد ولا يجوز أن يكون الوعد ملزماً بحال والخلاف فيه غير جائز ويجب فيه الخروج من الخلاف إلى القول بعدم الإلزام قولاً واحداً، وخلص إلى أن الوعد إذا كان بديلاً لعقد محرم كبيع ما ليس عنده فلا يجوز أن يكون ملزماً لأن الوعد الملزم كالعقد وكل قول بإلزام الطرفين أو أحدهما بطريقة صريحة أو ضمنية بمذكرة تفاهم أو اتفاق جانبي أو بأي حيلة أخرى لا يستند إلى أساس مشروع. راجع: د. رفيق يونس المصري، الوعد الملزم في معاملات المصارف الإسلامية، بحث منشور بمجلة جامعة الملك عبدالعزيز الاقتصاد الإسلامي بجدة بتاريخ 30 نوفمبر 1999م.
(31) الإمام الشافعي، الأم 3/39 ط. دار المعرفة، بيروت 1410/ 1990م.
(32) محمد بن الحسن الشيباني، الحيل، من رواية السرخسي، ص79 وص127.
(33) د. مصطفى الزرقا، المعاملات المصرفية، ص89 وما بعدها، بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة العدد الثاني.
اترك تعليقاً