الجحود المبتسر للعقد وآثاره في القانون
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
لكي يُسأل المَدين عقدياً يجب أن يكون قد أخلّ بالعقد الذي أبرمه, ويصبح من حق الدائن أن يطالب المدين بتنفيذ ما التزم به بمقتضى العقد، فإن امتنع كان له أن يجبره على هذا التنفيذ قضاءً، أو أن يطلب فسخ العقد. كما يكون له أن يطالبه بتعويض الأضرار التي أصابته جراء هذا الامتناع. لكن، قد يحدث في الفترة ما بين انعقاد العقد وحلول الأجل، أن يصدر عن المدين قول أو فعل، يفصح عن نيته في عدم تنفيذ التزاماته العقدية عند حلول موعد تنفيذها، أو يثبت أنه لن يستطيع القيام بهذا التنفيذ، أو قام بعمل من شأنه أن يجعل هذا التنفيذ مستحيلاً أو مرهقاً، كما لو أتلف المدين المبيع عمداً قبل حلول الأجل المحدد لتسليمه، أو تصرف فيه مرة ثانية تصرفاً نافذاً في حق المشتري الأول. في جميع هذه الحالات؛ هل يتعين على الدائن أن يتخذ موقفاً سلبياً فلا يكون له أن يقوم بأي إجراء تنفيذي لإعمال حقه قبل حلول الموعد المتفق عليه لتنفيذ العقد؟
إن النشأة الأولى لهذه الفرضية تعود للقضاء الإنكليزي بخصوص قضية “هوشستر” ضد دي لا تور، التي تتلخص وقائعها أنه في نيسان من عام 1852 تعاقد دي لا تور وهو نبيل من النبلاء مع دليل سياحي هو هوشستر على أن يصحبه في جولة في أوروبا تبدأ من أول حزيران من نفس العام مقابل أجر شهري. ولكن قبل أن يحين موعد تنفيذ هذا العقد وبدء الجولة أرسل دي لا تور في 11 أيار سنة 1852 خطاباً إلى هوشستر يعلمه أنه عدل عن القيام بالجولة المتفق عليها، فأقام هذا الأخير دعوى أمام القضاء الإنكليزي طالباً الحكم على دي لا تور بتعويضه عن الأضرار التي لحقته بسبب هذا العدول، فدفع المدعى عليه هذه الدعوى بأنها أقيمت قبل الأوان لأنه لا يمكن أن يكون هناك إخلال بالعقد قبل أول حزيران، وهو الموعد المحدد لتنفيذ العقد. لكن المحكمة رفضت هذا الدفع وقضت بالتعويض المطلوب مقررة على لسان رئيس القضاة اللورد كامبل،
أنه: “لا يمكن القول كقاعدة عامة، أن تكون دعوى الإخلال بهذا التعهد مقبولة إلا إذا حل هذا الموعد؛ ذلك أنه تنشأ علاقة بين طرفي العقد من يوم التعاقد، وتستمر إلى اليوم الذي يجب فيه بدأ العمل؛ فهما قد ارتبطا معاً بحيث إذا نبذ أحدهما تعهده، كان مخلاً بعقد ضمني. ولو تركنا المدعي هنا بلا دعوى حتى أول حزيران، لكان معنى ذلك أنه حتى هذا التاريخ لا يجوز له أن يتعاقد على أي عمل آخر يتعارض مع تعهده بالعمل مع المدعى عليه.. مع أن المنطق وفائدة الطرفين تتطلب أن يصبح المدعي حراً في إبرام أي عقد آخر مع احتفاظه بحقه في التعويض، وهكذا بدلاً من البقاء بلا عمل وانفاق النقود استعداداً لرحلة لن تتم”. وهكذا كانت هذه القضية هي السابقة القضائية الأولى لنظرية الإخلال المبتسر بالعقد، والتي عرفت فيما بعد باسم الجحود المبتسر للعقد، وأخذت بها المحاكم الإنكليزية والأمريكية وصارت تطبقها في جميع الحالات المشابهة.
فما هو المقصود بالجحود؟
يُعتبر جحوداً كل مظهر أو مسلك خارجي يصدر عن المدين ويفصح عن نيته عدم تنفيذ العقد عندما يحل أجله. وهذا المظهر قد يكون عبارة عن تصريح شفوي أو كتابي أو فعل يأتيه المدين. ويشترط فيه أن يكون قطعياً وواضحاً، غير غامض، ومطلقاً؛ فإذا وعد شخصٌ آخرَ بشراء قطعة أرض يملكها الأخير إذا رغب في بيعها خلال زمن معين، فلا يعتبر جحوداً لهذا الوعد أن يرسل الواعد إلى الموعود له قبل انقضاء الزمن المحدد خطاباً يقول إنه لا يملك المال اللازم لشراء الأرض في الأجل المحدد. كذلك فإن مجرد التهديد بعدم التنفيذ لا يعتبر تصريحاً قطعياً، وبالتالي لا يعتبر جحوداً. وصفة الوضوح تكون في الدلالة اليقينية لفعل المدين؛ فإذا بعثت الشركة المشترية إلى البائع تبلغه أنها تصفي أعمالها، لا يعتبر جحوداً لأنه لا يفصح عن نيتها في عدم التنفيذ ولا عجزها عن الدفع؛ وكذلك إذا بعث صاحب دار للسينما إلى شركة توزيع أفلام يطلب منها عدم ارسال أي أفلام إليه وفقاً للعقد المبرم بينهما إلى حين الفصل في النزاع القائم بشأن هذا العقد، فلا يعتبر جحوداً منه لأنه لا يفيد أنه لن ينفذ العقد على أية حال أو في أي وقت. وأخيراً، يجب أن يكون التصريح مطلقاً غير مشروط؛ فتعليق المدين تنفيذه أو عدم تنفيذه لالتزامه الذي لم يحل أجله بعد على حصول أمر مستقبلي غير مؤكد الحصول، لا يعتبر جحوداً ولو كان العقد لا يعلق التنفيذ على تحقق هذا الأمر؛ كمن يصرح للبائع أنه لن يستطيع دفع الثمن إلا إذا باع مزرعته أولاً، وأنه إذا لم يتمكن من بيعها فلن يستطيع الدفع؛ فهذا التصريح لا يعتبر جحوداً.
وقد طبقت المحاكم الأمريكية نظرية الجحود على أنواع متباينة من العقود؛ فطبقتها على عقود الوعد بالزواج، حيث يجحد أحد المتعاقدين وعده قبل حلول الموعد المحدد لإتمام الزواج سواء بتصريحه أنه يرفض الزواج بالطرف الآخر، أو بزواجه فعلاً من شخص غير الموعود له. وطبقت النظرية في عقود العمل إذا جحد رب العمل أو العامل عقده قبل حلول الموعد المحدد للبدء في العمل. وكذلك وجدت النظرية مجالاً واسعاً لها في نطاق العقود الدولية لتوريد البضائع وعقود المقاولات. ولكن القضاء الأمريكي ـ رغم المجال الواسع الذي أعطاه لنظرية الجحود المبتسرـ يشترط لتطبيقها أن يكون العقد المجحود من العقود الملزمة للجانبين التي تنشئ التزامات متبادلة، والتي لا تكون نُفِّذت كلياً وقت الجحود من جانب أحد المتعاقدين؛ فلم يطبقها في الأسناد التجارية وكذلك في العقود التي تنطوي على التزامات مستقلة غير مرتبطة ببعضها البعض.
آثار الجحود المبتسر:
يترتب على جحود أحد المتعاقدين لالتزاماته المؤجلة أن يكون للمتعاقد الآخر أن يختار بين جزاءات أربعة:
الأول: أن يمتنع عن تنفيذ التزاماته الحالّة أو عن الاستعداد لتنفيذ التزاماته المؤجلة وأن ينتظر حتى حلول الأجل المضروب لتنفيذ التزامات مدينه ويرفع عليه الدعوى بطلب التعويض عن الأضرار التي لحقته من جراء الإخلال بالعقد.
الثاني: أن يتجاهل الجحود كليةً ويعتبره كأن لم يكن ويمضي في تنفيذ العقد من جانبه حتى إذا ما حلّ أجل تنفيذ التزامات المدين طالبه بها، فإن امتنع عن وفائها أقام عليه دعوى التعويض.
الثالث: أن يفسخ العقد في الحال وأن يطالب باسترداد ما وفاه بناء عليه أو قيمته.
الرابع: أن يقيم على المدين الجاحد دعوى تعويض دون انتظار لحلول الأجل المتفق عليه. ولكن يجب أن يثبت أنه كان مستعداً وقادراً على التنفيذ، وأنه كان سينفذ العقد لولا الجحود. وإذا رفع الدائن دعوى التعويض، فمعنى ذلك أنه اختار الإبقاء على العقد، والتعويض الذي سوف يحصل عليه هو جزاء الإخلال بالعقد، ويقوم على أسس المسؤولية العقدية.
ويتم تقدير التعويض في هذه الحالة بالنظر إلى الوقت المحدد في العقد لتنفيذ الالتزام وليس بالنظر إلى وقت الجحود. وعلى هذا، استقر القضاء الأمريكي حيث يقدر التعويض بالقدر الذي يغطي الضرر الذي حصل فعلاً، والضرر الذي سيحصل في المستقبل، ويكون نتيجة طبيعة للجحود. ومثل ذلك يقدر التعويض في عقود البيع بالفرق بين سعر العقد وسعر السوق في الوقت المحدد للتنفيذ، وغالباً ما يحصل الدائن على تعويض أكبر مما كان يحصل عليه لو لم تُنظر الدعوى إلا بعد حلول أجل التنفيذ؛ كما لو انخفض سعر السوق عن السعر الذي قدرته المحكمة، ولا يدخل في تقدير الأضرار التي كان من الممكن تجنبها ببذل جهد معقول. وتظل للجاحد رخصة العدول عن جحوده ما دام الدائن لم يفصح عن نيته في اعتبار العقد منتهياً، ولكن يمتنع عليه الرجوع إذا أقام الدائن دعوى التعويض أو غيّر الدائن موقفه اعتماداً على حصول الجحود، أو كان الجحود قد أدى إلى جعل التنفيذ مستحيلاً، أو كان أجل الالتزام المجحود قد حلّ، أو كان الدائن قد أصيب بضرر حال.
وختاماً، لابد من القول إن هذه النظرية تعرضت للانتقاد من قبل الشراح وخاصة فيما تبيحه للدائن من الحق في إقامة دعوى التعويض في الحال دون انتظار لحلول أجل التنفيذ على اعتبار أن الجحود المبتسر للعقد لا يتفق مع منطق القانون؛ إذ للقول بأن ثمة إخلال قد وقع، لا بد أن يكون المدين ملزماً بالتنفيذ، وقبل حلول الأجل لا يوجد أي التزام على المدين بالتنفيذ؛ وبالتالي لا يمكن القول بأنه أخل بالتزامه بحيث يكون مسؤولاً عن تعويض الأضرار الناشئة عن هذا الإخلال.
لذلك نجد أن المشرّع السوري لم يأخذ بهذه النظرية على إطلاقها وإنما أخذ بها في حالات محدودة وردت في المادة 221 من القانون المدني التي تنص على أنه: “لا ضرورة لإعذار المدين في الحالات التالية:
آ ـ إذا أصبح تنفيذ الالتزام غير ممكن أو غير مجد بفعل المدين.
د ـ إذا صرّح المدين كتابة أنه لا يريد القيام بالتزامه”؛
فهذه المادة تتيح للدائن مباشرة دعوى التعويض بالاستناد إلى نظرية الجحود المبتسر للعقد عند إخلال المدين بتنفيذ التزاماته؛ وحتى لا تبقى حقوق الأطراف مزعزعة بين الشك واليقين ـ إذ لو حُظر على الدائن أن يجابه الجحود بإقامة دعوى التعويض في الحال ـ فإنه لن يستطيع تحديد موقفه؛ هل يستمر في تنفيذ التزاماته أو الاستعداد لها، أم يمتنع عن هذا التنفيذ. لذلك، فإن نظرية الجحود المبتسر بما تتيحه من إقامة الدعوى في الحال، تساعد على الحدِّ من الأضرار التي قد تصيب الدائن والمدين؛ فالدائن له مصلحة في ألا تتفاقم الأضرار التي تصيبه من جراء إخلال المدين بالتزامه، وقد لا يستطيع الحصول على تعويض عن كل الأضرار التي تصيبه، إما لإعسار المدين أو إفلاسه. ومصلحة المدين تكون بالطبع في عدم إلزامه بتعويضات كبيرة، وقصر ما يُلزم به على ما أصاب الدائن فعلا حتى يوم الجحود.. ولا شك أنه توجد حالات يجب فيها مراعاة المدين الذي قد يكون مدفوعاً في جحوده بأحوال مالية سيئة ألمّت به.
اترك تعليقاً