الحقوق والحريات العامة ما بين الأردن و فلسطين
بحث مقدم إلى
مركز البحوث والدراسات الفلسطينية بنابلس
المحاضر
إبراهيم شعبان
محاضر في كلية الحقوق
جامعة القدس
1996
مقدمة
الفصل الأول : الحقوق والحريات العامة في العهد الأردني
المبحث الأول: الحقوق والحريات العامة في الدستور الأردني (النظرية)
المبحث الثاني: الحقوق والحريات العامة من ناحية واقعية
1- قانون المطبوعات والنشر
2- قانون الجمعيات
3- قانون الأحزاب السياسية
الفصل الثاني: الحقوق والحريات العامة تحت الإحتلال الإسرائيلي
الفصل الثالث: الحقوق والحريات العامة في زمن فك الإرتباط القانوني والإداري
الفصل الرابع: الحقوق والحريات العامة في عهد إعلان المباديء وملحقاته
الفصل الخامس: السيناريوهات المتوقعة وأثرها على الحقوق والحريات العامة
المبحث الأول: سيناريو التقاسم الوظيفي
المبحث الثالث: سيناريو الكونفدرالية
المبحث الرابع: سيناريو الوحدة والإتحاد الفدرالي:
1- وجود دستور
2- الحقوق والحريات العامة في صلب الدستور
الفصل السادس: ضمانات الحقوق والحريات العامة
1- مبدأ الفصل بين السلطات
2- إلغاء قانون الطواريء
3- إنشاء محكمة دستورية القوانين
4- سن قانون الأحزاب السياسية
5- إطلاق حرية الصحافة
6- الغاء تحصين القرارات الإدارية
7- الإنضمام إلى مواثيق حقوق الإنسان
الفصل السابع: آلية مقترحة لضمان الحقوق والحريات العامة في الأردن وفلسطين
خاتمة
الحقوق والحريات العامة
مقدمة
تشكل الحقوق والحريات العامة الأساس المتميز لبني الإنسان عن غيره من المخلوقات، فالكل يأكل ويشرب ويتزوج، إلا أن الآدميين وحدهم يتمتعون بحرية الرأي والصحافة والانتخاب وحق التقاضي وما إلى ذلك من حقوق وحريات عامة.
وقد حاول المفكرون والفلاسفة والأنبياء وضع المفاهيم والنظريات في كل العصور لهذه الحقوق والحريات العامة وحاولوا احترامها وضمان احترامها، إلا أنها بقيت نزعات فلسفية أو دينية أو خلقية دونما جزاء وضعي لحمايتها.
ومن هنا ظهرت الدعوات إلى المشرع الوطني لتقنينها واحترامها وصيانتها بل وتطويرها والارتقاء بها إن أمكن، وصدرت الدعوة فيما بعد إلى المشرع الدولي ونجحت من خلال الإعلان العالمي ومواثيق حقوق الإنسان.
ويشكل احترام الحقوق والحريات العامة ركيزة هامة وأساسية في سيادة القانون وبدون هذا الاحترام وضمانه يصبح خضوع الدولة للقانون سرابا ويحل مفهوم الدولة البوليسية محل الدولة القانونية وتصبح السلطة غير مشروعة، أي سلطة مطلقة، وينتفي مبدأ المشروعية.
والحقيقة أن الحقوق والحريات العامة تعيش أزمة طاحنة سواء حول المفاهيم أو حول التطبيق، فالمدارس الفكرية متعددة وكل تنادي بمفهوم، والسلطة التنفيذية يتعاظم دورها في جميع أنحاء العالم. ويضيق دور هذه السلطة بهذه الحقوق والحريات بل وترغب في إهدارها أو تأمل في خرقها وعدم احترامها متذرعة بالمصلحة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة أو السلامة العامة وغيرها من الاصطلاحات البراقة الفضفاضة.
وفي هذا العالم المتلاطم الأمواج يقف الفرد المواطن الأعزل من أي سلاح في وجه قوة السلطة التنفيذية المدججة بالسلاح والتي يقف إلى جانبها الجيش والشرطة وأجهزة الأمن والموظفون والعدة والعتاد. لذا كان من الطبيعي أن يلتفت المواطن صوب الحقوق والحريات العامة ليقننها لتحميه من عسف السلطة وتحكمها، واختار تقنينها في أسمى وأعلى وثيقة قانونية ألا وهي الدستور، حتى يضمن لها مكانا مميزا ساميا وحتى يمنع يد التغيير والتحوير من أن تمتد إليها ببساطة.
في ظل اختلاف النظامين السياسيين في الأردن وفلسطين من المتوقع اختلاف الرؤيا القانونية للحقوق والحريات العامة وآلياتها وضماناتها وفهمها من باب أولى، فالحقوق والحريات العامة إفراز للنظام السياسي وتتأثر به سلباً أو إيجاباً.
رغم أن الأردن وفلسطين عاشا في ظل أنظمة قانونية متشابهة وبخاصة في ظل الدولة العثمانية، إلا أن هذا النهج المتشابه بدا بالانحراف قليلا بعد تكوين إمارة شرقي الأردن ودستور سنة 1928 ووجود الانتداب البريطاني على فلسطين وإقرار مرسوم دستور فلسطين العام 1922.
بيد أنه سرعان ما تم رتق هذا الانحراف حيث خاطت أحداث عام 1948 وماتلاها من إجراءات دمج الضفتين (الشرقية والغربية) في جسد قانوني واحد توج بدستور عام 1952.
وعادت الأمور إلى الانحراف مع الاحتلال العسكري للضفة الغربية، ووقف تطبيق القوانين الأردنية الجديدة على الضفة الغربية، وفي المقابل قام الحكام العسكريون الإسرائيليون والمتعاقبون بسن أكثر من ألف وأربعمائة أمر عسكري للتطبيق على المنطقة المحتلة خارقين كل قواعد الاحتلال الحربي سواء ما عرف بقانون لاهاي أو بقانون جنيف.
وجاء إعلان المبادىء في أوسلو ليجعل الخيارات تتزاحم حول العلاقات الأردنية – الفلسطينية بحيث خضعت لشد وجذب. ومن هنا، فإن هذه الورقة ستتناول خيار الحقوق والحريات العامة أيام العهد الأردني، ثم أيام الاحتلال الإسرائيلي وفي زمن السلطة الفلسطينية القصير ثم نتبعه بالاقتراحات التي تركز على خيار التعاون بأشكاله المتعددة ما بين الأردن وفلسطين.
الفصل الأول
الحقوق والحريات العامة في العهد الأردني
كان من الطبيعي أن يقوم الفريق إبراهيم باشا هاشم الحاكم العسكري العام للمناطق التي يوجد فيها الجيش العربي الأردني في فلسطين بإصدار إعلان رقم 2 القاضي بسريان جميع القوانين والأنظمة التي كانت سارية المفعول عند انتهاء الانتداب البريطاني في الخامس عشر من شهر مايو/ أيار 1948. وتأكد ذلك السريان بقانون صادر عن مجلس الأمة الأردني ومصادقة الملك عبد الله حمل الرقم 48 لسنة 1949، وقضى هذا القانون بسريان جميع القوانين والأنظمة والأوامر التي كان معمولا بها حتى انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين إلى أن تلغى أو تعدل. وما لبث هذا القانون أن تأكد بقانون آخر حمل الرقم 28 لعام 1950 وقضى بأن تظل القوانين والأنظمة المعمول بها في كل من الضفتين الشرقية والغربية نافذة المفعول إلى أن تصدر بموافقة مجلس الأمة وتصديق جلالة الملك قوانين موحدة شاملة للضفتين.
هذا السريان هو إفراز من إفرازات قوانين الاحتلال الحربي سواء تم بشكل سلمي أو غير سلمي حتى لا يتم خلق فراغ قانوني، فضلا عن عدم قدرة المحتل على التشريع في الأمور التي لا تشكل ضرورة عسكرية.
من هنا أصبح الملك يمارس ويتمتع في الضفة الغربية بجميع الصلاحيات التي كان يتمتع بها ملك بريطانيا ووزراؤه والمندوب السامي في فلسطين عملا بمرسوم دستور فلسطين لعام 1922، وأصبح للملك صلاحية الإداريين لتولي أعباء الإدارة في الضفة الغربية وإصدار التعليمات الضرورية إليهم وأقيمت الإدارة المركزية – واستبدلت الوقائع الفلسطينية بالجريدة الرسمية الأردنية.
سرعان ما زالت هذه المرحلة الانتقالية بصدور ونفاذ الدستور الأردني بتاريخ الثامن من شهر كانون الثاني لعام 1952 على الضفتين الشرقية والغربية، وقام هذا الدستور بإلغاء مرسوم دستور فلسطين لسنة 1922، مع ما طرأ عليه من تعديلات، وألغى الدستور الأردني الصادر بتاريخ 7 كانون الأول لسنة 1946 مع ما طرأ عليه من تعديلات (م 129).
المبحث الأول
الحقوق والحريات العامة في الدستور الأردني-الوضع القانوني
1.1.1 يبدو أن الدستور الأردني قد أخذ بأسلوب العقد الذي هو أحد الأساليب الملكية في وضع الدستور، ذلك أن مجلس الأمة قد وافق على مسودة مشروع الدستور، وبعد ذلك صادق الملك عليه وأمر بإصداره دون أن يعلق نفاذه على شرط آخر كالاستفتاء مثلا.
2.1.1 ومن الملاحظ أن دستور 1952 أقام نظام مبدأ الفصل بين السلطات الثلاثة، وأخذ بمبدأ سيادة الأمة (م 24)، وتبنى نظام المجلسين (الأعيان والنواب) (م 62) في تكوين مجلس الأمة، وأقام الملكية الوراثية (م 28)، وجعل من نفسه دستورا جامدا لا يجوز تعديله بالطرق العادية لتعديل القوانين العادية (م126)، إلا أنه قدم في موضوع الحقوق والحريات تنظيما واضحا ودقيقا على غير سابقيه في شرقي الأردن وهما دستورا سنة 28، 46. ولا أدل على هذا التنظيم من أنه أورد الحقوق والحريات العامة (الحقوق) في الفصل الثاني، أي في صدر الدستور، كناية عن أهمية الحقوق للمشرع الأردني على الأقل من الناحية الشكلية المنهجية.
3.1.1 وضمن معطيات عام 1952 وما سبقه من ظروف وأوضاع، يمكن القول أن الدستور الأردني قدم صورة متقدمة ووردية عن الحقوق آنذاك، فها هو يقر مبدأ المساواة (م 6)، وأن الحرية الشخصية مصونة (م 7) وعدم جواز وقف أحد أو حبسه إلا وفق أحكام القانون (م 8)، وعدم جواز الإبعــاد (م 9)، وحرمة المساكن (م 10) وعدم جواز المصادرة (م 12)، وعدم جواز فرض القروض الجبرية (م 12)، وعدم جواز فرض التشغيل الإلزامي وعمل السخرة (م 13)، وحرية القيام بشعائر الأديان (م 14) وكفالة حرية الرأي والصحافة (م 15)، وكفالة حق الاجتماع والأحزاب السياسيــة (م 16)، وسرية المراسلات والاتصالات (م 18) وحرية التعلم والتعليم (م 19، 20) وحق تولي المناصب العامة والتعيين بها (م 22)، وعدم جواز تسليم اللاجئين السياسيين (م 21)، وأخيرا كفالة حق العمل لجميع المواطنين (م 23).
4.1.1 وأقام دستور 1952 السلطة القضائية وجعلها على ثلاثة أشكال: نظامية ودينية وخاصــة (م 99) وجعل القضاة مستقلين لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون (م 97) وأقر مبدأ علانية المحاكم والجلسات ومنع التدخل في شؤونها (م 101).
5.1.1 وجعل المحاكم الدينية مكونة من محاكم شرعية تنظم مسائل الأحوال الشخصية للمسلمين ومن محاكم ملية، أي مجالس الطوائف الدينية في أمور الأحوال الشخصية لغير المسلمين، وأجاز تشكيل محاكم عدة بحسب تعدد الطوائف المعترف بها (م 104).
6.1.1 وأوجب إنشاء محكمة عدل عليا (م 100) رغم أنه لم يبين اختصاصاتها، وإن جاء بعد ذلك ووضعها في المادة العاشرة – الفقرة الثالثة من قانون تشكيل المحاكم النظامية رقم 26 لسنة 1952 حيث حصرها في منازعات إدارية وقرارات إدارية.
7.1.1 وإذا عدنا إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في العاشر من كانون الأول من عام 1948 وقارنا بينه وبين دستور 1952 في مجال الحقوق والحريات العامة، لوجدنا أن كثيرا منها ورد بشكل أو بأخر في الوثيقتين، إلا أن الحقوق الواردة في الإعلان العالمي أكثر شمولية وتفصيلا. فمبدأ المساواة مثلا في الإعلان لا يقصر التمييز على أساس العرق واللغة أو الدين بل ويشمل العنصر والجنس واللون والرأي السياسي والأصل الوطني والاجتماعي والثروة والمولد أو أي وضع آخـر (م 2) من (الإعلان)، وكذلك احترام الحياة الخاصة (م 12 من الإعلان) وحق اللجوء في المحاكـم (م 8، 9، 11 من الإعلان) – وحرية الرأي (م 18 من الإعلان). وكذلك، فقد افتقر دستور 1952 إلى حقوق أساسية كالحق في الحياة ومنع التعذيب أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة، وحق التقاضي والمحاكمة العادلة وعدم رجعية القوانين، والدخول والخروج إلى الوطن والجنسية والحرمان منها، وحق الانتخاب والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحق إنشاء النقابات.
8.1.1 ومهما يكن من أمر، فإن دستور 1952 يشكل نقلة نوعية في موضوع الحقوق والحريات العامة، إلا أن السؤال الحائر هو: هل تابع المشرع الأردني في سن القوانين نهج الدستور الأردني الذي يفترض أن يتوفر له السمو الموضوعي والسمو الشكلي؟
المبحث الثاني
الوضع الواقعي للحقوق والحريات العامة
1.2.1 لا جدال في أن الحقوق والحريات العامة هي سلطات أو مكنات قانونية وردت في أسمى وثيقة قانونية، وتتمتع بالسمو على ما عداها من قوانين، إلا أن النصوص الدستورية التي نظمت الحقوق أبقت الباب مفتوحا لتدخل المشرع أو السلطة التنفيذية. فمثلا، قيدت هذه الحقوق بـ “وفق أحكام القانون” أو “في الأحوال المبينة في القانون” أو “بمقتضى القانون” أو لا يتجاوز حدود القانون” أو “ضمن حدود القانون” أو الشروط التي يعينها القانون” وغيرها من الصيغ المشابهة. وكأن المشرع الدستوري لم ينظم الضمانات لكفالة الحقوق، بل تركها وترك تنظيمها إما للسلطة التنفيذية وفق سلطتها التقديرية أو للسلطة التشريعية التي كانت في كثير من الأحوال غير منتخبة بل معينة، ناهيك عن أن جزءا من مجلس الأمة الأردني (مجلس الأعيان) لا يشكل أصلا إلا بالتعيين، وهذا ما أفقدها جوهرها حيث أصبحت الحقوق مجرد قدرات أو امتيازات عارضة بل هي نسج من الخيال.
2.2.1 فقانون منع الجرائم رقم 7 لسنة 1954 أجاز للمتصرف أو للمحافظ فرض الإقامة لمجرد الشكوك بأن شخصا ما “على وشك ارتكاب جرم أو المساعدة على ارتكاب جرم أو المساعدة بارتكابه”، أو تقديم تعهد مالي، وإن لم يقدم يسجن ولا يجوز له ترك المنزل ليلا ويجب أن يوافق قائد المنطقة على تغيير مكان إقامته وهذا القانون يشكل خرقا للحقوق التي ذكرها دستور 1952 . ففيه خرق لعدم جواز القبض أو الإيقاف أو الحبس، ولحرية التنقل، وحرية الرأي والاجتماع، والخصوصية، إلا أن المشكلة أن كل إجراءات السلطة تتم وفق القانون الذي أحال عليه النص الدستوري، بينما نصوص القانون غير دستورية.
3.2.1 وكذلك الأمر في تعليمات الأحكام العرفية لعام 1957 و عام 1967، وتكفي قراءة المادة 20 من تعليمات الإدارة العرفية لسنة 1967 الصادرة بمقتضى الفقرة (2) من المادة (125) من الدستور للتحقق من وضع أي حق أو حرية إذا تعارضت أو بدت كذلك مع الأحكام العرفية. لقد نصت هذه المادة على ما يلي: “اعتبارا من تاريخ العمل بهذه التعليمات وإلى أن تلغى أو تستبدل بغيرها يوقف العمل: بجميع بنود الفقرة الثالثة من المادة العاشرة من قانون تشكيل المحاكم النظامية رقم 26 لسنة 1952 عدا الفقرتين (أ+ب) منها ولا يعمل بأي قانون أو نظام أو أمر آخر إلى المدى الذي تتعارض فيه أحكام ذلك القانون أو النظام أو الأمر مع أي حكم من أحكام هذه التعليمات أو أي أمر يصدره الحاكم العسكري بمقتضاه”، بل إن الأمر يزداد وضوحا وجلاء إذا علم أن المحكمة العرفية العسكرية في جميع إجراءاتها لا تتقيد بقانون أصول المحاكمات الجزائية أو قانون البينات (م 15)، أضف إلى ذلك أن أحكام المحكمة العرفية العسكرية قطعية ولا تخضع للطعن أمام أية محكمة (م 19).
4.2.1 وتزداد قضية الحقوق والحريات قتامة وانتهاكا إذا كانت تعليمات الإدارة العرفية نفسها تعتبر الشيوعية جريمة، وكذلك الانتساب إلى أي حزب سياسي منحل أو غير مرخص، وجرائم الاتجار بالمخدرات والسرقة والاختلاس والرشوة وتزوير البنكنوت والمسكوكات وإساءة الائتمان إذا كانت تتعلق بأموال الدولة والمؤسسات العامة، وحتى جرائم القتل ومحاولة الأخذ بالثأر لم تنج من تعليمات الأحكام العرفية بإعتبارها جرائم عسكرية وليست مدنية وبالتالي فإن محاكمتها تكون أمام المحاكم العسكرية (م 8 ف: ح، ط، س، ع، ص، ق).
من المتفق عليه في علم القانون العام أن الأحكام العرفية “وصمة عار في جبين القانون أو الشرعية”، وأن الأحكام العرفية تقلص إلى حد زوال الحقوق والحريات العامة، إن لم تكن جميعها فمعظمها.
5.2.1 ويشكل قانون العقوبات المشتركة الموحد رقم 53 لسنة 1953 دليلا آخر على خرق الحقوق، فهذا القانون يتبنى العقوبات الجماعية وكأنه ينفي المسؤولية الشخصية ويزيل دور المحاكم ويكتفي بدور الحاكم الإداري ويعطيه صلاحية المحاكم (م 5). وهذا خرق واضح لمبدأ الفصل بين السلطات ودور السلطة القضائية والمحاكمة العادلة، وإن كل فرد يحق له الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي، بل إن القانون يسمح بالتمييز بين فئات المواطنين الذين ألزموا بالتزامات مالية تحكمية دون أي معيار أو سبب سوى قناعة المتصرف أو القائم مقام الشخصية.
6.2.1 وكذلك، فإن قانون انتهاكات حرمة المحاكم رقم 9 لسنة 1959- رغم أنه قصد المحافظة على حسن سير المحاكم- إلا أنه يقيد بشكل كبير حرية الرأي وبخاصة إذا اتصلت بعمل المحاكم وقراراتهــا (م 11، 15).
7.2.1 إن قانون مقاومة الشيوعية رقم 91 لسنة 1953 يشير بشكل واضح لخرق حرية الرأي التي كفلها الدستور في المادة 15 وحرية تأليف الأحزاب السياسية في المادة 16. وقد شكلت الدعوة للشيوعية بالخطابة أو الكتابة أو التصوير أو الانتساب لهيئة شيوعية وحتى دفع التبرعات لأية هيئة شيوعية، جريمة عقوبتها الأشغال الشاقة المؤقتة (م 3) ولعل قانون المطبوعات والنشر رقم 33 لسنة 1973 لا يبتعد كثيرا عن النهج العملي الذي تبناه المشرع الأردني رغم النصوص الجميلة التي تبناها الدستور الأردني لعام 1952،
1- قانون المطبوعات والنشر
كل ترخيص منوط بمجلس الوزراء بناء على تنسيب الوزير، وكل دار نشر أو مكتبة أو مطبعة أو صحيفة سواء كانت دورية أو مؤقتة سياسية أم لم تكن تحتاج إلى ترخيص لإقامتها أو إنشائها ومن لا يرض به الوزير أو مجلس الوزراء يتعرض لأقسى العقوبات (م 10، 54، 66)
والحقيقة أن بعض الدول تشترط الحصول على رخصة للصحيفة أو دار النشر أو المكتبة أو المطبعة، إلا أن الهدف من الرخصة مختلف عليه، فالبعض يقصد التنظيم أو إخضاعاً للضرائب أو إثباتاً تجاه العمال أو منعا للاحتكار أو حماية للاسم وليس رقابة على حرية الصحافة أو تقييدا لها. وكثير من هذه الدول تعتبر الرخصة من قبيل الترخيص التجاري الإلزامي حتى يعرف من هو المحرر المسؤول أو الناشر.
ويذهب القانون بعيدا إلى حد التحكم حيث يشترط أن يكون الصحفي أكمل الثالثة والعشرين من العمر، أي بلوغ الرابعة والعشرين، وأن يكون مقيما في المملكة الأردنية الهاشمية (م 5)، وكأن التقدم في السن لوحده عامل على حسن تقدير الأمور. ومن كان دون هذه السن فلا يتمتع بأي حس إدراك أو حصافة أو حسن تدبير ولا يملك أن يكون صحفيا.
وما دام الشخص يتمتع بالجنسية الأردنية، فما الضرورة للإقامة في المملكة وهل الإقامة شهادة على الوفاء تجاه البلاد؟ وهل عدم الإقامة دليل على خيانة البلاد؟ إن الجنسية أقوى من الإقامة بكل المعايير، فالمقيم لا يتمتع بالحقوق كافة التي يتمتع بها المواطن أو حامل الجنسية، فلماذا هذه الإضافة التي لا تضيف شيئا حقيقيا أو موضوعيا؟.
وبغض النظر عن رأسمال الصحيفة وضمانها فإن قرار مجلس الوزراء الصادر بناء على تنسيب الوزير يكون قطعيا وغير قابل للطعن به أمام أية جهة إدارية أو قضائية، وكأننا أمام قرار يشكل عملا من أعمال السيادة، وإلا فما معنى أن يقترن قرار مجلس الوزراء بإرادة ملكية سامية؟ (م 16) وهذا الأمر يشمل منح الرخصة للمطبوعة الصحفية أو إعادة ترخيصها أو رفض منحها أو سحبها أو إلغائها. ويبدو قانون المطبوعات البريطاني الانتدابي في فلسطين الصادر في 19 كانون الثاني عام 1933 أكثر تحررا واحتراما لحرية الرأي والصحافة من القانون الأردني الذي صدر بعده بأربعة عقود. فالقانون البريطاني راعى التدرج، فقد بدأ بإنذار صاحب الجريدة أو محررها ثم يأمر بتعطيلها لمدة محددة. وهناك فرق شاسع بين التعطيل وإلالغاء لأية صحيفة. والأهم أنه أجاز للمحكمة حق تعطيل الصحيفة بشكل مطلق أو مقيد ولمدة لا تزيد على ثلاث سنوات، كما أن للمندوب السامي أو حاكم اللواء أو السلطة التنفيذية مثل هذه السلطات.
وتحصين القرار الإداري يشكل خرقا لمبدأ المحاكمة العادلة، حيث أن الإنسان له الحق في الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي، إذ كيف يكون الخصم هو الحكم في آن واحد؟ أليست المحاكم هي الجهة المختصة لإنصاف أي شخص من أية قرارات أو أعمال فيها انتهاك لحقوقه الأساسية التي قررها الدستور؟ أليست الرقابة القضائية على أعمال الإدارة تشكل الرقابة الفعالة المنتجة وإلا لكانت لغوا لا طائل تحته؟ ألا يشكل تحصين القرارات الإدارية منح حرية هائلة لمصدر القرار، وبخاصة أنه بمنحى ومعزل عن أية رقابة قضائية؟ ألا تدعوه هذه السلطة المطلقة نحو التعسف في استعمالها وبخاصة أن لا معقب على قراراته؟
أضف إلى ذلك أن القانون يهدد بسيف المصطلحات القانونية اللغوية رقبة المحرر الصحفي والناشر وحرية الصحافة، فما معنى “تهديد الكيان الوطني”، “تعريض سلامة الدولة للخطر”، يعتبر ماسا بالمصلحة العامة أو “الأسس الدستورية للملكة”، وبخاصة أن عقوبة مثل هذه الأفعال إلغاء رخصة المطبوعة أو تعطيلها (م 23)، بل إن القانون يحظر نشر أخبار عن الملك أو الأسرة المالكة إلا بإجازة مسبقة ولا يجوز نشر مقالات تشتمل على تحقير إحدى الديانات والمذاهب المكفولة حريتها بالدستور، بل لا يجوز نشر أي خبر أو رسم أو تعليق يحدث تشويشا أو بلبلة في الرأي العام له مساس بالقوات المسلحة أو أجهزة الأمن أو المخابرات العامة، وحتى البيانات السياسية التي تصدرها الممثليات الأجنبية المعتمدة في المملكة لا يجوز نشرها إلا إذا أجازها مدير عام دائرة المطبوعات والنشر (م 38). كما أن صاحب المطبوعة-الدورية وغير الدورية-غير السياسية لا يستطيع أن ينشر أبحاثا أو أخبارا أو رسوما أو تعليقات ذات صبغة سياسية تتضمن مدحا أو هجاء (م 40،41). وكذلك، فإن أصحاب المطابع والمكتبات ودور النشر مسؤولون على وجه التضامن عن الحقوق الشخصية ونفقات المحاكمة التي يحكم بها على مستخدميهم في قضايا المطبوعات (م 47)، بل إن كل من أراد بيع صحف أو كتب أو مجلات أو صور أو رسوم أو سواها من المطبوعات يجب أن يحصل على رخصة من وزارة الثقافة والإعلام.
إذا كان مفهوما ومقبولا أن القانون أو التشريع العادي يملك تنظيم وترتيب الحقوق والحريات العامة فإن التنظيم والترتيب يجب أن لا يزيل ماهية الحق أو الحرية وأن لا يعدمه، وأن لا يصبح هذا الحق أو الحرية أثرا بعد عين وكأن من يعيد قراءة المادة 15 من الدستور الأردني، والتي تتحدث عن حرية الرأي والصحافة والطباعة في ظل قانون المطبوعات والنشر وترتيباته، يتحقق أن هذه الحريات ما هي إلا حريات شكلية أو إمكانات قانونية مجردة سحبها المشرع وقيدها إلى درجة كبيرة بحجة التنظيم والترتيب، بل إن هذه النصوص المقيدة والمعدمة للحقوق لا تقوى على النقاش القانوني أو المنطقي، وتتهاوى في ظل التطور التقني والاتصالات. وقد أثبتت عجزها عن ملاحقة التطور وأنتجت عجزا وطنيا وعرضت السلامة العامة والمصلحة العامة للخطر وليس العكس.
2- قوانين الجمعيات
كفل دستور 1952 حق الأردنيين في الاجتماع وتأليف الجمعيات شريطة أن تكون غايتها مشروعة، وأحال الدستور على القانون بيان طرق تأليف الجمعيات ومراقبة مواردها (م 16). لذا، فقد صدر قانون الجمعيات الخيرية رقم 12 لسنة 1965، والذي ما لبث أن ألغـي بصدور قانون الجمعيات والهيئات الاجتماعية رقم 7 لسنة 1956، ثم ألغى هذا الأخير وحل محله قانون الجمعيات والهيئات الاجتماعية رقم 33 لسنة 1966.
من غرائب أن الأمور أن قانون الجمعيات العثماني لسنة 1907 متقدم على قانون الجمعيات والهيئات الاجتماعية رقم 33 لسنة 1966، بل هو يتفق مع حرية الاجتماع وتأليف الجمعيات أكثر بكثير من القانون الأردني، ويكفي للتدليل على ذلك ذكر المادة الثانية من قانون الجمعيات العثماني التي تقول “إن تأليف الجمعية لا يحتاج إلى الرخصة في أول الأمر، ولكنه يلزم في كل حال بمقتضى المادة السادسة إعلام الحكومة بعد تأسيسها”، بل إن ذات القانون في مادته الأولى لم يشترط حدا أدنى من عدد الأشخاص لتشكيل الجمعية. هذه نصوص متقدمة وتضمن حق تأليف الجمعيات لا مصادرة هذا الحق.
يلاحظ خلو هذا القانون الأردني من أية مرجعية قضائية أو إدارية للطعن أو التظلم على قرار الوزير الإداري الخاص بتسجيل أو عدم تسجيل جمعية خيرية أو هيئة اجتماعية. ويستشف من نصوص القانون عدم وجود إمكانية للطعن في القرارات الإدارية الصادرة عن الوزير، أي أن المشرع نفى وجود الرقابة القضائية والرقابة الإدارية على أعمال الوزير فيما يخص الجمعيات. ويبدو هذا الأمر غريبا وغير مألوف ويناقض أبجديات الحقوق والحريات العامة وضماناتها، ولولا وجود المادة العاشرة، الفقرة الثالثة من قانون تشكيل المحاكم النظامية رقم 26 لسنة 1952، والتي تجيز الطعن في القرارات الإدارية أمام محكمة العدل العليا، لأصبحت قرارات الوزير الخاصة بالتسجيل والحل قطعية ولا يجوز الطعن فيها، ومما يعزز هذا الرأي أن قرار الوزير بشأن تأسيس جمعية تعاونية بموجب قانون التعاون رقم 20 لسنة 1971 يعتبر نهائيا (م5).
ويبدو أن المشرع الأردني استثنى من مفهوم الجمعية الخيرية أو الهيئة الاجتماعية أية أنشطة لتحقيق أهداف سياسية، لذا حظر إنشاء الجمعيات السياسية (م2). وإذا كان هذا الأمر مفهوما ومبررا بالنسبة لقانون الجمعيات العثماني، حيث عاصر زمن وضعه ازدهار فكرة القومية العربية، فقد حظر العثمانيون مثل هذه الجمعيات حيث نص قانونهم “من الممنوع تأليف جمعيات سياسية أساسها أو عنوانها القومية والجنسية”. كذلك هو الحال زمن الانتداب البريطاني، حيث بطشت سلطات الانتداب بالجمهور وجمعياته وشددت على عقوبة الجمعيات عبر سنها لقانون العقوبات رقم 74 لسنة 1936 وتحديدا المواد 69،70،71،72،73 والفصل السابع من أنظمة الطوارىء لعام 1945 والذي يتعلق بالجمعيات غير المشروعة. فإنه من غير المفهوم وغير المبرر أن يحظر القانون الأردني تأليف الجمعيات السياسية في زمن كان فيه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد استقر، والدستور الأردني قد كفل إنشاء الجمعيات (م16).
لو كان الحديث يدور عن جماعات أو جمعيات سرية لكان الأمر مخلتفا بل ومقبولا، إذ أن الجمعية يفترض في عضويتها العلنية. أضف إلى ذلك أن السرية هي رديف المؤامرة وخرق القانون، لذا فإن الجمعية إذا كانت سياسية وعلنية فلا داعي لحظرها، وإلا فلا معنى لوجود الأحزاب السياسية. وإذا انتفى الأخير انتفى حق الاجتماع وتأليف الجمعيات وأصبح خالي المضمون وبدون وظيفة، وأصبح النص الدستوري مجرد واجهة شكلية تختبئ خلفه ممارسات خارقة للحقوق والحريات العامة.
وإذا كان المشرع الأردني قد رغب في إقامة تمييز إيجابي تجاه الهيئات الدينية والرهبنات في المملكة بإعفائها من شرط الترخيص، فقد كان الأجدر به أن يعمم هذا التمييز على جميع الهيئات وأن يوضح من المقصود بهذه الهيئات الدينية وذلك لانطباق ذات العلة لإقامة التمييز الإيجابي وإلا لتم خرق مبدأ المساواة الدستوري.
وإذ كان سن الرشد المدني أو السياسي هو بلوغ الثامنة عشرة من العمر، فلم ارتفع المشرع بسن العضو المؤسس عن واحد وعشرين عاما (م 6 ف ب)؟
يبدو أن المشرع في قانون الجمعيات انطلق من فرضية خاطئة تقوم على التنافر مع المجتمع المدني والديمقراطي بدل التكامل والانسجام والتعاون معه. ومن هذا المنطلق تفهم نصوصه، بل إنها جاءت تعبيرا عن هذا المفهوم السلطوي والأمني من خلال إعطاء صلاحيات مطلقة للوزير ووزارة الشؤون الاجتماعية والتدخل في عمل الجمعيات ووصل الأمر إلى درجة الحل إن لزم الأمر (م 16) لمجرد أنها خالفت نظامها الأساسي أو خالفت بوجه الإجمال أي حكم من أحكام قانون الجمعيات والهيئات الاجتماعية رقم 33 لسنة 1966.
ومن ضمن أسباب حل الجمعية رفضها السماح لأي مسؤول بحضور جلساتها أو تفتيش محلها أو سجلاتها أو مستنداتها. وهذه الأسباب تتناقض تماما مع ما أقرته المادة 14 في صدرها حيث قررت أن “تكون علاقة الوزارة مع الجمعيات الخيرية والهيئات الاجتماعية والاتحادات بأنواعها مبنية على أساس التعاون والمشاركة في تأمين الخدمات الاجتماعية ورفع مستواها ….”. ولو كان التوجه أساسه التعاون والمشـاركة لكان كافيا أن يطلب المشرع من الجمعية التقدم بتقرير سنوي إلى الوزير كما قررته المادة 19 ف 5 ب والمادة 15 ف 3 أو تقارير دورية أو طلب تقارير من مدقق حسابات قانوني، إلا أن القانون حافل بطلب التقارير والتفتيش والتحقيقات وفحص السجلات والأوراق والبيانات وغايات النظام الأساسي والتوقف عن الأعمال وأية معلومات يرغب بها الوزير والتثبت من الأموال والتأكد من أنشطة الجمعيات وطريقة صرف الأموال، وفي مقابل أي إخلال يقف المشرع مهددا بجزاءاته وإنذاراته وكلها مؤدية إلى الحل.
الرقابة على عمل الجمعيات أمر مطلوب، ومبدأ المحاسبة مبدأ إيجابي، إلا أن البطش والهيمنة على الجمعيات يفقدها شفافيتها، ويفقد جمعياتها العامة أي دور بناء، وتنعدم الثقة بين الحاكم والمحكوم، وبذا تصادر الحقوق والحريات العامة وإقامة المجتمع المدني وسيادة القانون. لذا من المنطقي والقانوني أن يعطى مجلس الإدارة والجمعية العمومية لأية جمعية الفرصة الملائمة والمناسبة والكافية لتحقيق أهداف الجمعية وإلا لأصبحت تابعة للوزارة أو ذيلاً عليها.
من هنا كان تعيين مجلس إدارة مؤقت للجمعية (م18) خطوة في غير محلها حتى لا يتحكم رجل السلطة الممثلة بالوزير في عمل الجمعية حتى لو قل عدد أعضاء مجلس الإدارة، فالأولى أن يتم ذلك من خلال دعوة الجمعية العمومية لانتخاب مجلس إدارة جديد وليس من خلال تعيين وزاري وحتى لو تمادت الهيئة الإدارية، ففرض الجزاءات عليها يكون عبر المحاكم.
وببساطة شديدة فإن الحق الدستوري في تأليف الجمعيات قد شوهه إلى حد كبير قانون الجمعيات والهيئات الاجتماعية رقم 33 لسنة 1966 . وقد جرده من كل مضمون عبر رقابة حكومية صارمة تمنح وتمنع وفق تصورها وأفقد الجمعيات دورها المستقل في المجتمع المدني.
3- قانون الأحزاب السياسية
أيد قانون الأحزاب السياسية رقم 15 لسنة 1955 الحق الدستوري الوارد في المادة 16 من دستور 1952 من حيث حق الأردنيين في تأليف الأحزاب السياسية وكرر عبارات الدستور من حيث كون مشروعية الغايات وسلمية الوسائل وأن تكون نظم الأحزاب غير مخالفة لأحكام الدستور (م 3)، إلا أن هذه المحاكاة توقفت عندما قدم القانون تعريفا هزيلا للحزب السياسي بكونه “هيئة مؤلفة من عشرة أشخاص فأكثر غرضها تنظيم وتوحيد مساعيها في المضمار السياسي وفاقا لأحكام هذا القانون”. وهذا التعريف ببساطة شديدة لا يقدم عناصر الحزب السياسي حتى ينفي عنه التشابه وحتى يمكن تمييزه عن غيره من الهيئات كالنقابات والجمعيات وحركات المقاومة.
ولعل أبرز هذه العناصر يكمن في الهدف من الحزب السياسي ألا وهو تولي السلطة السياسية أو المشاركة فيها أو الفوز فيها، وليس مقبولا القول “تنظيم وتوحيد المساعي في المضمار السياسي”، فهذا القول تعوزه الدقة والوضوح الكافي. فالمضمار السياسي معروف وماهيته مشوشة ويصعب تعريفها وتحديد عناصرها، ومن هذه الثغرة الرئيسة كان يمكن أن يدخل المشرع ليمنع ترخيص أي حزب أو يمنع نشاطه. ومما يعزز هذا الاعتقاد أن الأحزاب السياسية على الساحة الأردنية نأت بنفسها عن ترخيصها كأحزاب سياسية.
ورغم الأشراف الكلي للدولة على الأحزاب، سواء من حيث الترخيص أو العمل أو الموارد المالية أو الأنشطة أو الأهداف، فقد أجاز مجلس الوزراء لنفسه أن يقرر حل أي حزب إذا اقتنع أن غايته لم تعد مشروعة أو أن وسائله لم تعد سلمية أو أنه خالف أنظمته أو قدم بيانات غير صحيحة أو تلقى إعانات مادية أو حتى معنوية من أية جهة أجنبية أو أنه خالف أحكام الدستور أو أي حكم من أحكام قانون الأحزاب السياسية (م 10).
هذا النص شديد الخطورة وهو كفيل بالقضاء على أي حزب سياسي وعلى مبادئه وأنشطته وأجهزته وتعريض عناصره للخطر، إلا أن الخطورة تكمن في أن قرارات مجلس الوزراء بشأن حل الحزب السياسي تعتبر نهائية وغير خاضعة للطعن لدى أي مرجع آخر. وحتى الرقابة القضائية على أعمال الإدارة سحبت، وبقي الحزب وحيدا يقارع السلطة دون سلاح ولا بد أن تكون أسلحته مشروعة وهو محروم من أي سلاح، وإذا خالف القانون عرض نفسه للمساءلة الجزائية وأحكام قانون العقوبات.
خلا قانون الأحزاب السياسية من تفاصيل كثيرة وأبقاها مجهولة فهو لم يتحدث عن الأعضاء والمؤسسين وشروطهم وعن نظامه الأساسي وعن حصانات مقر الحزب وصحفه وآلاته وأمواله وموازنته. ويبدو أن المشرع كان يرغب في إصدار نظام تنفيذي لهذا القانون يوضح هذه الأمور التفصيلية. ومما يدعم هذا الاعتقاد أن لمجلس الوزراء أن يمنح أو يرفض ترخيص أي حزب ويكون قراره قطعيا، كما هو الحال في حل حزب (م 5). فإذا كان قرار مجلس الوزراء في كلتا الحالتين قطعيا فإن السلطة ترتاح من عناء المحاكم وتطبيق القانون وتصبح هي الخصم والحكم فهي التي تفسر القانون وتطبقه وهي التي تفصل في أي نزاع يثور حوله.
هوامش الفصل الاول
1) نشر هذا القانون في الصفحة 380 من العدد 1200 من الجريدة الرسمية الصادر بتاريـــخ 1/12/1949 وأعلن عن مصادقة مجلس الأمة عليه بموجب الاعلان المنشور في الصفحة 573 من العدد 1038 من الجريدة الرسمية الصادر بتاريخ 1/10/1950 .
2) نشر هذا القانون في الصفحة 522 من العدد 1036 من الجريدة الرسمية الصادرة بتاريــخ 6 /9/1950.
3) انظر بالتفصيل ياسين ، عمر ، الاحتلال وسلطة التشريع ، القدس 1989 ؛ شعبان ، ابراهيم الانتفاضة الفلسطينية في عامها الأول ، القدس 1989 ، ص20-22 .
Schwenk, E.N. Legislative Power to the Military Occupant under Article 43, Hague Regulations, Yale Law Journal 1945, Vol. 54, pp.393-416, at pp 404 and 405.
4) انظر د. الوحيدي ، فتحي ، التطورات الدستورية في فلسطين 1917-1989، غزة،1992.
5) نشر دستور المملكة الاردنية الهاشمية في الصفحة 3 من العدد 1093 من الجريده الرسمية الصادر بتاريخ 8/1/1952 .
6) د. الحياري ، عادل ، القانون الدستوري والنظام الدستوري ، الطبعة الأولى ، 1972، ص 573 ، 574 .
7) د. غزوي ، محمد سليم ، الوجيز في التنظيم السياسي والدستوري للملكة الاردنية الهاشمية، عمان , دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1996، ص 67 ،98 .
8) د. غزوي ، المرجع السابق ، ص 69 .
9) أنظر نصوص الاعلان العالمي لحقوق الانسان في المجلد الأول من حقوق الانسان إعداد د.بسيوني ، محمود شريف و د.دقاق ، محمد سعيد و د.وزير ، عبد العظيم ، بيروت ، دار العلم للملايين ، الطبعة الأولى 1988 ، ص 17-22 .
10) د. بدوي ، ثروت ، النظم السياسية ، دار النهضة العربية، القاهرة ، 1972، ص 401، 410.
11) Sieghart, Paul. The International Law of Human Rights, Clarendon Press, Oxford, 1983, pp. 91-95; Kiss, Alexander Charles. Permissible Limitations on Rights In the International Bill of Rights. ed by Henkin, Louis. Columbia University Press, 1981, pp 290-310, at pp. 293-297.
12) نشر هذا القانون في الصفحة 141 من العدد 1173 من الجريدة الرسمية الصادر بتاريـــخ 1/3/1954 .
13) نشر إعلان الأحكام العرفية في الصفحة 858 من العدد 2010 من الجريدة الرسمية الصادر بتاريخ 1/3/1967 .
14) تنص المادة 125 من الدستور الأردني على ما يلي ” 1- في حالة حدوث طوارىء خطيرة يعتبر معها أن التدابير والاجراءات بمقتضى المادة السابقة من هذا الدستور غير كافية للدفاع عن المملكة ، فللملك بناء على قرار مجلس الوزراء أن يعلن بارادة ملكية الاحكام العرفية في جميع أنحاء المملكة او في أي جزء منها . 2- عند إعلان الاحكام العرفية ، للملك أن يصدر بمقتضى إدراة ملكية أية تعليمات قد تقضى الضرورة بها لأغراض الدفاع عن المملكة بقطع النظر عن أحكام أي قانون معمول به ويظل جميع الاشخاص القائمين بتنفيذ تلك التعليمات عرضة للمسؤولية القانونية التي تترتب علي أعمالهم إزاء أحكام القوانين الى أن يعفوا من تلك المسؤولية بقانون خاص يوضع لهذه الغاية ” .
15) نشر هذا القانون في الصفحة 159 من العدد 1105 من الجريدة الرسمية الصادر بتاريــخ 16/4/1952 .
16) د. بربوتي ، حقي اسماعيل ، الرقابة على أعمال السلطة القائمة على حالة الطوارىء ، دار النهضة العربية ، 1981 ، ص 23، 25 .
17) نشر هذا القانون في الصفحة 583 من العدد 1135 من الجريدة الرسمية الصادر بتاريــخ 1/3/1953 .
18) نشر هذا القانون في الصفحة 180 من العدد 1413 من الجريدة الرسمية الصادر بتاريـــخ 14/2/1959 .
19) نشر هذا القانون في الصفحة 785 من العدد 1164 من الجريدة الرسمية الصادر بتاريــخ 16/12/1953 .
20) نشر هذا القانون في الصفحة 280 من العدد 1223 من الجريدة الرسمية الصادر بتاريـــخ 3/4/1955 .
21) د. أبو خاطر ، ياسر ودود نسكي ، نتاشا، قانون المطبوعات الفلسطيني ، دراسة مقارنة مع الديمقراطيات الغربية ، القدس ، مركز اسرائيل / فلسطين للابحاث والمعلومات ، 1997 ، ص19-44 .
22) أعمال السيادة هي ” طائفة من أعمال السلطة التنفيذية التي تتمتع بحصانة من رقابة القضاء بجميع صورها أو مظاهرها ” للمزيد انظر د. حافظ ، محمود محمد ، القرار الاداري ، القاهرة – دار النهضة العربية ، 1975 ، ص 117-159 .
23) د. الطماوي ، سليمان محمد، القضاء الاداري – الكتاب الأول : قضاء الالغاء – القاهرة – دار الفكر العربي 1976 ، ص 23-25 .
24) نشر هذا القانون في الصفحة 1358 من العدد 1265 من الجريدة الرسمية الصادر بتاريــخ 17/3/1956 .
25) نشر هذا القانون في الصفحة 253 من العدد 1828 من الجريدة الرسمية الصادر بتاريـــخ 16/3/1965 .
26) نشر هذا القانون في الصفحة 1019 من العدد 1927 من الجريدة الرسمية الصادر بتاريــخ 11/6/1966 .
27) راجع ملاحظات نقدية على مشروع قانون الجمعيات الخيرية والهيئات الاجتماعية ، المركز الفلسطيني لحقوق الانسان ، غزه ، 1998 ، ص 5-6 .
28) لمراجعة نصوص ” قانون الجمعيات العثماني ” ارجع الى ملحق رقم (1) المنشور في المركز الفلسطيني لحقوق الانسان –قراءة نقدية لمشروع قانون الجمعيات الخيرية – والهيئات الاجتماعية والمؤسسات الخاصة لعام 1995، غزه 1995 ، ص 29-33 .
29) تنص المادة العاشرة من قانون تشكيل المحاكم النظامية – رقم 26 لسنة 1952 على ” تنظر محكمة التمييز : 1- بصفتها الجزائية …………. 2- بصفتها الحقوقية ……………… 3- بصفتها محكمة عدل عليا ………… و – في الطلبات التي يقدمها الافراد والهيئات العامة بالغاء القرارات الادارية .
30) د. الخطيب ؛ نعمان ؛ الاحزاب السياسية ، القاهرة ، دار الثقافة للنشر والتوزيع 1983،ص70-71 .
31) نشر هذا القانون في الصفحة 278 من العدد 1223 من الجريدة الرسمية الصادر بتاريـــخ 3/4/1955 .
32) د. الخطيب ، نعمان ، المرجع السابق ، ص 46 .
الفصل الثاني
الحقوق والحريات العامة تحت الاحتلال الإسرائيلي
1.2 بوقوع الضفة الغربية تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي في السابع من حزيران عام 1967 يمكن القول أن مسيرة الحقوق والحريات العامة قد انتكست، فالاحتلال هو نقيض للحق، والقوانين العسكرية ما هي إلا إرادة الجنرال، والأحكام العسكرية تصدر عن محاكم عسكرية، حيث تضيع ضمانات المحاكمة العادلة، ويصبح العسكر هم القضاة وأحكامهم قطعية لا تقبل سوى التظلم إلى الحاكم العسكري.
2.2 ويمكن القول أيضا أن الاحتلال العسكري الإسرائيلي ما زال قائما على الضفة الغربية ولم يزل باتفاق أوسلو وغيره من الاتفاقات. فقانون لاهاي وجنيف يؤكدان أن الأرض تعتبر محتلة متى وضعت فعليا تحت سلطة الجيش المعادي وأصبح بالإمكان ممارسة السلطة المحتلة على هذه المناطق (م 42 من اتفاقية لاهاي). فقوة الاحتلال ما زالت ملموسة ومؤثرة وفعالة سواء من حيث المكان أو الزمان.
3.2 صحيح أن المحتل لا يملك السيادة، بل لا يملك أية ذرة من ذرات السيادة الوطنية، لذا ليس له أن يمارس السلطات المخولة لصاحب السيادة الشرعي. وكذلك، فإن سلطة الاحتلال سلطة فعلية تزول بزواله وهي مؤقتة وهي ليست سلطة قانونية وغير مشروعة، فلا يجوز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة ولا يجوز ضم الأراضي المحتلة ويجب أن تسمو الاعتبارات الإنسانية للشعب المحتل على الاعتبارات العسكرية للمحتل، إلا أن كل المبادئ السامية التي احتواها القانون الدولي الإنساني طمست في المنشور العسكري الإسرائيلي رقم 2 ، حيث تقلد قائد القوات الإسرائيلية في منطقة الضفة الغربية صلاحيات الحكم والتشريع والتعيين والإدارة فيما يتعلق بالمنطقة. وأضحت هذه الصلاحيات تمارس من قبله أو من يعينه أو من يفوضه أو من يعينه بالنيابة عنه (م 2 من المنشور رقم 2)، وما لبث أن نقل جميع السلطات والامتيازات التي كانت للحكومة الأردنية أو للوزراء الأردنيين أو لأحد كبار الموظفين كالمحافظ أو المتصرف إلى الحكم العسكري الإسرائيلي.
4.2 وكانت الضربة القاضية لجسم الحقوق والحريات العامة إعلان الحكم العسكري في الأمر التفسيري العسكري رقم 224 عام 1968 عن أن أنظمة الطوارىء معمول بها في الضفة الغربية ويستمر سريانها فيها وعدم إمكانية إلغائها مستقبلا إلا بنظام طوارىء وبإلغاء صريح. واتخذت محكمة العدل العليا الإسرائيلية وجهة نظر مؤيدة للحكم العسكري حينما طعن بأن أنظمة الطوارىء ألغيت ضمنيا، أي حينما دخل الجيش الأردني الجزء المتبقي في فلسطين والذي عرف بالضفة الغربية.
5.2 ولا يخفى أن أنظمة الطوارىء تشتمل على كافة العناصر الهادمة للحقوق والحريات العامة ففيها نفي لاستقلال القضاء وإلغاء المحاكمة النوعية، وإقامة للمحاكم العسكرية المشكلة من الضباط الذين يعينهم قائد المنطقة العسكري وغصب لصلاحية محكمة العدل العليا (محكمة مشروعية) وإحالة اختصاصها للجنة الاعتراضات العسكرية التي هي شكل من أشكال اللجنة الإدارية القاضية، هذا فضلا عن انعدام الطعن في قرارات المحاكم العسكرية ونفي البينات والإجراءات واستبدالها باستثناءات لا نهاية لها.
6.2 من هنا سمح المنشور العسكري رقم 2 وأنظمة الطوارىء باغتصاب صلاحيات المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها والمجالس الإدارية على شتى أشكالها والنقابات والجمعيات والسلطات واللجان على اختلاف مسمياتها، وبذا ضاعت الضوابط القانونية سواء في الاختصاص أو في السبب أو في الشكل أو عدم مخالفة القانون أو عدم إساءة استعمال السلطة. وفقدت أهم أنواع الرقابة ألا وهي الرقابة القضائية على أعمال الإدارة، مما فتح الباب واسعا أمام طغيان الإدارة وعسفها حيث لا رقيب ولا حسيب.
7.2 وهكذا، فقد حل الضباط العسكريون الإسرائيليون محل المدنيين الأردنيين في جميع الوظائف الرفيعة. فبالإضافة إلى مهام الوزراء أوكلت إليهم مهام المديرين لتسجيل الأراضي ومنح أوذنات صفقات بيع الأراضي واستملاكها والتصديق على توقيع كتاب العدل ونقابة المحامين والتربية والتعليم والعدل وضريبة الدخل والتقاعد ورخص السواقة والجمارك وحارس أملاك الغائبين وتخطيط المدن والصحة…الخ، إلا أن الأهم هو تكبيل الحقوق الأساسية للمواطنين إلى درجة شديدة. فقد قيدت حقوق الفلسطينيين في الحياة الكريمة وفي السلامة الجسدية والسلامة المعنوية وفي حرية التنقل وفي حرية الرأي وفي حرية الصحافة وفي الحرية الأكاديمية وفي التنمية وإدارة شؤون البلاد وفي حق الملكية وفي التنمية.
8.2 ولذا، لا عجب أن فرضت العقوبات الجماعية، وفرض منع التجول لفترات طويلة، وطال الإبعاد الكثيرين، وهدمت منازل الفلسطينيين تارة تحت ذريعة أمنية، وتارة أخرى تحت ذريعة تنظيمية، واعتقل إداريا وبدون محاكمة الآف الفلسطينيين ووضعت تحت الحراسة أملاك الغائبين وصودرت الأراضي تحت ذرائع شتى، وسلبت حقوق المياه وأغلقت المصارف العربية ووضعت القيود على الحركة التعاونية وزاد تقصير حماية الشرطة للمواطنين وكثرت اعتداءات المستوطنين، ومنع الآلاف من الفلسطينيين من السفر ومنعوا من العودة إلى قراهم ومدنهم ومنعت حرية التجمع والتظاهر…الخ.
وببساطة شديدة، جمع الحاكم العسكري العام السلطات الثلاثة: التشريعية والقضائية والتنفيذية، خارقا المبدأ الهام القاضي بالفصل بين السلطات والذي يعتبر عمادا للدولة القانونية وسيادة القانون، إذ أن من البداهة بمكان أن اجتماع سلطتين في يد واحدة يؤدي إلى الاستبداد والطغيان، فكيف يكون الوضع إذا اجتمعت السلطات الثلاثة في يد واحدة هي يد الحاكم العسكري.
9.2 وحتى اتفاقية جنيف الرابعة لم يعترف بها الحاكم العسكري الإسرائيلي رغم أنه وقع عليها عام 1949 وصادق عليها عام 1951 حتى لا يعترف بأنه محتل، لذلك أتى بزعم فراغ السيادة ووصاية المحتل حتى ينفي عن الشعب الفلسطيني السيادة وحق تقرير المصير.
10.2 على الرغم من الثغرات التي شابت اتفاقية جنيف الرابعة وقانون الاحتلال الحربي إلا أن الفلسطينيين نادوا بتطبيق هذه الاتفاقية وهذا القانون حتى يوضع حد لانتهاكات الحقوق والحريات العامة في الضفة الغربية سواء كان ذلك ضمن إطار الحقوق المدنية أو الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية.
11.2 لذا قامت الدعوة بإكمال قانون الاحتلال الحربي، وبخاصة إذا كان احتلال طويل الأجل، من القانون الدولي لحقوق الإنسان نظرا للوشائج القوية بين القانونين وقيامها على أساس آدمية الإنسان وكرامته، وتغليبهما الاعتبارات الإنسانية على أي اعتبار آخر، ولأن قانون حقوق الإنسان أضحى جزءا من القانون الدولي العرفي واكتسب الصبغة الآمرة. وهذا ما دعت إليه قرارات الأمم المتحدة واللجنة الدائمة لحقوق الإنسان ولجنة التحقيق في الممارسات الإسرائيلية بشأن حقوق الإنسان الفلسطيني.
هوامش الفصل الثاني
1) شعبان ، ابراهيم ، المرجع السابق ، ص 17 .
2) Schwarzen berger , Georg . International Law as Applied by International courts and Tribunals . vol. II. Third Ed . london, Stevens a Sons limited , 1968 , p. 171:Graber Doris Appel. The development of the Law of Belligerent Occupation 1863- 1914, Ams . Press, New york , 1968 , pp,66,67.
3) شحادة ، رجا . قانون المحتل ، مؤسسة الدراسات الفلسطينية وجامعة الكويت ، بيروت، 1990 ، ص8 .
4) انظر بحثنا بعنوان ” محكمة العدل العليا في ظل الأوامر العسكرية ” والمنشور في مجلة نقابة المحامين ملحق الابحاث والتي تصدرها نقابة المحامين الاردنين ، عمان ، الملحق رقم 17، حزيران ، 1984 ص 221-274 .
5) راجع بالتفصيل كتاب شحادة ، رجا ، قانون المحتل وكذلك كتابنا ، الانتفاضة الفلسطينة في عامها الأول .
6) Blum, Yehuda z. the Missing Reversioner : Reflections on the Status of Judea and Samaria.Israel Law Review , 1968 , vol. 3,No.2,pp.279- 301.
7) Gerson,Allan , Israel , the West Bank and International Law , Frank Cass , London, 1978.
8) Robertson, A.H. Human Rights in the world. Manchester University Press, 1972 at pp 162- 184.
9) Buergental, T. to Respect, and to Ensure State Obligations and Permissible Derogations. In. Henkin. L. op.cit, pp.72-91; Draper, G:I.A.D. the Relationship Between the Human Rights Regime and the Law of Armed Conflicts, Israel Yeatbook on Human Rights, Vol. I. 1971, pp 191-207; Schindler, Dietrich. Human Rights and Humanitarian law: Interrelationship of the law. American Journal of Internatinal Law, 1982, vol. 31, pp 935-943, atp. 939.
الفصل الثالث
فك الارتباط القانوني والإداري
1.3 عقب حرب حزيران من عام 1967 انطلقت – وما زالت – تنطلق – صيحات إسرائيلية تدعو إلى ضم الضفة الغربية وجعلها تحت السيادة الإسرائيلية، والمنادون بالضم ينكرون أية صلة مشروعة للأردن بالضفة الغربية، ولا يقبلون بشرعية لأحد في الضفة زاعمين أنها أرض الآباء والأجداد وأنهم أصحاب السيادة عليها.
2.3 ورغم هذه الصرخات بقي الأردن المسؤول أمام المجتمع الدولي عن أراضي الضفة الغربية وعن الفلسطينيين في الضفة الغربية باعتبارهم رعاياه وموظفيه، إلا أن هذه النقطة كانت مثار خلاف وقد حسمها مؤتمر القمة العربي الذي عقد في الرباط بين 26 و 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1974، حيث اعتمد أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد لعرب فلسطين. وسبق ذلك قراران من الجمعية العامة للأمم المتحدة: الأول يدعو “منظمة التحرير الفلسطينية، الممثلة للشعب الفلسطيني، إلى الاشتراك في مداولات الجمعية العامة بشأن قضية فلسطين” أما الثاني فيدعو منظمة التحرير الفلسطينية إلى الاشتراك في دورة الجمعية العامة بصفة مراقب.
3.3 ولكن هذه الدعوة والاعتراف الدولي بمنظمة التحرير الفلسطينية لم يحسم الموضوع دوليا إلى أن صدر قرار بفك الارتباط القانوني والإداري بين الأردن والضفة الغربية المحتلة في مساء يوم 31 تموز 1988 ، أي بعد أقل من عام من انطلاق الانتفاضة الفلسطينية.
4.3 وجاء خطاب الملك حسين في الفقرة التي تعني البحث على النحو التالي: “وفي الفترة الأخيرة تبين أن هناك توجها فلسطينيا وعربيا عاما يؤمن بضرورة إبراز الهوية الفلسطينية بشكل كامل في كل جهة أو نشاط يتصل بالقضية الفلسطينية وتطورها، كما أن هناك قناعة عامة بأن بقاء العلاقة القانونية والإدارية مع الضفة الغربية، وما يترتب عليها من تعامل أردني خاص مع الأخوة الفلسطينيين تحت الاحتلال من خلال المؤسسات الأردنية في الأراضي المحتلة، يتناقض مع هذا التوجه، مثلما سيكون عائقا أمام النضال الفلسطيني الساعي لكسب التأييد الدولي للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية وطنية عادلة لشعب مناضل ضد احتلال أجنبي. وإزاء هذا التوجه المنبثق حتما عن رغبة فلسطينية خالصة وتصميم عربي أكيد على نصرة القضية الفلسطينية أصبح من الواجب أن نكون جزءا من هذا التوجه، ونتجاوب مع متطلباته، فنحن أولا وآخرا جزء من أمتنا حريصون على نصرة قضايانا وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. وما دامت هناك قناعة جماعية بأن النضال من أجل تحرير الأرض الفلسطينية المحتلة يمكن أن يدعم بفك العلاقة القانونية الإدارية بين الضفتين، فلا بد أن نؤدي واجبنا ونفعل ما هو مطلوب منا. فكما تجاوبنا مع مناشدة القادة العرب لنا في قمة الرباط عام 1974 بمواصلة التعامل مع الضفة الغربية المحتلة من خلال المؤسسات الأردنية دعما لصمود الأخوة هناك، فإننا نتجاوب اليوم مع رغبة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ومع التوجه العربي لتأكيد الهوية الفلسطينية الخالصة في سائر عناصرها شكلا ومضمونا ….. من أجل الحرية والاستقلال”.
5.3 إثر فك الارتباط أطلقت الصرخة القديمة الجديدة من بعض الإسرائيليين بضم الضفة الغربية إلى إسرائيل متوهمين أن هذا القرار يعني خلق فراغ قانوني في المنطقة ويجب على إسرائيل أن تبادر لتبعبئة هذا الفراغ المزعوم. والحقيقة أن فك الارتباط لا يخلق فراغا قانونيا على الإطلاق ضمن المفاهيم والتطبيق القانوني السليم، فرغم خروج الدولة العثمانية ما زالت قوانين عثمانية، كالمجلة، تطبق على الأراضي الفلسطينية. ورغم انتهاء الانتداب البريطاني فما زالت قوانينه التي لم تلغ كقانون المخالفات المدنية مطبقة وسارية المفعول. وهذا ينطبق على القوانين الأردنية، بل إن الأوامر العسكرية الإسرائيلية، رغم عدم مشروعيتها، ما زالت تطبق حتى بعد اتفاقيات أوسلو.
6.3 ثار جدل حول مدى دستورية خطوة فك الارتباط، وهل هي إنهاء للوحدة بين الضفتين رسميا أم هي درجة أقل من ذلك؟ أو هل ما زالت الوحدة قائمة؟ وما هو المعنى الحقيقي لهذا الاصطلاح “فك الارتباط القانوني والإداري”؟ وهل الخطوة دستورية أم غير دستورية؟ ومما زاد الأمر غموضا أن محكمة العدل العليا الأردنية اعتبرت الخطوة عملا من أعمال السيادة التي لا يجوز للقضاء التعرض لها وفحصها. وقد ذهبت الآراء إلى التلون بحسب ألوان الطيف السياسي والمصلحة الخاصة.
7.3 ويزيد الوضع تعقيدا الوضع القانوني الدقيق لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهل تعتبر شخصا من أشخاص القانون الدولي العام أم هي ليست كذلك؟ ويعود الفكر الجدلي حول المفاهيم لشخص الأطراف في القانون الدولي العام. فمن المتفق عليه أن الدول والمنظمات الدولية تتمتع بالشخصية الدولية. وإن شكلت الأولى الشخصية التقليدية الدولية، إلا أنه من المختلف عليه تمتع حركات التحرر الوطني بالشخصية القانونية الدولية، وبخاصة أن العمل جرى على الاعتراف بها -ولو جزئيا- كما حصل مع حركة التحرير الوطني الجزائرية وجبهة التحرير الوطنية لجنوب فيتنام.
8.3 وهذا ما ينطبق على منظمة التحرير الفلسطينية، لذا فإن الأخيرة – على الأقل – تتمتع بشخصية قانونية دولية مقيدة ومحددة بالهدف الذي تسعى إلى إنجازه ألا وهو التحرر والاستقلال، ولها في إطاره أن تعقد المعاهدات والاتفاقات مع أشخاص القانون الدولي العام.
9.3 من هنا يمكن القول أن خطوة العاهل الأردني بفك الارتباط لم تتم في فراغ، بل وجدت قبولا من منظمة التحرير للإيجاب الأردني وبالتالي أحرزت آثارها القانونية، وسارعت في إعلان استقلال الدولة الفلسطينية في الجزائر بتاريخ 15/11/1988، وما لبثت دول العالم أن تداعت إلى الاعتراف القانوني بالدولة الوليدة.
10.3 ويمكن القول أن منظمة التحرير الفلسطينية، رغم عدم عضويتها الكاملة في المجتمع الدولي، أي أنها ليست دولة ضمن المفاهيم التقليدية للقانون الدولي، إلا أنها هيئة إقليمية تمثل الشعب الفلسطيني ولها حق إقامة السلطة السياسية على إقليم فلسطين. صحيح أنها أنشئت بإرادة منفردة، لكنها تتمتع باعتراف ووضع لم تتمتع به أية هيئة إقليمية أخرى، وهي تشارك في الأجهزة الدولية والعربية والإفريقية والإسلامية وعدم الانحياز. أضف إلى ذلك أن لها ما يشبه الصلاحيات الحكومية كالدوائر المتعددة التي تنضوي تحتها. وفوق هذا وذاك تشكل تجارب وانصياع الشعب الفلسطيني لإرادة منظمة التحرير الفلسطينية مصدر قوة لهذه المنظمة في تمثيلها للشعب الفلسطيني، بل إن أي تمثيل آخر قد فشل في استقطاب المؤيدين. وإذا كان قرار فك الارتباط لا يقع ضمن الطرق التقليدية لاكتساب السيادة في القانون الدولي العام، فهو ليس احتلالا ولا غزوا ولا لتصاقا ولا إخضاعا، إلا أنه يقع ضمن مفهوم التنازل، ومن هنا ينتج آثاره القانونية. فالقرار الأردني هو تنازل عن الضفة الغربية من قبل السلطة السياسية الأردنية إزاء الشعب الفلسطيني ممثلا بمنظمة التحرير الفلسطينية، وبذا يفهم ترحيب منظمة التحرير بهذا القرار بأنه موافقة وتجاوب وانعقاد القبول بعد أن تحقق الإيجاب من السلطة الأردنية.
11.3 ويمكن أن لا تقبل وجهة النظر هذه بزعم أن التنازل لا يتم إلا بين الدول وأن منظمة التحرير ليست دولة ولا هي في مصاف الدول. والحقيقة أن الأشكال التقليدية لنشوء الدولة الجديدة يمكن أن تضاف إليها أشكال أخرى كما يحصل في الثورات أو في الانفصال حاليا، وهذا ما شكل لغزا للقانونيين، أضف إلى ذلك أن المنظمة كما تقدم تتمتع بمركز قانوني متفرد.
12.3 إن إجراء التنازل إجراء قانوني وينتج آثارا قانونية تماما، ذلك أن الدول تستطيع أن تتنازل عن جزء من إقليمها-إذا أرادت- أو عن معظم أو جميع أجزاء الإقليم. ولعل ما حدث في ألاسكا وبيعها قديما وجمهوريات لاتفيا وأستونيا وملدوفيا حديثا، حيث انفصلت عن الاتحاد السوفيتي، يؤكد شرعية التنازل وبخاصة أن الضفة الغربية كانت أمانة في عنق الأردن كما كان قطاع غزة أمانة في عنق مصر.
13.3 ومهما تكن دوافع أو بواعث المتنازل وغاياته، فإن الجزء المتنازل عنه يحول للجهة المتنازل إليها محملا بجميع الالتزامات والمسؤوليات. ولا يجوز لأية دولة ثالثة أن تعترض على هذا الإجراء لأنه من صميم الحقوق الوطنية للطرفين اللذين قاما بعملية التنازل، هذا فضلا عن أن التنازل لا يخلق فراغا قانونيا على الإطلاق، وإن كان من الجائز أنه يخلق فراغا سياسيا.
14.3 ومهما يكن من أمر، فإن قرار فك الارتباط القانوني والإداري يثير أسئلة قانونية كثيرة وبخاصة في الإطار القانوني الأردني الداخلي، وبخاصة في مطعن دستوريته من عدمة وتكييفه القانوني، ومدى قدرة المحاكم للتصدي لفحص مشروعيته من عدمه، وهي أبعاد أثارت جدلا واسعا في الفقه والقضاء الأردني، بل إن النظرة إليه تطورت من زمن لزمن- إلا أن هذه الورقة ببعدها لا تتسع لمناقشة هذه الزاوية.
15.3 أما من ناحية القانون الدولي العام فإجراء فك الارتباط لا غبار عليه وهو إجراء صحيح وبخاصة أنه لقي موافقة إيجابية وترحيبا صريحا ورضاء تاما من كلا الجانبين، لا سيما وأن ما حدث في اتفاق أوسلو والمعاهدة الأردنية الإسرائيلية أيدا وجهة النظر هذه على الأقل من الناحية العلمية.
هوامش الفصل الثالث
1) د.فوده ، عز الدين . الاحتلال الاسرائيلي والمقاومة الفلسطينية في ضوء القانون الدولي العام ، بيروت ، مركز الابحاث ، 1969 ، ص 58-74.
2) جريدة القدس 1/8/1988 .
3) د.عبد الرحمن ، مصطفى سيد ، الوضع القانوني لمنظمة التحرير الفلسطينية في الامم المتحدة القاهرة – دار النهضة العربية ، 1988.
4) المرجع السابق ، ص 19-20.
5) Brownlie, Ian. Principles of Public International law. Third edition. The English Language Book Society and Oxford University Press, 1979 pp. 130-175.
6) راجع كتابنا : الانتفاضة الفلسطينية في عالمنا الاول ، ص56-60.
الفصل الرابع
إعلان المبادئ واتفاقياته
1.4 أفرزت حرب الخليج والانتفاضة أوضاعا جديدة مما حدا بالولايات المتحدة إلى توجيه الدعوة لعقد مؤتمر للسلام في مدريد عام 1991. وبينما كانت المفاوضات تعقد في واشنطن بين الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي بشكل علني، كانت مفاوضات سرية تجري بين وفدين آخرين في اوسلو أسفرت عن إعلان المبادئ لترتيبات الحكم الذاتي المؤقت لعام 1993 ، حيث وقع في واشنطن في الثالث عشر من أيلول 1993إعلان المبادئ واتفاقية القاهرة للقضايا المدنية والسياسية، واتفاقية باريس للشؤون الاقتصادية وقعت الأولى في القاهرة في الرابع من آيار/ مايو 1994، والثانية في باريس في 29 نيسان/ إبريل 1994.
2.4 وما لبث أن تطور اتفاق الانسحاب من قطاع غزة وأريحا إلى الاتفاقية الإسرائيلية-الفلسطينية المرحلية حول الضفة الغربية وقطاع غزة التي وقعت في واشنطن في 28 أيلول 1995 واعتبرت هذه الاتفاقية ناسخة لاتفاق القاهرة بمجرد تنصيب المجلس التشريعي (م 31 ف 2 من اتفاقية واشنطن لسنة 1995.
3.4 وانتقلت الصلاحيات والمسؤوليات بموجب هذه الاتفاقية من الحكومة العسكرية الإسرائيلية وإدارتها المدنية إلى المجلس الذي سيحصل على صلاحيات تشريعية وتنفيذية (المادة الثالثة من الاتفاقية). وأضافت المادة 17 من الاتفاقية صلاحيات قضائية له إلا أن القيد الكبير هو ما نصت عليه المادة الثامنة عشرة من الاتفاقية. فرغم أن الفقرة الأولى منها أجازت التشريع في كل القوانين والتشريعات الأساسية أو الأولية أو الثانوية إلا أن الفقرة الرابعة من ذات المادة سحبت ما أعطته الفقرة الأولى، فهي لم تجز بل أبطلت أي تشريع يعدل أو يلغي الأوامر العسكرية أو التي تكون مخالفة لإعلان المبادىء أو الاتفاقيات الناتجة عنه، وزيادة في التأكيد منع رئيس السلطة التنفيذية للمجلس من إصدار مثل هذه التشريعات المخالفة.
4.4 ومهما يكن من أمر فإن الاتفاقيات الفلسطينية-الإسرائيلية اتفاقيات ملزمة للجانبين عملا بقانون فينا للمعاهدات الدولية لعام 1969، وهي اتفاقيات خاصة ولم يتم التحفظ على أي من نصوصها بل أن هناك دعوات صريحة للتنفيذ الدقيق والأمين لنصوصها دونما تمييز وبالتالي هي ملزمة بجميع نصوصها.
5.4 وتمت الانتخابات لمجلس تشريعي في عام 1996 وأسفرت عن مجلس له صلاحيات تشريعية مكون من 88 عضوا يمثلون مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، ومضى الآن أكثر من عامين على وجوده.
وبدأ على الفور بمناقشة مشاريع القوانين بعد أن وضع نظاما داخليا للمجلس ليعمل بموجبه وعقد الكثير الجلسات واتخذ الكثير من القرارات التي لم تنفذ بعد.
6.4 وعلى أية حال، فإن صلاحية المجلس للتشريع أمر لا شك فيه وهو وارد بصريح نص المادتين الثالثة والثامنة عشرة، إلا أن المشكلة تكمن في المدى الذي يمكن أن يشرع فيه المجلس أو المواضيع التي يمكن للمجلس أن يشرع فيها دونما قيد أو شرط.
7.4 بكلام أخر، فإن الرأي الفقهي في فلسطين منقسم إلى فريقين: فريق أول يقول بصلاحية المجلس في التشريع في أي موضوع وبأية صورة معتمدا على تمثيل المجلس التشريعي للشعب، وأن هذا التمثيل لسيادة الشعب لا يحده قيد أو حد ولا ماورد في اتفاقيات أوسلو.
8.4 وفريق ثان يقول أن الاتفاقية الدولية ملزمة لكلا الطرفين، بل إن المجلس التشريعي ما كان لينشأ لو لم ينص عليه في الاتفاقية، وبالتالي فإن ملامحه الرئيسية والنقاط الأساسية للانتخاب وردت في الاتفاقية، أي أن المصدر الرسمي للمجلس التشريعي كان الاتفاقية، فهي مرجعيته.
9.4 وليس هذا الكلام نكوصا عن الخط الوطني، بل هو التفسير القانوني الدقيق لمعنى الاتفاقية وبنودها، لذا فإن المجلس التشريعي مقيد بصلاحياته التشريعية بما ورد من قيود في المادة الثامنة عشرة. صحيح أن هذه القيود أقل نسبيا من اتفاقية القاهرة إلا أنها لا تبتعد عنها كثيرا، نظرا للجزاءات العملية الموجودة في يد السلطة الإسرائيلية.
10.4 يضاف إلى ذلك أن الصلاحية التشريعية الكاملة تكمن في مجلس تشريعي لدولة كاملة السيادة، أما إذا لم تحقق الأخيرة، فإن المجلس التشريعي سيكون مقيدا على سبيل الجزم وإلا فما معنى الفرق بين الحالتين وكأننا نسوي بين الأمرين وهذا إلغاء للمبادى المستقرة.
11.4 ويبدو أن هناك خلطا بين الأماني والرغبات والنصوص القانونية. فمن الناحية الأولى يتمنى الجميع أن تتحقق السيادة الكاملة للفلسطينيين وأن يكون المجلس التشريعي صاحب سلطان مطلق في حدود الدستور في أن يشرع ما يريد، إلا أن هذا الأمر ضمن الوضع القانوني الحالي لا يعدو كونه أمنية ما دامت الاتفاقية تحد من صلاحيات المجلس التشريعي، وكأن التشبيه -مع الفارق- يقع بين القانون الخاص والعام. ألا يقدم القانون الخاص على القانون العام في الفهم والتطبيق؟
12.4 أليس من قواعد التفسير في الاتفاقيات الاعتماد على نصوصها والمعنى الواضح والطبيعي للمفردات في إطار المعاهدة وهدفها؟ إذا كان الأمر مستقرا -وهو مستقر- في قانون المعاهدات الدولية، فكيف يمكن الاحتجاج بما ورد من حجج لتجاهل القيود الواردة في المادة 18 ف 4؟ ولو سئل سؤال واحد: هل هذه الاتفاقية إتفاقية لإنشاء دولة؟ إن الجواب جد بسيط من خلال قراءة المعاهدة وهو إقامة حكم ذاتي مؤقت إلى أن يتقرر الوضع النهائي.
13.4 ورب قائل: ماذا لو أنكر الجانب الفلسطيني وتجاهل الاتفاقية وبنودها؟ حينها نخرج من الإطار القانوني، وننطلق إلى الجانب العملي، وحينها يصبح الجدل وفق الواقع والمعضلات وفي هذه الحالة على الفلسطينيين أن يختاروا بين هذه الاتفاقية وآثارها أي نهجها السياسي وبين تمزيقها والعودة إلى خيارات أخرى، أما أن يتم تجزيء الأمر فيتم أخذ النصوص القانونية التي تعجب الفلسطيني تارة ويهمل التي لا تعجبه تارة أخرى فهذا أمر لا يتفق مع قواعد التفسير الصحيحة للمعاهدات الدولية.
14.4 ويجب أن يشار في هذا السياق إلى القرار الرئاسي رقم 1 الصادر في 20/5/1994 والذي أوجب استمرار العمل بالقوانين والأنظمة التي كانت سارية المفعول قبل تاريخ 5/6/1967 في الأراضي الفلسطينية “الضفة الغربية وقطاع غزة” حتى يتم توحيدها”. وعليه، فإن القوانين العثمانية والبريطانية الانتدابية والأردنية تبقى مطبقة على الضفة والقطاع، أضف إلى ذلك أن اتفاقيات إعلان المبادىء أوجبت سريان الأوامر العسكرية.
15.4 وكان من الواجب أن يصدر إثر إعلان استمرار العمل بالقوانين قرار رئاسي لأمر الإداريين والموظفين بالاستمرار في عملهم، وهذا ما حصل، إلا أن الملاحظ أن تاريخ القرار الثاني هو 6/5/1994 بينما تاريخ القرار الأول هو 20/5/94 وواضح عدم التناسق بل التناقض بين التاريخين وبين رقمي القرارين.
16.4 بعد دخول القيادة الفلسطينية إلى فلسطين بدأت في إصدار القوانين الجديدة والقرارات الإدارية. ومن أبرز القوانين التي صدرت عن السلطة الوطنية الفلسطينية (السلطة) قانون رقم 9 لسنة 1995 بشأن هيئة الرقابة العامة وقانون رقم 3 لسنة 1996 بشأن الاتصالات السلكية واللاسلكية.
17.4 وبانتخاب المجلس التشريعي توقفت السلطة عن سن القوانين، وأصبح الأمر من اختصاص المجلس التشريعي، وإن كانت السلطة من خلال ديوان الفتوى والتشريع هي التي تقوم بإعداد مشروعات القوانين رغم تحفظ اللجنة القانونية في المجلس التشريعي التي ترغب في جمع عناصر العمل التشريعي. وخلال العامين السابقين صدرت قوانين عدة كانتخاب الهيئات المحلية وسلطة النقد والأجانب والاستثمار والخدمة المدنية والدفاع المدني والتأهيل والإصلاح والأسلحة النارية والأجانب والمعادن الثمينة.
18.4 ومعظم هذه القوانين تخلو من الحقوق والحريات العامة بمعناها الدقيق ما عدا قانون التأهيل والإصلاح الذي لم يمض على إصدره سوى أيام معدودات ولم ينشر بعد في الجريدة الرسمية، إلا أن مشروعات قوانين كثيرة ما زالت مدرجة على جدول أعمال المجلس التشريعي وبعضها صدر عن السلطة قبل إنشاء المجلس التشريعي.
– هوامش الفصل الرابع –
1) نصت المادة 18 من الاتفاقية الاسرائيلية الفلسطينية المرحلية حول الضفة الغربية وقطاع غزة على الصلاحيات التشريعية للمجلس 1-……….2-………..3-………… 4- أ: التشريعات بما فيها التشريعات التي تعدل أو تلغي قوانين سارية أو اوامر عسكرية والتي تفوق ولاية المجلس او التي تكون مخالفة لاحكام اعلان المبادئ او هذه الاتفاقية او اية اتفاقية التي يمكن التوصل اليها خلال المرحلة الانتقالية لن تكون سارية المفعول وستكون باطلة . ب : على رئيس السلطة التنفيذية للمجلس عدم اصدار تشريعات تبناها المجلس اذا كانت هذه التشريعات تقع ضمن احكام هذا البند ” .
2) انظر العدد العاشر من الوقائع الفلسطينية والصادر بتاريخ 31/12/1995 والذي خصص لموضوع الانتخابات .
3) انظر العدد الاول من الوقائع الفلسطينية 20/11/1994 ، ص 10 .
4) انظر العدد الاول من الوقائع الفلسطينية 20/11/1994 ، ص 11.
5) انظر القوانين 96-2000 ، المجلس التشريعي الفلسطيني – الدائرة الاعلامية ، اذار 2000
الفصل الخامس
السيناريوهات المتوقعة وأثرها على الحقوق والحريات العامة
يعكس الوضع السياسي نفسه على الوضع التشريعي، فالمأزق التفاوضي يلقي بظلاله على المجلس التشريعي والسلطة. والقضية التشريعية في تخبط واضح، ذلك أن الغموض المستقبلي ليس بناء بل تعتوره كثير من الصعاب والعراقيل. فالقانون أداة من أدوات السياسة والمشرع في سنه للقانون يعكس فلسفته التشريعية، فإذا كان هذا القانون يتصل بالحقوق والحريات العامة، فمن باب أولى أن يتصل بفلسفة وفكر النظام ومدى ديمقراطيته.
القانون ليس مفردات فقط، ليس قواعد عامة مجردة تنظم الأنماط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وحتى الأخلاقية بل هو قواعد تترجم فلسفة الحكم إلى قواعد تشريعية وتهدف لخلق مجتمع مستقر منظم وفقا للرؤية السياسية للسلطة الحاكمة، وهذا الطرح صحيح في كل فروع القانون.
فإن كان الفكر السائد معني بتعزيز الديمقراطية خلقت قواعد تشريعية تؤكد حق الاقتراع العام وسيادة القانون والفصل بين السلطات والنظام القضائي. وإن كان الفكر يدعو إلى وأد الديمقراطية، فلا جدل أن المشرع سيسعى جاهدا إلى إلغاء المفاهيم السابقة والعمل على نفيها.
لذا لا يمكن فصل القواعد القانونية عن مصادرها المادية وعن المناهل التي تنهل منها وتقف على رأسها الظروف والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والخلقية وحتى الدينية والنظام السياسي والاقتصادي السائد. من هنا، كانت السيناريوهات الأربع للعلاقات الأردنية الفلسطينية ستعكس نفسها على الأوضاع التشريعية وعلى سن القواعد القانونية الجديدة سواء في الإقليم الفلسطيني أو في الإقليم الأردني.
المبحث الأول
سيناريو التقاسم الوظيفي
1.1.5 في ظل جمود العملية السياسية فإن الأوضاع القانونية ستراوح مكانها، لذا فإن التشريعات والقوانين والأنظمة المطبقة حاليا ستبقى مطبقة، وهذا سيخلق إرباكا وتقاطعات في الساحتين الفلسطينية والأردنية. فلا دولة الأردن راغبة في إلغاء القوانين هذه كلية لأنها ستؤدي بها إلى سيناريو الانفصال، ولا دولة فلسطين راغبة تماما في ذلك لعدم وضوح المستقبل وحتى لا تتأثر المراكز القانونية للأفراد والمنظمات والهيئات والنقابات، ولا أدل على ذلك من وضع النقابات المهنية وقضية الازدواج النقابي.
2.1.5 وبناء عليه، ستبقى الاتفاقيات اللاحقة لإعلان المبادئ سارية المفعول ولن تعقد اتفاقيات جديدة للوضع النهائي، وستبقى الأوامر العسكرية سارية المفعول في الضفة الغربية. وببساطة شديدة لن تكون هناك دولة فلسطينية، وستزداد قتامة إمكانية صدور دستور جديد وانتخابات جديدة لمجلس تشريعي جديد، ولن يستطيع الفلسطينيون سن قوانين تعالج قضايا المياه الشائكة والمجال الجوي لوحدهم وبشكل مستقل عن الإسرائيليين، بل إن تطبيقهم لقانون النقل على الطرق سيكون مشلولا، فضلا عن تطبيق القوانين الأمنية الإسرائيلية على مناطق “ب” و “ج”. وستبقى قضايا الحقوق والحريات عالقة من ناحية أنظمة الطوارئ البريطانية لعام 1945، وسيبقى قائما سيف الإبعاد والاعتقال الإداري وهدم المنازل والعقوبات الجماعية وكل النصوص الخارقة للحريات جميعا.
3.1.5 وفي زمن التقاسم الوظيفي لن يكون للسلطة الأردنية اختصاص فيما يتعلق بحقوق وحريات الفلسطينيين في الضفة الغربية ولن يمكنها التشريع في جميع مجالات الحقوق والحريات العامة ولن يستطيع الفلسطينيون التوجه إلى المحاكم الأردنية، وستصبح أحكام المحاكم في غاية الصعوبة وتطبيقها. وستبدأ الحقوق والمراكز القانونية بالاهتزاز وستثور مسألة تنازع القوانين بين القوانين الإسرائيلية والأردنية والفلسطينية.
4.1.5 وسينعكس هذا التنازع على الأنشطة والقوانين الاقتصادية والضرائب والجمارك والخدمة المدنية والعمل والتأمين والفائدة والبنوك والطاقة والزراعة والمواصلات، كذلك سينعكس على قوانين الجنسية والإقامة والأجانب.
5.1.5 إن انعكاس سيناريو التقاسم الوظيفي على الحقوق والحريات العامة في فلسطين سيكون كارثيا، فقوانين الطوارىء ستستمر والمحاكم العسكرية ستستمر ويبقى الأمن الإسرائيلي فوق كل اعتبار. ولا يتوقع أن يكون الوضع في الأردن أفضل من الضفة إلا بدرجات بسيطة في هذا الإطار، ويمكن أن يؤدي إلى سيناريو الانجراف والانفصال.
المبحث الثاني
سيناريو الانفصال
1.2.5 في الوقت الذي تمكنت فيه شعوب الأمة العربية من حق تقرير المصير وإنشاء دولهم الخاصة بهم إلا أن الشعب الفلسطيني بقى لوحده دون تحقيق هذه الأمنية العزيزة لديه، وهذا قد يقود إلى الانفصال وتأكيد الهوية أو الذات، وهذا سيدفع بالمشرع الفلسطيني أن يصوغ أوضاع الانفصال في قواعد قانونية تؤكده وبالتالي إلى سن قوانين جديدة وإلغاء القوانين وبخاصة الأردنية نظرا لطيفها السياسي.
إن الانفصال لا يعني بالضرورة التحرر من ربقة الاحتلال، فإذا لم يقد الانفصال إلى الاستقلال ستبقى المعاهدات التي تقيد التشريع وبخاصة في إطار الأوامر العسكرية التي تتصل اتصالا وثيقا بالحقوق والحريات العامة. ولن يستطيع المشرع الفلسطيني أن يتخلى أو يلغي القوانين القائمة بجرة قلم، فهي قوانين موجودة منذ ما يقارب الأربعة عقود وقد خلقت مراكز قانونية وحقوق مكتسبة.
2.2.5 وضع قوانين جديدة للحقوق والحريات العامة يقتضي وضع دستور جديد وهذا سيؤدي إلى خلق نظام سياسي جديد وقوانين جديدة للأحزاب السياسية والجمعيات والانتخابات والحريات وحقوق الإنسان والمحاكم والقضاء الدستوري والإداري والملكية وسيادة القانون. وكل ذلك سيثير نقاشات وسيقحم الجانبين في إطار تنافس ضار بدل التكامل والتنسيق.
3.2.5 وأغلب الظن أن سيناريو الانفصال القانوني سيؤدي إلى تقطيع الأواصر مع التراث القانوني المحلي وبناء هياكل قانونية جديدة وهذا أمر ليس باليسير. كما أن أي تكامل أو تنسيق بين النظامين القانونيين سيضيع، ويمكن أن يتم تخيل الوضع الشائك قانونيا إن تم الانفصال الكلي. فعلى سبيل المثال النقابات المهنية للأطباء والصيادلة والمحامين وأطباء الأسنان والمهندسين الزراعيين وأطباء البيطرة متداخلة قانونيا ولم تعمل بقرار فك الارتباط. أضف إلى ذلك أن انفصالها قد يؤثر على تواجد هذه النقابات على أرض القدس.
4.2.5 وسيؤدي سيناريو الانفصال إلى التأكيد بشكل قاطع على الأردني وعلى الفلسطيني وعل المقيم وعلى الجنسية والتجنس وحرية التنقل والتملك، وهذا سيدفع بمشروعات قوانين كثيرة سوف تتأرجح بين الواقع وبين الأمل، وكل ذلك سيؤدي إلى عدم الاستقرار.
5.2.5 إن سيناريو الانفصال سيخلق وضعا غير مستقر وغير واضح المعالم ويتصف بالغموض في مثل هذه الأوضاع، يتراجع الاقتصاد وبالتالي تتعثر الحريات، وهو وقت مناسب لفرض قوانين الطواىء بحجة المصلحة العامة وبناء الدولة المستقلة، وهذا سيؤدي إلى المزيد من التقييد على الحقوق والحريات العامة.
6.2.5 صحيح أن هناك قوانين أقرت من قبل المجلس التشريعي وصدرت من الرئيس إلا أن معظمها لا يتلاقى مع الانفصال بل يمكن أن تكون أقرب إلى التعاون وبخاصة أن معظمها استقى كثيرا من أحكامه من القانون الأردني أو لا يتصل بمنظومة الحقوق والحريات العامة كقانون سلطة النقد والخدمة المدنية والمعادن الثمينة والأسلحة والذخائر والدفاع المدني.
المبحث الثالث
سيناريو الكونفدرالية
1.3.5 في الإطار الكونفدرالي يقترب سيناريو التعاون من نقطة الانفصال، فمن المعلوم أن الكونفدرالية وسيلة هشة للاتحاد بين الدول. ومعظم الدول الكونفدرالية انتهت وأصبحت إما دولا فدرالية أو متحدة أي دولة بسيطة أو استقلت عن بعضها البعض، بل إن بعض أعضاء الاتحاد الكونفدرالي قد يكونون في حالة حرب مع دولة أخرى بينما البعض الأخر يقيم علاقات سلمية مع تلك الدولة.
2.3.5 أضف إلى ذلك أن الكونفدرالية تعني تعدد المجالس التشريعية وتعدد الحكومات وتعدد الدساتير وتعدد المعاهدات. ببساطة شديدة تعدد القوانين وتعدد المحاكم العليا، أي أن الكونفدرالية تؤدي إلى الانفصال وليس إلى التعاون إلا إذا كان الشكل المجرد هو المطلوب ونبذ الجوهر الذي يؤدي إلى ذوبان الأشكال وصهرها في بوتقة واحدة.
3.3.5 الكونفدرالية تعني بقاء القوانين القائمة حاليا مطبقة إما في الأردن أو في فلسطين لوحدها، دون أن تسري على الإقليمين بشكل تبادلي، حتى لو صدر قانون جديد -ولو تعلق بحق أو حرية عامة- فإنه لن يسري على الإقليمين، بل في الإقليم الذي صدر فيه فقط، وكأن المقصود حقيقية سيناريو انفصال وليس تعاون.
4.3.5 الكونفدرالية تعني أن يبقى لكل دولة نظامها القضائي ومحاكمها ولا تتبع اجتهادا قضائيا واحدا، بل تتعدد المحاكم العليا، وهذا يؤدي إلى اجتهادات قضائية متعددة ويمكن أن تكون متناقضة ومتضاربة ومتنافرة ما دامت لا تجمعها وحدة القانون ومحكمة عليا واحدة.
5.3.5 النظام الكونفدرالي لا يعني التنسيق أو التكامل في التشريع ولا في القرارات الإدارية ولا في النظام السياسي، بل يمكن أن توجد قوانين متناقضة بحسب فلسفة التشريع في كل إقليم من أقاليم الدولة الكونفدرالية، ومن ثم تصدر قرارات إدارية مختلفة إن لم نقل متنافرة بل والرقابة عليها مختلفة سواء أكانت رقابة سياسية أو قضائية أو إدارية.
6.3.5 في إطار الكونفدرالية تتخذ الدساتير أبعادا وفلسفات مختلفة عن بعضها البعض، لذا يمكن أن يتوسع دستور في مفهوم الحقوق والحريات العامة، بينما دستور الإقليم الآخر يقوم بتضييقه، وبذا يكون إقليمان في الاتحاد الكونفدرالي إقليمان يطبقان مفهومين مختلفين في الحقوق والحريات العامة.
7.3.5 ويمكن القياس على كل ما سبق: هل يتم تبني نظام المجلس التشريعي الواحد أم نظام المجلسين؟ طريقة الانتخاب، هل هي الأسلوب الفردي أم بالقائمة؟ وأصحاب حق الانتخاب وتحديد الدوائر وأسلوب الانتخاب: هل هو الأغلبية البسيطة أم المطلقة أم التمثيل النسبي؟ وكيفية التقسيم الإداري وأوضاع الموظفين والحريات جميعا وقوانين الأمن والجيش ونوع الاقتصاد والشركات والفائدة والضرائب ….الخ.
8.3.5 ببساطة شديدة لو كانت الكونفدرالية تعني الحد الأدنى للتنسيق في جميع المواضيع المشتركة لأدت إلى نوع من أنواع التعاون، إلا أن الحد الأدنى منفي سوى في رئاسة الدولة وهيئة وسيطة، وحتى رئاسة الحكومة ليست بالضرورة أمرا متفقا عليه إذ أن الكونفدرالية آليه تعني الإبقاء على شخصية واستقلال الدول الأعضاء -وهما هنا فلسطين والأردن- في المجالين الداخلي والخارجي. ولا بد من التذكير بأن حق الانفصال هو أحد العلامات البارزة للكونفدرالية، فلكل دولة حق الانفصال من الاتحاد الكونفدرالي سواء نص على ذلك أم لم ينص عليه.
9.3.5 ونتيجة لاحتفاظ الدول الأعضاء في الاتحاد الكونفدرالي بسيادتها، فإن قرارات الهيئة المشتركة للاتحاد لا تنفذ إلا بموافقة حكومات الدول المنظمة للاتحاد وعبر حكومات هذه الدول أي أن هذا الاتحاد فاقد للقوة الإلزامية على رعايا الاتحاد وأشخاصه الطبيعيين والاعتباريين.
10.3.5 لذا رغم بريق صيغة الكونفدرالية وتردادها في وسائل الإعلام وتكرارها من الجمهور بفهم أو بدون فهم، فإن الكونفدرالية بين فلسطين والأردن ما هي إلا سير في سيناريو الانفصال ونفي للتعاون. فكل دولة تبقي على شخصيتها الدولية في إطار انتقالي وقلق وغير ثابت فروابطه ضعيفة واختصاصاته ضئيلة ومحددة. أضف إلى هذا أن الكونفدرالية تفتقر إلى الجهاز التنفيذي الذي يتولى تنفيذ قراراتها، وهذا سيؤدي حتما إلى تقويض هذا النظام وعدم ديمومته وتعريضه للخطر.
المبحث الرابع
سيناريو الوحدة أو الاتحاد الفدرالي
1.4.5 يمكن القول أن التعاون الأردني-الفلسطيني يجب أن يأخذ صيغة الاتحاد الفدرالي أو الوحدة الاندماجية حتى يؤدي إلى الأمن والاستقرار. وإذا أرادت القيادات السياسية ضعفا وقصورا تختار الكونفدرالية، أما إذا اختارت القوة والمتانة فعليها أن تختار ما بين الاتحاد الفدرالي أو الوحدة، لأنه في كلا الأمرين تفنى الشخصية الدولية للأقليم أي للدول الأعضاء وتطفو على السطح شخصية قانونية دولية جديدة هي الاتحاد.
2.4.5 والاتحاد الفدرالي يختلف عن الوحدة اختلافا بينا من حيث السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، ونظرا لأن الاتحاد الفدرالي (الاتحاد المركزي) يخضع للقانون الدستوري، أي أنه يستند إلى دستور في إنشائه، فالمركز القانوني للدستور في الاتحاد الفدرالي يختلف عن دولة الوحدة. ومن الجدير بالذكر أن الاتحادات الأخرى تستند إلى المعاهدات الدولية، أي إلى القانون الدولي العام.
3.4.5 ولا بد من الإشارة إلى أن الاتحاد الفدرالي بين فلسطين والأردن أو إقامة دولة الوحدة البسيطة بينهما يوجد شخصية دولية واحدة وهي شخصية الدولة المركزية، ويكون لها فقط حق الدخول في علاقات دولية مع الدول الأخرى أو المنظمات الدولية. فلهذه الدولة المركزية حق تبادل التمثيل الدبلوماسي، وحق تقرير الحرب والسلم وإبرام المعاهدات وعليها تقع مسؤولية الولايات أو الأقاليم. كما أن جميع رعايا الدولة المركزية يتمتعون بجنسية مشتركة واحدة وهي جنسية الدولة. أما الرابطة التي تربط الفرد بالولاية ينظر لها على أنها بأنها جنسية وإنما هي قضية رعوية لأن الولاية لا تتمتع بالسيادة الكاملة. كذلك يوجد في الاتحاد الفدرالي دولة الوحدة البسيطة: دستور وسلطة قضائية وسلطة تشريعية وإدارة، إلا أن أشكال واختصاص وصلاحيات كل من السابقة يختلف من الاتحاد الفيدرالي إلى دولة الوحدة والعكس صحيح لأن الأولى تمثل الدولة المركبة والثانية الدولة البسيطة.
4.4.5 ومنعا للتكرار ستتم مناقشة نظرية الحقوق والحريات العامة في الحالتين مع إبراز وجه الاختلاف حينما يوجد، سواء في الاتحاد الفدرالي أو في دولة الوحدة البسيطة، وهذه الحقوق لن تعدو إمكانات قانونية جوفاء دونما ضمانات، لذا من الضرورة بمكان الحديث عن هذه الضمانات.
1- وجود الدستور
لا يقام نظام في دولة ولا تؤسس قواعد ممارسة السلطة فيها ولا تبين وسائلها وقيودها وكيفية استعمالها دونما وجود دستور فهو يعتبر الضمانة الأولى لخضوع الدولة للقانون وتقييد السلطات المنشأة سواء أكانت تشريعية أو تنفيذية أو قضائية.
لذا لا بد من وضع دستور للأردن وفلسطين سواء في إطار الجمعية التأسيسية أو في طريقة الاستفتاء الشعبي، وهذا يعتمد على الطريقة التي تم تبنيها لوضع الدستور ونفاذه في الأردن وفلسطين وإن كنت أفضل أسلوب الاستفتاء الشعبي.
ومن نافل القول أن الأساليب الفردية أو ما عرف بالأساليب الملكية في وضع الدساتير غير واردة في هذا الشكل من اشكال الاتحاد. فأسلوب المنحة أو أسلوب العقد لا يتناسبان مع الاتحاد الفدرالي ولا مع دولة الوحدة -لأن الأسلوب الأول أقرب إلى الهبة في زمن الحكم المطلق، والثاني عودة إلى مبادىء العقد الاجتماعي كإسناد للسلطة السياسية الحاكمة.
ويعد الاستفتاء الشعبي والدستوري وسيلة متميزة ومتماشية مع النظام الديمقراطي حيث يتولى الشعب السلطة بنفسه ويمارس سيادته بطريق مباشر دون وسيط، فهو يرتفع بمعنى المواطن ويشركه في تحمل المسؤولية ويخلصه من دعايات الأحزاب ويقلل من سيطرتها على الأفراد ويضعفها. وهذا الأسلوب دعم لحرية الرأي وحق المعارضة وتخليص المواطن من الشعارات المضللة الجوفاء.
يوجد في الأردن دستور 1952 الذي أقر عبر وسيلة التعاقد بين الملك طلال ومجلس الأمة، أما في فلسطين فلم يصدر مشروع القانون الأساسي بعد. فرغم انتهاء قراءاته الثلاثة، ورغم أن قانون الانتخاب رقم 15 لسنة 1995 قد قرر في الفقرة الثانية من المادة الثالثة أن “يتولى المجلس الفلسطيني فور انتخابه وكأول مهمة يقوم بها وضع نظام دستور للحكم بموجبه في المرحلة الانتقالية”، إلا أن القانون الأساسي (الدستور) لم يصدر بعد ولم يصادق عليه رئيس السلطة ولم ينشر في الجريدة الرسمية ولم ينفذ بعد.
على أية حال، لضمان الحقوق والحريات العامة لا بد أن يصدر دستور تزينه وتتصدره الحقوق والحريات العامة سواء كنا في دولة مركبة أو بسيطة، ولا بد أن يكون هذا الدستور جامدا جمودا نسبيا وليس جمودا مطلقا، والأفضل أن لا يكون الدستور مرنا، بل إن القضايا الأساسية في هذا الدستور المقترح، وإن شئتم كل الدستور المقترح، يجب أن يحظر تعديلها في أول خمس سنين من دخوله حيز التنفيذ. فلا يعقل أن تطرح قضايا جوهرية تستوجب تعديل الدستور في السنين الخمس الأوائل ولما يجف حبر القانون الأساسي بعد، ولو سمح بذلك فإن الدستور الجديد ومؤسساته ستضعف بحيث يؤدي ذلك إلى الفوضى وعدم الاستقرار.
على أية حال، إذا أقيم نظام فدرالي يكون للدولة الفدرالية دستور أسمى من كل الدساتير والقوانين الأخرى في الدولة الفدرالية -يضاف إلى ذلك دستور في كل إقليم فدرالي يتقيد بالدستور الاتحادي ويقيد القوانين، في الولاية. أما في الدولة البسيطة فتنتفي مقولة ثنائية الدستور ولا يوجد إلا دستور واحد للدولة البسيطة وتوزع الاختصاصات الإدارية فيها بواسطة النظام المركزي أو اللامركزي.
وبعد مرور السنوات الخمسة الأولى يمكن تعديل الدستور شريطة أن يكون ذلك بموافقة ثلثي أعضاء المجلس التشريعي وليس بموافقة ثلثي أعضاء الحاضرين، ذلك أن النصاب القانوني يفضل أن يكون في إطار الثلثين وليس أقل من ذلك. وفوق هذا وذاك يفضّل أن ينص الدستور الجديد على إجراءات أطول زمنيا من أجل تعديله كإيداع اقتراح التعديل قبل سنة من البحث فيه، أو مناقشة زمنا وتركه زمنا أخر وغير ذلك من المقترحات المطيلة.
2- الحقوق والحريات العامة في صلب الدستور
تقوم الدساتير الحديثة بتصدير باب الحقوق والحريات العامة وتعطيها مكانة أولى في الترتيب الشكلي، وهذا ما فعله دستور 1952 ومشروع القانون الأساسي، لذا ومن باب أولى أن يتصدر الدستور الجديد باب للحقوق والحريات العامة كناية عن أهميتها وقدسية نصوصها وحمايتها وضمانها واحترامها.
صحيح أن الوثيقتين “دستور 1952، ومشروع القانون الأساسي تضمنتا كثيرا من الحقوق والحريات العامة، وصحيح أن مشروع القانون الأساسي” احتوى أكثر من دستور 1952 إلا أنه ما زال غير نافذ المفعول بعد. فهو، مثلا، حظر التعذيب (م13) ومنع العقوبات الجماعية (م 15) وقرر شرعية الجريمة والعقوبة (م 15) وحمى حرية السكن (م 17) وأقام حق السكن (م 23) وقرر حق المشاركة في الحياة السياسية (م 26) وحق الأطفال ورعاية الأمومة والطفولة (م 29) وأسس حق التقاضي ومنع تحصين أي قرار أو عمل الإدارة (م 30) وإيغالا في حماية الحقوق والحريات نص مشروع القانون الأساسي على منع أي سقوط للدعوى الجزائية أو المدنية إذا شكلت اعتداء على الحريات الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للإنسان وضمنت السلطة تعويضا عادلا لمن وقع عليه الضـرر (م 32).
والحقيقة أن مشروع القانون الأساس لم يضف حقوقا وحريات عامة فقط بل فصل ونظم بعض هذه الحقوق والحريات مثل مبدأ المساواة (م 9) والحرية الشخصية (م 11) وعدم جواز القبض على شخص (م 12) وعدم رجعية القوانين (م 15) والأصل في الإنسان البراءة (م 14) وعدم جواز إجراء تجارب طبية أو علمية دون الرضاء (م 16) حتى وحتى حرية العقيدة (م 18) وحرية الرأي (م 19) والتعليم بكافة مستوياته (م 24) والمشاركة في الحياة السياسية (م 26) وحرية الصحافــة (م 27) ، حيث تمت الاستفاضة في تقنينها.
ولا يعاب على الدستور الأردني لعام 1952 أنه لم ينظم بعض الحقوق والحريات العامة المحدثة، فهي لم تكن قد رسخت بعد في الممارسات الدولية والداخلية، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان صدر فقط في العاشر من شهر كانون الأول 1948 والعهدين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لم يصدرا إلا في عام 1966 ولم يدخلا حيز التنفيذ إلا في عام 1976 لمن وقع وصادق عليهما. وهما المصدر الأساسي لهذه الحقوق والحريات.
يسجل لدستور 1952 أنه دستور متقدم على الدستور البريطاني لفلسطين الصادر عام 1922 والقانون الأساسي لقطاع غزة رقم 255 لسنة 1955 والنظام الدستوري لقطاع غزة لسنة 1962 في إطار الحقوق والحريات العامة، بل إنه متقدم على الدستورين الأردنيين لعامي 1928 و 1946، ويكفي أن يذكر موضوع الصلاحيات المطلقة للمندوب السامي البريطاني والحاكم الإداري العام والملك في كل تلك الدساتير لتبيان مدى أفضلية دستور 1952.
على أية حال، فإن المشروع المقترح في إطار التعاون لخلق دستور أردني فلسطيني سواء في دولة فدرالية أو بسيطة يجب أن يأخذ في عين الاعتبار: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، ميثاق الحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، ميثاق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966، والمعاهدات لمنع التمييز العنصري سواء في مجال التمييز أو العمل أو الدين أو المرأة أو الطفل أو النقابات.
وببساطة، يشكل القانون الدولي العام في موضوع حقوق الإنسان مصدرا ماديا ينهل منه المشرع الفلسطيني الأردني في مجال الحقوق والحريات العامة.
وفي هذا السياق لا بد من إيراد نصوص قانونية دستورية حول المساواة بين الرجل والمرأة والشخصية القانونية والحق في الحياة وسلامة البدن والأمان، وعدم الرق، وعدم التعذيب وحق التقاضي وعدم الاعتقال تعسفا، وحق اللجوء إلى محاكمة عادلة، علنية ومستقلة وعدم رجعية القوانين الجزائية والتناسب بين الجريمة والعقوبة، وحماية الحياة الخاصة وأسرارها، وحرية التنقل وعدم الإبعاد واللجوء والتمتع بجنسية وعدم الحرمان منها، وحق الزواج وتأسيس أسرة والحق في التملك وعدم التجريد من التملك وحرية الفكر والدين والتعبير والصحافة وحرية الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية والمشاركة في إدارة الشؤون العامة للبلد الذي ينتمي إليه الفرد وتولي الوظائف العامة وحقه في الانتخابات والترشيح وحق الفرد في الضمان الاجتماعي وحقه في العمل وفي الأجر والمكافأة والإجازات والحق في المأكل والملبس والمسكن والحق في الأمومة والطفولة والتعلم والتعليم لكل المراحل والحق في المشاركة الثقافية وإنشاء النقابات والجمعيات والانضمام إليها وحق الإضراب وحماية الأطفال والنساء والبيئة والمعوقين والشهداء واللاجئين.
ولم يرد التعداد السابق على سبيل الحصر فهو على سبيل التمثيل، وقد يعتقد البعض أن المشرع الأردني-الفلسطيني سينوء بحمل كل هذه الحقوق والحريات. والحقيقة أن هذه الحقوق والحريات العامة ليست إلا إمكانات قانونية معظمها لا يفرض التزامات إيجابية على الدولة وإن كانت في جزء منها تفعل ذلك.
وفي ظل التجربة الأردنية والعربية والعالمية لموضوع الحقوق والحريات العامة تتراءى الثغرات في هذا الموضوع وأهمها قضية الضمانات للحقوق والحريات في وجه تعديات وخروقات السلطة التنفيذية لها وعليها. فلا يكفي أن ترد الحقوق والحريات في صلب الدستور المقترح بل يجب أن يتضمن الدستور المقترح نصا أو نصوصا تمنع السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية من هدم وهدر هذه الحقوق والحريات تحت حجة التنظيم أو إعادة الترتيب أو التأويل أو التقييد أو التضييق. وإن كان لا بد من إعادة التنظيم أو الترتيب والتقييد أو التضييق فلا بد أن يكون ذلك في أضيق الأوضاع وبما يتفق مع طبيعة الحق ذاته وفي زمن الطوارىء أو الظروف الاستثنائية فقط، بل إن تلك النصوص يجب أن تكفل هذه الحقوق والحريات في جميع الأوقات وأن تتخذ الدولة من الإجراءات الدستورية والأعمال التشريعية ما يكفل هذه الحقوق والحريات. وكذلك، فإن بعض الحقوق يجب أن تكون أسمى من كل تقييد أو هدر مثل الحق في الحياة والتعذيب والاسترقاق وتطبيق القانون الجزائي الأصلح للمتهم والشخصية القانونية وحرية الفكر والوجدان والدين. وفي ذات الإطار تبطل القوانين التي تخرق الحقوق والحريات التي تكون مناقضة للنصوص الدستورية سواء كانت هذه القوانين لاحقة للدستور المقترح أو سابقة عليه.
ولا أدل على ما ذكر من أن السلطة التنفيذية حينما كانت تتذرع بالنظام العام والأمن الوطني والصحة العامة والرفاهية العامة والفضيلة والديموقراطية والرفاه العام أو حماية حقوق الأخرين وحرياتهم أو الطوارىء أو الآداب العامة أو مصلحة العدالة كانت تفعل ذلك من أجل إقامة القيود وإعدام الحقوق والحريات العامة، وبخاصة أن الأدوات التي تستعمل هي أدوات تشريعية أو مراسيم قوانين أو مراسيم تفويضية خولها الدستور تقييد الحقوق والحريات، بل إن عمل هذه الأدوات يشكل ضرورة لعدم إطلاق ونسبية الحقوق والحريات، وبالتالي فإنها تعتبر أدوات دستورية مشروعة.
صحيح أن الحريات نسبية وغير مطلقة إلا أنه يجب إيجاد علاقة متوازنة بين الحريات العامة والنظام العام وبين بعضها البعض وبينها وبين إمكانية الدولة، بل إن هناك حريات لا يمكن التمتع بها وممارستها إلا إذا تم التمتع بحريات أخرى كالحق في الحياة وحرية التنقل وما إلى ذلك. وكذلك، فإن هذه الحريات لها مفهوم متدرج، ويجب أن يفهم المشرع أن الحرية والتنظيم ليسا أمرين متناقضين ولا مطلقين بل أنهما متكاملان ونسبيان ويعاضد الواحد منها الأخر.
ويجب أن يلاحظ المشرع التفرقة التقليدية بين الحقوق والحريات العامة في إطارها التقليدي والحديث، فالأولى تحتاج في الأعم الأغلب إلى موقف سلبي من المشرع أي مجرد الامتناع عن التدخل فيها. أما الثانية وبخاصة الاجتماعية والاقتصادية كالعمل والصحة والتعليم والعجز والشيخوخة والبطالة والمسكن ..الخ فهي تفرض على الدولة التزامات إيجابية تقدمها للأفراد أي سّن تشريعات لتحقيق هذه الحقوق والحريات الجديدة ضمن إمكانات الدولة وبخاصة المالية منها.
هوامش الفصل الخامس
1) د. الصدة – عبد المنعم فرج – أصول القانون – دار النهضة العربية – بيروت – 1978 ، ص 12- 13 .
2) د.بدوي – ثروت ، المرجع السابق ، ص 182.
3) د.الصدة ، عبد المنعم فرج المرجع السابق، ص83-85 .
4) انظر في أساليب وضع الدساتير د.متولي، عبد الحميد ود. عصفور ، سعد ود. خليل ،محسن – دار المعارف، الاسكندرية ، ص84-89.
5) د.بريوتي حقي اسماعيل المرجع السابق ص 21،30 .
6) د. شيحا، ابراهيم عبد العزيز، النظم السياسية والقانون الدستوري، بيروت، الدار الجامعية ص 67-70 .
7) د. يدوي ، ثروت ، المرجع السابق ، ص 67-69.
8) د. خليل محسن ، النظم السياسية والدستور اللبناني – بيروت – دار النهضة العربية – 1973 ص 81-85 .
9) د.حلمي ،محمود المبادئ الدستورية العامة – الطبعة الرابعة – 1975،دار الفكر العربي ، ص 90 .
10) د. حلمي ، محمود – المرجع السابق – ص 92-94 .
11) د. العناني ، ابراهيم محمد، القانون الدولي العام، القاهرة، عين شمس، 1990، ص 109-111 .
12) د. ليلة ، محمد كامل ، القانون الدستوري ، دار الفكر العربي ، القاهرة 1963، ص 53،55.
13) انظر في مزايا هذا الاسلوب د.بدوي – ثروت – القانون الدستوري وتطور الانظمة الدستورية في مصر، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1971 ص 57-59 .
14) د.العطار، فؤاد ،النظم السياسية والقانون الدستوري ، 1965 –1966 ، دار النهضة العربية القاهرة –ص206-210 .
15) د.العطار – فؤاد ، المرجع السابق-ص211-212.
16) نشر قانون الانتخاب في الوقائع الفلسطينية بتاريخ 11/12/1995 في العدد الثامن .
17) د.ليلة ، محمد كامل ، ص82-85.
18) Sighart.P. op.cit, pp9,10.
19) انظر مواثيق حقوق الانسان كاملة في د. بسيوني والدقاق والوزير، حقوق الانسان المرجع السابق .
20) د.الشرقاوي ، سعاد – نسبية الحريات العامة وانعكاساتها على التنظيم القانوني ، القاهرة دار النهضة العربية 1979 ، ص 11-12 .
21) د.بدوي –ثروت – النظم السياسية – ص404 .
الفصل السادس
ضمانات الحقوق والحريات العامة
يتمتع الدستور بالسمو الموضوعي والشكلي لكل القواعد القانونية، إلاّ أن هذا السمو يجب أن ترافقه ضمانات لحماية الحقوق والحريات العامة وإلاّ كانت مجرد إمكانات قانونية جوفاء ورمزية وليس لها نصيب في الواقع العملي حيث لا تعدو البعد النظري، لذا كان لا بد من إيجاد إجراءات لضمان هذه الحقوق والحريات العامة تتمثل فيما يلي:
1- مبدأ الفصل بين السلطات
1.1.6 إذا قام الدستور في دولة الوحدة أو في دولة الاتحاد الفيدرالي، فسيعين حتما اختصاص السلطات الثلاثة: التشريعية والتنفيذية والقضائية ويمنع كلا منها من الاعتداء على الأخرى. ويجب أن يكون هذا الفصل شكليا وموضوعيا، فلا يكفي أن نفصل أجهزة السلطات الثلاثة عن بعضها البعض بل لا بد من فصل وظيفة كل منها عن الأخرى مع السماح بقدر من التعاون بين هذه السلطات، أي أن الفصل الذي يتم الحديث عنه ليس الفصل الجامد المطلق بل هو الفصل النسبي المرن.
2.1.6 ومن الواضح أنه إذا اجتمعت سلطتان في يد واحدة، سواء أكانت سلطة التشريع والتنفيذ، أو التشريع والقضاء، أو القضاء والتنفيذ، فإن ذلك يقود إلى الاستبداد والطغيان أو المحاباة أو إساءة استعمال السلطة، ومن نافل القول أن هذا الأمر يتحقق لو اجتمعت السلطات الثلاثة في يد واحدة.
3.1.6 لذا إذا كان مطلوبا أن تتقدم الحقوق والحريات العامة، فلا بد أن يتحقق مبدأ الفصل بين السلطات وإلا كان الإنتاج هدرا للحقوق وخرقا لها، حيث تصبح القواعد القانونية بدل أن تكون عادة مجردة فردية وذات أغراض شخصية وسمتها الانحراف.
4.1.6 أضف إلى أنه إذا تم تبني الدستور الفدرالي فمن الطبيعي أن يتضمن قواعد دستورية تحدد اختصاص الهيئات العامة للاتحاد والولايات نفسها، وأحيانا توسع الأولى وتضيق الثانية أو العكس طبقا لرؤى المشرع الدستوري. والأفضل هو توسيع اختصاص الهيئات الفدرالية على حساب الولايات حتى يشتد عود الدولة الفدرالية، ولا بأس أن يبدأ سيناريو التعاون بالحفاظ على كثير من الصلاحيات للولايات كخطوه لبناء الثقة بين الإقليمين، وهكذا بدأ الاتحاد الأمريكي والسويسري ثم تطور.
2- الغاء قانون الطوارىء
1.2.6 يشكل قانون الطوارىء أو ما يسمى بقانون الأحكام العرفية أخطر القوانين قاطبة على الحقوق والحريات العامة، فالسلطة التنفيذية تمتلك بموجبه اختصاصات خطيرة لشل وتجميد أي قانون أو أي نص، وهذا يشجع السلطة التنفيذية على الانحراف والخروج عن القيود والأهداف التي وصفها المشرع، وبذا تعرض مبدأ المشروعية لأفدح الأخطار.
2.2.6 قلما لا تعترف الدول والدساتير بنظرية الظروف الاستثنائية كالفتن والكوارث والحروب والاضطرابات، لذا تسمح الدساتير بشكل عام بسن قانون للطوارىء وقت الشدائد، إلا أن المشكلة تكمن في أن السلطة التنفيذية ترغب في التخلي عن مبدأ المشروعية لتصبح طليقة من كل قيد، لذا فهي تتسلح بقانون الطوارىء الذي يرخص بفرض القيود على الحقوق والحريات العامة من خلال تدابير استثنائية. وبذا تصبح الحقوق أثرا بعد عين ومجرد إمكانات قانونية جميلة لكن جوفاء تزين أركان الدستور من ناحية شكلية.
3.2.6 إذا تمت العودة إلى قانون الأحكام العرفية الأردني نجد أن دستور 1952 في المادة 125 ف 1 أجاز إصدارها ومنح هذا الحق للملك بناء على قرار مجلس الوزراء، وحينها للملك أن يصدر أية تعليمات بقطع النظر عن أحكام أي قانون معمول به، وأعفى من المسؤولية كليا الأشخاص الذين نفذوا قانون الطواىء.
4.2.6 صحيح أن قانون الدفاع الأردني رقم 13 لسنة 1992 ألغى قانون الدفاع لسنة 1935 إلا أنه لم يغير الشيء الكثير من ناحية الجوهر فبقى العمل يصدر بإرادة ملكية بناء على قرار مجلس الـــوزراء (م2 ف ج) وله أن يوقف العمل بأي نص وتشريع يخالف أحكام قانون الدفاع أو أوامره (م 10).
5.2.6 أما مشروع القانون الأساسي فقد قدم لحالة الطوارىء نصا متقدما، فاشترط لإعلان حالة الطوارىء من قبل السلطة التنفيذية موافقة المجلس التشريعي بأغلبية الثلثين، ولمدة محددة مقدارها ثلاثون يوما على الأكثر ولا يجوز تمديدها إلا لثلاثين يوما أخرى شريطة موافقة المجلس التشريعي وبأغلبية الثلثين أيضا (م 101). وإمعانا في تأكيد الحماية للحقوق والحريات العامة وتأكيدا لمبدأ المشروعية منعت المادة 102 فرض أية قيود على الحقوق والحريات الأساسية إلا بالقدر الضروري لتحقيق الهدف المعلن في قانون الطوارىء بل منعت تعليق الباب السادس المتعلق بأحكام حالة الطوارىء في مشروع القانون الأساسي ومنعت حل المجلس التشريعي أو تعطيله خلال فترة الطوارىء (م 104).
6.2.6 وبالقطع، فإن النصوص الواردة في مشروع القانون الأساسي متقدمة كثيرا على دستور 1952 وعلى قانون الدفاع الأردني رقم 13 لسنة 1992 رغم وجود قانون الدفاع البريطاني لعام 36 وأنظمة الطوارىء لعام 1945 في التطبيق العملي. والاتجاه الدستوري الذي أخذ به المشرع الفلسطيني يتماشى مع الاتجاهات الحديثة الدستورية ويؤدي إلى حماية وضمان الحقوق والحريات العامة. فهو من جهة يقدم رقابة سياسية على قوانين الطوارىء من خلال موافقة ثلثي أعضاء المجلس التشريعي وهي نسبة عالية جدا تساوي نسبة تعديل الدستور ذاته، ومن جهة ثانية يمنع المساس بها إلا بقدر يساير الهدف المعلن عنه ومن جهة ثالثة نص في المادة 94 على إنشاء محكمة دستورية تتولى النظر في دستورية القوانين واللوائح، رغم أنه ترك للقانون تنظيمها وتبويبها.
3- إنشاء محكمة دستورية القوانين
1.3.6 تشكل الرقابة القضائية على دستورية القوانين العلاج المناسب إذا ما قامت السلطة التشريعية أو غيرها بعملية الانحراف التشريعي وذلك إذا سنت قوانين تخالف الدستور سواء من الناحية الشكلية أو من الناحية الموضوعية. وهي رقابة تبتعد عن السياسة والأحزاب وتقترب من الاستقلال والحيدة وحرية التقاضي وعلانية الجلسات والتكوين القانوني، ولا جدل في أنها تفضل الرقابة السياسية كثيرا.
وبدون هذه الرقابة التي يمكن أن تتخذ صورة الدعوى الأصلية أو الدفع تصبح الحقوق والحريات العامة في مهب الريح، فالرقابة السياسية تحكمها الاعتبارات والأمزجة السياسية بينما الرقابة القضائية تؤديها جهة متمكنة محايدة مستقلة ولها تأهيل قانوني ويحكمها النص الدستوري ثم التشريعي والمبادىء العامة.
2.3.6 رغم استقرار الأنظمة القضائية في العالم على حقها في الرقابة القضائية على دستورية القوانين بشكل من الشكلين المتفق عليهما، إلا أن المحاكم في الأردن ترددت ردحا طويلا من الزمن بشأن إقرار هذا الاختصاص. وقد جاءت دساتير 1928، 1946،1952 الأردنية خلوا من أي نص ينظم الرقابة على دستورية القوانين، وكأن هذا الفراغ يجب أن يحدو بالمحاكم الأردنية أن تنتزع هذا الاختصاص لأن هذا يعتبر نتيجة طبيعية للتفرقة بين القوانين الدستورية والقوانين العادية ولأن من صميم عمل القاضي الفصل في تنازع القوانين وتغليب الأعلى على الأدنى إذا قام تعارض بينهما. وهذا الابتعاد في الأردن شمل أعلى محكمتين ألا وهما التمييز والعدل العليا.
3.3.6 لكن هذا الاتجاه تغير وأخذت محكمة العدل العليا بمبدأ الرقابة على دستورية كل أنواع القوانين بدءا من عام 1967 ولم تعد تميز في الرقابة بين هذه القوانين المختلفة وبخاصة بين القوانين المؤقتة والدائمة. ويبدو أن هذا التوجه أفرز اختصاص محكمة العدل العليا الأردنية كما ورد في المادة التاسعة من قانون محكمة العدل العليا رقم 12 لسنة 1992 حيث أجاز الطعن في أي قرار أو إجراء وطلب إلغائه إذا كان مخالفا للدستور أو للقانون أو للنظام، بل وأعطت ذات المادة الأفراد حق الطلب بوقف العمل بأحكام أي قانون مؤقت مخالف للدستور أو نظام مخالف للقانون أو الدستور.
4.3.6 ويحمل التوجه الأردني بذرة الدفع الفرعي كأسلوب للرقابة القضائية وهو أسلوب غير هجومي وأقل حدة وصداما مع السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية وهو يتبنى أسلوب مركزية الرقابة بينما يحمل التوجه بذرة الدعوى الأصلية مع مركزية الرقابة إلا أن مشروع قانون السلطة القضائية الفلسطيني في المادة 5 و 9 يتبنى الدفع الفرعي مع خلطه بشكل من الأشكال مع الدعوى الأصلية. فالمشروع الفلسطيني اعتبر أحكام عدم الدستورية ملزمة للكافة ولجميع سلطات الدولة وتنشر في الجريدة الرسمية ولا يعمل بالقانون أو النص غير الدستوري من اليوم التالي لنشر الحكم (م 9 ف 4، 2، 6) وهذه كلها من سمات الدعوى الأصلية.
5.3.6 كلا الأسلوبين الأردني والفلسطيني لا يقدمان حلا جذريا في حالة الاتحاد الفدرالي بين الإقليمين، إذ لابد من وجود محكمة عليا واحدة تتبع الاتحاد الفدرالي تختص من ضمن ما تختص به الحقوق والحريات العامة وذلك كمرجع استثنائي للمحكمة العليا في الإقليم وفحص دستورية القوانين من عدمها طبقا للدستور الفدرالي وتستطيع إلغاء القانون غير الدستوري ومن باب أولى النظام عبر الدعوى الأصلية.
6.3.6 ويصعب في دولة الوحدة البسيطة تبني أسلوب الدعوى الأصلية بكل ما تحمله من معان، حيث يقوم صاحب المصلحة بالطعن في القانون بشكل مباشر ويطلب الغاءه من المحكمة المختصة دونما انتظار لتطبيق القانون عليه، ويكون للمحكمة في هذه الحالة إلغاء القانون تجاه الكافة وبأثر رجعي. فهذه المرحلة حاسمة وشديدة الخطورة وقد تؤدي إلى زعزعة النظام القانوني والمجابهة المستمرة بين السلطة القضائية والسلطة التشريعية وتهديد قضية الدستورية نفسها والمحكمة أيضا.
7.3.6 لذا فمن المناسب أن يتم إنشاء محكمة عليا للدولة الوحدوية البسيطة وأن تقام محكمة عليا لكل من فلسطين والأردن تختص بالنظر في المنازعات الدستورية، وأن يتم اختصاصها على أساس الدفع الفرعي شريطة أن يكون الدفع جديا. وبعد ذلك يمتنع تطبيق النص إن حكمت المحكمة بعدم الدستورية دون أن تقوم بإلغائه وإزالته من الوجود كليا، أي أن المحكمة لا تقرر بطلان النص أو القانون بطلانا عاما وإنما تكتفي بالامتناع عن تطبيقه في الدعوى المطروحة عليها.
8.3.6 ومن المناسب أن لا تقلد المحاكم الصغيرة أي محاكم الدرجة الأولى صلاحية فحص دستورية القوانين من عدمها حتى لا تخلق تناقضا في الأحكام في موضوع على درجة عالية من الأهمية، بل يجب أن يكون الموضوع في يد أعلى محكمة قضائية حيث يفترض وجود الرأي القانوني الراجح والخبرة المؤكدة.
9.3.6 وعليه، إذا أقيمت دولة فدرالية أو دولة الوحدة البسيطة فلا بد من إقامة محكمة عليا، وكلتاهما تختص بالنظر في منازعات دستورية القوانين، إلا أنه في الدولة الفدرالية تملك المحكمة صلاحية إلغاء القانون غير الدستوري، أما في الدولة الوحدوية البسيطة فلا تملك ذلك وإنما تملك عدم تطبيقه في النزاع المطروح عليها.
4- سن قانون الأحزاب السياسية
1.4.6 يعتبر تعدد الأحزاب مظهرا من مظاهر الحريات العامة ويشكل أيضا ضمانة لجميع الحريات الأخرى لأن مذهب الحزب الواحد قضاء على حرية الاختيار وحرية الرأي، ويسمح تعدد الأحزاب بالكشف عن عيوب السلطة الحاكمة ونشرها على الرأي العام، بل إن الأحزاب تؤدي إلى تكوين ثقافة سياسية لدى الناخبين وتؤدي إلى مناقشة مشاريع القوانين مناقشة وافية ودقيقة.
2.4.6 حاول المشرع الفلسطيني أن يقدم مشروع قانون الأحزاب السياسية ودار نقاش ساخن حوله ويبدو أن المشرع عدل عنه نتيجة للانتقادات الشديدة حوله، وهو تقليد في كثير من أحكامه للقانون الأردني رقم 31 لسنة 1992. كلا القانونين يبتعد عن التعريف الصحيح للأحزاب السياسية، فهما يعرفان الحزب بأنه “تنظيم سياسي ….. بقصد المشاركة في الحياة السياسية وتحقيق أهداف محددة تتعلق بالشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية ويعمل بوسائل مشروعة وسليمة” وهذا الهدف غير دقيق، وكأن من الأجدر أن يهدف الحزب إلى تولي أو المشاركة في السلطة السياسية كليا أو جزئيا (م 3 من القانون الأردني، المادة (1) من مشروع القانون الفلسطيني).
3.4.6 ورغم المظهر الديموقراطي في القانونين حول حق الأردنيين او الفلسطينيين في تأليف الأحزاب السياسية والانتماء إليها (م 4 أردني، م 2 فلسطيني)، إلا أن القانونين أقاما قيودا لترخيص أي حزب سواء من حيث العدد أو حيث السن أو من حيث الإقامة أو الأموال أو الصلات أو الارتباط التنظيمي أو المالي أو الأهلية وتمتع العضو بها وفوق هذا وذاك لا بد من قرار إيجابي للوزير المختص بترخيص الحزب.
4.4.6 ومما يزيد الوضع صعوبة أن المشرع الفلسطيني خلق “لجنة وصاية” على الأحزاب السياسية أسماها “لجنة شؤون الأحزاب السياسية” وأعطاها صلاحية الترخيص أو رفض الترخيص وحل الحزب بينما هذا الأمر في القانون الأردني يجب أن يصدر به قرار من المحكمة المختصة (م 25 من القانون الأردني). أضف إلى ذلك أن المشرع الفلسطيني استعمل ألفاظا يصعب تعريفها كالفلسطيني “والمصلحة القومية” “والوحدة الوطنية “وقوى سياسية تعادي الشعب الفلسطيني” أو “العنف” و”الدستور الفلسطيني” و”السلام الجماعي” أو “منفعة” و”الخارجي”، وغير ذلك من الاصطلاحات التي يجب أن يبتعد عنها القانوني بسبب عدم دقتها وتعريفها ووضوحها.
5.4.6 ويبدو لي أن قانون الأحزاب السياسية الأردني رقم 32 لسنة 1992 يفضل مشروع القانون الفلسطيني مع أنه يحتاج إلى تعديل في تعريف الحزب، والابتعاد عن التقييد المالي في عصر العولمة وتغير المواقف السياسية والابتعاد عن شهادات حسن السلوك من المخابرات العامة والاكتفاء بشهادات حسن السلوك القضائية والابتعاد عن القضايا الإجرائية لأن مكانها الأنظمة والتنسيق مع القوانين الأخرى.
6.4.6 إن صدور قانون للأحزاب السياسية في سيناريو التعاون أمر حيوي فالأحزاب السياسية تشكل مدارس للشعوب وصلة بين الحاكم والمحكوم وظلا للرأي العام وضمانة للحقوق والحريات العامة ولا بأس أن يكون نواة هذا القانون القانون الأردني مع الابتعاد عن التقييد والوصاية من السلطة التنفيذية.
5- إطلاق حرية الصحافة
1.5.6 نص الدستور الأردني على حرية الصحافة (م 15 ف 2)، وكذلك فعل مشروع القانون الأساســي (م 19)، وأضاف أن تأسيس الصحف وسائر وسائل الإعلام حق للجميع ويكفله القانون الأساسي، وأن حرية وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة وحرية الطباعة والنشر والتوزيع والبث وحرية العاملين فيها وحرية الوصول إلى مصادر المعلومات مكفولة وفقا للقانون الأساسي والقوانين ذات العلاقة وتحظر الرقابة على وسائل الإعلام ولا يجوز إنذارها أو وقفها أو مصادرتها أو إلغاؤها أو فرض قيود عليها إلا وفقا للقانون وبموجب حكم قضائي (م 27 ف أ، ب، ج).
2.5.6 غير أن هذه النصوص الدستورية الجميلة سرعان ما شوهت في الواقع العملي تحت ستار التنظيم وإعادة الترتيب، حيث سارعت السلطة التنفيذية في كلا البلدين وتحت حجة أوضاع استثنائية إلى إقرار قانون للمطبوعات والنشر. ففي الأردن صدر القانون بشكل استثنائي ضمن طائفة القوانين المؤقتة، وفي فلسطين صدر القانون قبل تأسيس المجلس التشريعي. ومن نافل القول أن محكمة العدل العليا أوقفت العمل بقانون المطبوعات والنشر المؤقت الأردني رقم 27 لسنة 1997 وأصدرت قرارا بعدم دستوريته من الهيئة العامة للمحكمة بتاريخ 26/1/1998.
3.5.6 القانونان يشتركان في تقييد حرية الصحافة، وتقييد وصول المعلومات وإفقار هذه الحرية وجعل دورها سلبيا بدل أن يكون إيجابيا وبناء، رغم أن أعلى وثيقتين في البلدين تكفلان وتضمنان هذه الحرية.
4.5.6 إذا تم غض الطرف عن القضايا الشكلية في القانونين فهما يلزمان المواطنين بالحصول على تراخيص حتى لو كان النشر لمرة واحدة، والترخيص لإيجاد الصحيفة أمر أساسي رغم أنه أمر جدلي في بعض الدول، حيث تتفاوت الدول في طلبه. فبعض الدول لا تشترط أي شكل من اشكال الموافقة الرسمية لإصدار جريدة أو مجلة والبعض الآخر يشترط التسجيل وليس الترخيص غير أن السلطات العامة لا تمتلك صلاحية رفض الترخيص، وفي دول معينة يشترط تقديم إعلان إلى مكتب المدعي العام وبعض الدول تشترط تقديم الطلب لغايات ضريبية أو تحديد المسؤولية القانونية وليس لأجل الحصول على ترخيص.
5.5.6 احتوى القانونان الأردني والفلسطيني على إجراءات كثيرة للحصول على رخصة جريدة أو مجلة وفرق القانونان بين المطبوعات والمنشورات والمؤسسات، وقرارات تصدر للوزير بعد الاستئناس برأي مدير المطبوعات والنشر، حتى الأحزاب غير معفاه من الترخيص ولا تحظى الصحافة ببعض الإعفاءات كتخفيض الضرائب أو أجرة البريد أو الهاتف أو الفاكس أو وسائل الاتصالات، وكأن حرية البحث واستلام ونقل المعلومات والأفكار من شتى الأنواع، بغض النظر عن الحدود التي ضمنها الدستور، يجب أن تمسخ في ظل القانون العادي.
6.5.6 لم يكتف المشرع الوطني بمسؤولية المحرر ورئيس التحرير أو صاحب الترخيص، بل أجاز إغلاق أو سحب ترخيص الجريدة أو المجلة أو مصادرة أعداد أو الوقف في العمل بالترخيص أو فرض الغرامات على المحرر المسؤول وفرض الجزاءات الجزائية على المخالفين، وكأن المواطن متهم إلى أن تثبت براءته وليس العكس مع أن الكثير من هذه الجزاءات يتسع لها قانون العقوبات ولا حاجة لتكرارها. إن التكرار يؤدي إلى خلق التناقض والتنافر بين النصوص القانونية فضلا عن أنه لن يضيف أي شيء.
7.5.6 امتلأ القانونان بالمحظورات وبالمواد الممنوعة، فهذه معلومات سرية عن الشرطة أو الجيش أو قوات الأمن أو السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية وتلك مواد تضر بالسمعة الشخصية أو بالوحدة الوطنية أو العملة أو الاقتصاد إلى غير ذلك من سلسلة قائمة الممنوعات. وبعد هذا وذاك يقرر القانونان حرية الصحافة والطباعة والنشر وكفالتها، بل إن القانونين لا يحصنان الصحفي في مصادر معلوماته ويلزمان بالإفراج عنه بقرار من المحكمة، يبقى السؤال عن ماذا يكتب الصحفي بعد هذه القائمة من الممنوعات؟ وكيف سيثير القارىء؟ وهل قصد من هذه القوانين منع الناس عن القراءة، وبالتالي إهدار حرية الفكر والرأي.
8.5.6 وببساطة شديدة، فإن التصور المطروح لقانون صحافة يقوم على الحرية في الوصول إلى مصادر المعلومات سواء للصحفي أو للأفراد، ويجب أن يرد ضمن مسودة الدستور القادم في إطار التعاون، ويجب أن يعالج الدستور سمعة الفرد وحمايتها حتى لا يقوم أحد باسم حرية الصحافة بالاعتداء عليها.
ويجب أن تلغى كثير من القيود حول الترخيص واستيراد المطبوعات وترويجها والاكتفاء بالقواعد العامة الواردة مثل الأمانة النزاهة والموضوعية واحترام الخصوصية وواجب التمييز بين الحقائق والوقائع والآراء وواجب إتاحة الفرصة للرد على الآراء الانتقادية وواجب عدم التمييز على أساس العنصر أو الجنس أو الدين أو أي اعتبار أخر وواجب عدم استخدام وسائل غير شريفة للحصول على معلومات وواجب عدم تعريض الناس للخطر ومراعاة الحشمة والذوق وعدم إفشاء الأسرار وعدم إدانة المتهم مسبقا أو النشر عن الأحداث.
9.5.6 ويلاحظ أن القانونين لم يتعرضا لموضوع البث التلفزيون أو الإذاعي، أو لموضوع مجلس صحفي أو إعلامي متخصص، فضلا عن إلغاء وزارة الإعلام في ظل زمن انتشرت فيه الصحون والأطباق وأصبح العالم قرية صغيرة.
6- إلغاء تحصين القرارات الإدارية
1.6.6 من المتفق عليه أن الدساتير تتمتع بسمو شكلي وآخر موضوعي، لذا فالقاعدة الدستورية تصاغ في صيغ عامة حتى تصلح لأزمنة كثيرة وحتى لا تتناولها يد التعديل من وقت لأخر، لذا فهي تترك التفاصيل للتشريع العادي، إلا أن نصوص التشريع العادي تحتاج إلى تطبيق أي نقل القاعدة القانونية من مجال العمومية والتجريد إلى مجال الخصوصية والتطبيق، وهذا لا يتم إلا عبر إفصاح الإدارة عن إرادتها الملزمة بقصد إحداث أثر قانوني سواء أكان تعديل أو إلغاء أو إنشاء مركز قانوني وفق اعتبار المصلحة العامة وهذا ما يعرف بالقرارات الإدارية.
2.6.6 تكمن المشكلة في أن بعض الدول تنص في صلب تشريعاتها -كما حصل مع المشرع الأردني في قوانين الجمعيات الخيرية والأحزاب السياسية- على تحصين القرارات الإدارية، أي أنها تعتبر قرارات الإدارة -وغالبا ما يكون المسؤول عنها الوزير-فوق الرقابة القضائية، وهي عنوان الحقيقة، ويصبح الخصم حكما أيضا وتنعدم سيادة القانون ولا يجوز الطعن بهذه القرارات بأية صورة من الصور.
3.6.6 يجدر أولا أن يحظر الدستور القادم لفلسطين والأردن تحصين القرارات الإدارية-وقد قام بذلك مشروع القانون الأساسي في م 30 ف 2، ويجدر ثانيا أن يبتعد المشرع في السلطة التشريعية القادمة عن تحصين أي عمل أو قرار إداري.
4.6.6 فالإدارة لا تتمتع بأية حرية في هذا المجال وقراراتها فيها يجب أن تخضع لرقابة القضاء في صورها الثلاثة: الإلغاء، وفحص المشروعية والتعويض. ولا يكفي أن تخضع الإدارة لرقابة ذاتية عبر التظلم فهذه رقابة غير موضوعية وغير عادلة ولا منصفة. وإذا لم يرد مثل هذه النص في الدستور القادم فإن على المحاكم أن تقضي بعدم دستورية مثل هذه النصوص التي تحصن العمل الإداري لأنها تلغي حق التقاضي ولا تقوم بمجرد تنظيمه بل بإعدامه وهذا الحق لا يعتبر منحة من المشرع، إنما هو حق للأفراد ولا يجوز للأول أن يسحبه أو يسترده بعد منحه. أضف إلى هذا أن عدم إيراد مثل هذا النص فيه إخلال بمبدأ المساواة وتجاهل له.
5.6.6 وفي ذات السياق يجب أن لا يجيز الدستور الجديد التفويض التشريعي من السلطة التشريعية إلى السلطة التنفيذية إلا في أضيق الحدود وشريطة أن يكون التفويض خاصا بموضوع ومحددا بزمن لأن التفويض العام وغير المحدد أو غير المقيد يكون نتيجة نقل السلطة التشريعية من البرلمان إلى الإدارة وبالتالي انتفاء قضية تدرج القواعد القانونية وتحصين القرارات الإدارية.
6.6.6 وكذلك، فإن القرارات الإدارية العامة تلعب دورا هاما في قضايا الحريات وبخاصة في إطار المحافظة على النظام العام، لذا يجب أن يبين الدستور القادم البوليس والأمن العام والصحة العامة والسكنية العامة ومدى سلطة البوليس في الأوقات العادية والأزمان الاستثنائية.
7- الانضمام إلى مواثيق حقوق الإنسان
1.7.6 تشكل مواثيق حقوق الإنسان الرديف للحقوق والحريات العامة، صحيح أن الأولى مجالها القانون الدولي العام، أما الثانية فحقلها القانون الدستوري، إلا أن هناك نقاط تلاق كثيرة بين القانونين بل أن التلاقي أحيانا يصبح تطابقا.
2.7.6 شهد حقل حقوق الإنسان تطورا مذهلا بعد الحرب العالمية الثانية سواء على إطار المواثيق والمعاهدات أو على إطار الأدبيات أو على إطار الإلزامية أو على إطار الأهمية العالمية والإقليمية.
لذا يكون مرغوبا لو تضمن الدستور القادم لفلسطين والأردن نصوصا تكسب حقوق الإنسان ومواثيقه الإلزام في الحلبة الداخلية، ولا بأس أن يقتصر الإلزام على الحقوق الأساسية. وفي هذا الإطار لا بد أن تتداعى الحكومة الجديدة لدولة الاتحاد بالانضمام إلى مواثيق حقوق الإنسان. وعلى الرغم من أن الأردن صادقت وانضمت إلى ميثاقي عام 1966، إلا أن هذا الأمر قاصر عليها ولا يسري على فلسطين.
3.7.6 ويجب أن يكون واضحا أن الحديث هنا يدور عن معاهدات دولية وهي اتفاقات دولية لا تدخل حيز التنفيذ بالتوقيع عليها فقط بل لا بد من المصادقة عليها أو الانضمام إليها إذا كانت المعاهدة موجودة قبل وجود الدولة التي ترغب في الانضمام إليها وفق الإجراءات الدستورية التي يقررها الدستور الجديد.
4.7.6 و لا بأس أن يأتي الدستور الجديد ويعطي مواثيق حقوق الإنسان مرتبة أعلى من القانون الداخلي وأن لا يكتفي بدرجة مساوية للقانون الداخلي، فهذا الأمر يشكل تقدما وضمانة هامة للحقوق والحريات العامة، ويجب أن لا يتخوف المشرع الأردني-الفلسطيني من ذلك لأنه يستطيع أن يدون أي تحفظ يرغب فيه على أية معاهدة من معاهدات حقوق الإنسان ما دام التحفظ لا يخالف الأمور الجوهرية للمعاهدة.
5.7.6 والانضمام إلى مواثيق حقوق الإنسان لن يكون متاحا لفلسطين أو الأردن كل على حده بل هو متاح للدولة الوليدة لأن السيادة تفنى في الدولة الفدرالية لصالح الأخير، ويجب أن تبسط إجراءات الانضمام إلى هذه المواثيق وأن تعقد إجراءات الانسحاب منها وتقييدها.
هوامش الفصل السادس
1) د. مرزة – اسماعيل – القانون الدستوري –دار صادر – الجامعة الليبية – ص 373-376؛ د. ابو زيد محمد عبد الحميد – سيادة الدستور وضمان تطبيقه، دار النهضة العربية، القاهرة 1989، ص 60-63
2) د. بدوي ثروت ، النظم السياسية ، المرجع السابق، ص 175
3) د. علي –احمد مدحت ، المرجع السابق، ص 24- 25 .
4) د. كامل، نبيلة عبد الحليم ، الرقابة القضائية على دستورية القوانين ، دار النهضة العربية – القاهرة 1993، ص 32-42 .
5) د. ندة حنا، القضاء الاداري في الاردن ، 1972، ص 78-84 .
6) د. الحياري عادل ، المرجع السابق ص 654 –658 .
7) د. كامل، نبيلة عبد الحليم ،المرجع السابق ص 50- 53 .
8) د. بدوي، ثروت ، القانون الدستوري ، المرجع السابق ، ص 140.
9) د. بدوي، ثروت ، المرجع السابق ، ص 147 .
10) د. الخطيب، نعمان المرجع السابق ، ص 90- 102.
11) د. ابو خاطر ودودنسكي ، المرجع السابق ، ص 102-107
12) د. ابو زيد ، محمد عبد الحميد، المرجع السابق، صض 102-107
13) د. حافظ ، محمود محمد، المرجع السابق ، ص 128-148.
14) د. خليل، محسن ، المرجع السابق ، ص 838-844
15) شعبان، ابراهيم ، الاثار القانونية لاقامة الدولة الفلسطينية ، السياسة الفلسطينية ، السنة السادسة، العدد 24، خريف 1999، ص 72-89 ص 75.
الفصل السابع
آلية مقترحة لضمان الحقوق والحريات العامة في الأردن وفلسطين
يبدو أن سيناريو التعاون بين فلسطين والأردن هو المفضل لكثرة زواياه الإيجابية ولقلة عناصره السلبية على الإقليمين والشعبين، ويدخل في هذا الإطار الفدرالية كنظام دولة مركبة أو الوحدة كنظام دولة بسيطة، ويخرج منه نظام الكونفدرالية لأنه يصب في النهاية في الانفصال وليس في التعاون، إلا أن الفدرالية أو الوحدة تحتاج إلى إجراءات عملية حتى تترجم القواعد النظرية إلى إجراءات على الأرض حيث تترسخ الخطوات وتزول الشكوك ويقوى الإيمان بالمصير المشترك وتنعدم إمكانية الانفصال أو التفكير به مستقبلا وفيما يلي وصف لهذه الإجراءات:
وضع الدستور
لا بد من وضع دستور للدولة الوليدة، حيث يتم تشكيل لجنة من الخبراء لوضع مسودة مشروع الدستور، ثم تنشر هذه المسودة على نطاق واسع حيث تناقش من محافل مختلفة. وبعد ذلك يحدد يوم للاستفتاء الدستوري بحيث يقرر الشعب في الإقليمين الموافقة أو الرفض لمشروع الدستور، ويفضل أن تكون نسبة الموافقين هي الأغلبية المطلقة من المصوتين (أكثر من النصف).
من الواضح أن أسلوب الاستفتاء الدستوري لا يشمل، بل ولا يعقد بأسلوب المنحة أو الجمعية التأسيسية أو العقد لوضع الدستور، ولا يحتاج إلى موافقة السلطة التشريعية في كل من الإقليمين، لأن الانتماء إلى الديموقراطية المباشرة (الشعب) أقوى من اللجوء إلى الديموقراطية النيابية (السلطة التشريعية).
لا بد أن يكون هذا الدستور جامدا جمودا نسبيا وليس جمودا مطلقا، ونقترح أن لا يعدل ولا ينظر في إمكانية تعديل الدستور الوليد في أول خمس سنوات من تاريخ نفاذه. وبعد مرور السنوات الخمسة الأولى يمكن تعديله بأغلبية ثلثي عدد أصوات أعضاء المجلس التشريعي المنتخب بموجبه، وذلك حرصا على استقرار الدولة الوليدة.
ولا بأس أن يقوم في كل إقليم دستور محلي يسري بطريقة غير مخالفة للدستور العام الاتحادي ولا يتضمن قواعد مخالفة للدستور العام الاتحادي، هذا في ظل دولة اتحادية أما في ظل دولة بسيطة فلا داعي لثنائية الدستور بل الوحدانية هي الأولى.
1- الحقوق والحريات العامة في الدستور
يجب أن يتضمن الدستور الوليد في صدر أبوابه بابا للحقوق والحريات العامة ويفضل أن يتم اقتباس كثير منها من مشروع القانون الأساسي الفلسطيني نظرا لتقدم صياغته وشموليته ودقته.
ولا بد للدستور الوليد أن ينهل كثيرا من هذه الحقوق والحريات من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، وميثاق الحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، وميثاق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966 وغيرها من مواثيق حقوق الإنسان التي أصدرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة وأن يستأنس بالمواثيق الأوروبية والأمريكية والأفريقية والعربية والإسلامية.
يجب أن يتضمن الدستور نصوصا تمنع السلطة التشريعية او التنفيذية أو كليهما معا من هدم وهدر الحقوق والحريات العامة بحجة إعادة التنظيم أو الترتيب أو التقييد أو التصنيف أو التأويل، ويجب أن تكون النصوص أسمى من كل القيود وتعطل القوانين التي تخرق الحقوق والحريات العامة إذا تناقضت مع الدساتير سواء أكانت سابقة أم لاحقة عليها.
2- الانتخابات-رئاسة الدولة
ضمن الإجراءات الديموقراطية، تجري انتخابات عامة لرئاسة الدولة بشكل دوري ولفترة لا تزيد عن دورتين متعاقبتين كل منها خمس سنوات، ويجب أن يكون المرشح مواطنا أصيلا في أحد الإقليمين وليس متجنسا وأن يزيد عمره عن ثلاثين عاما وأن لا يكون قد ارتكب جريمة مخلة بالشرف أو حسن السمعة.
تجري الانتخابات لرئاسة الدولة في وقت واحد من الإقليمين، ويجري تشكيل لجنة قانونية للإشراف على نزاهتها، ولا بأس من مراقبة دولية ويفوز المرشح الحاصل على الأغلبية المطلقة (أكثر من النصف)، فإن لم يفز أي مرشح في المرة الأولى تعاد الانتخابات بين أعلى مرشحين.
3- الانتخابات-السلطة التشريعية
إذا كان النظام المقترح نظاما فدراليا لا بد أن يكون هناك مجلسان واحد يسمى “مجلس النواب” يشكل وفق التعداد السكاني، والأخر يسمى “مجلس الشيوخ” ويشكل بنسب للإقليمين، أي بعدد متساو من المقاعد.
فمجلس النواب يمكن أن يكون عدده 200 نائب وهو عدد مقارب لمجموع عدد النواب في الإقليمين، والزيادة الموضوعة هي للزيادة المتوقعة في عدد السكان في حالة إيجاد حل كهذا يغري الناس بالقدوم إليه، ويجب أن تقسم المقاعد وفق التعداد العام للسكان في كل إقليم وليس بالتساوي. فمثلا، إذا كان عدد السكان في الإقليم الأردني أربعة ملايين بينما عدد السكان في الإقليم الفلسطيني ثلاثة ملايين فيكون عدد المقاعد المخصصة لإقليم الأردن حوالي 115 مقعدا بينما المقاعد المخصصة لإقليم فلسطين 85 مقعدا.
أما بالنسبة لمجلس الشيوخ فيكون عدده بالتساوي ثلاثين لكل إقليم ويتم انتخابهم أثناء انتخاب مجلس النواب ورئيس الدولة. ومن نافل القول أن أي قانون لا يقره مجلس الشيوخ لا يسري في الدولة الجديدة أي أن إقرار مشاريع القوانين تحتاج إلى موافقة مشتركة من كلا المجلسين.
أما عن طريقة الانتخاب فيتم المفاضلة بين الانتخاب بالأغلبية البسيطة أو المطلقة أو التمثيل النسبي وإن كنت من أنصار الأخيرة نظرا لقربها من العدالة والتمثيل الحقيقي للجمهور والاتجاهات السياسية شريطة وضع حد للحسم، أي للتجاوز لها، ولا بأس أن يكون 2% من عدد أصوات المشاركين في الانتخابات.
3- ضمانات الحقوق والحريات العامة
من المقرر في قواعد القانون الدستوري أن الحقوق والحريات العامة، كصيغ قانونية مجردة في الدستور، أمر غير كاف، بل لا بد من اقترانها بضمانات حتى تقيد يد السلطة التشريعية والتنفيذية من الاعتداء عليها وخرقها وأهم هذه الضمانات:
أ- مبدأ الفصل بين السلطات
يقوم الدستور بتعيين الاختصاصات لكل سلطة في الاتحاد أو في الدولة البسيطة، ويحدد هذه الاختصاصات على أساس الفصل النسبي (والمدن) فيما بينها.
كذلك يقوم الدستور بإقرار اختصاص الولايات والمركز بطريقة من الطرق المتبعة في دول الاتحاد الفدرالي، أما في الدولة الوحدة فتبقى المركزية واللامركزية وضوابطها.
ب- قانون الطوارئ
يشكل قانون الطوارىء خطرا كبيرا على الحقوق والحريات العامة، لذا من المفضل أن يقلد الدستور الوليد ما ورد في مشروع القانون الأساسي الفلسطيني من حيث سنه وتطبيقه وتمديد تطبيقه لأنه أمر متقدم تماما.
جـ- محكمة دستورية القوانين
يقرر المشرع الدستوري شكل الرقابة على دستورية القوانين القادمة، أي هل سيتبنى أسلوب الدفع الفرعي أم الدعوى الأهلية، وإن كنت أميل شخصيا إلى أسلوب الدفع الفرعي لأنه أقل حدة وأقل خطورة مع حصره في المحكمة العليا منعا لتناقض الأحكام.
د- تحصين القرارات الإدارية
تمارس الإدارة أفعالها عبر قرارات إدارية، ويجب أن تكون هذه القرارات خاضعة للرقابة القضائية، سواء أكانت رقابة القضاء العادي أم القضاء الإداري، إلا أنه وفي جميع الأحوال يجب أن لا يسمح بتحصين القرار الإداري من الطعن فيه وإلا أصبح الخصم والحكم شخصا واحدا وانتفت العدالة.
هـ- الانضمام إلى مواثيق حقوق الإنسان
لا بأس أن تقوم الدولة الوليدة بالانضمام إلى مواثيق حقوق الإنسان، ولا بأس أن ينص الدستور الجديد على الحقوق والحريات العامة في صلبه وأن يعطيها مرتبة تفوق التشريع الداخلي أو على الأقل مرتبة مساويه له.
بهذه الإجراءات تتم حماية وصيانة الحقوق والحريات العامة في كلا القطرين، ويضمن عدم انتهاكها بسبب العرق او اللغة أو اللون أو الجنس أو الدين أو الرأي السياسي أو الأصل الوطني أو الثروة أو أي سبب آخر، بل إن هذه الإجراءات تكفل تقدمها ورفعتها وازدهارها وإقامة دولة القانون وسيادته.
خاتمة
يعتبر موضوع الحقوق والحريات العامة من الموضوعات الحيوية للأفراد، وقد كان على مر العصور سببا لكثير من الأحداث والثورات والصراعات، وهي تؤثر على المواطن العادي وعلى حياته اليومية بل تؤثر على سعادته الشخصية.
عانت منطقة فلسطين والأردن من صعوبات كثيرة منها مجال الحقوق والحريات العامة، فقد تعرضت البلاد إلى غزو بريطاني وصلاحيات المندوب السامي البريطاني المطلقة والتي جمعت السلطتين التنفيذية والتشريعية.
تحسن وضع الحقوق والحريات العامة بعد صدور دستور 1952 في الأردن والذي احتوى على نصوص قانونية متقدمة في هذا المجال، إلا أن المشرع الأردني سرعان ما قيد هذه الحقوق إلى أن قلبها سرابا في ظل القوانين اللاحقة.
وزاد الأمر تعقيدا فترة الاحتلال الإسرائيلي، حيث كان حكما عسكريا، فقدت فيه الحقوق وضماناتها واجتمعت السلطات الثلاثة في الحاكم العسكري العام، وأدى ذلك إلى البطش بهذه الحقوق.
إن وضع الحقوق والحريات العامة الآن على مفترق طرق، فإما أن تتراجع إذا تم السير في سيناريو الانفصال أو الانجراف وحتى الاستقلال التام لأن الأمن والاستقرار يشكلان ضمانة وكفالة لها، أو أن تزدهر وتستقر إذا تم السير في سيناريو التعاون، فالأمن والسلم والرفاهية مقدمات لا غنى عنها لتقدم الحقوق والحريات العامة.
وهذا التقدم لن يتم إلا بوجود دستور للوليد القادم. ولا بد أن يحتوى على باب خاص بالحقوق والحريات العامة وأن يتصدر هذا الباب الدستور الجديد، ولا بد أن يستقي أحكامه من المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
ستكون الحقوق مجرد إمكانيات قانونية جوفاء لا تقدم ولا تؤخر إن لم يرافق ذلك تقييد لقانون الطواىء في صلب الدستور، إقامة مبدأ الفصل بين السلطات الثلاثة وإقامة محكمة دستورية للقوانين، والرقابة القضائية على أعمال السلطة الإدارية وخطر تحصين قراراتها الإدارية. وأخيرا، لا بد للدولة الجديدة من الانضمام إلى مواثيق حقوق الإنسان والتقيد بالأحكام القضائية الخاصة فيها حتى لو كانت موجهة للسلطة التنفيذية واعتبار عدم تنفيذها جريمة لا تتقادم وحماية الصحافة والسماح بالأحزاب السياسية
اترك تعليقاً