الجرائم الدولية ومحاكمها في القانون الدولي الجنائي
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
نشرت في مجلة الحياة النيابية اللبنانية العدد 66 آذار 2007
تعددت وتنوعت الجرائم التي يرتكبها البشر لدوافع مختلفة،وظهرت الكثير من المدارس التي فسّرت هذه الأفعال وحاولت أن تضع لها أسبابها ونتائجها وآثارها؛ والأمر انسحب كذلك على طريقة وأسلوب المعالجة فكان من بينها المحاكم التي حاولت تحقيق العدالة.فما هي طبيعة الجرائم الدولية وما هي أركانها؟ وما هي المحاكم الدولية عبر التاريخ التي نظرت بالعديد منها؟وهل تمكنت من تحقيق الغايات المرجوة منها؟وأخيرا ما هي طيعة المحكمة الخاصة بلبنان وما هي حقيقة الانتقادات التي وجهت إليها؟ وهل لديها القدرة على كشف ملابسات جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق،رفيق الحريري؟
أولا : الجهود الحقوقية لتعميق مفهوم الجريمة الدولية
تُعرّف الجريمة الدولية بأنها “واقعة إجرامية تخالف قواعد القانون الدولي وتهدد السلم والأمن الدوليين سواء ارتكبت بفعل الجاني الايجابي أو امتناعه عن القيام بفعل ـ الفعل السلبي ـ مع توافر القصد الجنائي”
وبناءً على ذلك، فإن للعناصر الواجب توافرها في الفعل كي يستوجب المساءلة الجنائية على الصعيد الدولي هي: الركن الشرعي ويقصد به النص القانوني الذي يجرم الواقعة ويستمد من الأعراف والمواثيق الدولية والاتفاقيات الدولية الموقعة بين الدول. والركن المادي إي أن يكون الفعل المرتكب آو الامتناع عن فعل مخالفا للقانون الدولي، أي يشكل انتهاكا لأحكام هذا القانون سواء كانت مستمدة من العرف الدولي أم المعاهدات والمواثيق.
وان يكون الفعل ذا عنصر دولي، أي إن يشكل اعتداء على القيم والمصالح الأساسية للجنس البشري حتى لو ارتكب بدافع شخصي. وهذا الشرط يعد جوهريا، وذلك لان الفعل المستوجب للمساءلة الجنائية الدولية لابد أن يتضمن انتهاكا للقيم الأساسية في المجتمع الدولي سواء أكان المجني عليه فردا أم دولة أم المجتمع البشري بأسره.والركن المعنوي إي اتجاه النية لارتكاب الجريمة الدولية على ما عرفها القانون وذلك بتوافر العلم والإرادة.
ويرتكب الفرد الجرائم الدولية إما لحسابه الخاص بوصفه شخصا عاديا، وإما لحساب دولته أو باسمها. ويستهدف الفرد الذي يرتكب الجرائم الدولية لحسابه الخاص أو بوصفه شخصا عاديا تحقيق منافع أو أهداف شخصية بحتة، وهذه الجرائم منها ما قرره العرف ومنها ما عرف بمواثيق دولية ومثال هذه الطائفة من الجرائم القرصنة والمتاجرة بالمخدرات وتزوير العملة والإرهاب .
أما الجرائم التي يرتكبها الفرد لحساب دولته فهي إما أن تقع بتشجيع دولته ورضائها أو بناء على طلبها وهذه الجرائم هي الجرائم ضد السلام والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب.
وهذه الطائفة من الجرائم يبرز فيها الطابع الدولي بصورة واضحة فهي جرائم دولية بطبيعتها باعتبار أن الأفعال المكونة لتلك الجرائم لا يمكن أن ترتكب إلا بناء على خطة مرسومة من دولة ضد رعاياها أو ضد دولة أخرى أو رعايا تلك الدولة، ويرتكب إما عن طريق سلطاتها أو بطلب منها أو بتشجيعها ورضائها وهذه الأفعال تمسُّ في الغالب المصالح الجوهرية للدولة الضحية أو مواطنيها بشكل يهدد السلم والأمن الدوليين.
وتعد الجرائم ضد الإنسانية من أكثر جرائم هذه الطائفة انتشارا قي وقتنا الراهن، إذ تُرتكب في خلال النزاعات المسلحة الدولية والداخلية على حد سواء، كما أنها تُرتكب في أوقات السلم. والضحايا في هذه الجرائم إما أن يكونوا رعايا الدولة التي ترتكب هذه الأفعال أو رعايا دولة أخرى .
لقد مرَّ مفهوم الجرائم ضدَّ الإنسانية بتطورات كثيرة، كان أولها في اتفاقية لاهاي 1907 من خلال شرط “مارتنز” الذي وضع الأساس لتجريم الأفعال التي تشكّل حاليا جرائم ضدَّ الإنسانية، خصوصاً أن الطائفة التي عمل شرط “مارتنز” على حمايتها هي طائفة السكان المدنيين الذين ليسوا طرفاً أساسياً في الحرب.
وينص شرط مارتنز على أنه “حتى صدور منظومة مدونة قانونية كاملة لقوانين الحرب، وفي الحالات التي لا تتضمن القواعد الموضوعية، فإن الدول المتعاقدة ترى الفرصة مناسبة للإعلان بأن السكان المتحاربين يظلون تحت سلطان وحماية مبادئ قوانين الأمم المؤسسة على ما هو مستقر بين الشعوب المتمدنة وقوانين الإنسانية ومقتضيات الضمير العام. وباستعراض النص يلاحظ بأنه يهدف إلى حماية السكان المدنيين الذين يشكلون متطلباً أساسياً من متطلبات الجرائم ضد الإنسانية مقارنة مع بقية النصوص الأخرى التي تعمل على تنظيم الأوضاع بين المتحاربين، إذ وضع النص معياراً يفترض عدم خرقه وإلا ارتكبت جريمة ضد الإنسانية، وهذا المعيار هو القوانين الإنسانية ومقتضيات الضمير العام للإنسانية والمبادئ المستقرة بين الأمم المتمدنة.
ولم تُعرِّف اتفاقية لاهاي القوانين الإنسانية في متنها أو في ملاحقها، كما لم تشر إلى مخالفات أو انتهاكات معينة على أنها جرائم ضد الإنسانية، ولم تنص على أي عقوبات جرمية لمعاقبة مرتكبي هذه الجرائم. ورغم ذلك فإن شرط مارتنز الوارد في الاتفاقية يُعتبر سابقة استرشدت بها الاتفاقيات اللاحقة عند النص على حماية السكان المدنيين . كما لم تتطرق معاهدة فرساي إلى الجرائم ضد الإنسانية بسبب معارضة بعض الدول بقيادة الولايات المتحدة إدراج انتهاك قوانين الإنسانية، وقوانين الحرب ضمن هذه المعاهدة، ولم توافق الولايات المتحدة على استخدام مصطلح الجرائم ضد الإنسانية إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لقد تطور نقاش هذا الأمر في الفترة الأخيرة فخلال اجتماعات اللجنة التحضيرية لمؤتمر روما لم يكن هناك أي خلاف بين الوفود على تضمين الجرائم ضد الإنسانية ضمن الجرائم المعاقب عليها في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ولكن ما أثار خلافاً بين الوفود المشاركة هو الوصول إلى تعريف محدد لهذه الجريمة.وقد تباينت الآراء في المؤتمر حول تعريف الجرائم ضد الإنسانية بسبب عدم وجود اتفاق موحد على تعريفها وكان محور الخلاف يتراوح بين رأيين:
– الرأي الأول: أصرَّ على الأخذ بتعريف أكثر دقة وتفصيلاً من التعريف الذي جاءت به المواثيق السابقة، ذلك أن هذه المحكمة سوف تتعامل مع أوضاع محددة، واختصاص هذه المحكمة هو اختصاص عالمي بعكس المواثيق الأخرى.
– الرأي الثاني: طالب بتعريف واسع يتضمن تعريفاً مفصلاً لهذه الجريمة، وذلك انعكاساً للتطورات الكثيرة التي حصلت في المجتمع الدولي مؤخراً. وفي هذا السياق اقترح مؤيدو هذا الرأي الانتظار لحين انتهاء لجنة القانون الدولي من عملها في مشروع مدونة الجرائم المخلة بسلم الإنسانية وأمنها واقتباس التعريف منها وذلك بسبب عدم وجود تعريف محدد للجرائم ضد الإنسانية بموجب المعاهدات.
وبعد مناقشات طويلة بين الوفود المشاركة، تم الاتفاق على تعريف للجرائم ضد الإنسانية ينص على أن يشكل “أي فعل من الأفعال جريمة ضد الإنسانية عندما يتم ارتكابها في إطار هجومي منهجي أو واسع النطاق والذي يتم توجيهه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين على علم بالهجوم، القتل العمد، الابادة، الاستعباد (الاسترقاق)، النفي أو الإبعاد والنقل ألقسري للسكان، السجن أو الحرمان الشديد من الحرية انتهاكاً للقواعد الأساسية للقانون الدولي، التعذيب، الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الدعارة الإجبارية أو الحمل الإجباري، التعقيم الإجباري أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي من نفس الخطورة، الاضطهاد السياسي أو العنصري أو الوطني أو القومي أو الثقافي لأي فئة أو جماعة محددة كما هو منصوص عليه في الفقرة رقم (3) وأي قواعد أخرى لا يجيزها القانون الدولي ارتباطاً بأي عمل مشار إليه في هذه الفقرة أو أي جريمة يتم ارتكابها وتدخل في اختصاص المحكمة الإجباري أو أي أعمال للإنسانية أخرى من نفس الشكل أو ما شابه والتي تسبب آلاماً أو معاناة شديدة أو إصابة بالغة لسلامة البدن أو العقل .
وقد احتوت هذه المادة على ثلاث فقرات: الفقرة الأولى تتضمن تعداداً للجرائم ضد الإنسانية على نحو ما هو منصوص عليه في المواثيق السابقة، وبشكل خاص المواثيق الأساسية لمحكمتي يوغسلافيا السابقة ورواندا مع توضيح للأوضاع التي ترتكب في إطارها الجرائم ضد الإنسانية، أما الفقرتان الثانية والثالثة فقد تناولتا تعريف بعض المصطلحات الموجودة في الفقرة الأولى بناء على طلب بعض الوفود وأشار بعضها إلى المعايير العامة التي تميّز الجرائم ضد الإنسانية عن الجرائم العادية ذلك منعا لحدوث تداخل بين ولاية هذه المحاكم والمحاكم الوطنية.
أما التطورات التي طرأت على تعريف الجرائم ضد الإنسانية في مؤتمر روما فأهمها :
– وضع هذا التعريف معيارين إذا تحققا فان أي اعتداء على البشر يعتبر جريمة ضد الإنسانية، وهو أن يتم ارتكاب هذه الجريمة ضد السكان المدنيين، وان تكون هذه الاعتداءات جزءاً من اعتداءات واسعة النطاق أو منهجية.كما توسَّع هذا النظام كثيراً في قائمة الجرائم ضد الإنسانية، كما ترك المجال مفتوحاً لإضافة إي جرائم أخرى، وأدى هذا التوسّع إلى إثارة حفيظة بعض الدول المشاركة في المؤتمر فيما يتعلق بتعارض هذه الجرائم مع المعتقدات الدينية أو القانون الوطني لبعض الدول .
-عرَّف النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الجرائم ضد الإنسانية ولم يقتصر على تعداد هذه الجرائم كما فعلت المحاكم السابقة، فأوضح المقصود بالكثير من المصطلحات الواردة في الفقرة الأولى مثل الابادة، الاستعباد، النقل الإجباري للسكان، التعذيب، الحمل الإجباري والاضطهاد.
واللافت أن ثمة تشابها بين الجرائم ضد الإنسانية والجرائم التي تخضع للاختصاص الداخلي لمحاكم الدول من حيث الأركان العامة للجريمة، فالقتل جريمة معاقب عليها في القوانين الداخلية، ومعاقب عليها كجريمة ضد الإنسانية إذا توفر فيها متطلبات معينة، ومعاقب عليها أيضا كجريمة حرب إذا كانت مرتكبة في زمن الحرب. وفي جميع هذه الأحوال لا بد من توفر الأركان القانونية للجريمة: الركن المادي والركن المعنوي والركن الشرعي، كما أن عوامل تحديد المسؤولية لها قد تتشابه أحيانا.
– إن متطلبات الجرائم ضد الإنسانية هي عبارة عن معايير عامة تميّزها عما يشابهها من الجرائم سواء في القوانين الداخلية أم في القانون الدولي، وتكمن أهمية هذه المعايير في منع التداخل بين اختصاص كل من القانون الدولي والقانون الداخلي من جهة ، إذ أنها تدخل الجرائم ضد الإنسانية في نطاق الاختصاص القضائي الدولي، وتزيل التداخل والغموض بين الجرائم ضد الإنسانية وبقية الجرائم الدولية التي تتشابه معها من جهة أخرى مثل جرائم الحرب وجريمة الابادة الجماعية، وفي غياب تحديد هذه المعايير فإن خلطاً والتباسا سوف يكتنف هذه الجرائم. فالمعايير العامة للجرائم ضد الإنسانية هي أربعة :
ـ ارتباط الجرائم ضد الإنسانية بالنزاع المسلح.
ـ ارتباط الجرائم ضد الإنسانية بالهجوم واسع النطاق والمنهجي.
ـ توجيه هذه الجرائم ضد السكان المدنيين.
ـ ارتكاب هذه الجرائم على أساس تمييزي.
إن أهم ما يميز هذه المعايير أن احدها قد يكون ذو أهمية كبيرة في مرحلة معينة أو نزاع معين، وقد يصبح اقل أهمية في نزاع آخر، ويبدو هذا واضحاً من خلال مقارنة تطلب النظام الأساسي لمحكمة يوغسلافيا السابقة ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية في إطار النزاع المسلح، بينما ركَّز النظام الأساسي لمحكمة رواندا على الأسس التمييزية كمعيار لحدوث هذه الجرائم، وهذا التباين في الأسس ـ التي اعتمدت عليها المحكمتان ـ يعود إلى طبيعة كل من النزاعين اللذين نشأت في ظلهما هاتان المحكمتان فالنزاع في رواندا هو نزاع مبني على نزاع طائفي بين أقلية الهوتو وأغلبية التوتسي، بينما أراد النظام الأساسي لمحكمة يوغسلافيا السابقة الإبقاء على الصلات مع القانون الدولي التقليدي ممثلاً بميثاق لندن الذي اشترط ارتكاب الجرائم في إطار النزاع المسلح، ولو أن النظام الأساسي لمحكمة رواندا قد اشترط نفس الشروط لأسفر ذلك بالضرورة عن إفلات مجرمين كثر من العقاب.
لقد انتقل الجدل إلى مرحلة جديدة حيث مضت حوارات روما إلى نقاش أن الجرائم ضد الإنسانية ترتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد السكان المدنيين، ولم يربط هذا النظام الجرائم ضد الإنسانية بالنزاع المسلح وذلك بسبب الخلاف الشديد بين الوفود المشاركة على الإبقاء على هذا الارتباط أو إزالته، وقد دار الجدال أساسا بين فريقين:
– الفريق الأول: أكد على ضرورة وجود نزاع مسلح لارتكاب هذه الجرائم وذهب بعض المؤيدين لهذا الفريق إلى ابعد من ذلك حيث اشترط أن يكون هذا النزاع دولياً. ولتأييد وجهة النظر هذه احتجَّ الفريق بالنص على ذلك في كل من محاكم نورمبرغ وطوكيو ويوغسلافيا السابقة كما احتجَّ بقرار محكمة يوغسلافيا الجنائية الدولية في قضية نيكولنسن، وبأن القانون العرفي لم يتغير بسبب اعتماد صكوك حقوق الإنسان.
– الفريق الثاني: والذي يتكون من أغلبية الوفود المشاركة أكد بأن القانون الدولي التقليدي لا يتطلب النزاع المسلح كمتطلب أساسي للجرائم ضد الإنسانية، وأضاف أن تطلب هذا الارتباط في محاكم نورمبيرغ وطوكيو ويوغسلافيا السابقة يعتبر قيداً على اختصاص هذه المحاكم ولكن إمكانية حدوث الجرائم ضد الإنسانية في الحرب والسلم متساوية، وبرر هذا الفريق موقفه بعدم اشتراط ارتباط الجرائم ضد الإنسانية بالنزاع المسلح في كل من المادة الأولى من اتفاقية الابادة الجماعية وقانون مجلس الرقابة واتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والنظام الأساسي لمحكمة رواندا وقرار محكمة الاستئناف لمحكمة يوغسلافيا السابقة في قضية تادتيش ومشروع المدونة الصادر عن لجنة القانون الدولي وقيل أيضا أن اشتراط ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية بالارتباط مع النزاع المسلح سوف يؤدي إلى خلط الجرائم ضد الإنسانية بجرائم الحرب.
وقد أشارت محكمة رواندا الجنائية الدولية في قضية keyisbema أن جميع من يحافظون على النظام العام ويطبقون القانون بصورة شرعية هم غير مدنيين وكل فرد من أفراد القوات المسلحة التابعة لأحد أطراف النزاع هو مقاتل وكل مقاتل يقع في منطقة العدو هو أسير حرب وجميعهم لا يعتبرون من السكان المدنيين. بينما عرفت السكان المدنيين في قضية akayesu تعريفا موسعا ليشمل الأشخاص الذين لا يشاركون في العمليات العدائية، بما في ذلك أفراد القوات المسلحة الذين استسلموا أو انسحبوا من القتال نتيجة المرض أو الإصابة أو الحجز أو إي سبب آخر.
إن مصطلح السكان المدنيين (civilian population) استخدم في تعريف الجرائم ضد الإنسانية للدلالة على أن هذه الجرائم ترتكب ضد المدنيين وليس ضد الإنسانية بحيث لا تقتصر على ضحية واحدة فقط فما هو مدى أهمية احتواء تعريف الجرائم ضد الإنسانية على هذا الاصطلاح,ولقد تمّت الإشارة إلى هذا المتطلب بطريقتين:
الأولى: بشكل مباشر حيث نصّت النظم الأساسية لمحكمة رواندا الجنائية الدولية والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ومشروع مدونة الجرائم المخلة بسلم الإنسانية وأمنها على أن الجرائم ضد الإنسانية يجب أن ترتكب في إطار هجوم منهجي وواسع النطاق. والثانية: بشكل غير مباشر حيث نصَّ مشروع مدونة الجرائم المخلة بسلم الإنسانية وأمنها لعام 1954 على أن الجرائم ضد الإنسانية ترتكب من قبل سلطات الدولة أو من قبل فئة خاصة من الأفراد تعمل لحساب هذه السلطات ونص النظام الأساسي لمحكمة طوكيو بان القادة والمنظمين والباحثين والمشاركين في صياغة خطة معروفة يكونون مسؤولين عن الأعمال التي ترتكب من أي شخص تنفيذا لهذه الخطة.
ثانيا: فكرة المحاكم الجنائية الدولية
لا يعتبر القضاء الجنائي الدولي حديث العهد ولو بصوره البدائية، إذ تعود جذوره إلى عصور تاريخية قديمة، وفي هذا الصدد يذهب العديد من الباحثين إلى إنَ أولى تطبيقات القضاء الجنائي الدولي تعود إلى التاريخ المصري القديم حيث الاعتقاد بأن ظهوره كان سنة 1286 قبل الميلاد الذي شكل علامة فارقة لبداية ما يمكن ان يسمى العدالة الدولية، ونرى كذلك محاكمة ملك بابل نبوخذنصر لملك يودا المهزوم سيد بيترياس، كما جرت محاكمتان إحداهما لـ (Cnradin Von Hohenstafen ) في نابولي عام 1268 والأخرى لمحاكمة ارشيدوق النمساSire Pierre de Hagenbach) ) في إقليم الراين حيث تمّت محاكمته وإصدار الحكم علية بالإعدام. ولذلك أخذت فكرة إنشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب تبرز بين أوساط القانونيين في المجتمع، ولكن يلاحظ بان فكره معاقبة مجرمي الحرب ووضع آليه لعقاب منتهكي القانون الدولي الإنساني بدأت بمبادرات فردية أكثر منها رؤى حكومات ودول، ودفعت بها جماعات ومنظمات غير حكوميه لتصبح ابرز انجازات القرن.
فقد نادى ، غوستاف مونييه ،احد مؤسسي اللجنة الدولية للصليب الأحمر عام 1872 أي بعد صدور اتفاقيه جنيف لعام 1864 الخاصة بمعالجة جرحى الحرب، بضرورة إنشاء واستحداث محكمة جنائية دولية لمنع مخالفات الاتفاقية والمعاقبة عليها، وتقدم بمشروعه إلى اللجنة الدولية لغوث العسكريين الجرحى واقترح أن تضم المحكمة ممثلا عن كل طرف من الطرفين المتحاربين وثلاثة ممثلين عن الدول المحايدة ينتخبون بالقرعة، وبيَّن في مقترحه بأن المحكمة لا تنظر في قضية ما من تلقاء نفسها بل تنتظر رفع دعوى من قبل دولة متحاربة، أما تنفيذ الحكم فانه يقع على عاتق ألدوله التي صدر الحكم ضد احد رعاياها. ويلاحظ بأن، المقترحات التي تقدم بها غوستاف مونييه قد ظلت حبرا على ورق ولم ترَّ النور رغم كل الجهود التي بذلها.
ومن خلال ما تقدم عرضه من الجهود والمحاولات الرامية إلى إنشاء قضاء جنائي دولي، وعلى الرغم من إنشاء عدد من المحاكمات الدولية التي سبقت الحرب العالمية الأولى، إلا أنَ ثمة الكثير من الفقهاء والباحثين في إطار القانون الدولي يرون بأن فكرة إنشاء محكمه جنائية دوليه تعود إلى الحرب العالمية الأولى. .
ثالثا: مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى
بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها وراح ضحيتها ما يقارب العشرين مليون شخص؛ شعر العالم بحاجة ماسة إلى ضرورة إيجاد قواعد قانونية ملزمة واتخاذ إجراءات جديدة تحول دون وقوع حرب عالمية أخرى، وكذلك بهدف وضع حد لتصرفات الأشخاص والدول التي تهدد السلم والأمن الدوليين، وفرض الجزاء الجنائي بدلاً من الجزاء المدني على مجرمي الحرب.
فقد عرف المجتمع الدولي الحاجة إلى وجود محكمة من نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وجاء ذلك على اثر تطور الحس الجماعي الدولي بخطورة ترك بعض الأعمال المرتكبة زمن النزاعات المسلحة بدون تحريم وملاحقة ومعاقبة من
يقترفها، لذلك تمخّض عن هذه الدعوات لإنشاء محكمة جنائية دولية عدة تطبيقات لها، منها ما جاء في معاهدة فرساي بشان تشكيل محكمة جنائية دولية لمحاكمة الإمبراطور الألماني السابق غليوم الثاني، وكذلك ما جاء به عهد عصبة الأمم في المادة (14) منه، وكذلك ما جاءت به اتفاقيتا 16 / 11 /1937.
1 – معاهدة فرساي عام 1919
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وما خلفته من ضحايا وانتهاكات فاضحة للمعاهدات الدولية والأعراف من قبل القوات الألمانية، شعر المجتمع الدولي بالحاجة الماسّة إلى إيجاد قواعد وإجراءات قانونية تحول دون وقوع حرب عالمية أخرى، ولذلك تعالت الأصوات التي تدعو إلى إنشاء محكمة جنائية دولية لمعاقبة مجرمي الحرب.
اثر ذلك اتجه المنتصرون في الحرب إلى إنشاء لجان تحقيقية مهمتها إثبات مخالفات قوانين وأعراف الحرب ومعاقبة مجرمي الحرب الألمان عن الجرائم التي ارتكبوها وكان من هذه اللجان، لجنة تحديد مسؤوليات مبتدئي الحرب ومعاقبة مجرمي الحرب الألمان. ولذلك جاءت معاهدة فرساي لعام 1919، لتنص في المادة (227) منها على تحميل الإمبراطور الألماني غليوم الثاني المسؤولية الجنائية الدولية. وإحالته إلى الحلفاء لمحاكمته طبقاً لأسمى بواعث السياسة الدولية عن جريمة عظمى ضد الأخلاق الدولية وقدسية المعاهدات. ولكن الظروف السياسية حالت دون أن تلقى المبادئ التي قررتها معاهدة فرساي التطبيق الصحيح، إذ إن جريمة شن الحرب التي اتهم بها إمبراطور ألمانيا لم تجر بشأنها محاكمة. لأنَ الإمبراطور غليوم قد حصل على حق اللجوء السياسي في هولندا، ورفضت الحكومة الهولندية تسليمه حتى توفى عام 1941. وهنا يمكن القول بان هنالك عدة اعتبارات أثرت في قرار هولندا وهي تدخل البابا لمصلحة الإمبراطور الألماني ومعارضة الوفد الأمريكي والياباني باعتبار أنَ الرؤساء في حال ارتكابهم جرائم، يجب أن يحاكموا أمام شعوبهم فقط .
وعلى الرغم من أن الحلفاء طلبوا تسليم الإمبراطور الألماني. إلا أنَ حكومة هولندا أصرّت على حقها في منح اللجوء للاجئين السياسيين. وهو اتجاه رحَّبت به الدول المنتصرة.
2 – عصبة الأمم ومحاولات إنشاء محكمة دولية
نصَّ عهد العصبة الذي أصبحت نصوصه سارية المفعول بتاريخ 10/12 /1920، على وجوب صيانة السلم العالمي والتزام الدول باللجوء إلى الطرق السلمية لحل نزاعاتها وتوقيع العقاب على الدول المعتدية. وخلال هذه الفترة أثير موضوع إنشاء محكمة جنائية دولية من جديد، فقد نصَّت المادة (14) من عهد العصبة على أن يتولى مجلس ألعصبه مشروع إنشاء محكمة العدل الدولية الدائمة وعرضه على الدول الأعضاء، وبموجب ذلك تألفت لجنة استشارية من قبل مجلس العصبة تأخذ على عاتقها مهمة تقديم المشروع لتأسيس المحكمة.
وفي الوقت الذي قُدِّم فيه هذا المشروع، قُدِّم مشروع آخر بتأسيس محكمة عليا خاصة بمحاكمة الأشخاص الذين يرتكبون جرائم دولية أو أعمال تهدد السلم و الأمن الدوليين، والى جانب هذا المشروع قدم مشروع أخر يقضي بعدم إنشاء محكمة مستقلة بمحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم دولية، وإنما بتأسيس شعبة جنائية خاصة لهذا الغرض تعمل ضمن نطاق محكمة العدل الدولية الدائمة. ،ولكن لم يكتب لأي من هذين المشروعين الأخيرين النجاح، ذلك لأن الرأي السائد آنذاك كان يقضي بأن مشروع تأسيس محكمة دولية جنائية لا يمكن أن يكتب له النجاح، ما لم يسبق ذلك اتفاق بين الدول على القانون الواجب تطبيقه، ولذلك وافقت الجمعية العمومية على المشروع الأول وهو إنشاء محكمة العدل الدولية الدائمة.
3 – اتفاقيتا 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1937
في سنة 1937 تقدم الوفد الفرنسي باقتراح إلى عصبة الأمم يدعو إلى ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة لمنع قيام الأعمال الإرهابية وضرورة معاقبة مرتكبيها من قبل محكمة جنائية دولية. ؛ وجاء هذا الاقتراح كرد فعل للأعمال الإرهابية التي أودت بحياة ملك يوغسلافيا الملك السكندر، وكرد فعل ضد الأعمال الإرهابية التي ارتكبت ضد وزير الخارجية الفرنسي المسيو باترو في مرسيليا في تشرين الأول/ اوكتوبر 1934.
وعلى اثر هذا الاقتراح وجهت الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي في 16تشرين الثاني/نوفمبر يتم بمقتضاه الالتزام بتحديد معنى عبارة (أعمال ألإرهاب) ومن ثم اعتبارها أعمالا جنائية تستحق العقاب. وخلال هذا المؤتمر تم الأتفاق على تحديد أعمال الإرهاب في المادة الأولى من المعاهدة. كما جاءت المادتان الثانية والثالثة لتتناولا أنواع الجرائم التي تعتبر من قبيل الأعمال الإرهابية.
وفي نفس اليوم الذي عقد فيه المؤتمر الأول الخاص بتعريف أعمال الإرهاب، عقد مؤتمراً ثانياً من اجل إيجاد صيغة قانونية لمحاكمة المتهمين بالجرائم التي حددها المؤتمر الأول، لذلك جاءت المادة الأولى من الاتفاقية الثانية التي تتكون من ستة وأربعين مادة، لتنص على ضرورة إنشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة المتهمين بالجرائم التي حددها المؤتمر الأول.
أما المادة الثالثة من هذه الاتفاقية، فقد نصت على أن تكون المحكمة الجنائية الدولية المراد تكوينها، محكمة دائمة،على أن تُدعى إلى الاجتماع كلما رفعت إليها دعاوى تدخل ضمن اختصاصها.
ولكن يلاحظ بأن الجهود الكبيرة التي بذلها المؤتمرون في هذين المؤتمرين لم تلق النجاح على الصعيد العملي، حيث لم يكتب النجاح لأي من الاتفاقيتين أن توضع موضع التنفيذ على الصعيد العملي، ذلك لعدم التصديق عليها، وكذلك لنشوب الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من ذلك، فإن هاتين الاتفاقيتين تبقيان بحق من الاتفاقيات التي ساهمت في تطور مفهوم المسؤولية الجنائية الدولية، واعتبرتا فيما بعد من السوابق المهمة التي خدمت تطور القانون الدولي.
رابعا: بعد الحرب العالمية الثانية
شهد العالم خلال فتره انتهاء الحرب العالمية الثانية تطورات عدة تتعلق بإنشاء المحاكم الجنائية الدولية، إذ تمَّ تشكيل عدّة محاكم جنائية دولية تختلف من حيث طبيعتها وإنشائها، فبعضها قد تمَّ تشكيلها من قبل الحلفاء المنتصرين، وهي محكمة نورمبرغ عام 1945 ومحكمة طوكيو عام 1946، وكذلك المحاكم ألمشكله من قبل مجلس الأمن والتي تشمل محكمة يوغسلافيا السابقة عام 1993، ومحكمة رواندا عام 1994.
وعلى الرغم من أن المحاكم الدولية التي شكلها الحلفاء تختلف عن المحاكم الدولية المشكلة من قبل مجلس الأمن من حيث طريقة إنشاءها، إذ أن كلاً من محكمة نورمبرغ ومحكمة طوكيو قد تمّ تشكيلهما باتفاق بين الدول المتحالفة المنتصرة خلال الحرب العالمية الثانية، في حين نشأت كلاٌ من محكمة يوغسلافيا السابقة ومحكمة رواندا بقرار من مجلس الأمن ، إلا انه يلاحظ على هذه المحاكم السابقة أنها محاكم مؤقتة وليست دائمة، ولذلك جاءت فكرة المحكمة الجنائية الدولية الدائمة والتي تمَّ وضعها موضع التنفيذ من خلال إقرار نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية الدائمة ودخوله حيز التنفيذ عام 2002.
1 – المحاكم الدولية المؤقتة
بداية يمكن القول بأن المجتمع الدولي قد عرف نوعين من المحاكم المؤقتة، فكان للمنتصرين بعد الحرب العالمية الثانية إن شكلوا محاكم لتتبع الخارجين عن أحكام القانون الدولي، ثم تكفل مجلس الأمن بتكوين محاكم جنائية دولية خاصة لنفس الغرض.
ا – محكمتي نورمبرغ وطوكيو
على الرغم من إبرام العديد من معاهدات السلام بعد الحرب العالمية الأولى كمعاهدة فرساي عام 1919، إلا إنها لم تنجح في ترسيخ السلام على ركائز ثابتة ومتينة، ولم تستطع عصبة الأمم وقف التدهور الحاصل على المستوى الدولي والإخلال بالسلم العالمي، لذلك باتت التصريحات الصادرة من المسؤولين تشكل أساسا جديدا للمسؤولية عن الجرائم الدولية خاصة في وقت الحرب.
ففي 25 تشرين الأول /أكتوبر1941 اعتبر الرئيس الأمريكي روزفلت ” بأن الإرهاب والترويع لا يمكن أن يجلب السلام إلى دول أوروبا، انه لا يفعل شيئاً سوى بث الحقد الذي سيؤدي يوما ما إلى قصاص رهيب ” وفي الوقت نفسه صرح رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل ” بأن الجزاء على الجرائم المرتكبة يعد من الآن من المقاصد الرئيسية للحرب”.
وفي 13/1/1943 أكد تصريح سان جيمس بالاس والصادر عن تسع دول أوروبية. بان هذه الدول تضع من بين أهدافها ومقاصدها ضرورة توقيع العقاب من خلال قنوات عادلة ومنظمة على المجرمين و المسؤولين عن جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية سواء أمروا بها أو نفذوها أو ساهموا في ارتكابها.
وبمقتضى هذا التصريح فقد تمَّ تشكيل لجنة خاصة للنظر في جرائم الحرب المرتكبة وتتكون هذه اللجنة من ( 17) دولة ممثلة بأعضاء عنها. وقد أطلق على هذه اللجنة (لجنة الأمم ألمتحدة لجرائم الحرب).
ومن ابرز التصريحات التي صدرت خلال هذه الفترة هو تصريح موسكو في30/ تشرين الأول/ اكتوبر عام 1943 الصادر عن الرؤساء (روزفلت – تشرشل – ستالين). فقد أرسى هذا التصريح قواعد أكثر تحديدا في مجال المسؤولية الجنائية الدولية ومحاكمة المجرمين بشكل حاسم، إذ بموجبه – أي التصريح- يجب أن تطال المحاكمة كل من ارتكب جريمة دولية أو جرائم ضد الإنسانية .
وبعد استسلام ألمانيا، ثم اليابان، اختلف الحلفاء فيما بينهم بشان مرتكبي الحرب، فكان رأي البعض منهم عدم الالتجاء إلى المحكمة والاكتفاء بإصدار قرار مشترك يقضي بأن مجرمي الحرب يعتبرون خارجين عن القانون، بيد أن البعض الأخر قد ذهب مذهبا عكسيا تماما ينادي بوجوب إجراء محكمة عسكرية وعادلة، وهو الرأي الذي خلص إليه المجتمعون وتبناه مؤتمر لندن الذي كان منعقدا في تلك الأثناء، وتمخضت اجتماعاته عن عقد اتفاقية (لندن) الشهيرة في 8/8/1945.
وبمقتضى هذه الاتفاقية التي تتكون من سبع مواد قانونية، فقد تمَّ إنشاء محكمة عسكرية دولية عليا لمحاكمة مجرمي الحرب، والحق باتفاقية لندن السابقة نظام المحكمة العسكرية المسمى بنظام محكمة نورمبرغ.
وقد عقدت هذه المحكمة جلساتها في مدينة نورمبرغ الألمانية الجنوبية والتي كانت المركز الرئيس للحزب النازي، وحكمت هذه المحكمة بالإعدام على عدد من القادة النازيين الألمان، أمثال المارشال هرمان، وفون وينشيروب، والفرد روزنبرغ، وغيرهم من القادة والزعماء الألمان الذين كانوا مسؤولين عن سلسلة من المذابح وأعمال القتل الجماعي. ومن الجير بالذكر القول هنا بأن أخر سجين نازي أمام هذه المحكمة قد انتحر وهو(رودولف هس) عام 1987.
أما فيما يتعلق باليابان فبتاريخ 19/1/1946 أصدر القائد العام لقوات الحلفاء في اليابان قرارا بإنشاء محكمة عسكرية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب اليابانيين عن الجرائم والمجازر التي ارتكبوها وقد أطلق على هذه المحكمة (محكمة طوكيو) لانعقادها في مدينة طوكيو في اليابان.
وقد تمَّ إصدار قرار إنشاء المحكمة استنادا إلى ما تمَّ الاتفاق علية في مؤتمر بوتسدام بين ترومان وستالين وتشرشل بشان محاكمة مجرمي الحرب.
وتختص هذه المحكمة بالنظر في الجرائم ضد السلام والجرائم ضد الإنسانية وكذلك جرائم معاهدات الحرب وهي مخالفات قوانين وأعراف الحرب. وقد أصدرت هذه المحكمة في 12/11/1948 عده أحكام منها (6) أحكام بالإعدام. ولذلك انتهت هاتان المحكمتان بانتهاء مهمتيهما المؤقتة. ولنا أن نثير تساؤلاً مضمونه” ما هو واقع هاتين المحكمتين ؟”. بتعبير آخر “هل إن إنشاء هاتين المحكمتين قد تم لتستكمل به الدول المنتصرة انتصارها ضد الدول المهزومة أم إن إنشاءهما لاعتبارات قانونية وإنسانية تقوم على الردع وتحقيق العدالة ؟”
للإجابة على هذا التساؤل نقول بأن هاتين المحكمتين كانتا من قبيل إخضاع الدول المنهزمة في الحرب لإرادة الدول المنتصرة، فهي من باب الثأر ادخل بها في باب المحاكمات القانونية العادلة. فعلى الرغم من الجرائم التي تمَّ ارتكابها من قبل القوات الألمانية واليابانية، إلا انه في نفس الوقت يمكن القول بأن اليابان قد أصابها ضرر بالغ لم يلحق بدولة أخرى، فقد هاجمتها الولايات المتحدة الأمريكية بقنبلة ذرية على مدينة هيروشيما في 6/8/1945، حيث قضت على (180) ألف نسمة من مجموع (340) ألف نسمة ( أي أكثر من نصف سكان المدينة)، وكذلك شنَّ الإتحاد السوفيتي (سابقا) حربا على اليابان ودخلت القوات السوفيتية منشوريا وكوريا، وفي 9/8/1945 أسقطت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلة ذرية ثانية على مدينة ناغازاكي حيث أودت بحياة (8)آلاف ياباني.
وعلى الرغم من فداحة الجرائم التي ارتكبتها الجيوش والقادة لدول الحلفاء، إلا انه لم تشكل أية محكمة لمحاكمة مجرمي الحرب الأمريكيين آو البريطانيين أو الفرنسيين عن الجرائم التي ارتكبوها سواء في ألمانيا أم في اليابان.
ولذلك وُجِّهت إلى هاتين المحكمتين العديد من الانتقادات، وكان من أبرزها هو مخالفتيهما لمبدأ احترام قانونية الجرائم والعقوبات.
إذ أن نظام هاتين المحكمتين قد جاء بقواعد قانونية لم تكن موجودة أو مقننة وقت ارتكاب الجرائم. وما يؤخذ عليهما أيضا هو مخالفتهما لمبدأ عدم رجعية القوانين الجنائية مما يعد خرقا واضحا لقواعد القانون الدولي الجنائي المتعارف عليها.
لذلك نلاحظ بان هذه المحاكم قد جاءت بالشكل المرغوب به والمطلوب من الدول المنتصرة ضد الدول المنهزمة، فهي أرادت تحقيق رغبات الدول المنتصرة أولا، ثم بعد ذلك ينظر إلى الناحية الإنسانية والقانونية والدولية.
وهنا يلاحظ بان هاتين المحكمتين ” قد ظلتا مطبوعتين بطابع مصدرهما ويغلب عليهما الطابع السياسي وعدم الحياد، وشكلتا بالأحرى تطبيقا لقانون المنتصر وعدالته أكثر منه تطبيقا لقانون مجتمع الأمم العالمي”.
ولكن يلاحظ على الرغم من الانتقادات الموجهة لمحكمتي نورمبرغ وطوكيو . إلا إنهما اتخذتا أساسا لإنشاء قضاء جنائي دولي، إذ لا بد من الاعتراف لهذه المحاكمات إرساؤها مبدأ مسؤولية الأفراد الجنائية في القانون الدولي، بالإضافة إلى إلغائها مبدأ واجب الطاعة لأوامر الرؤساء عندما تكون هذه الأخيرة مخالفة لقواعد القانون الدولي.
وعلى اثر ذلك دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة لجنة القانون الدولي. إلى إعداد مشروع يحدد الأعمال التي تعد في نظر فقه القانون جرائم مخلة بسلم الإنسانية وأمنها، فقد كلفت الجمعية العامة بقرارها رقم 177 بتاريخ 21/11/1947 لجنة القانون الدولي بصياغة مبادئ القانون الدولي المعترف بها في النظام الأساسي لمحكمة نورمبرغ وفي الحكم الصادر عن هذه المحكمة.
ب : المحاكم الجنائية الدولية المشكلة من قبل مجلس الأمن Ad Hoc
” اعتقد الكثيرون من دون شك إن الفظائع التي ارتكبت خلال الحرب العالمية الثانية – المخيمات الوحشية، الإبادة، والمحارق – لا يعقل أن تحصل مجددا، لكنها، رغم ذلك حصلت في كمبوديا وفي البوسنة والهرسك وفي رواندا، لقد اظهر لنا هذا الزمان، بل هذا العقد إن قدرة الإنسان على فعل الشر لا حدود لها” هذا ما ذكره الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان في كلمته عند إقرار النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية .
فما حصل من مآسي ومجازر بعد تفكك يوغسلافيا في البوسنة والهرسك والمجازر التي شهدتها رواندا في أفريقيا اثر خلاف عرقي، كل ذلك أشعل الفتيل من جديد محركاً الدعوات إلى ضرورة إنشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب، وانتهى الأمر إلى إنشاء محاكم جنائية دولية مؤقتة استنادا إلى قرارات مجلس الأمن الدولي لعام 1993/1994، خصصت لمحاكمة مجرمي الحرب في تلك الدول.
1 – المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة
كان للأحداث الدولية الدامية التي حدثت بعد انهيار جمهورية يوغسلافيا السابقة وما جرى فيها من أحداث وفظائع يندى لها جبين الإنسانية، وما ارتكبت من جرائم التطهير العرقي، والتي كانت هدف الحرب وليس نتيجتها غير المقصودة، بالإضافة إلى أعمال العنف التي اتخذت عدة أشكال منها الإبادة الجماعية والاغتصاب المنظم والمجازر والتعذيب وإبعاد المدنيين الجماعي.
أدى كل ذلك إلى أن ينهض مجلس الأمن بمسؤوليته باعتباره حارسا على امن الإنسانية وسلمها كرد فعل للانتهاكات الصارخة للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان التي ارتكبت في أراضي يوغسلافيا السابقة، وتمثل دوره من خلال إصدار العديد من القرارات التي تتعلق بالحالة في يوغسلافيا السابقة باعتبارها تمثل تهديدا للسلم والأمن الدوليين.
واستنادا إلى التقارير المرفوعة إلى مجلس الأمن والتي تقرر وجود ممارسات بشعة وانتهاكات للقانون الدولي الإنساني. فإن مجلس الأمن اخذ ذلك بنظر الاعتبار واصدر قراره المرقم 808 في 22/2 /1993 القاضي بإحداث محكمة جنائية دولية لمحاكمة المتهمين المسؤولين عن الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني المرتكبة في أراضي يوغسلافيا السابقة منذ عام 1991.
وبموجب هذا القرار فقد تمَّ تكليف الأمين العام للأمم المتحدة بإعداد مشروع النظام الأساسي للمحكمة حيث اعتمده المجلس بقراره الرقم 827 في 25/5/1993، وقد أجريت العديد من التعديلات على النظام الأساسي لهذه المحكمة.
ففي تشرين الثاني/ نوفمبر2000 عدَّل مجلس الأمن النظام الأساسي للمحكمة لتوفير مجموعة مؤلفة من (27) قاضيا يمكن لهم أن يساعدوا القضاة الدائمين والبالغ عددهم (16) قاضيا. وفي إطار هذه المحكمة المؤقتة، يُثار التساؤل التالي:ما هو الواقع الفعلي لوجود المحكمة ؟ للإجابة على هذا السؤال نقول إنه على الرغم من أن النصوص الشكلية للمحكمة الدولية كانت أكثر تطورا في مثل هذه الحالات، فقد فرضت الظروف السياسية أن تخصص المحكمة فقط ليوغسلافيا السابقة، فهي محكمة مؤقتة ويعود السبب في ذلك التخصص من خوف الدول وبالذات المسيطرة على مجلس الأمن من أن يكون وجود المحكمة مبررا لتقديم قضايا تمس دولاً غير مرغوب في إدانتها.
فالمحكمة الدولية كانت ذات طابع سياسي، وسبب ذلك يعود إلى إن إنشاءها تم من قبل هيئة سياسية وهو مجلس الأمن، والذي يعتمد في قراراته على تقديرات سياسية محكومة بمصالح الدول المؤثرة فيه.
فبعد أن شنَّت قوات الناتو الحرب بقيادة الولايات المتحدة على يوغسلافيا، فإن المحكمة الدولية كثّفت نشاطها بشكل متصاعد، وتحوّلت المحكمة إلى تابع لحلف الأطلسي لتنفيذ ما يخطط لها، واتضح ذلك بشكل خاص بعد أن تمَّ توقيع اتفاقية التعاون بين الناتو والمحكمة في عام 1996، وأصبحت المحكمة بالنسبة إلى الناتو سلاحاً للتدخل في الشؤون الداخلية لدول البلقان. ويلاحظ على هذه المحكمة بأن الأحكام التي صدرت على بعض المتهمين أمامها، كانت العقوبات فيها لا تتناسب مع ما جاءت لتعاقب علية من جرائم.
ومن ناحية أخرى فإنه على الرغم من الانتهاكات التي ارتكبت من قبل حلف الناتو أثناء الحملة الجوية على يوغسلافيا عام 1998، إلا أن المحكمة الدولية لم تلفت النظر لمثل هذه الانتهاكات، والكوارث (حيث اخذ المدعي العام للمحكمة بتوصية غير ملزمة أصلا للجنة التحقيق التي كان قد شكلها في 14/5/1999 بعدم تحريك دعوى بسبب – عدم الوضوح في القانون – رغم وقوع العديد من الانتهاكات لقواعد القانون الدولي الإنساني وقواعد قانون النزاعات المسلحة، والتي جاءت هذه المحكمة لملاحقة مرتكبيها في هذه المنطقة من العالم).
2- المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا
كان للمجازر التي شهدتها رواندا في أفريقيا اثر خلاف عرقي وما جرى فيها من العديد من جرائم القتل والتنكيل الجماعي التي ارتكبت من قبل (الهوتو) عام 1994، والتي حصدت أرواح أكثر من مليون ونصف المليون شخص من قبائل (التوتسي والهوتو).
دفع كل ذلك حكومة رواندا أن تلجا إلى مجلس الأمن الذي كان قد شكل لجنة من الخبراء للتحقيق في الجرائم المرتكبة في رواندا عام 1994 بموجب قراره المرقم (935) عام 1994. واستنادا لما تقدم فان مجلس الأمن اصدر قراره المرقم (955) في 18/11/1994 مستندا في ذلك بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم ألمتحدة باعتبار إن الحالة في رواندا تشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين.
ويقضي القرار بإنشاء محكمة جنائية دولية خاصة، للنظر في جرائم ضد الإنسانية، وجريمة إبادة الجنس البشري، وكذلك خرق المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع والمتعلقة بتامين المعاملة الإنسانية لغير المقاتلين النظاميين، إضافة إلى أحكام البروتوكول الثاني الخاص بالنزاعات المسلحة غير الدولية لعام 1977.
وضمن إطار هذه المحكمة يلاحظ بأنه على الرغم من الميزانية الكبيرة المخصصة لهذه المحكمة التي تضم (16) قاضيا و(800) من العاملين، إلا أنها – أي المحكمة – لم تحاكم إلا مجموعة قليلة من المتهمين، فحتى نهاية آذار عام 2003 أصدرت هذه المحكمة (10)أحكام تتراوح بين السجن مدى الحياة وبين البراءة.
كما يلاحظ بأن النظام الأساسي الخاص لهذه المحكمة قد استند على الأسس نفسها التي استند عليها النظام الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة من حيث اعتماد نظامها على ميثاق محكمة نورمبرغ وكذلك المشروع الذي اعتمدته لجنة القانون الدولي حول الجرائم الماسة بأمن الإنسانية والتي من أهم أحكامها المسؤولية الفردية الجنائية، وعدم حصانه رؤساء الدول من المسؤولية وعدم جواز الدفع بصدور أوامر من الرؤساء لارتكابه جريمة، وعدم الحكم بعقوبة الإعدام على المتهمين الذين تثبت مسؤوليتهم.
3 – المحاكم المختلطة
ثمة عدة سوابق في هذا المجال،كان أخرها المحكمة المختلطة في كمبوديا الخاصة بمحاكمة الجرائم المنسوبة إلى الخمير الحمر إبان الحرب الأهلية الكمبودية بين الأعوام 1975و1979،وقد صدر قرار عن الأمم المتحدة بتاريخ 13/5/2003 يتضمن الموافقة على الاتفاق الموقع بينها والحكمومة الكمبودية على شكل المحكمة وما يتعلق بها من إجراءات ونصَّ الاتفاق على إنشاء غرفة قضائية أولية غير عادية، مؤلفة من ثلاثة قضاة كمبوديين يعينون بقرار من مجلس القضاء الأعلى الكمبودي ومن قاضيين دوليين،وكذلك إنشاء محكمة عليا تنظر كمحكمة استئناف وكمرجع أخير وتعتبر غرفة من غرف محكمة التمييّز وتتشكل من أربعة قضاة كمبوديين يعينون أيضا من قبل مجلس القضاء الأعلى ومن ثلاثة قضاة أجانب. ويعهد إلى هذا القضاء الخاص أمر محاكمة ومنها جرائم الإرهاب. وتوكل مهمات الملاحقة الجزائية والاتهام أمام هذا القضاء إلى هيئة اتهامية مختلطة مؤلفة من نائب عام كمبودي ومن نائب عام دولي يختاره مجلس القضاء الأعلى الكمبودي من بين لائحة مؤلفة من شخصيتين متخصصتين يرفعها الأمين العام للأمم المتحدة إلى الحكومة الكمبودية.كما أن تعيين القضاة الأجانب يتمّ من قبل المجلس ألعدلي الكمبودي بناء على لائحة مقدمة من الأمين العام للأمم المتحدة،واللافت في هذه المحاكم صدور القرارات بالإجماع في المستويين وإذا تعذر بالغالبية شرط وجود قاض دولي بين المؤيدين على الحكم ضمانا للعدالة والصدقية.إضافة إلى أن الإجراءات ستتبع قانون العقوبات الكمبودي مع إجراء بعض التعديلات عليه بما يتوافق مع بعض معايير المحاكمات الدولية كعدم الأخذ بأي حصانة قضائية أو أي عفو عام أو خاص.
والسابقة الأخرى المحكمة المختلطة في سيراليون وفقا لقرار مجلس الأمن 1315 تاريخ 14/7/2000 ،وقد أنشأت في العام 2002 مؤلفة من قضاة سيراليونيين ودوليين للنظر بالجرائم الخطيرة التي حدثت في العام 1996،مع ملاحظة بعض التعديلات أيضا على القوانين الوطنية بما تتوافق والمعايير الدولية لإجراءات المحاكمة والأحكام.
أما السابقة الثالثة فهي المحكمة الخاصة المختلطة في تيمور الشرقية المنشأة بقرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1272 تاريخ 25/11/ 1999 الذي وضع تيمور تحت إدارة انتقالية تابعة للأمم المتحدة،بهدف محاكمة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة منذ العام 1975 ،وعمدت الأمم المتحدة على إنشاء قضاء خاص تألف من قضاة وطنيين ومن ممثلين متخصصين للأمم المتحدة تم تعيينهم من قبلها، والذي ينظم هذا القضاء وفقا لقواعد القانون الدولي التي تحكم المحاكمات العادلة والنزيهة والمنصوص عليها خصوصا في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية .
خامسا: المحكمة الجنائية الدولية الدائمة
على الرغم من إنشاء عدد من المحاكم الجنائية الدولية خلال فتره ما بعد الحرب العالمية الثانية ، إلا أن هذه المحاكم التي بلغ عددها خمسة محاكم دولية، كانت جميعها مؤقتة، وهو ما يعكس الوضع الدولي الذي لا يزال يشكو نقصاً فادحاً في العدالة والنزاهة، وهذا ما جعل مشروع المحكمة الجنائية الدولية يتعثر في كل مرة يحاول فيها القيام، وسنلاحظ بأن الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت تؤجل في كل مرة البتَّ في مشروع المحكمة الجنائية الدولية الدائمة متذرعة بعدم تعريف (العدوان). ولكن يلاحظ بأنه على الرغم من إن الجمعية العامة أصدرت قرارا رقم 3314 في14/12/1974 والذي يقضي بتعريف (العدوان) إلا انه يلاحظ بأن مشروع المحكمة الجنائية الدولية لم يرَّ النور إلا في 17تموز/يوليو 1998 ذلك على اثر انتهاء المؤتمر الدبلوماسي الدولي للمفوضين في مقر منظمة الأمم ألمتحدة للأغذية والزراعة في روما المنعقد في الفترة من 15حزيران / يونيو 1998حتى 17 تموز / يوليو 1998. ليعلن بذلك عن ولادة ما يسمى بـ (نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية(ROME STATUTE OF INTERNATIONAL CRIMINAL COURT ) في 17/7/1998.
وفي إطار هذا الموضوع يُثار التساؤل حول كيفية وصول المجتمع الدولي إلى إقرار اتفاقية روما بشأن إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ؟للإجابة على هذا السؤال، فان ذلك يستلزم الوقوف على بدايات طرح مشروع إنشاء المحكمة باعتبار أن هذا المشروع قد تم تناوله ضمن إطار جديد وهو إطار الأمم ألمتحدة، وهو ما سيتم تناوله في الأتي:
1 – بداية المشروع
بعد أن تم تأسيس هيئة الأمم ألمتحدة عام 1945، حاز موضوع إنشاء محكمة جنائية دولية على اهتمام الكثير من المهتمين والمعنيين بالشؤون الدولية، وضمن هذا الإطار قدَّم الوفد الفرنسي إلى اللجنة المتخصصة في تطوير القانون الدولي وتقنينه التابعة للجمعية العامة مشروعاً يتضمّن ضرورة إعطاء محكمة العدل الدولية صلاحية النظر في الجرائم التي يرتكبها رؤساء الدول ومجرمو الحرب، وكذلك تضمّن المشروع دعوة لتأسيس محكمة جنائية دولية خاصة تمنح صلاحية النظر في الجرائم ذات الصفة الدولية.
وعلى اثر ذلك أوصت اللجنة السادسة التابعة للجمعية العامة بإحالة الموضوع إلى لجنة القانون الدولي للوقوف على إمكانية إنشاء محكمة جنائية دولية متخصصة بالنظر في جرائم الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم دولية.
وبناءً على ما تقدم أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثالثة القرار رقم 260 في 9/ كانون الأول / يناير 1948 وبموجبه طلبت الجمعية العامة من لجنة القانون الدولي التابعة لها دراسة إمكانية إنشاء جهاز قضائي دولي لمحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة، وبنفس الوقت طلبت الجمعية العامة من اللجنة دراسة إمكانية تأسيس محكمة جنائية دولية ضمن إطار محكمة العدل الدولية.
وقد تضمن قرار الجمعية العامة السابق ذكره نص لاتفاقية (منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها))والتي نصت في مادتها الأولى على ما يلي ( يحاكم الأشخاص المتهمون بارتكاب الإبادة الجماعية آو أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة، أمام محكمة مختصة من محاكم الدولة التي ارتكب الفعل على أراضيها، أو أمام محكمة جنائية دولية تكون ذات اختصاص إزاء من يكون من الأطراف المتعاقدة قد اعترفت بولايتها).
ب ً: تطورات إنشاء المحكمة الجنائية الدولية حتى انعقاد مؤتمر المفوضين في روما
كما أسلفنا أصدرت الجمعية العامة قرارها رقم 260 في 9/12/1948 لتكلف بموجبه لجنة القانون الدولي دراسة مدى إمكانية إنشاء محكمة جنائية دولية، وبناء على هذا التكليف بدأت اللجنة دراستها واجتماعاتها لدراسة هذا الموضوع منذ عام1950.
وقد توجت دراساتها بتقديم تقرير إلى الجمعية العامة أكدت فيه بان تأسيس محكمة جنائية دولية لغرض محاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية أو الجرائم الدولية الأخرى هو أمر مرغوب فيه ويمكن تنفيذه، أما فيما يتعلق بالاقتراح الثاني – إمكانية تأسيس محكمة جنائية دولية ضمن إطار محكمة العدل الدولية ممكن، ولكن بعد تعديل النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، إلا أن اللجنة لا تحبذ هذا المشروع.
وبناءً على ما جاء في تقرير لجنة القانون الدولي بان إنشاء محكمة جنائية دولية أمر ممكن ومرغوب فيه، شكلت الجمعية العامة بموجب قرارها في 12/12/1950 لجنة خاصة تتكون من (17)دوله مهمتها وضع مشروع النظام الأساسي للمحكمة المقترحة.وتجتمع هذه اللجنة في جنيف ابتداءً من 1/8/1951.
وبعد التقارير المقدمة إلى هذه اللجنة. فإنها قد انتهت من وضع مشروع النظام الأساسي للمحكمة المقترحة وقدمته إلى الجمعية العامة لغرض المناقشة أو تقديم الاقتراحات حول هذا الموضوع.
2- الخلافات حول موضوع إنشاء المحكمة الجنائية الدولية
بعد أن تقدمت اللجنة الخاصة بمشروعها إلى الجمعية العامة، تمت مناقشة المشروع في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السابعة عام 1952، وقد قدمت الدول الأعضاء اقتراحاتها وملاحظاتها حول هذا المشروع، وقد انقسمت الآراء حول فكرة إنشاء المحكمة إلى اتجاهين.
الاتجاه الأول، عارض إنشاء محكمة جنائية دولية مستندا على حجج منها:
– إن القضاء الجنائي الوطني يعد أهم معالم السيادة في الدولة، وان إنشاء قضاء جنائي دولي معناه انتهاك للسيادة الوطنية للدول.
– إن إنشاء محكمة في ظل هذه الظروف غير مجد ولا يعود بالنفع في الظرف الدولي الراهن.
– إن وجود هذه المحكمة متعلق بنشوب الحروب، وان استمرارها لا مبرر له، وان المحاكم التي تنشا بسبب ظروف معينه ولهدف محدد تكون عادة أكثر حسماً في الأمور وأكثر هيبة.
أما الاتجاه الثاني، فقد أيد مشروع إنشاء محكمة جنائية دولية مستندا أيضا على الحجج التالية.
– إن مفهوم السيادة بالمعنى التقليدي لا معنى لـه في ظل شبكه العلاقات الدولية، فالعلاقات الدولية أفرزت ظهور تكتلات إقليمية لها تأثيرها على مفهوم السيادة مثل الجماعة الأوربية، وجامعة الدول العربية، وكذلك إن الانضمام إلى منظمة الأمم المتحدة يعني في حد ذاته تنازلا عن فكرة السيادة المطلقة للدولة، بحيث أن عناصر السيادة تقلصت.
– إن محاكمة مجرم أمام محكمة سابقة الوجود على وجود الجريمة أكثر عدلا وأفضل من محاكمة أمام محكمة نشأت بسبب الجريمة، لان قيام المحكمة المسبق ابعد عن عقلية الثار والانتقام، كما كان في محكمتي نورمبرغ وطوكيو، ومن ناحية أخرى إن وجود المحكمة المسبق يعتبر عامل ردع للحؤول دون قيام جرائم أو التفكير في ارتكابها.
ونتيجة لتعارض الآراء حول مشروع المحكمة الجنائية الدولية، تبنت الجمعية العامة قرارها المرقم 687 في 5/12/1952 والذي بموجبة انشات لجنة جديدة عام 1953 تتكون من ممثلي (17)دولة، (2) وحددت مهمة اللجنة في ما يلي :
– دراسة النتائج المترتبة على تأسيس محكمة جنائية دولية والبحث عن الطرق التي يمكن بموجبها تأسيس مثل هذه المحكمة.
– دراسة العلاقة بين هيئة الأمم ألمتحدة والمحكمة المقترح إنشائها.
– إعادة النظر في مشروع النظام الأساسي للمحكمة المقترحة.
وبناءً على المهمات الملقاة على عاتق اللجنة، فإنها قد بدأت بمباشره أعمالها في الفترة من 27 تموز/يوليو إلى 20 آب/ أغسطس 1953 ووضعت نظاما أساسيا جديدا للمحكمة، واقترحت عدة طرق لإنشاء محكمة جنائية دولية. وقدمت اللجنة مشروعها إلى الجمعية العامة للمناقشة، ولكن يلاحظ بأنه على الرغم من التجاوب الملموس لدى الكثير من الدول الأعضاء لإنشاء محكمة جنائية دولية، الأ انه كان هنالك من يشكك من الدول في جدوى قيام مثل هذه المحكمة ما لم يسبق ذلك اتفاق الدول على تعريف كلمة (العدوان).
وعلى هذا الأساس أصدرت الجمعية العامة قرارها رقم 989 في 14/12/1954 والذي بيَّنت فيه بان موضوع تأسيس محكمة جنائية دولية متعلق ومرتبط بمشكلة تعريف العدوان من ناحية، وبمشكلة الاتفاق على مشروع قانون الجرائم ضد السلام والأمن في العالم من الناحية الأخرى، وعليه، اقترحت الجمعية العامة تأجيل البتّ في موضوع تأسيس محكمة جنائية دولية إلى أن يتم الاتفاق على تعريف العدوان ومشروع قانون الجرائم ضد السلام والأمن في العالم.
وعلى الرغم من أنَ تعريف العدوان قد تمَّ إنجازه أمام الجمعية العامة من خلال قرارها رقم 3314 في 14/12/1974 إلا أن موضوع إنشاء المحكمة الجنائية الدولية قد بقى معلقا ولم يتم النظر فيه.
في حين يلاحظ بأن مشروع إنشاء المحكمة الجنائية الدولية قد أثير من جديد وذلك عندما ناقشت لجنة القانون الدولي مشروع قانون الجرائم المخلة بسلم الإنسانية منذ أعوام 1986-1989.
ولكن يلاحظ بأن مشروع إنشاء محكمة جنائية دولية قد أثير بشكل أعمق عندما اقترح وفد دولة ترينداد وتوباغو في عام 1989 على الجمعية العامة للأمم المتحدة إنشاء محكمة جنائية دولية بهدف مكافحة ما اعتبره الوفد إحدى الجرائم الدولية المقررة حديثا وهي تجارة المخدرات ويعد هذا الاقتراح الذي لم يكن جديدا بالنسبة للأمم المتحدة بمثابة استجابة لأعمال اللجنتين الخاصتين اللتين انشاتهما الجمعية العامة لوضع مشروع نظام أساسي لمحاكم جنائية دولية في عامي 1953و 1951.
واستجابة لهذا الاقتراح وجهت الجمعية العامة في قرارها عام 1989 طلبا إلى لجنة القانون الدولي لدراسة موضوع أنشاء محكمة جنائية دولية للنظر في جرائم الاتجار غير المشروع بالمخدرات عبر الدول وفي الجرائم الدولية الأخرى التي تتقرر مستقبلا في قانون الجرائم الدولية .
وبناءا على ذلك واستجابة لقرار الجمعية العامة استغلت لجنة القانون الدولي تفويض الجمعية العامة لها في موضوع إنشاء محكمة جنائية دولية ابتداءً من دورتها الثانية والأربعين عام 1990 وحتى دورتها السادسة والأربعين عام 1994، وتوصلت اللجنة إلى مشروع النظام الأساسي للمحكمة وقدمته إلى الجمعية العامة.
وبعد انتهاء هذه اللجنة المتخصصة من أعمالها وعقب عرض تقرير هذه اللجنة عن أعمالها على الجمعية العامة، أصدرت الأخيرة قرارها رقم 50/46 بتاريخ 11/12/1995 الذي يقضي بتشكيل لجنة تحضيرية لإنشاء محكمة جنائية دولية تكون مفتوحة العضوية أمام جميع الدول الأعضاء في الأمم ألمتحدة، ومهمتها إعداد مشروع نص يستحوذ على أوسع إجماع ممكن من اجل عرضه على المؤتمر الدبلوماسي للأمم المتحدة، وقد نص القرار على أن تجتمع اللجنة التحضيرية في فترتين من 25 آذار إلى 12/نيسان /1996 والثانية من12-30 /1996 لإعداد النص الموحد.
ثم أصدرت الجمعية العامة بتاريخ 17/12/1996 قرارا نصت فيه على أن تجتمع اللجنة التحضيرية في عامي 1997/1998، وبموجب هذا القرار اجتمعت اللجنة التحضيرية للفترة من 11-21/شباط/1997 وكذلك للفترة من 4-15/أب/1997 وأيضا في الفترة من 1-12/كانون الأول /1997 وذلك كله من اجل إتمام صياغة نص موحد ومقبول على نطاق واسع للاتفاقية لتقديمه إلى مؤتمر دبلوماسي للمفوضين.
وخلال هذه الفترة أصدرت الجمعية العامة بتاريخ 15/كانون الأول /يناير 1997 قرارا تحت عنوان (إنشاء محكمة جنائية دولية ) لتقرر فيه قبولها بالعرض الذي تقدمت به حكومة ايطاليا من اجل استضافة مؤتمر الأمم ألمتحدة الدبلوماسي المعني بإنشاء محكمة جنائية دولية والذي تقرر عقده للفترة من 15/حزيران إلى 17/تموز /يوليو 1998، وطلبت – أي الجمعية العامة – أيضا في هذا القرار من اللجنة التحضيرية المعنية بإنشاء محكمة جنائية دولية مواصلة إعمالها استنادا إلى قرار الجمعية العامة رقم 51/207 عام 1996 وان تحيل إلى المؤتمر نص مشروع اتفاقية بشان إنشاء محكمة جنائية دولية. ثم اجتمعت اللجنة التحضيرية في الفترة من 16/آذار إلى 3/نيسان / ابريل 1998 لتنهي بذلك مشروع الاتفاقية.
3 – مؤتمر الأمم ألمتحدة الدبلوماسي للمفوضين في روما
عقد مؤتمر الأمم ألمتحدة الدبلوماسي للمفوضين المعني بإنشاء محكمة جنائية دولية في روما (ايطاليا ) في الفترة الواقعة من 15/حزيران/يونيو إلى 17/تموز/يوليو 1998 في مقر منظمة الأغذية والزراعة الدولية، وبموجب الوثيقة الختامية للمؤتمر فقد شاركت فيه (160) دوله، وحضر المؤتمر(16) من المنظمات والكيانات الدولية التي مثلت في المؤتمر بصفه مراقبين من بينها (الإتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر وجامعة الدول العربية )، وكذلك (5) وكالات متخصصة بالإضافة إلى هيئات وبرامج تابعة للأمم المتحدة عددها (9)هيئات من بينها المفوضية السامية لحقوق الإنسان والمحكمتان الدوليتان ليوغسلافيا السابقة ورواندا، وكذلك حضر المؤتمر (122) منظمة غير حكومية مثلت بصفة مراقبين.
وبموجب النظام الداخلي للمؤتمر فقد تمَّ تشكيل عده لجان ومن هذه اللجان هي اللجنة الجامعة والتي تتكون من رئيس وثلاثة نواب للرئيس ومقرر، وقد تولى رئاستها (فيليب كيرش) من كندا، وقد عهد المؤتمر لهذه اللجنة النظر في مشروع الاتفاقية المتعلقة بإنشاء محكمة جنائية دولية، ومن اللجان أيضاً هي لجنة الصياغة والتي تتكون من (21)عضوا ورئيس وهو السيد (محمود شريف بسيوني)من مصر، وقد أوكل إليها تنسيق ومراجعة وصياغة جميع النصوص المحالة إليها من دون تغيير مضمونها وإعداد المشاريع وتقديم المشورة بشان الصياغة إذا طلب إليها المؤتمر أو اللجنة الجامعة ذلك، وذلك كله من دون أن تعيد فتح باب المناقشة الموضوعية بشان أي مسالة.
وبعد مفاوضات عسيرة شهدها مؤتمر الأمم ألمتحدة وما جرت فيه من نقاشات حامية وظهور الكثير من التباين في الآراء والمواقف خصوصا فيما يتعلق باستقلالية عمل المحكمة ودور مجلس الأمن في إحالة القضايا إلى المحكمة بحيث كادت أن تؤدي هذه النقاشات إلى تهديد المؤتمر بالفشل، ولكن اعتماد صيغة الصفقة الواحدة (أي إما بقبول النظام الأساسي للمحكمة مع التعديلات التي اتفق عليها أو رفضه كليا )، فكان من نتيجة ذلك أن تم التصويت على النظام الأساسي الذي اعتمد بموافقة (120) دولة صوتت لصالحه، وامتنعت عن التصويت عليه (21) دولة.
واعترضت على النظام الأساسي (7) دول وهي (الولايات المتحدة، إسرائيل، الصين، الهند، العراق، ليبيا، قطر ).
وهكذا في 17/تموز/ يوليو 1998 وبعد اكثر من خمسين عاما اختلط فيها الأمل بالقنوط، وبعد خمسة أسابيع من المداولات بين الممثلين اعتمد مؤتمر الأمم ألمتحدة المعني بإنشاء محكمة جنائية دولية النظام الأساسي للمحكمة في روما.
رابعا : المحكمة الجنائية الدولية
يشكل الأول من حزيران/يونيو من العام 2002 نقطة تحوّل في تاريخ الإنسانية، كونه بمثابة انتصار لإرادة المجتمع الدولي، ففي ذلك اليوم، دخل النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية حيّز التنفيذ بعد أن أصبح العدد الضروري من الدول المصادقة عليه متوافراً، تطبيقاً لنفس المادة (126) من النظام الأساسي، الذي يشترط وجوب مصادقة ستين دولة.والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية هو خلاصة لجهد تاريخي.
وقبل التطرق لهذه المحكمة وعلاقتها بالأنظمة القضائية الوطنية من المفيد بحث العلاقة بين النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية من جهة والمبادئ والمفاهيم المقررة بموجب أحكام القانون الدولي الإنساني من جهة أخرى والتي تظهر العديد من الأطر أهمها :
– إن الجرائم التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية وخصوصاً جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية، هي نفس الجرائم التي تحرمها اتفاقيات جنيف الأربعة.
– إن المصادقة على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تفترض بأن تقوم الدول التي صادقت عليه بمراجعة تشريعاتها وقوانينها الوطنية لكي تتلاءم وتتواءم مع النظام الأساسي لهذه المحكمة وحيث إن المحكمة الجنائية الدولية أصبحت مؤسسة دولية دائمة. كونها أنشئت بموجب معاهدة لغرض التحقيق ومحاكمة الأشخاص الذين يرتكبون أشد الجرائم خطورة، وهي جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، الأمر الذي يقتضي البحث في إشكالية العلاقة ما بين نظام هذه المحكمة والأنظمة القضائية الوطنية. مع التنويه بأن العلاقة ما بين النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والأنظمة القضائية الدولية، تعرضت لتداعيات وإشكاليات عديدة خصوصاً في الفترة الأخيرة ومن أهمها: أحداث أيلول/سبتمبر 2001، احتلال العراق، السيادة الوطنية لكل دولة على حدة، تقديم الأشخاص للمحكمة الجنائية الدولية ومبدأ خطر تسليم المواطنين، سلطات المدعي العام فيما يتعلق بإجراء التحقيقات في إقليم الدولة الطرف، عدم سقوط الجرائم بالتقادم، عدم جواز المحاكمة عن الجريمة ذاتها مرتين، حق العفو، والعقوبات. وفي هذا الإطار هناك ثمة إشكاليات تستحق التوقف منها:
1- هل يشكل اختصاص المحكمة الجنائية الدولية مساساً بالسيادة الوطنية ؟
أثار البعض بأن المادة (4) من النظام الأساسي الخاصة بممارسة المحكمة الجنائية الدولية لوظائفها وسلطاتها يمثل انتهاكاً للسيادة الوطنية للدولة بالسماح لجهة أجنبية بممارسة اختصاص أصيل مرهون بسلطاتها القضائية. وبهذا الخصوص نشير بداية لما ورد في الفقرة العاشرة من ديباجة النظام الأساسي والتي تؤكد على أن المحكمة الجنائية الدولية ستكون مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية وهي ذات العبارة التي تورد صراحة في المادة الأولى من هذا النظام.
كما نصت المادة (17) من النظام الأساسي على أن المحكمة الجنائية الدولية لا تحل محل الاختصاصات القضائية الوطنية، وإنما تتدخل حصراً حينما لا تتوافر لدى الدول الرغبة في الاضطلاع بالتحقيق وبالمقاضاة أو القدرة على ذلك.
وعليه فإن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يشجع الدول على ممارسة سلطاتها القضائية على الجرائم الداخلة ضمن اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية، ولا يجوز للمحكمة ممارسة سلطاتها القضائية إلا إعمالاً للأحكام الواردة في المادة (17.(
وفي الواقع إن الاتفاقية المنشأة بمعاهدة دولية يتجدد فيها المبدأ الأساسي في قانون المعاهدات “مبدأ الرضى” فالدول في هذه الحالة لا تتعامل مع محكمة أجنبية أو ولاية قضاء أجنبي، وإنما تتعامل مع جهاز قضائي دولي شاركت في إنشائه كدولة طرف وتساهم في الإجراءات الخاصة بتسييره باعتباره أحد أعضاء جمعية الدول الأطراف كتعيين القضاة مثلاً. ومن هنا فلا يمكن القول أن الدولة تتنازل عن الاختصاص لولاية قضاء أجنبي، وإنما تعتبر المحكمة الجنائية الدولية امتداداً لولاية القضاء الوطني إذ أن الأصل أن كل دولة ملزمة بمحاكمة مرتكبي الجرائم المنصوص عليها في هذا النظام ومن ثم لا ينعقد الاختصاص للمحكمة الجنائية الدولية إذا قامت الدولة بواجبها في الاضطلاع أو المحاكمة، أما إذا لم ترغب الدولة أو كانت غير قادرة على الاضطلاع بواجبها فإنها تحيل بذلك اختصاصها إلى المحكمة الجنائية الدولية. ونخلص من ذلك إلى أن المحكمة الجنائية الدولية لا تشمل سيادة أجنبية مستقلة عن إرادة الدول بل إن لدول الأطراف ذاتها هي التي أنشأت تلك المحكمة بإرادتها بموجب اتفاقية دولية ورد النص فيها صراحة على أن المحكمة الجنائية الدولية “… ذات اختصاص تكميلي وليس سيادة على القضاء الوطني”
2 – في إطار العلاقة ما بين النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والأنظمة القضائية الوطنية تثار إشكالية خطر تسليم رعايا الدولة إلى قضاء أجنبي وهو المبدأ الوارد في دساتير العديد من دول العالم، ومدى تعارض هذا المبدأ مع الالتزام بتقديم رعايا لدولة إلى المحكمة الجنائية الدولية إذا انعقد لها الاختصاص في إجراء المحاكمة.
وهنا ينبغي أن نمِّيز ما بين “.. الإحالة إلى المحكمة..” والذي هو تقديم الدولة لشخص ما إلى المحكمة و”.. التسليم..” الذي هو تسليم الدولة لشخص ما إلى دولة أخرى، هذه التفرقة الواردة صراحة في نص المادة (102) من النظام الأساسي يدفعنا إلى القول بأن التسليم إلى دولة أخرى ذات سيادة يختلف تماماً عن الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية كهيئة دولية أنشئت بموجب القانون الدولي وبمشاركة الدول المعنية وموافقتها.
وهذه التفرقة تطرح تساؤلاً آخر مفاده هل المحكمة الجنائية الدولية تعد محكمة أجنبية؟ وبهذا الصدد نقول إنها ليست محكمة أجنبية إنما هي امتداد لولاية القضاء الوطني.
3 – سلطات المدعي العام فيما يتعلق بإجراء التحقيقات في إقليم دولة طرف
لما كانت الفقرة الرابعة من المادة (99) من النظام الأساسي تجيز للمدعي العام أن يباشر بعض أعمال التحقيق دون حضور سلطات الدولة الموجه إليها الطلب وداخل إقليم هذه الدولة، وأن بوسعه على وجه الخصوص جمع إفادات الشهود وإجراء المعاينة. فواقعا إن قيام المدعي العام بمثل هذه الصلاحيات لا يشكل مساساً بالسيادة الوطنية للدول، وسندنا في ذلك نص المادتين 54، 57/3 وأحكام الباب التاسع من النظام الأساسي المتعلق بالتعاون الدولي والمساعدة القضائية التي نصت على بعض الأحكام الإجرائية التي تكفل احترام السيادة الوطنية عند ممارسة المدعي العام لاختصاصاته، وما حكم الفقرة الرابعة من المادة (99) إلا استثناء من هذه القاعدة، والمشروط أولاً بأن تكون الدولة الطرف الموجه إليها الطلب هي دولة ادعت ارتكاب جريمة في إقليمها، وكان هناك قرار بشأن القبول بموجب المادة (18) أو المادة (19) وثانياً، فإن المدعي العام ملزم بإجراء كافة المشاورات الممكنة مع الدولة الطرف الموجه إليها الطلب قبل مباشرة إجراءاته.
4 – عدم سقوط الجرائم بالتقادم
لما كانت المادة (29) تقضي بعدم سقوط الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة بالتقادم في حين تعالج الأنظمة القضائية الوطنية مسألة التقادم.وللرد على ذلك نقول إن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب بمقتضى العرف الدولي لا تسقط بمقتضى المدة فضلاً عن أن اتفاقية 1968 صاغت هذه القاعدة العرفية في اتفاقية دولية تحظر انطباق التقادم على مثل هذه الجرائم، ومن ثم فإن الدول بالتصديق على نظام روما الأساسي تقبل بحكم هذه المادة التي تقرر حكماً خاصاً لنوع معين من الجرائم هي الجرائم الأشد خطورة على الصعيد الدولي، ومن ثم فإنه ليس هناك ثمة تعارض بين السيادة الوطنية وعدم سقوط الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بالتقادم.
5 – عدم جواز المحاكمة عن الجريمة مرتين
أثيرت إشكالية خاصة بالمادة (20) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية مع القواعد الواردة في الأنظمة القضائية الوطنية التي تنص على عدم جواز محاكمة الشخص عن الجرم مرتين.
نجد أن الفقرة الثالثة من المادة (20) أجابت عن ذلك بأن حدوث الحالات التي يجوز فيها محاكمة الشخص الذي سبق له أن حوكم أمام القضاء الوطني في الحالات التالية:
ـ إذا كانت الإجراءات في المحكمة الأخرى قد اتخذت لغرض حماية الشخص المعني من المسئولية الجنائية من جرائم تدخل في اختصاص المحكمة.
ـ إذا لم تجر الإجراءات بصورة تتسم بالاستقلال أو للنزاهة وفقاً لأصول المحاكمات المعترف بها بموجب القانون الدولي، أو جرت في هذه الظروف على نحو لا يتفق مع النية لتقديم الشخص المعني للعدالة.
6 – حق العفو
نشير في هذا المجال إلى أن حق العفو المعقود في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والواردة في المادة (110) هو العفو عن العقوبة وليس العفو الشامل عن الجريمة الذي لا يتقرر في معظم الدول إلا بالقانون.وهو حق إقليمي للدولة ولا يتعارض ذلك مع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بشرط ألا يكون الهدف من إصدار دولة ما لقوانين العفو، مساعدة بعض مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية من الإفلات من العقوبات.
7 – العقوبات
حيث أن النظام الأساسي لا ينص على عقوبة الإعدام بل المؤبد، فقد حسمت هذه الإشكالية في ضوء المادة (80) من النظام الأساسي التي تمنح الدول حق توقيع العقوبات المنصوص عليها في قوانينها الوطنية إذا ما تمت محاكمة الشخص أمام المحاكم الوطنية، وبالتالي فإن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لا يحول دون تطبيق أحكام الإعدام على الجرائم الداخلة في اختصاصه ما دامت الدولة الطرف هي التي تضطلع بالمحاكمة على الصعيد الوطني.
وبعد أن استعرضتا الإشكاليات التي تفرضها العلاقة ما بين النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والأنظمة القضائية الوطنية نخلص كما يلي:
ـ المحكمة الجنائية الدولية هي امتداد للاختصاص الجنائي الوطني وعند التصديق على النظام الأساسي من قبل السلطة البرلمانية الوطنية تصبح جزءاً من القانون الوطني.
ـ المحكمة الجنائية الدولية لا تتعدى على السيادة الوطنية أو تتخطى نظم القضاء الوطني طالما كان الأخير قادراً وراغباً في مباشرة التزاماته القانونية الدولية.
ـ يمتد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليشمل الدول الأعضاء ويتم ممارسة اختصاص المحكمة بالتكامل مع اختصاص نظم القضاء الوطني للدول الأعضاء.
ـ الاختصاص الجنائي الوطني دائماً تكون له الأولوية على اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، لكنها تستطيع (المحكمة) ممارسة اختصاصها في حالتين هما:الأولى عند انهيار النظام القضائي الوطني. والثانية عند رفض أو فشل النظام القضائي الوطني في القيام بالتزاماته القانونية بالتحقيق ومحاكمة الأشخاص المشتبه بارتكابهم الجرائم الثلاث الموجودة حالياً في اختصاص المحكمة الجنائية.
ـ كما تظهر قواعد أسبقية نظم القضاء الوطني على التكامل الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، من حيث قيام النظم القضائية الوطنية بمباشرة طلبات التعاون المشتملة على القبض وتسليم المشتبه بهم.
ـ من حيث القانون الواجب التطبيق يجوز للمحكمة بالإضافة للمصادر القانونية الأخرى أن تطبق قواعد القانون العامة المستمدة من القوانين الوطنية للأنظمة القانونية بشرط عدم تعارضها مع قانون المحكمة الجنائية الدولية وهذا يعزز مبدأ التكامل.
ـ وحيث أن المحكمة الجنائية الدولية كمحكمة مكملة للاختصاص الجنائي الوطني، فإن تسليم الدول الأطراف شخصياً إلى اختصاص المحكمة الجنائية الدولية إنقاذا للمعاهدة:
أـ لا يقلل من سيادتها الوطنية.
ب ـ لا ينتهك السيادة الوطنية لدولة أخرى مثل دولة جنسية الجاني أو المجني عليه.
ج ـ لا ينتهك حقوق الشخص الذي تنقل محاكمته الى الاختصاص الجنائي المختص.
واستنادا إلى ما سبق نجد أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وفي إطار علاقته بالأنظمة القضائية الوطنية يحكمه مبدأ التكاملية والتعاون ولا يترتب عليه المسّ بالسيادة الوطنية للدول الأطراف، إلا أن كل ذلك لا ينفي بأن هناك محاولات التفاف على هذه المحكمة وخصوصاً بعد أحداث 11 ايلول التي تركت آثارها على العديد من القضايا الخاصة بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية وكذلك مبادئ القانون الدولي الإنساني والقضاء الجنائي الدولي الذي تمثل في هذه المحكمة عنوانه في هذه المرحلة من حياة البشرية، ومن ضمن تلك المحاولات قيام الولايات المتحدة بإبرام عدد من الاتفاقيات الثنائية مع الدول الأطراف بهدف إفراغ المعاهدة من مضمونها، واحتجاج الدول الكبرى باتفاقيات جنيف واللجوء إلى القضاء الجنائي الدولي مع أن بعضها هي التي تنتهك تلك الاتفاقيات ولعل ما جرى في العراق وفلسطين خير دليل على ذلك.
خامسا :ملاحظات على نظام المحكمة المختلطة الخاصة بلبنان
نتيجة للدروس التي تمَّ استخلاصها من تجربة المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا الايجابية منها والسلبية، برز إلى الوجود نموذج جديد للعدالة الدولية: المحاكم المختلطة والتي تعمل تحت إشراف مشترك من الأمم المتحدة والدول المعنية. وتشكل هذه الطريقة محاولة للمزج بين فوائد المتابعات الوطنية مثل القرب الجغرافي والنفسي إلى الضحايا، والأثر الايجابي على مؤسسات الدولة المحلية مع فوائد المشاركة الدولية كالموارد والموظفين والأمن. وقد أقيمت المحاكم المختلطة في سيراليون المحكمة الخاصة، المقامة بالبلد والتي شرعت مؤخراً في أعمالها، وتتكون من قضاة محليين وقضاة دوليين يطبقون كلاً من القانون الوطني والقانون الدولي. وهناك نوع آخر من النموذج المختلط في تيمور الشرقية. كما أن إمكانية إقامة المحاكم المختلطة أكبر من المحاكم الدولية الصرف، فعلى سبيل المثال تبلغ تكلفة ميزانية المحكمة الخاصة لسيراليون تقريبا خُمس الميزانية السنوية للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا. وتمتاز كذلك المحاكم المختلطة بكونها تقام على أراضي الدولة المعنية إن لم يكن هناك سبب يمنع ذلك، كما أن موظفيها ينتمون بشكل عام إلى الدولة عينها وتجد مساندة مباشرة من لدن الأنظمة القانونية الوطنية. ومن المحتمل أن يصبح النموذج المختلط أكثر انتشارا خلال السنوات القليلة المقبلة، باعتبارها توفر حلا للأنظمة الوطنية الواسعة الامتداد والقليلة التجهيزات.
وفي الوقت نفسه، قد تواجه هذه المحاكم المختلطة انعدام التعاون من طرف الدولة التي تقام عليها أو من طرف دول أخرى، إلا أن العلاقة مع مجلس الأمن وسلطات “الباب السابع” من ميثاق الأمم المتحدة يمكن أن تسدَّ بعض الثغرات. كما أن الرغبة في اكتساب الاستقلال المحلي إلى أقصى حد أدّى إلى نتائج عكسية لصعوبة العثور في بلد عدالته مشكوك فيها على موظفين ذوي خبرة ومدربين بشكل مناسب. وأخيرا، وكما هو الشأن بالنسبة إلى المحاكم الدولية، قد تثير المحاكم المختلطة آمالا وطنية تتجاوز ما هو ممكن عمليا بالنظر إلى الموارد المحدودة والقيود الداخلية التي ترجع إلى عملية العدالة القضائية.
فالمحاكم المختلطة هي بطبيعتها مواءمة القوانين الدولية والوطنية بهدف الوصول إلى الحقيقة والعدالة في أمر ما، وهي تنشأ باتفاقات خاصة بين الدولة المعنية والأمم المتحدة، تحدد فيها كل الأمور المتعلقة بالمحكمة لجهة التشكيل والقوانين التي تلجأ إليها إضافة إلى قواعد الأجراء والتنفيذ.
أما لجهة السوابق فثمة العديد منها، كان آخرها المحكمة المختلطة في كمبوديا الخاصة بمحاكمة الجرائم المنسوبة إلى الخمير الحمر إبان الحرب الأهلية الكمبودية بين الأعوام 1975 و1979، وقد صدر قرار عن الأمم المتحدة بتاريخ 13/5/2003 يتضمن الموافقة على الاتفاق الموقع بينها والحكومة الكمبودية على شكل المحكمة وما يتعلق بها من إجراءات، ونص الاتفاق على إنشاء غرفة قضائية أولية غير عادية، مؤلفة من ثلاثة قضاة كمبوديين يعينون بقرار من مجلس القضاء الأعلى الكمبودي من قاضيين دوليين، وكذلك إنشاء محكمة عليا تنظر كمحكمة استئناف وكمرجع أخير وتعتبر غرفة من غرف محكمة التمييز وتتشكل من أربعة قضاة كمبوديين يعينون أيضا من قبل مجلس القضاء الأعلى ومن ثلاثة قضاة أجانب. ويعهد إلى هذا القضاء الخاص أمر المحاكمة ومنها جرائم الإرهاب. وتوكل مهمات الملاحقة الجزائية والاتهام أمام هذا القضاء إلى هيئة اتهامية مختلطة مؤلفة من نائب عام كمبودي ومن نائب عام دولي يختاره مجلس القضاء الأعلى الكمبودي من بين لائحة مؤلفة من شخصيتين متخصصتين يرفعها الأمين العام للأمم المتحدة إلى الحكومة الكمبودية. كما آن تعيين القضاة الأجانب يتم من قبل المجلس ألعدلي الكمبودي بناء على لائحة مقدمة من الأمين العام للأمم المتحدة، واللافت في هذه المحاكم صدور القرارات بالإجماع في المستويين، وإذا تعذر بالغالبية شرط وجود قاض دولي بين المؤيدين على الحكم ضمانا للعدالة والصدقية. إضافة إلى أن الإجراءات ستتبع قانون العقوبات الكمبودي مع إجراء بعض التعديلات عليه بما يتوافق مع بعض معايير المحاكمات الدولية كعدم الأخذ بأي حصانة قضائية أو أي عفو عام أو خاص.
والسابقة الأخرى المحكمة المختلطة في سيراليون وفقا لقرار مجلس الأمن 1315 تاريخ 14/7/2000، وقد أنشئت في العام 2002 وهي مؤلفة من قضاة سيراليونيين ودوليين للنظر بالجرائم الخطيرة التي حدثت في العام 1996، مع ملاحظة بعض التعديلات أيضا على القوانين الوطنية بما يتوافق والمعايير الدولية لإجراءات المحاكمة والأحكام.
أما السابقة الثالثة فهي المحكمة الخاصة المختلطة في تيمور الشرقية المنشأة بقرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1272 تاريخ 25/11/1999 الذي وضع تيمور تحت إدارة انتقالية تابعة للأمم المتحدة، بهدف محاكمة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة منذ العام 1975، وعمدت الأمم المتحدة إلى إنشاء قضاء خاص تألف من قضاة وطنيين ومن ممثلين متخصصين للأمم المتحدة تم تعيينهم من قبلها، والذي ينظم هذا القضاء وفقا لقواعد القانون الدولي التي تحكم المحاكمات العادلة والنزيهة والمنصوص عليها خصوصا في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
وإذا كانت هذه السوابق يمكن الاحتذاء بها في الحالة اللبنانية كمحكمة مختلطة تنعقد على الأراضي اللبنانية، فتستلزم العديد من الإجراءات، أولها إبرام اتفاق بهذا الشأن بين الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة والذي لا يصبح نافذا إلا بإبرام مجلس النواب له وفقا لنص المادة 52 من الدستور اللبناني . كما يتوجب على المجلس النيابي إصدار قانون خاص مراعاة للمادة 20 من الدستور التي تنص على “السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها ضمن نظام ينص عليه القانون ويحفظ بموجبه للقضاة وللمتقاضين الضمانات اللازمة”. وكذلك منع قوانين العفو ووقف العمل بالحصانات القضائية، وكذلك تحديد مدة التوقيف الاحتياطي في جرائم القتل والجرائم ضد أمن الدولة والجرائم المسماة خطرة. كما تتطلب مثل هذه المحاكم تعديلات لبعض القوانين لتتلاءم مع المعايير الدولية كإلغاء عقوبة الإعدام.
وإذا كان هناك من سبب يمكن أن تواجه انعقاد المحكمة المختلطة على الأراضي اللبنانية لدواع مختلفة كما هو مشار في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن، فمن الممكن انعقادها خارج لبنان وهو أمر بدوره يستلزم بعض الإجراءات، منها وجوب توقيع اتفاق مع الأمم المتحدة توضع بموجبه أصول المحاكمة وقواعدها وتحدد فيه صلاحية المحكمة المادية والشخصية والزمنية . على أن ينص الاتفاق على تطبيق الأصول والإجراءات الجزائية اللبنانية مع بعض التعديلات التي تقتضيها المحاكمات المتوافقة مع المعايير الدولية والتي تتطلبها المحاكمة العادلة، والمراجعة أمام هيئة قضائية عليا. وكذلك توقيع اتفاق مع الأمم المتحدة على أن تمنح المحكمة المختلطة حق إلقاء القبض على الأشخاص المتهمين مهما كانت جنسياتهم وعلى أن تتولى الأمم المتحدة مهمة التفاوض مع الدول التي يتبين أن أحد رعاياها ضالع في عملية الاغتيال أو التفجيرات وذلك بهدف تسليمه إلى المحكمة المذكورة. إضافة إلى قضايا التعويضات الناجمة عن الأذى الذي لحق بالمتضررين من جريمة الاغتيال.
إن المحكمة اللبنانية الدولية ستكون موضع متابعة ومراقبة شديدتين نظرا للقضية التي تنظر فيها وما لها من ارتدادات داخلية وخارجية، كما تعتبر تحدّيا كبيرا للكثير من المواقع الدولية التي تدخلت بهذه القضية بشكل أو بآخر تحت ذرائع ومبررات متنوعة ومتعددة، ولذلك فسوف تأخذ قسطا كبيرا من المتابعات بهدف الوصول إلى مبتغاها، إضافة إلى أن القرار المتخذ بشأنها واضح لجهة دعم القضاء اللبناني لجهة النقلة النوعية التي ستساعده في أخذ موقعه المفترض في هذه القضية وغيرها.
إن التدخلات السياسية في مثل تلك المحاكم تعتبر من الأمور المعتادة، فمجلس الأمن مثلا كان أجاز لنفسه حق التدخل في المحكمة الجزائية الدولية من خلال الطلب إلى القضاة بتعليق ملاحقة الشخص المتهم لمدة عامين.
وإذا كانت هذه السوابق يمكن الاحتذاء بها في تقييم ما ورد في النظام الأساسي للمحكمة المقترحة،فما هي المقاربات والملاحظات التي يمكن استخلاصها في سياق التعليق على نصوصها.
– في التسمية تمّ اللجوء إلى تغيير اسم المحكمة من المختلطة إلى المحكمة الخاصة بلبنان،ما يوحي وكأن لبنان بأكمله بيئة مناسبة لإقتراف الجرائم الإرهابية،ونزع صفة الخصوصية عن المحكمة المختلطة التي هدفت إلى محاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري.
– لجهة الاحتذاء بالسوابق فثمة اتجاه للأخذ بما توصلت إليه الأمم المتحدة من إنشاء محكمة مختلطة لتيمور الشرقية التي غلب عليها الطابع الدولي أكثر من المختلط،بمعنى أن نظام المحكمة لتيمور أسس بيئة مناسبة لتغيير وتعديل القوانين المحلية بما يتناسب مع ظروف التدخل الدولي آنذاك لإنشاء نظم قانونية جديدة.واخطر ما في ذلك من إمكانية تطبيق هذا الخيار على الواقع اللبناني بما يحمله من إمكانية تعديل الكثير من القوانين اللبنانية وهذا ما أتى في بعض المواد التي سنشير إليها لاحقا.
– لم يؤخذ بالنموذج الكمبودي على سبيل المثال،ففي تلك المحكمة يلاحظ الغلبة للبيئة القانونية المحلية حيث عدد القضاة في كلا الدرجتين هم أكثر من القضاة الدوليين،وكذلك تعيين القضاة الدوليين يتم من قبل المجلس ألعدلي الكمبودي بناء على لائحة من قبل الأمين العام للأمم المتحدة وكذلك تعيين المدعي العام الرديف،بينما في نظام المحكمة الخاصة في لبنان فالأمر معكوس تماما.
– ليس ثمة أية سابقة أن أنشأت محكمة خاصة دولية أو ذات طابع دولي بهدف محاكمة مرتكبي جريمة سياسية ويبدو من توصيف الجريمة في الأساس على أنها عمل إرهابي هدفه إتاحة الفرصة لمجلس الأمن التدخل لأهداف سياسية متعلقة ببعض دول المنطقة.
– وخلافا لمحاكم أخرى لن تنظر المحكمة في جرائم تعتبر عادة جرائم ضد القانون الدولي كجرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. وفي ما يتعلّق بجريمة الإرهاب التي تتكرر بشكل واضح في قرارات مجلس الأمن فليس هناك تعريف متفق عليه في القانون الدولي لهذه الجريمة أو عقاب معيّن لها. وليس هناك سابقة لمحكمة دولية أن نظرت في جريمة وصفت بأنها عمل إرهابي. لذلك لا مناص من تطبيق القانون اللبناني على جريمة هي في الأساس من اختصاص القضاء اللبناني. وهذا ما نصّت عليه المادة الثانية من مسودة النظام الأساسي للمحكمة المقترح.
– لقد تمَّ التنازل عن كل ما حفظه مجلس الأمن في قراره الرقم 1595، الذي أنشأ لجنة التحقيق الدولية، للسلطات اللبنانية من سيادة بالنسبة إلى إدارة التحقيق وتطبيق القانون في شأن الأعمال الجرمية التي رافقت اغتيال الرئيس الحريري وآخرين، إذ نصَّت المادة (4) من مسودة النظام الأساسي للمحكمة «عند تعيين المدعي العام وفي فترة لا تتعدّى الشهرين، ستطلب المحكمة الخاصة من السلطات القضائية الوطنية المسؤولة عن قضية الهجوم الإرهابي على رئيس الوزراء رفيق الحريري وآخرين، الخضوع لاختصاصها»، وكذلك سوف تحيل السلطات اللبنانية بناء على طلب المحكمة الخاصة الموقوفين ونتائج كل التحقيقات ونسخ عن سجل المحكمة. وبناء على طلب المحكمة أيضاً، «ستخضع السلطة الوطنية المعنية لاختصاص المحكمة».
– إن كفّ يد القضاء اللبناني بصورة فورية وقبل انتهاء التحقيق يعتبر مخالفاً لقرار مجلس الأمن الرقم 1644 الذي أقرّ في البند (6) منه طلب الحكومة اللبنانية بأن «يحاكم من توجّه لهم في آخر المطاف تهمة الضلوع في هذا العمل الإرهابي أمام محكمة ذات طابع دولي….»، فهل بلغ التحقيق آخر المطاف؟ وهل يجوز اختصار التحقيق أو النيل من وحدته من طريق إحالته على مدّعي عام المحكمة الخاصة قبل تمامه؟.
– ثمة ثغرات كبيرة لجهة القانون الواجب التطبيق من الناحية الإجرائية والتي تثير الشبهة وعلامات الاستفهام. فبالنسبة إلى إجراءات المحاكمة وقواعد الإثبات إذ أن نظام المحكمة لم تلحظ قواعد معينة لأصول المحاكمات وقبول الأدلة. إذ ترك لقضاة المحكمة الخاصة وفقا للمادة (28) وضع نظام إجراءات بعد تأليفها وهو أمر يمثّل سابقة خطيرة في القضاء الجزائي.
– في المادتين (13) و(16) منه، أخذ مشروع النظام بصورة عامة المعايير الدولية للمحاكمات الجنائية الدولية وبخاصة لجهة حقوق المشتبه فيهم والمتهمين، بيد انه اغفل الإشارة إلى حق الموقوف في طلب تخلية سبيله من المدعي العام لدى المحكمة الخاصة ضمن مهلة زمنية معقولة إذا لم تتوافر لدى المدعي العام أدلّة في حقه تجيز استمرار التوقيف. وهذه فجوة مهمة جدّاً بالنسبة إلى مصير الضباط الموقوفين.
– إن أخطر ما في نظام المحكمة الخاصة توسيع صلاحيات المحكمة بحيث تمتد، بالإضافة إلى جريمة اغتيال الرئيس الحريري، إلى أعمال أخرى مماثلة في طبيعتها وخطورتها «حصلت في لبنان بين الأول من تشرين الأول 2004 و31 كانون الأول 2005 أو أي تاريخ لاحق يقرر باتفاق الأطراف المعنية وموافقة مجلس الأمن». إن توسيع صلاحية المحكمة هذا، بالإضافة إلى أنه يتعدّى منطوق قرار مجلس الأمن الرقم 1664 الذي هو المستند الأساسي في إنشاء المحكمة الدولية، والذي يحصر ولاية المحكمة «بالتفجير الإرهابي الذي أدّى إلى مقتل رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري وآخرين» على أن تُنشأ «محكمة ذات طابع دولي لمحاكمة جميع من تثبت مسؤوليتهم عن هذه الجريمة الإرهابية».
– إن توسيع صلاحية المحكمة في الزمان وبالنسبة إلى أفعال جرمية يترك لاستنساب المحكمة تبنّي معايير التشابه في الطبيعة والخطورة مع الأعمال الجرمية التي أودت بحياة الرئيس الحريري، يخالف مبادئ أساسية في القانون الجزائي وخاصة أن قرار مجلس الأمن الرقم 1664 اعتمد كون المحكمة ذات الطابع الدولي يجب أن تستند إلى «أعلى المعايير الدولية في القضاء الجنائي». إن قرار توسيع اختصاص المحكمة إلى أعمال جرمية قد ترتكب مستقبلاً ويترك للمحكمة القرار في شأن اختصاصها للنظر فيها يصعب تجريده من أهداف سياسية.
– ليس ثمة أية هيئة قضائية أو إدارية يمكن مراجعتها في حال مخاصمة أحد القضاة أو موظفي المحكمة لأسباب إدارية أو مالية.
– لم تحدد المادة (5) من مشروع الاتفاق، كيفية تمويل المحكمة.لكن تم سد هذه الثغرة فيما بعد عبر التمويل من الهبات وجزء آخر تقدمه الدولة اللبنانية وهو49% من التكاليف.
ثمة الكثير من النصوص الغامضة والملتبسة القابلة للتأويل وبالتالي إمكانية استثمارها السياسي باتجاهات تحرف عمل المحكمة عن الوصول إلى الحقيقة.وبخاصة التوسع في إمكانية شمل الجرائم وما يمكن ربطها بها.فماذا على سبيل المثال لو توصلت المحكمة إلى استنتاج مفاده أن أي عملية نفذت ضد إسرائيل هي عملا إرهابيا وبالتالي سيكون الموضوع من صلاحيتها للنظر به.
أسئلة كثيرة تطرح نفسها ومن الصعب الإجابة عليها من دون النظر إلى الخلفيات السياسية التي تستهدفها القوى الدولية من إنشاء مثل هذه المحاكم.ثمة جرائم كثيرة وكبيرة افتعلت ونفذت عبر التاريخ لتمرير أشياء أخرى ليس لها علاقة بالمحاكمات التي جرت لها لاحقا،والثابت في التاريخ أن كل الجرائم الكبيرة التي تنفذ ليس لكشفها لاحقا بقدر ما تكون تغطية لتمرير مؤامرات بحجم الجريمة المرتكبة!.
سادسا: ملاحظات على انتقائية الشرعية الدولية
بصرف النظر عن الصورة الوردية التي تظهرها بعض السلوكيات الدولية المتعلقة بمحاولة ايجاد بيئة قانونية للعدالة الدولية، ثمة واقع مغاير ومخالف لما هو سائد منطلقه ازدواجية التعامل الدولي وانتقائيته،ما يرسم صورة قاتمة لمستقبل ومصير العدالة الدولية،وفي هذا المجال يمكن رصد العديد من الملاحظات أبرزها:
– لقد صورت المحاولات الدولية لإيجاد البيئة القانونية لتنفيذ العدالة الدولية على أنها جادة ومقبولة من أطراف المجتمع الدولي،الا ان الامر يبدو مجافيا للواقع،فثمة أسئلة كثيرة تثار في هذا المحال ومنها هل ان من مصلحة الدول الكبرى المتنفذة على الصعيد الدولي إنشاء آليات قانونية للمحاسبة في الوقت التي هي نفسها ترتكب الجرائم والمحرمات؟وهل يمكن الجمع بين وظيفة القاضي والجلاد في آن معا؟وفي نهاية الأمر ومهما كانت خلفية البيئة القانونية للعدالة الدولية هل يمكن فصلها عمليا عن التوازنات الدولية ومصالح الفاعلين فيها؟.
– لم يكن هناك تعاطيا جديا مع انشاء المحكمة الجنائية الدولية وبخاصة من الولايات المتحدة،إذ سرعان ما تراجعت عن التوقيع خوفا من محاكمة جنودها ومسؤوليها أمام هذه المحكمة كما فعلت إسرائيل الأمر عينه وللأسباب ذاتها.
– ورغم أهمية الفكرة ووجوب التسريع في إنجازها فقد تأخرت خطوات التنفيذ طويلا ولا يزال هناك مزيدا من الوقت لكي تأخذ المحكمة موقعها القانوني المفترض،وان تكون ملجأ قانونيا نهائيا لجرائم الحرب وغيرها
اترك تعليقاً