الحبس ليس العقوبة الوحيدة لمخالفين قرار الحجر الصحي بتونس في ظل أزمة كورونا
أصدر رئيس الحكومة التونسية إلياس الفخفاخ بتاريخ 17-04-2020 بموجب التفويض التشريعي، المرسوم عدد 09 لسنة 2020 والذي يتعلّق بتحديد العقوبات الجزائية المستوجبة، فيما يتعلق بجرائم مخالفة قرار الحجر الصحي وبخرق حظر الجولان خلال فترة الحجر الصحي والتدابير الخاصة بالأشخاص المرضى بالكوفيد 19. وكان من أهم ما تضمنه النص القانوني الذي دخل بقوة القانون حيز النفاذ بدءا من تاريخه:
تسليط خطية مالية على من يخالف إجراء الحجر الصحّي العام أو تحجير الجولان أو تقييده مقدارها خمسون دينارا تضاعف في صورة العود. ولا يحول تطبيق الخطية المالية دون إعمال الفصل 315 من المجلة الجزائية في حق المخالف إذا اقترن فعله بإحداث الهرج والتشويش أو الإدلاء بمعلومات خاطئة في خصوص الهوية ومقر الإقامة أو رفض الإمتثال للعون الذي عاين المخالفة
تسليط خطية تتراوح بين الألف والخمسة آلاف دينار على كل من يخالف التدابير المتخذة في حقه وتتعلق بالعلاج من المرض أو التوقي من انتشاره. ولا يحول تطبيق العقوبة دون تطبيق العقوبات الواردة بالفصول 217 و 225 و312 من المجلة الجزائية والفصل 18 من القانون عدد 71 لسنة 1992 إذا اقترن عدم الإمتثال بشبهة نقل العدوى للغير.
ترسم مقتضيات هذا القانون تغييرا جذريا في السياسة الجزائية في مكافحة الكورونا، عنوانه الأهم التراجع عن التشدد في مواجهة من اتهموا بخرق قوانين الحجر. ويبدو هذا على علاقة بما عرفته السجون من تطور لعدد الموقوفين من جراء هذه المخالفات.
الموقوفون يتكدسون مجددا في السجون
بداية سنة 2020، كان عدد المودعين بالمؤسسات السجنية التونسية يناهز الثلاثة والعشرين ألفا، نصفهم من الموقوفين، في حين أن تلك المؤسسات لم تكن مهيّأة لاستقبال أكثر من سبعة عشر ألفا. فشلت قبل ذلك سياسات متعددة للتخفيف من حدة اكتظاظ السجون تلك. لكن مع بداية الحديث عن مخاطر تفشي فيروس الكوفيد 19 في تونس، برز وعي قضائي غير مسبوق بأهمية أن يكون الإيقاف وسيلة استثنائية لا يُلتجأ إليها إلا عند الضرورة. وقد أشر على هذا التوجه تعهّد المحاكم تلقائيا بنظر ملفاتها لتصدر قرارات إفراج لفائدة كل من قدّرت أن ما نسب له من جرم لا يشكل خطرا على المجموعة العامة وتراجع عدد ما يصدر عن النيابة العامة وقضاة التحقيق من بطاقات إيداع. اقترن هذا الوعي القضائي بحق السجين في الصحة، بإصدار رئيس الجمهورية قيس سعيّد قرارات في العفو الخاص شملت قرابة ألفي سجين وبإصدار وزيرة العدل ثريا الجريبي وقضاة تنفيذ العقوبة كل منهم في حدود اختصاصه قرارات سراح شرطي. فكانت النتيجة أن حصلت حركة تسريح غير مسبوقة للمساجين انتهت لأن انخفض عدد المساجين في تونس للمرة الأولى منذ عقود إلى 18 الفا أي في حدود طاقة الاستيعاب الإعتيادية للسجون.
كان يظن حينها أن حظر الجولان والحظر الصحي وما رافقهما من انتشار أمني واسع سيؤديان لتراجع معدلات الجريمة بما سيؤدي بالضرورة لتواصل انخفاض عدد المساجين. لكن التجربة بينت ما يناقض ذلك، إذ عاد عدد الموقوفين للتطور سريعا بفعل (1) موجة الإيقافات الكبيرة التي طالت مخالفي إجراءات الحجر الصحي وحظر الجولان و(2) تطور ممارسات إجرامية على علاقة بالوضع الأمني والصحي تمثلت أساسا في العنف الأسري والاحتكار والسرقات من محلات السكنى غير المسكونة. وقد أدى هذا الأمر إلى إفشال خطط التخفيف من عدد المساجين، بعدما قارب عدد الموقوفين قيد المحاكمة أحد عشر ألفا أي ما يناهز تقريبا ثلاثة أخماس عموم المساجين، منهم نسبة هامة من الأشخاص الذين تم إيقافهم لخرقهم حظر الجولان وإجراءات الحجر الصحي . ويُلحظ هنا أن المحاكم عمدتْ، بدافع ما اعتقد القضاة أنه مساهمة منهم في إنجاح سياسة التوقي من الكورونا، إلى إصدار العديد من الأحكاا بالسجن النافذ في حق من وجهت لهم التهم المذكورة.
وفيما يصعب معرفة فيما إذا لعبت تلك السياسة الجزائية دورا في تحسين الإلتزام المواطني بالإجراءات التي اتخذت لمنع تفشي الكورونا. لكن كان بيّناً في المقابل أنها:
أدخلت إلى السجون أشخاصا لم يصدر عنهم سلوك يفيد أنهم يشكلون خطرا على الأمن العام،
أثرت على شروط المحاكمة العادلة بدليل أن المحاكم قبلت بتفعيل نص جزائي ورد بأمر رئاسي في مخالفة صريحة لقاعدة شرعية الجرائم والعقوبات، كل ذلك إثباتا لانخراط القاضي في مساعي الدولة في مكافحة انتشار الوباء،
تسببت في تطور حالة احتقان داخل السجون خصوصا وأنها اقترنت مع تعطيل المحاكم الناظرة في قضايا الموقوفين في القضايا الجنائية.
تفسر كل هذه العوامل مجتمعةً توجه النص القانوني الجديد لاعتماد الخطية كعقوبة في كل الجرائم الخاصة بمكافحة الكورونا واستبعاد العقوبة السجنية في حقهم إلا متى اقترن خرق الحظر الصحي وحظر الجولان بجرائم حق عام أو بإصابة الغير بالعدوى.
السياسة الجزائية الجديدة: الآثار المتوقعة والدروس المستخلصة
نظراً لكون أغلب الأحكام التي صدرت في حقّ من خالفوا الحجر الصحي وحظر الجولان لم تصبح باتة بعد، ينتظر أن يؤول الأمر إلى الإفراج عن هؤلاء بما سيؤدي لتخفيف الاكتظاظ بالسجون بشكل ملحوظ. ويؤمل هنا أن تشكل هذه التجربة مدعاة لتصحيح العقيدة القضائية في اتجاه رفض ربط عمل المحاكم باعتبار سياسي (الإسهام في تنفيذ سياسة مكافحة انتشار الوباء) بما يعيق تحقيق العدالة ويشوّه الجهد الذي تبذله في سبيل ذلك.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً