الحصانة الدبلوماسية كأحد أهم الركائز الأساسية للعلاقات الدولية
تشكل الحصانات والامتيازات الدبلوماسية أهم الركائز الأساسية للعلاقات الدولية وهي تهدف إلى تأمين الأداء الفعال لوظائف البعثات الدبلوماسية على أكمل وجه. وهذا ما يؤمن أهداف الدبلوماسية القائمة على إدارة الشؤون الخارجية للأطراف الدولية وتعزيز علاقاتها على أسس ومبادئ المساواة وحفظ السلم والأمن الدوليين.
إن العلاقات الدبلوماسيةمنذ نشوئها بين القبائل والشعوب والدول، ارتكزت على مبادئ وأسس جعلت من الدبلوماسيةأسلوبا ومنهجا ومهنة ذات وظائف متنوعة. وشهدت هذه العلاقات أشكالا متنوعة من الممارسة توحدت وتمحورت جميعها على قاعدة أساسية واحدة تقوم على منح الدبلوماسيين حصانات وامتيازات معينة ومحددة، تسمح لهم بتأمين الاتصال والتبادل بين الأمم والشعوب والدول، أي تأمين العلاقات الخارجية لهم، مما أدى إلى ارتباط وثيق بين هذه الحصانات والامتيازات وبين الممارسة الدبلوماسية
لقد عرفت المجتمعات منذ القدم مبدأ تبادل الرسل والمبعوثين وأقرت لهم حصانات وامتيازات شكلت القواعد الأولى لظهور الممارسة الدبلوماسية والتعامل بين الدول.
حيث حرصت الأمم القديمة على احترام وتقديس الممثل الدبلوماسي في إطار المهمة الموكولة إليه.
وقد ورد في مجموعة القوانين الرومانية ما يلي : ” إن من يعتدي على سفير دولة أجنبية، يخرق أحكام القانون الدولي ويجب تسليمه إلى حكومة السفير وأبناء شعبه للاقتصاص منه على هذه الإهانةة”
وأصدرت حكومة هولندا في عام 1651م قانونا ينص على ما يلي: ” إن القانون الدولي العام، وحتى قوانين البرابرة، تقضي باحترام وتكريم السفراء والممثلين الدبلوماسيين الموفدين من قبل الملوك والأمراء ورؤساء الجمهوريات. ولذلك يحظر على كل إنسان إهانتهم أو التعرض لهم، أو إلحاق الأذى بهم تحت طائلة الحكم عليه يجرم خرق مبادئ القانون الدولي والإخلال بالأمن العام”، وفي عام 1728م حكم في السويد على أحد الأشخاص بالإعدام لإقدامه على شتم سفير الملك لويس الرابع عشر علنا.
هذه أمثلة قليلة تثبت أن للمثل الدبلوماسي الحرية و الحصانة، وأن التعدي عليها يحرك المسؤولية الدولية للدولة المضيفة، إذا لم تتحرك لإزالة ما تعرض له المبعوث الدبلوماسي من إساءة.
ومع تطور العلاقات الدولية وتطور الممارسةالدبلوماسية تطورت قواعد الحصانات والامتيازات الدبلوماسيةوتطورت المفاهيم النظرية التي تبرز منح هذه الحصانات والامتيازات.
وظهرت تاريخيا، ثلاث نظريات تبرز منح أو إقرار الحصانات والامتيازات الدبلوماسيةفقد سادت منذ القرن 17 وحتى الحرب العالمية الأولى نظرية الصفة التمثيلية
ومنذ هذا التاريخ أي منذ العقد الثالث من القرن العشرين بدأت تسيطر نظرية جديدة هي نظرية أو ضرورات الوظيفة التي تبنتها جميع الاتفاقيات الدبلوماسية، واستبعدت في ذات الوقت النظريتين السابقتين. ومن ناحية أخرى، وبهدف تسليط الضوء على هذه المفاهيم النظرية، سوف نتطرق عند بحثها ومعالجتها إلى مفهوم ” عهد الأمان ” الذي ساد في المجتمع العربي الإسلامي قبل القرن الخامس عشر.
وقبل البحث في أسس هذه المفاهيم النظرية، سنبحث أولا في مفهوم الحصانة الدبلوماسية، ثم الأسس القانونية للامتيازات والحصانات الدبلوماسية.
الفصل الأول: مفهوم الحصانةالدبلوماسية
قبل أن نتعرف على مفهوم الحصانةالدبلوماسيةفي القانون الدولي، لا بد أن نتناول بدءا التعريف اللغوي للحصانة الدبلوماسية وأصل هذا المصطلح وإلى تطوره التاريخي.
المبحث الأول: الحصانة لغة
أصل كلمة حصانة يرجع لكلمة حصن، والحصن واحد الحصون، يقال حصن حصين بين الحصانةوحصن القرية تحصين بنى حولها، وتحصن العدو.
والحصن هو المكان، وحصانة معناها المنع، وتحصن أي اتخذ له حصنا ووقاية ورجل محصن أي مكرم، ومن الأدلة اللغوية للكلمة نستشف أن مادة ” حصن” تدور على معاني الوقاية، والمنع من إلحاق الضرر بالمحصن، فيكون المعنى اللغوي يبقى عاما ما لم يرد ما يقيده من نعوت أو صفات وهو ما يستبعد، وحين تقيد كلمة الحصانة بصفةالدبلوماسية فتنتقل الدلالة من الإطلاق إلى التقييد المفيد في تعيين الدلالة وتمييز حدودها.
ويشرح قاموس روبير الحصانةفي عدة معان وهي:
– إعفاء من عبء أو امتياز يمنح قانونا لفئة معينة من الأشخاص.
– الحصانةهي امتياز يمنح من الملك إلى مالك كبير أو إلى مؤسسة كنسية، تقوم بمنح تصرف الوكلاء الملكيين في حقل هذا المالك الكبير.
من الملاحظ أن كلمة حصانة في اللغة الأجنبية تعود في أصل اشتقاقها لكلمة إعفاء ذات طابع مالي – ضريبي. وهذا ما عنته الكلمة في القانون الروماني إذ إن جذر هذه الكلمة هو الإعفاء من الأعباء البلدية ومن دفع الضرائب ومن القيام بالسخرة ومن إسكان الجنود. ويقول ميشليه في تاريخ فرنسا إن بيرتيناكس قد ضمن الملكية الحصانةمن الضرائب لعشرة سنين للذين يشغلون الأراضي الصحراوية في إيطاليا…” وفي عهد الفرنك اعتبرت الحصانة إحدى المؤسسات التي بشرت بالإقطاعية. كما أن وثيقة تعني منح الحصانة لشخص المالك.”
غير أن قاموس روبير يقول إن القانون الحديث يعطي كلمة حصانة معنى ” الإعفاء من القواعد العامة في مادة القضاء والمالية. وتعني الحصانة القضائية حسب القانون الدولي العام أن الدول لا يمكن أن تخضع ضد إرادتها لقضاء دولة.</SPAN> </SPAN>
أما جان دوفار فيقول إن ” الدول في علاقاتها المتبادلة، تعتبر الحصانةالمالية معاكسة لمبدأ المساواة ، ويعبر امتياز فرض الرسوم، فعليا، عن علاقة غير متساوية لصالح الذي يمارسها، ويرى الفقه والاجتهاد في القانون الفرنسي أن قرارا ذا طابع مالي هو عمل من أعمال السلطة العامة، وتطبيقا لمبدأ مساواة الدول، ترفض الدول خضوع بعضها لبعض الآخر لسلطة فرض الرسوم ..ويوجد في القانون العام الفرنسي مبدأ ثابت يقول إن الدولة لا تدفع ضريبة لنفسها، مما يعني أن هذا المبدأ يؤدي أيضا إلى الإعفاء المالي”
المبحث الثاني: تعريف الحصانة الدبلوماسية
إن ظهور مصطلح الحصانةالدبلوماسية مرتبط بظهور مصطلح الدبلوماسية نفسها، حيث يسجل لنا التاريخ البشري في جانبه السياسي تطور العلاقات السلمية بين الدول من خلال البعثات واستقبال الرسل والسفراء وكانت هذه البعثات المؤقتة لا تغادر بلادها إلا وهي تحمل لحامليها من ملوكها وسلاطينها وأمرائها وثائق تعطي لحملتها امتيازات وحصانات من التعرض لهم أثناء أداء مهمتهم وتسهيل مرورهم، وهذه الوثيقة نجد لها مقابلا في أدوات العمل الدبلوماسي الحالي حيث إنها تشبه إلى حد كبير جواز السفر الدبلوماسي، ووجه الشبه يتمثل في أن الجواز الدبلوماسي ما هو إلا وثيقة رسمية تيسر لصاحبها الحصول على الحماية الحصانةمن التعرض له، وتسهل له الانتقال من بلد إلى آخر دون إعاقة، أي يكاد أن يكون بينه وبين الوثيقة المطوية عند الإغريق صلة قريبة من حيث كونهما رخصة خاصة تمنح لحاملها أنواعا من الامتيازات والحصانات، وتعطي الدبلوماسي حق التنقل بين البلدان المرسل إليها وأداء الوظيفة بحرية دون العرض لشخصه ولعائلته وماله بسوء حتى يعود إلى بلده الأصلي كما سيأتي بيانه.
وجواز السفر والوثيقة المطوية التي تعطى للرسل في بلاد الإغريق ، في مضمونها يفيدان الأمان للشخص، وهو ما يشبه مقتضى الأمان في الإسلام، إلا أن هناك فرقا واضحا بين النظامين، حيث إن جواز السفر يصدر من قبل جهة رسمية تتمثل في حكومة الدولة، والأمان في الإسلام كما سيأتي يصدر من أي فرد كما هو رأي الفقهاء، ولكن في ظل الدولة الإسلامية المعاصرة فإن الأمان من الفرد منع، ليوافق التشريع الإسلامي بذلك القانون الدولي.
وتعد الحصانةالدبلوماسيةمن أهم مقتضيات العمل الدبلوماسي المعاصر، فهي تشمل مختلف الحصانات والامتيازات الدبلوماسيةالتي يتمتع بها الممثل السياسي من الحصانةالقضائية ( المادة 29 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية 1961م) الحصانةالقضائية ( المادة 31 من نفس الاتفاقية)، والامتيازات المالية ( المادة 34-36 من نفس الاتفاقية)، كما أن الفقه الإسلامي عرف ومارس هذه الحصانات منذ زمن مبكر كما سيأتي توضيحه
إن مبدأ الحصانةالدبلوماسيةهو واحد من أقدم عناصر العلاقات الخارجية، وقد منح اليونان والرومان والمسلمون وضعا خاصا للسفراء والرسل، و ظلت الحصانةالدبلوماسيةمن المبادئ المتفق عليها قديما وحديثا بغض النظر عن بعض الاعتراضات عليها والتي تظهر هنا بفعل أوضاع قانونية تكون الحصانةمسؤولة عنها.
ويذهب أستاذ القانون الدولي أبو هيف وغيره إلى القول: ” بضرورة حماية المبعوث الدبلوماسي ضد الاعتداء عليه والحفاوة به ” وهذه الضرورة لم تنبع من فراغ فهي مستمدة من الأصول العامة للفقه السياسي الإسلامي وقواعد القانون الدولي حيث تجتمع أقوال الفقهاء المسلمين وآراء الشراح الحقوقيين على أنه بالرسل تتم المصالحات بين الأمم، ولذلك أصبح تبادل التمثيل السياسي ضرورة تفرضها علاقات التعارف والتآخي ” سورة الحجرات أية 13″، وهو ما يبعد الانطوائية والعزلة عن الدولة الإسلامية عن غيرها من الدول.
إن أول الحصانات الدبلوماسيةالتي عرفتها البشرية هي الحصانةالشخصية أو حصانة الأفراد، وكان إذا ذكرت الحصانةقصد بها الحصانة الشخصية
وعندما دونت اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961 في قالبها القانوني ، جاء في نصوصها تحديد أنواع هذه الحصانات
ويقول العالم المشهور فاتل : ” لما كانت السفارات شأن كبير في المجتمع العالمي للدول وكان لا بد منها للسلام أو الأمان الذي يبغيه، فإن الممثلين الدبلوماسيين المكلفين للسفارة يجب أن يكونوا محصنين مقدسين عند الشعوب جميعا “.
وذهب بعض الباحثين القانونيين إلى حد اعتبار الحصانة الدبلوماسية جزءا من القانون الطبيعي، إلا أن آراء هؤلاء الباحثين تضاربت في تفسير الأساس القانوني للحصانة الدبلوماسية، ويقرر أبو هيف أن الحصانة الدبلوماسيةتتناول أولا ذات المبعوث وثانيا مسكنه وأمواله
ولقد عرفت اتفاقية فيينا الحصانة الدبلوماسيةمن خلال شخص المبعوث إذ قالت: ” حرمة شخص المبعوث الدبلوماسي مصونة ولا يجوز إخضاعه لأية صورة من صور القبض والاعتقال ، ويجب على الدولة المعتمد لديها معاملته بالاحترام اللائق واتخاذ جميع التدابير المناسبة لمنع أي اعتداء على شخصه أو حريته أو كرامته”
أما القاموس السياسي فيعرف الحصانةبأنها: ” إعفاء بعض الأشخاص أو الهيئات من ولاية القضاء في الدولة التي يعتمدون بها رؤساء الدول الأجنبية وممثليهم السياسيين كما يشمل هذا الاستثناء الهيئات الدولية أو المنظمات الإقليمية المعترف بها في نظاق عضويتها”
ويأتي هذا التعريف بالنظر إلى كونه يضع الحصانة في إطار قضائي عوض أن يركز على بعدها الشخصي، وهو اتجاه ذهب إليه أيضا بعض الباحثين المعاصرين.
وذهب رأي آخر إلى أن الحصانة الشخصية تعني حق المبعوث في حماية زائدة من جانب الدولة المستقبلة ضد أي اعتداء يتعرض له سواء من مواطني الدولة أو من الأجانب وذلك من خلال تشريع خاص ووسائل خاصة.
وجاء في قاموس أكسفورد تعريف موجز للحصانةالدبلوماسية بأنها ” التحرر من الواجبات أو الإعفاء من العقوبة في الحالات غير المفضلة”
ومن التعريفات الحديثة التي يميل إليها الباحث تعريف كلاي الذي يقول عن الحصانة بأنها: ” مبدأ من مبادئ القانون الدولي الذي يعفى بموجبه بعض مسئولي الدول الأجنبية من الخضوع لأحكام المحاكم المحلية وغيرها من السلطات بالنسبة لنشاطاتهم الرسمية، وإلى حد كبير فيما يتعلق بنشاطاتهم الشخصية”
فهذا التعريف ربط الحصانة الدبلوماسيةبمفهومه القديم والحديث في آن واحد، فقد تحرر من التقيد بفترة زمنية محددة مما طبع التعريف بسمة التوازن بين المرجعية التاريخية وروح العصر.
والحصانة بمفهومها العام لها جانبان:
الأول: حق يمنح لشخص المبعوث أو سفارته ليحول دون ممارسة الدولة المضيفة أي اعتداء عليها، وهذا الحق يطلق عليه ” الحق السلبي ” إذ يقوم على عدم ممارسة الدولة المضيفة سلطاتها القضائية أو المالية على المبعوثين الدبلوماسيين.
والثاني: يتمثل في توقيع العقوبات المقدرة قانونا على من اعتدى على المبعوثين الدبلوماسيين أو على السفارة، وهذا الحق يسمى ” الحق الإيجابي ” وباقي التعريفات التي لم يتم ذكرها تدور على معنى واحد وهو توفير الحماية والحصانة لشخص المبعوث الدبلوماسي حتى لا يتم التعرض له من قبل الأفراد أو سلطات الدولة المضيفة بالأذى بدنيا أو قضائيا أو فرض التزامات ماله وما عليه.
ورغم كل هذه التعاريف والمفاهيم والتي تدور حول معنى واحد كما سبق الذكر لا بد من الإشارة إلى الأساس القانوني المعتمد الذي تنبني عليه.
الفصل الثاني: الأسس القانونية للامتيازات والحصانات الدبلوماسية
من المبادئ التي أقرتها الأعراف والقوانين الدولية، أن تمارس الدول سيادتها على الأشخاص المقيمين على إقليمها، سواء كانوا من مواطنيها أو من الأجانب الموجودين بصورة مؤقتة أو دائمة. غير أن استثناء بعض الأشخاص، وهم الدبلوماسيين، من بعض أحكام الاختصاص القضائي للدولة المضيفة، وهو ما اتفق على تسميته بالحصانات وإعفائهم من بعض الالتزامات المادية ( كالرسوم الجمركية) وهو ما يطلق عليه تسمية الامتيازات، إنما يستهدف تحرير هذه الفئة من الأشخاص من الخضوع التام لقوانين الدولة المضيفة، وذلك بهدف تمكينهم من أداء وظائفهم بشكل صحيح ومفيد للدولتين المضيفة والموفدة.
لقد كانت الدول في البدء تتحفظ في الاعتراف بهذه الامتيازات لأن تلك الدول كانت تساورها الخشية من نشاط البعثات الدبلوماسية والتي تنسب لها دائما أعمال التجسس والنشاطات المشبوهة. وبعد ذلك وقد رأت الفوائد التي قد تحصل عليها مقابل اعترافها بالحصانات الدبلوماسية للبعثات المعتمدة لديها، وقد انفتحت إثر ذلك مجالات عديدة نحو مجموعات من الامتيازات تمنح للبعثات الدبلوماسية.
وفي عصرنا الحاضر، ونظرا للنمو الكبير للبعثات الدبلوماسية، فإن الدول أصبحت لا ترغب بأن ترى عددا كبيرا من الأشخاص لا يخضعون لنظامها القضائي ولسلطتها السياسية، ذلك أن هذا الأمر قد يخلق لها العديد من المشاكل.
وهنالك اتجاه في وقتنا الحاضر لتقييد وحصر فئات الأشخاص الذي يتمتعون بالامتيازات والحصانات. ومن جهة ثانية تحديد وتقليص الامتيازات التي يمكن القبول بها وتفسيرها تفسيرا ضيقا.
إن إمكانية توسيع أو حصر مجال نظام الامتيازات التي يمكن قبولها ترتبط كذلك بأساس هذا النظام. فإذا ما اعتمد مبدأ ضرورات الوظيفة، وعندما يحدد بشكل واضح مفهوم الوظيفة الدبلوماسية. فإنه من الممكن عند ذلك توضيح نظام الامتيازات الضرورية لممارسة هذه الوظيفة، وعندما يحدد أساس هذه الامتيازات القانوني فإنه يصبح سهلا تنظيم وحل الخلافات التي قد يثيرها مثل هذا النظام، إذ يوجد عند ذلك معيار واضح للتفسير، يمكن الركون إليه، لهذه الأسباب كلها يبدو مفيدا وضروريا أن نبحث مسألة المصادر القانونية للامتيازات والحصانات، ثم سرد أهم هذه الحصانات في مبحث ثان.
المبحث الأول: أهم النظريات المفسرة للامتيازات والحصانات الدبلوماسية
أهم النظريات التي حاولت أن تفسر هذه المصادر، هنالك ثلاث نظريات حاولت كل منها أن تقدم التفسير القانوني للامتيازات والحصانات :
النظرية الأولى: نظرية الصفة النيابية
النظرية الثانية: نظرية امتداد الإقليم أو التجاوز الإقليمي
النظرية الثالثة: نظرية مقتضيات الوظيفة الدبلوماسية
ولا بأس أن نشير في الختام إلى نظرية الأمان كأساس للحصانات والامتيازات الدبلوماسية العربية الإسلامية.
المطلب الأول: نظرية الصفة النيابية
قال بهذه النظرية مونتيسكيو وأيدها فاثيل وفوشي وغيرهم، ومفاد هذه النظرية، أن الامتيازات والحصانات التي تنمح للدبلوماسيين تستند إلى صفتهم النيابية باعتبارهم يمثلون دولهم نيابة عن رؤسائها وما يقتضيه ذلك من ضرورة احتفاظهم باستقلالهم في أداء مهامهم وتجنب أي اعتداء عليهم أو على كرامتهم صيانة لكرامة وهيبة الدولة التي يمثلونها.
وقد كتب مونتسكيو في هذا الصدد شارحا معنى هذه النظرية حيث يقول: ” يقتضي قانون الشعب ( القانون الدولي العام) أن يرسل الأمراء سفراء لبعضهم البعض، والحكمة المستفادة من طبيعة الأمور، لا تسمح بأن يتبع هؤلاء السفراء الأمير الذي يوفدون إليه، أو أن يخضعوا لقضائه”، فهم صوت الأمير الذي بعث بهم، وهذا الصوت يجب أن يظل حرا، فيجب أن لا تعترض سبيل عملهم أية عقبة، إذ أنهم غالبا، لا يكنون محل رضا من الدولة التي تستضيفهم، لأنهم يتكلمون باسم شخص مستقل عن إرادة الأمير أو الملك، وقد تنسب إليهم جرائم إذا كان من الجائز عقابهم من أجل الجرائم وقد يمكن أن تفترض عليهم ديون إن كان جائزا القبض عليهم ديون إن كان جائزا القبض عليهم من أجل المديونية.
وقد تعرضت هذه النظرية للنقد للأسباب التالية:
1- بسبب التغيير الذي طرأ على خصائص الدولة، فلم تعد الدلو ملكا لأمراء، بل لشعوب، وبالتالي أصبح للدولة شخصيتها المعنوية المستقلة عن شخصية الحاكم. وفقدت الصفة النيابية الشخصية للدبلوماسيين قيمتها باعتبارهم يمثلون الملوك، خاصة على الصعيد القانوني.
2- إذا كان السفير يتمتع بالحصانة الدبلوماسيةلكونه ممثلا شخصيا للملك، أو نائبا عنه، فلماذا تتمتع عائلة السفير في وقتنا الحاضر بالحصانة الدبلوماسية
3- إذا كانت الدولة الموفدة، والتي يتمتع ممثلوها الدبلوماسيين بالحصانات والامتيازات، ودولة ذات سيادة، فإن الدولة المضيفة عن ممارسة جزء من سيادتها، إذا كانت هناك مساواة في السيادة بين الدول، وبالتالي فإن منح الممثل الدبلوماسي الحصانات لا يكون بسبب كونه أميرا أو حاكما، أرفع منزلة وأعظم مقاما من مقام الأمير الموفد إليه.
المطلب الثاني: نظرية التجاوز أو الامتداد الإقليمي
وتعتبر هذه النظرية من أكثر النظريات أهمية في موضوع الحصانات الدبلوماسية وأساسها القانوني، لأنها أوجدت الصيغة القانونية الأكثر قبولا لنظام الامتيازات والحصانات، خلال فترة امتدت من القرن 17 وحتى مطلع القرن العشرين، وقد رافقت نظرية الصفة النيابية للمبعوث الدبلوماسي ، حتى قبل أن تعتمد كأساس قانوني وحيد لنظام الحصانات والامتيازات.
يقول كاييه حول هذه النظرية: من سلطة الحاكم الإقليمية بنوع من الوهم، حيث يعتبر الموظف الدبلوماسي بأنه لم يغادر أبداً إقليم دولته، ويمارس وظائفه الدبلوماسيةلدى الدولة المبعوث لديها وكأنه في بلده الخاص، أي انه موجود جسدياً على أرض الدولة المعتمد لديها وقانونياً غائباً عنها، وبالتالي تؤدي هذه النظرية إلى اعتبار أن السفارة يفترض بها أن تعتبر كجزء من الأقاليم الوطنية، وإقليم الدولة الموفدة، يعتبر السفير إذن كأنه لم يغادر دولته و أن إقامته في الدولة التي يباشر فيها مهمته هي في حكم الامتداد لإقامته في موطنه وبعبارة أخرى (يعتبر مقر البعثة الدبلوماسية الذي يقوم فيه بأعمال وظيفته كامتداد لإقليم الدولة التي يمثلها السفير، ومن هنا أتت تسمية نظرية امتداد الإقليم.
المطلب الثالث: نظرية مقتضيات العمل الدبلوماسي
مقومات ضرورات الوظيفة تمنح الحصانات و الامتيازات من أجل تسهيل عمل أو وظائف البعث ممثلة لشخص القانون الدولي كانت دولة أم منظمة دولية، وبهدف تحقيق مبدأ المساواة في السيادة ورفض مبدأ الخضوع والإذعان الذي يجب أن لا يسود في العلاقات الدبلوماسية و أخيراً يسمح هذا التعايش لثلاثة معاييره المعيار الوظيفي ومعيار السيادة ومعيار المعاملة وبالتالي تصبح هذه المعايير المترابطة مع بعضها البعض أساساً صالحاً لتفسير جميع أشكال الحصانات و الامتيازات والتي تمنح لأشخاص يمارسون العمل الدبلوماسي وهم من خارج السلك الدائم مثل رؤساء الدول و وزرائها.
ويبدو أن أسس هذه النظرية موجودة عند فاتيل الذي يقول: ” حيث أن السفراء والوزارء المفوضين هم أدوات ضرورية لحفظ هذه المؤسسة العامة وللإتصال المتبادل بين الأمم، ولكي يتمكنوا من تحقيق الغاية المكلفين بها، فمن الضروري أن يكونوا مزودين بكل الامتيازات التي تمكنهم من تحقيق النجاح المشروع وممارسة وظائفهم بكل أمان وحرية وإخلاص.
وفيما يلي نظرية الأمان التي نكاد نقول أنها خاصية الدبلوماسية العربية والإسلامية منذ زمن مبكر.
المطلب الرابع: الأمان كأساس للحصانات والامتيازات الدبلوماسيةالعربية الإسلامية
مفهوم نظام الأمان الإسلامي
* البند الأول:الأمان كأساس للحصانات والامتيازات الدبلوماسية العربية الإسلامية
منذ التاريخ كانت الحاجة إلى الاتصال والاحتكاك والتفاوض كانت قد فرضت إقرار ومنح حصانة للرسل، والمبعوثين، و مع مرور الزمن تطورت الممارسة الدبلوماسية تحولت إولى هالة قدسية بشخص المبعوث حيث لا يجوز العرض له و انتهاك حرمته، وعلى هذا الأساس اعتبرت الحصانة مقدسة لا يجوز المس بها، فالسفير يعتبر كالملاك الذي يخدم كرسول بين السماء و الأرض و كان تاريخياً قتل السفير يؤدي غالباً إلى إنهاك الحرب و إلى إقامة التماثيل لمن قتل دبلوماسيين كما أن يحدث في الإمبراطورية الرومانية.
* بالنسبة للبلاد العربية – الإسلامية:
– مارست الدول العربية الإسلامية مبدأ الحصانات من البداية على قاعدة عرفية استمدتها من التراث العربي القديم وأكدتها الشريعة الإسلامية وأقرتها قاعدة أخرى شكلت المفهوم العام للعلاقات الدولية والدبلوماسية الإسلامية.
– حيث ساعدت على نمو و تطور علاقة الدولة الإسلامية مع الدول والشعوب والأقوام عاملة على إرساء قواعد في التعامل الدولي والتبادل الدبلوماسي انطلاقاً من مفهوم السلام والوئام والتعاهد والمودة وذلك من خلال تطبيقها لمبادئ العدل، والإنصاف والمساواة ومبدأ المعاملة بالمثل ومبدأ الحماية بكل أشكالها وأنواعها سواء أكان على صعيد مبدأ اللجوء أو مبدأ المعاملة بالمثل و مبدأ الحماية بكل أشكالها وأنواعها، سواء أكان على صعيد مبدأ اللجوء أو مبدأ الحصانة الدولية و الدبلوماسية.
– لقد عرف العرب قبل الإسلام حصانة بيت الحرام و عرفوا عقد المؤتمرات والأحلاف لا سيما حلف الفضول كان لنصرة وحماية المظلوم إذا ظلم كما دفع العرب الظلم والجور ونبذوا الخضوع والمذلة حيث نمت وتوسعت علاقات الدولة الإسلامية مع غيرها في جميع المجاملات الاقتصادية والتجارية والثقافية والعلمية.
– احترمت البلاد العربية مبدأ الحصانة الدولية والدبلوماسية واستبطت من أحكام الشرع والفقه والاجتهاد نظرية أو مفهوماً أصيلاً للحصانات والامتيازات.
*ما هو مفهوم الأمان وما هو نظامه و ما هي المبادئ والقواعد التي قام عليها ؟؟
تشتق كلمة أمان من أمن ومعناها اطمأن وعاهد وسلم وحصن من حصين أي المنيع والمحمي.
*نظام الأمان:-
فهناك الأمان المؤيد الدائم الذي يستفيد من أهل الذمة، وأهل العهد، وأهل لحصن أي الأمان الدبلوماسي و هناك الأمان المؤقتة الذي يستفيد منه أهل الحرب والمستأمنون والأمان العرفي، أو العادي الذي ينقسم إلى أمان عام، أو أمان رسمي وأمان خاص أي أمن غير رسمي، و هناك الأمان الاتفاقي أو الأمان الموادع، وهناك الأمان الداخلي الذي يشمل جميع هذه الأشكال والأمان الخارجي الذي يمنحه المسلم خارج دار الإسلام في علاقاته مع غير المسلمين جاء أرض المسلمين طلباً للحماية في حقن بذلك دمه ويحميه من اعتداء الغير عليه.
يقول محمصاني: عن مفهوم الأمان، هو نوع من عقد يسمح فيه لغير المسلم أن يدخل دار الإسلام ويبقى فيها آمناً على نفسه وماله ليسمع كلام الله، مما يعني انه عقد مشروط يتضمن إمكانية فسخه أو إلغائه، الآية تقول في سورة التوبة:”وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ” فهذا التعريف ينطبق على بعض الأشخاص غير المسلمين الذين يلجأون لدار الإسلام طلباً للحماية، بما يتعلق فقط بمفهوم اللجوء الديني و السياسي.
*البند الثاني: أمان غير المسلمين أنواع الأمان التي يستفيد منها غير المسلمين:
– أمان أهل الذمة: أهل الكتاب هم أهل الذمة الذين يحصلون على أمان مؤيد و إقامة دائمة مقابل دفع الجزية حتى يكسبون حماية الشريعة الإسلامية ( أي خضوعهم للشريعة الإسلامية بهدف حماية أنفسهم وأسرهم وأموالهم مقابل دفع الجزية سنوياً وهذا الأمن هو التزام أبدي غير قابل للنقص أو النقض من جانب الدولة الإسلامية.
يقول محمصاني ينهي بأحد الأمور الثلاثة، الدخول في الإسلام، أو التحالف بدار الحرب أو التمرد على المسلمين.
– أمان أهل العنوة أو المستأمنون:- هم أهل الحرب أو أهل العنوة أو أهل الشرك أو المخالفون، هم المحاربون الذين لا يستطيعون دخول دار الإسلام بغير أمان عرفي أو اتفاقي بموجب الأمان العرفي أو العادي تكتسب فئة المستأمنين من أهل الحرب أو أهل الشرك أماناً عاماً أو خاصاً فالأمان العام هو الذي يمنحه الإمام أو من يفوضه عنه لمصلحة مدنية أو قلعة والأمان الخاص هو الذي يمنح الفرد أو لعدد محدود من الأفراد (و يجد الخاص و العام أساسه القانون إذا ينتهي الأمان بانتهاء مدته أو نقضه من أحد الطرفين أو بارتكاب أعمال مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية.
أما بموجب الأمان الاتفاقي أمام مفهوم الموادعة و الموادعين من أهل الحرب الذين يمنحون الأمان الذي يترتب على المعاهدة والمسالمة والمصالحة على ترك القتال لقاء دفع مال أو بدونه ويشمل هذا الأمان الشخص وأمواله وأسره و إلى جانب الموادعة هناك المهادنة التي هي نوع من الهدنة ترمي إلى وقف القتال مؤقتاً.
اترك تعليقاً