حكم الاعتماد على البصمة الوراثية فى تحديد الهوية
لم يتطرق أى من البحوث والآراء الفقهية التى ُكتبت فى هذا الموضوع إلى منع الاستفادة من البصمة الوراثية فى مجال تحديد هوية الشخص ، وإذا نظرنا إلى الفقه الاسلامى فى هذا المسار نجده يمدنا فى وسائل تحديد الشخصية بثلاثة محددات :
1-العلامات المميزة أو الفارقة :
فالعلامات المميزة فى جسم الإنسان والتى يعرفها الناس أو خاصة الشخص تكون دليلاً على هوية الإنسان ، ويشهد لذلك قصة ” أنس بن النضر” رضى الله عنه حيث استشهد يوم أحد ، ووجدوا فيه بضعاً وثمانين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ، وَمَّثل به المشركون ، فما تعرف على جسده أحد من الصحابة الا أخته ، حيث عرفته ببنانه[1].
2-الشبه الظاهرى فى الصورة واللون :
لقد راعت الشريعة الإسلامية الشبه فى الشكل فى الأحكام ، واعتبرته مناطاً شرعياً ، من ذلك ما جاء فى حديث أم سليم – رضى الله عنها – التى قالت : ” يا رسول الله أوتحتلم المرأة ؟ قال : تربت يمينك فبم يشبها ولدها ؟! ” [2] ، قال الإمام الشوكانى – رحمه الله تعالى – ” إن إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك ( بيان سبب الشبه ) يستلزم أنه مناط شرعى ، وإلا لما كان للأخبار فائدة ُيعتد بها “[3].
وقد اعتبر الشرع الشبه قرينة ُمثبتِة للشخص ومحدداً لهويته ، إن لم يعارضها ما هو أقوى منها ، ومن أمثلة ذلك ما ورد فى قصة اختصام سعد بن أبى وقاص وعبد بن زمعة عام الفتح – فى ابن وليدة زمعة حيث ادعاه سعد بن أبى وقاص وقال : إنه إبن أخيه عتبة ، وامتنع عبد بن زمعة وادعى أنه أخوه لكونه ُولد على فراش أبيه ، فتحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد : يا رسول الله ! ابن أخى قد كان عهد إلى فيه ، فقال بن زمعة : أخى وابن وليدة أبى ولد على فراشه ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : ” هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر ، ثم قال لسودة بنت زمعة : احتجبى منه – ِلما رأى من شبهه بعتبة – فما رآها حتى لقى الله “[4].
ووجه الدلالة من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم لسودة : ” احتجبى منه لما رأى شبهه بعتبة ” ، ففيه مراعاة للشبه الموجود بين الغلام وبين ُعتبة أخا سعد بن أبى وقاص ، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم بالغلام له لأنه عارضه الفراش ، وهو أقوى من مجرد الشبه[5].
ومن ذلك أيضاً قوله صلى الله عيه وسلم فى قصة المتلاعنين : ” أبصروا بها ، فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الإليتين [6]، َخَدَّلج الساقين [7] فهو لشريك بـــن سمحاء ( الذى ُرميَت به ) فجاءت به كذلك ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : لولا ما مضى من كتاب الله لكان لى ولها شأن “[8].ففى هذا الحديث اعتبار ظاهر للشبه ، وإنما منه إعمال الشبه فى إلحاق النسب بمشَّبهه لوجود مانع اللعان ، فاللعان سبب أقوى من الشبه قاطع النسب[9].
3-القيافة :
من المعلوم أن القافة لا تكون بالشبه الخارجى للوجه فحسب ، لأن هذا يشترك فيه عموم الناس ، وإنما تكون القافة بمعرفة التشابه بين الأعضاء ، كما جـاء فى حـديث السيدة عـائشة – رضى الله عنها – حيث قالت ” دخل علىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو مسرور فقال : يا عاشة ! ألم ترى مجززً المدلجى[10] دخل علىَّ فرأى أسامة وزيداً ، وعليهما قطيفة قد غطيا رأسيهما وبدت أقدامهما ، فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض “[11].فقد َعرف هذا القائف الصلة بين الأقدام دون أن يرى وجهيهما ، وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم ُينكر عليه.
ومن خلال ما تقدم يرى البعض أن البصمة الوراثية أدق بمراحل كثيرة فى تحديد شخصية الإنسان وهويته من الأمور الثلاثة ، وبالتالى فلا مانـع شرعـاً مـن الأخذ بها لا سيما وأن قواعد الشرع وأصوله والقياس الصحيح تقتضى إعمال قواعد الأدلة للوصول إلى المطلوب ، ومن المعلوم أنه لم تكن فى عصرهم – رضى الله عنهم – أدلة أقوى مما ُذكر ، ومع تقدم العلم وتطوره فإن الشريعة الإسلامية تقبل منه كل ما يتماشى مع مقاصدها وتحقيق مصلحة العباد ، وإن تطبيق البصمة الوراثية فى هذا المجال من نفس الباب[12].
[1] أخرجه البخارى فى :60-كتبا الجهاد والسير ، 12-باب قوله تعالى ” من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ” الحديث (2651) ، ومسلم فى :33-كتاب الامارة ، 41-باب ثبوت الجنة للشهيد ، الحديث (1903).
[2] أخرجه البخارى فى صحيحه :3-كتاب العلم ، 50-باب الحياء فى العلم ، الحديث (1903) ، ومسلم فى :3-كتاب الحيض ، 7-باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المنى منها ، الحديث (331).
[3] نيل الاوطار شرح منتقى الاخبار ، محمد بن على الشوكانى ، دار الجيل ، بيروت ، 1973 ، 7/82 ، والإمام بان القيم فى الطرق الحكمية ص319-320.
[4] أخرجه من حديث عائشة – رضى الله عنها : البخارى فى :85-كتاب الفرائض ، 18-باب الولد للفراش ، الحديث (6368) ، ومسلم فى :17-كتاب الرضاع ، 10-باب الولد للفراش وتوقى الشبهات ، الحديث (1457).
[5] انظر الطرق الحكمية ، مرجع سابق ، ص320.
[6] سابغ الإليتين : أى تامِّهما وعظيمهما ، النهاية فى غريب الحديث والأثر ، أبو السعادات المبارك بن محمد بن الجزرى الشهير بابن الأثير ، 606 هـ ، تحقيق محمود الطناحى ، وطاهر احمد الزاوى ، دار إحياء الكتب العربية ، 2/338.
[7] خَدَلَّج الساقين : أى عظمهما ، المرجع السابق ، 2/15.
[8] رواه البخارى فى : 78-كتاب التفسير ، 241 –باب ” ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ” ، الحديث (4470).
[9] انظر الطرق الحكمية ، مرجع سابق ، ص320.
[10] هو مجزَّز بن جعّدة المدلجى الكنانى القائف ، نسبه ينتهى إلى بنى مدلج بن ُمِّرة بن عبد مناف بن كنانة ، وهو صحابى.
[11] الحديث متفق عليه : أخرجه البخارى فى : 85-كتاب الفرائض ، 30-باب القائف ، الحديث (6388) ، ومسلم فى : 17-كتاب الرضاع ، 11-باب العمل بإلحاق القائف الولد ، الحديث (1459).
[12] د.ناصر عبدالله الميمان ، البصمة الوراثية وحكم استخدامها فى مجال الطب الشرعى ، مؤتمر الهندسة الوراثية بين الشريعة والقانون ، كلية الشريعة والقانون بالإمارات ، 5-7 مايو 2002م، المجلد الثانى ، ص603 .
اترك تعليقاً